أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين محمود التلاوي - إلى أين قادتني القطة؟؟!! (1)















المزيد.....

إلى أين قادتني القطة؟؟!! (1)


حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)


الحوار المتمدن-العدد: 4624 - 2014 / 11 / 4 - 15:40
المحور: الادب والفن
    


هذه رواية قصيرة بعنوانها "إلى أين قادتني القطة؟؟!!" أنشرها مسلسلة على حلقات...

1
أسكن في واحدة من المناطق الجديدة، وهذه المدينة تقع على أطراف المناطق الحضرية في محافظتها، وتعتبر بالفعل وسط الصحراء؛ لأن المنطقة التي تسبقها من بين مسمياتها الصحراء، إلى جانب أنها تقع بجوار جزء من الصحراء الغربية. ما نتوصل إليه من ذلك هو أن هذه المدينة تقع وسط الصحراء.
ولما كانت مدينة جديدة، فهي ممتلئة بالمناطق المقفرة وشبه المقفرة. ولا يمكن أن نقول إن هناك منطقة معمورة بشكل كامل إلا منطقة تسمى ميدان الحصري تقع بالقرب من مدخلها. بعد ذلك يمكن القول عن أية منطقة فيها إنها إما شبه معمورة أو شبه مقفرة أو مقفرة!! أنا أسكن في منطقة شبه معمورة أمامها منطقة شبه مقفرة....!! لماذا السكن في هذه المنطقة؟! لهذه أسباب يطول شرحها ولا يقصر.... ما علينا منها...!
كنت أسير عائدا إلى منزلي قرب منتصف الليل؛ فمررت بواحدة من الحدائق البسيطة بين المنازل. كانت الحشائش في هذه الحديقة متوسطة الطول، وبالتالي لم أكن أرى موطأ قدمي. وبينما أسير في هذه الحديقة، رأيت قطة. كانت سوداء... في الواقع شديدة السواد، وكانت عيناها حمراوين للغاية. نظرت إليّ شذرا، فنظرت إليها نظرة تحمل من الشذر أكثر مما حملت نظرتها.
كل أفكار الجان والعفاريت والقطط السوداء خطرت ببالي، ولم أكن أستطيع أن أنحي هذه الفكرة جانبا، فقرأت بعضا من آيات الذكر الحكيم. واختفت القطة...!! هذا ما حدث بالفعل؛ إذ اختفت القطة تماما، ولم أدر ما حدث. للأسف كانت عيناي قد رمشتا للحظة قبل اختفاء القطة؛ فلم أعرف ما إذا كانت قد اختفت لأنها عفريت، أم أنها جرت واختبأت بين الحشائش. وللأسف كانت الحشائش متوسطة الطول، وكان الضوء ضعيفا فلم أستطع التأكد مما إذا كانت موجودة أم اختفت.
نسيت الأمر برمته حتى قبل أن أصل إلى المنزل. لكنني بعد حوالي أسبوع، مررت بالحديقة نفسها، ووجدت القطة نفسها تنظر إلي ولكنها هذه المرة لم تكن تنظر إليّ النظرة الشريرة... كانت نظرتها هذه المرة بها استعطاف ورجاء! نعم.. شعرت بذلك منذ النظرة الأولى لعيني القطة. وفجأة، راحت القطة تموء وهي تبتعد عن مكانها لتذهب يمينا، ثم تعود لمكانها الأول، وتموء ناظرةً إلي بالاستعطاف والرجاء نفسيهما، ثم تعود وتتجه في الاتجاه ذاته.
هنا، شعرت وكأن القطة تناديني، وترجوني أن أذهب وراءها. في أية ظروف أخرى، لم أكن لأعتقد أن هذه القطة تناديني، ولكن من تجربتي السابقة معها، شعرت أن هناك أمرا غير طبيعي يحيط بهذه القطة. أخرجت هاتفي المحمول، ونظرت فيه لأعرف الوقت، فلست أحب ارتداء الساعات، فوجدت أنها لا تزال الثامنة مساء، وبالتالي أمام الكثير من الوقت قبل منتصف الليل، وهو الموعد الذي اعتدت الوصول فيه إلى المنزل...
مع سندريلا تماما!!!
فعلت ما رأيته مناسبا، وسرت وراء القطة التي راحت تتقافز مسرعة، وأنا أجري وراءها. ولولا أن المنطقة كانت خالية، لما جرؤت على أن أجري وراء قطة...!! إما سيقال إنني مخبول لأنني أطارد قطة، أو إنني مخبول لأنني ألهو مع القطة بهذه الطريقة!! في كل الأحوال، كنت أعتقد بالفعل أنني مخبول لأنني أجري وراء القطة بسبب هاجس أو تخمين غير منطقيين.
توقفت القطة قليلا لتتنسم الهواء، ثم رفعت رأسها ونظرت جهة الغرب، وبدأت تجري ثانية، وراحت تجري وتجري، وأنا أجري، وأجري، وأجري. عادت القطة لتتوقف ثانية وقد بدا وكأنها ترهف السمع لنداء غريب. وللحق، شعرت وقتها وكأن هناك جوا غريبا يحيط بي؛ فانتهزت الفرصة لأطالع المكان حولي. وجدت أنني بعدت كثيرا عن منزلي، بل عن العمران في الواقع. وكان الظلام شبه دامس؛ حيث كانت تبدده أضواء تأتي من بعيد... من حيث ما يفترض أنها مكان معمور.
عادت القطة للجري، ورحت أركض وراءها، وأنا أشعر بأن أنفاسي تكاد تتقطع من فرط السرعة وفرط ما جريت. ولكن أخيرا، ولله الحمد، توقفت القطة أمام ما بدا لي وكأنه منزل من حجرة واحدة لأحد الخفراء الذين يبيتون لحراسة العمارات الجديدة التي لم يسكنها أحد بعد أو تلك التي لا تزال قيد الإنشاء. لكن الغريب أنه لم تكن هناك أية منشآت أو عمارات قيد الإنشاء في المنطقة المحيطة؛ فقلت ربما تكون هذه قطعة أرض تم استقدام خفير لحمايتها من السرقة.
لكن كل هذه الأفكار تلاشت تماما عندما انفتح باب المأوى، لأرى فعلا أن هذه القطة قد قادتني إلى آخر مكان أتوقع الوصول إليه!
******

2
عندما ألقيت نظرة عبر باب المأوى المفتوح، رأيت مشهدا شديد الغرابة. رأيت منزلي القديم...!! رأيت المنزل الذي تربيت فيه، ولم أغادره إلا عندما تزوجت. كانت شقتنا القديمة في حي شبرا الشعبي؛ هي حقا بكل تفاصيلها. لكن ما أثار استغرابي حقا هو أنها كانت بالحجم نفسه الذي كانت عليه، وهو ما يستحيل فعليا مع صغر مساحة المأوى، التي لم تكن تتجاوز مساحة حجرة صغيرة فقط، دون حتى دورة مياه.
أو هكذا قدرت.
وعندما التفت إلى القطة، وكأنني أبحث لديها عن جواب، وجدتها قد اختفت! نعم، اختفت القطة تماما، وتركتني وحيدا في هذا المكان؛ فشعرت بالوحشة بشكل ما.
نعم. على الرغم من أنها مجرد قطة، إلا أنني شعرت من الإطار العام للموقف أنه من الممكن أن يكون لديها بعض التفسيرات، لأن الأمر خرج عن نطاق كونها قطة إلى كونها مبعوثة لي أو مرشدة لي إلى مكان ما. أم أقول جاسوسة استدرجتني إلى هذا المكان.
شعرت بالتوجس من المكان، وقررت الانصراف، لولا أن سمعت صوتا يدعوني إلى الدخول. كان الصوت مألوفا بعض الشيء، إلا أن اسم صاحبه لم يكن حاضرا في ذهني. دفعني الصوت إلى الذهاب لصاحبه داخل الشقة؛ فربما كان لديه تفسير لما يجري.
بمجرد أن دخلت (الشقة)، انتابني الذهول التام...
"مستحيل...!". هكذا تمتمت، ورحت أردد هذه الكلمة بصوت خفيض، وأنا أدير رأسي متفحصا المكان في ذهول.
كانت الشقة نفسها، كما لو كانت قد استنُْسِخت....
المدخل نفسه...
الأثاث نفسه...
ورق الحائط على الجدران يحمل الكتابات التي تؤرخ لمراحل في حياتنا الأسرية...
لكن الإضاءة كانت قاتمة...
مخيفة بعض الشيء...
لولا أنني أعرف أنها قد تغيرت كثيرا منذ أن تركتها، لقلت إن هذا المأوى عبارة عن فتحة في جدار المكان تنقلني حيث أشاء، لكن الأمر لم يكن كذلك.
هذه شقتنا كما تركتها، لا كما هي الآن...
إذن... أنا أغوص في الماضي.
لم يكن صاحب الصوت موجودا في (الصالة)، كما كنا نطلق على ردهة المنزل، شأننا شأن أية أسرة مصرية.
كان الصوت ينبعث من حجرة الصالون.
لم أترك الفرصة لدهشتي توقفني أكثر من هذا. هذه الشقة كما تركتها، وكفى. ما جعل الشقة ككل تبدو موجودة كما كانت، يستطيع أن يجعل حجرة الصالون كما كانت.
ودخلت حجرة الصالون...
ورأيت من كان يدعوني للدخول...
للوهلة الأولى لم أتعرفه، لكنني لما تأملت في ملامحه... عرفت من هو....
مستحيل... مستحيل.... مستحيل!
هكذا قالت كل جوارحي قبل أن يقول لساني نفس الألفاظ...!
فابتسم ساخرا وقال: "وليه مستحيل؟؟! إنت مش عارف إنت بقيت إيه؟؟!".
صرخت في ذهول وأنا أنقض عليه في هياج: "إنت إيه اللي جابك شقتنا؟! إنت إيه اللي دخلك عندنا أصلا؟!".
صد هجمتي بأن تلقفني في حركة ماهرة بين ذراعيه القويين رغم ضعف بنيته الظاهر، وهو يقول في سخرية: "أقعد بس نتكلم، وبعدين حاتفهم كل حاجة".
حاولت الإفلات من بين ذراعيه، ولكنه كان ممسكا بي بقوة حقيقية، فارتخيت، فأرخى هو ذراعيه بعدها بفترة.
وجلست.
نعم...
جلست ولم أحاول المقاومة من جديد. كنت قد وصلت إلى قمة الإرهاق النفسي... وصلت إلى رغبة في معرفة أين أنا ومن أنا...
كنت أرغب في معرفة الحقيقة....
أريد معرفة ماذا حدث.
قال لي "نبيل" — أو ما كنا ندعوه "نبيل" وقت أن كنا في شبرا — وهو يبتسم في سخرية: "مش عارف أنا مين؟؟! أقول لك أنا مين....!".
"مين؟!".
"أنا الميلامين....!".
لم أرد عليه لأنه بدا من الواضح أنه يريد استفزازي، فصمت وإن كان قد بدا عليّ الرغبة الحقيقية في المعرفة.
معرفة ما الأمر.
أخرج من ثيابه زجاجة صغيرة بدا من الواضح أنها زجاجة مشروب كحولي، ارتشف منها رشفة صغيرة، وأغلقها ثم أدخلها في جيب سرواله مرة أخرى. لم أحاول حتى أن أعلق، فالأمر فاق كل خيال.
ولما انتهى من التلذذ بما شرب، قال وهو يدور ببصره في المكان: "إنت عارف طبعا أنا مين"، وصمت قليلا، ثم تابع وكأنه لم يكن ينتظر إجابة: "أنا "نبيل"... "نبيل" اللي كل الشارع كان بيقول عليه حرامي.. الكل بيقول عليه حرامي، وما حدش حاول يسأله إنت بقيت حرامي ليه". نطق الجزء الأخير من العبارة في صوت بارد.
وركز بصره عليّ وأخذ صوته يكتسب بعض الحدة وهو يقول: "أنا "نبيل" الحرامي، اللي عمي سرق ورثه من أبوه. ولما رحت أخدت حقي، كل الشارع اعتبرني حرامي، وفضل الناس يشتموا في أمه ويقولوا لها: يا أم الحرامي"، ثم قام وراح يدور في الحجرة، وهو يقول: "أنا نبيل اللي جبت حق أمي، والناس شافتني حرامي وعمي هو الراجل المحترم اللي خللى الناس تطردني من الشارع عشان سمعة بناته ما تتلوثش إن ابن عمهم حرامي".
وصمت قليلا، ثم واجهني قائلا: "أمك وأهل بيتكم هما اللي ما كانوش بيشاركوا في اللت والعجن بتاع الشارع... مش عارف ليه بصراحة... بس كان من الملحوظ إن بيتكم ما كانش بيشارك في قعدات الحواري بتاعة النسوان ولا قعدات القهاوي بتاعة الرجالة"، ثم أردف نبرة هادئة مملوءة بالسخرية المريرة (أو المرارة الساخرة): "أو اللي كانوا فاكرين نفسهم رجالة...!".
وعاد صوته يرتفع مرة أخرى وهو يقول: "كان نفسي من زمااااااااااان آجي الشارع... مش عارف ليه كنت عايز أرجع... حنين للماضي أو رغبة في الانتقام بقى مش عارف. المهم إني كنت عايز آجي الشارع تاني". ولكن نبرته انخفضت مرة أخرى وقال في مرارة حقيقية مخلوطة بالألم: "لكني كنت بقيت حرامي بجد!"، ثم صرخ: "حرامي بجد"، وعاد يتابع في ثورة: "أنا نبيل... الطالب في مدارس اللغات بقيت حرامي وطريد الشرطة والناس...". وصمت وهو يخبط يديه في ساقيه ويقول في استسلام وأسف وعيناه منخفضتان في الأرض: "حرامي بجد...!".
ظللت صامتا طوال هذا المونولوج، ثم استجمعت قواي وسألته: "طيب وأنا؟ أنا إيه علاقتي بكل ده؟؟؟".
رفع عينيه لي في دهشة وكأنه لم يكن يعرف أنني موجود، قبل أن يقول في استهزاء: "ما انت بقيت شريكي بعد كده...!".
قلت في ذهول: "شريكك؟!".
جلس مرة أخرى مكانه وقال في هدوء: "أيوه... شريكي.. بقيت شريك "نبيل" الحرامي... مش في شركة ولا كلام فاضي من ده"، وأضاف وهو يضغط على كل حرف من حروف كلماته: "بقيت شريكي في عمليات السرقة والنهب اللي بأقوم بيها أنا وعصابتي...!".
******

3
انعقد لساني عن الكلام، ولم أطلب توضيحا، ولكنني فقط قلت بصوت مبحوح: "ممكن كوباية مية؟!".
بدت على وجهه ابتسامة لم أدر ما معناها، ولكنه قال بصوت مرتفع: ""مدحت"، هات كوباية مية للأستاذ هنا"، فتعالى صوت مألوف إثر ندائه، وقال: "حاضر يا دكتور".
وقبل أن أتساءل عن أي شيء، قال لي باسما: "أيوه. إنت اسمك وسطينا الأستاذ، وأنا اسمي الدكتور. ما احنا الاتنين الكبار في المجموعة هنا"، ثم صمت وقال في صوت خفيض: "ارسم نفسك... ارسم نفسك... إنت الكبير هنا".
وبدون أن أدري، رسمت على وجهي علامات السطوة والنفوذ، ووضعت ساقا فوق أخرى، قبل أن يدخل من سماه "مدحت"، وهو يحمل كوبا من الماء وزجاجة ممتلئة بالماء.
وقبل أن تبدو على ملامحي أية علامات دهشة أو ذهول أو انبهار، رمقني "نبيل" بنظرة تحذيرية قاتلة، فبلعت لساني وكل تساؤلاتي، وتناولت كوب الماء، وشربته كله على دفعة واحدة، وأعطيته لـ"مدحت"، دون كلمة واحدة ولكنني أخذت الزجاجة في يدي؛ فقال "نبيل" له: "سيبنا لوحدينا واقفل الباب وما تدخلش حد علينا خالص... أنا والأستاذ ورانا كلام كتير مهم... مهما غيبنا ما حدش يدخل علينا ولا يقاطعنا.. مفهوم؟"
قال كلمة "مفهوم" بلهجة تعني أن من سيخالف التعليمات سينال عقابا رهيبا، فرد عليه "مدحت" قائلا: "مفهوم طبعا طبعا".
وأغلق الباب خلفه.
هنا قلت في صوت خفيض بلهجة حانقة: "إيه بقى الألغاز دي كلها؟! إيه اللي جاب "مدحت جوز "عفاف" عندنا؟ دخله إيه بالموضوع؟".
كان "مدحت" هذا جارا لنا في المسكن. كان قد تزوج ابنة جيراننا، وأقام معهم في الشقة نفسها؛ أي أنه كان جارنا في النهاية، وكان دمث الأخلاق مهذبا لدرجة شديدة. لكنه الآن صار صبيا في عصابة أنا أحد زعيميها....!!
"ممكن بقى تقول لي إيه الحكاية؟"... قلت هذه العبارة في صوت خفيض مبحوح، وقد صار وجهي في شحوب الأموات.
قال لي نبيل: "الحكاية وما فيها إني قابلت والدتك في السوق، وحاولت أستعطفها إنها تكلم الناس يسمحوا لي بدخول الشارع والعيش فيه زي بقية خلق الله وإني تبت. هي وعدتني بصراحة إنها تكلم الناس. ولما شفتها تاني، قالت لي إنها كلمت جيران كتير بس ما حدش وافق، وقالت لي كلمة رنت في نفس قوي"، وصمت وكأنه يسترجع ذكريات تقتله ألما: "قالت لي إن اللي في دماغ الناس مش بيتغير بالساهل، وإن اللي ممكن يغيره هو أنا"، ثم عاد يقف ويصيح في حدة: "طيب إزاي أغيره والناس مش عايزني أكلمهم حتى... كان ده حكم عليا بالنفي من المكان اللي اتولدت وكبرت فيه... كان صعب صعب صعب عليا جدا.. صعب"، وراح يكرر هذه الكلمة، وهو يكاد يبكي.
انتظرت حتى هدأ وجلس، وقلت في الصوت الخافت نفسه ولكن بإلحاح وتصميم: "أنا إيه علاقتي بكل ده؟؟".
نظر لي في صمت، ثم جلس وقال: "علاقتك؟! اسمع بقى علاقتك"، ثم أخذ نفسا عميقا، وقال: "اسمع يا سيدي".
"والدتك ماتت.. والله كانت ست محترمة هي وجارتكم اللي في الدور الأول... المهم... المحترم هو اللي بيموت والزبالة بيفضل يعذب في خلق الله وكأنه اختبار ليهم... طبعا مندهش من الحكمة اللي باتكلم بيها... بس لو كنت عشت حياتي من أولها كنت بقيت أحكم مني... لما ماتت، اتجوز أخوك وبقيت إنت عايش لوحدك في البيت... طبعا البيت فضي عليك وحالتك النفسية بقت زي الزفت، ولكن فجأة... قابلتني. كنت قاعد على قهوة بتشرب شاي، وبعدين لقيت اللي سحب الكرسي وقعد جنبك.
ساعتها، بصيت لي وقلت لي: "أهلا وسهلا"، بكل برود لدرجة إني كشيت منك شوية، وراجعت نفسي في اللي أنا كنت عايز أقوله... لكن رجعت وقلت في نفسي: أهي فرصة...! يا خابت يا صابت... وقلت لك: أنا نبيل.. جاركم بس سبت الشارع من زمان... ما رضيتش أعرفك بنفسي زي ما الناس عارفاني... قلت لك إني عايز أشيل حاجة عندك في الشقة أمانة يعني وقلت لك إني وثقت فيك عشان والدتك كانت محل ثقة... إنت ما كدبتش خبر ووافقت... المهم... شلتها عندك... وبعد أسبوع رجعت أخدتها منك... وفضلنا على الحال ده خمس شهور، لغاية ما إنت سألتني سؤال مباشر: إنت بتشيل عندي إيه؟؟ وليه مش بتيجي تاخده بنفسك؟؟! ساعتها اتحججت أنا بإني مش عايز أشوف الشارع وأمي مش فيه بعد ما ماتت، وموهت في الإجابة على السؤال الأول.
لكنك رجعت تسأل، وشميت في نبرة سؤالك إنك فعلا موافق تمشي في الممنوع. قلت لك على الي فيها وإن اللي بنشيله عندك ده مسروقات...! وافقت إنت على الاستمرار مقابل نسبة من أرباح كل عملية... وأدينا بقى لنا 3 سنين ماشيين على الحال ده... شفت بقى إنت بقيت إيه؟؟؟"...!
انعقد لساني عن الكلام...
صرت لصا...
صرت زعيما لواحدة من عصابات السرقة...
صرت خارجا عن القانون...
لم أعد شريفا...
ما هذا؟؟!
أهذا أنا؟!
أهكذا صرت بعد وفاة أمي؟؟!
ثم أفقت من ذهولي، وصحت قائلا: "إنت بتقول إيه...؟!! أنا إنسان محترم شريف متزوج ورب أسرة، وشغال في وظيفة نظيفة... إنت اتجننت؟!".
قال لي: "ده إنت فعلا... ولكنك دلوقت واقف جواك"....!
سقطت عليّ العبارة كالصاعقة....! "إنت واقف جواك"... ماذا تعني هذه العبارة؟!
هل أنا شيطان؟!
هل أنا كذلك في داخلي؟!!
هل... أنا... غير شريف؟؟؟ وأتصنع الشرف؟؟!
هل...
هنا توقفت عن التفكير والتساؤل، وصرخت قائلا: "لأه... مش ممكن!".
لكن قال لي في سخرية: "لأ ومش كده وبس... ده انت اقنعت "مدحت" جوز جارتكم إنه يبقى معاك"، ثم ازدادت نبرته سخرية وقال: "ده انت أغويت الراحل الشريف... إيه يا أخي؟؟ إنت شيطان؟؟!".
لم أشعر إلا وأنا أمسك الزجاجة وأدفعها في وجهه، وأنقض عليه، وأظل أسدد اللكمات لكل مكان في وجهه، بينما الدماء تسيل عليها من أثر اصطدام الكوب بها...
لكنه كان يضحك...
راح يضحك ويضحك..
وأنا أضرب وأضرب...
وفجأة، اندفع "مدحت" داخل المكان، وصرخ قائلا: "إنت بتعمل إيه يا مجنون؟ كده تموته".
فنهضت من فوق "نبيل" وصفعت "مدحت" فأطرت منظاره الطبي من فوق جسده الذي لا يزيد في حجمه عن جسدي الضئيل، وانطلقت خارج المكان.
لمحت أحدهم — بدا وجهه لي مألوفا ولكنني لا أتذكر من هو — يخرج مما كنا نسميه المطبخ، لكنني كنت أسرع منه، ففتحت باب الشقة، وأنا أهم بالانطلاق خارجها عائدا من حيث أتيت.
في الثواني التي كنت أجري فيها نحو باب الشقة القريب من حجرة الصالون حيث أجلس، كنت أفكر في أنني إما سأجد الصحراء، أو سلالم منزلنا القديم في شبرا.
لكنني عندما فتحت الباب، وجدت العدم.
مجرد مساحة بيضاء تقف في نهايتها القطة دون أية علامات أو مخارج.
ترددت قليلا، ولكن مرأى الرجل الخارج من المطبخ وهو يحمل السكين، جعلني أقفز داخل العدم.
طرت في الهواء، وأنا أركز عيني على القطة، التي قفزت بعيدا عني.
ولما سقطت، أحسست أنني سقطت على أرض رملية، ولكنني لم ألق بالا لذلك، وتدحرجت بعيدا كي أبعد نفسي عن الرجل حامل السكين... لكنني لما التفت خلفي، لم أره.
بل لم أر الشقة ولا بابها.
رأيت المشهد الأبيض نفسه...!
جريت وراء القطة، فجرت أمامي، ولمحت طرفا من وجهها، فرأيت ما يشبه الابتسامة العابثة..!
ليست قطة...
أقسم على ذلك...
ليست قطة...
وفجأة...
توقفت القطة، وتوقفت أنا.
لم يكن توقفي بشكل غريزي لأن القطة توقفت... كلا...
كان توقفي لأنني رأيت أمامي جدارا...
جدارا يشبه سور مكان أعرفه جيدا...
مكان أشتاق إليه كثيرا...
سور الجامعة التي درست فيها...!
******



#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)       Hussein_Mahmoud_Talawy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليرحل الطاغية... حملة -تطهير- لإسقاط الفساد من حكم مصر...
- شيكاجو الأسواني... -أنا فقط-...
- تنظيم الدولة الإسلامية... ملاحظات فقط
- لصوص
- التعايش في المنطقة العربية... المستحيل بعينه...!
- من يوميات إنسان...
- يوم القبض... مسرحية من مشهد واحد
- قمقم...!!
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (5)
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (4)
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (3)
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (2)
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (1)
- 30 يونيو... كنت هناك... وهناك أيضًا...
- هكذا قال لي أبي...
- فلينزع الحجاب... هل حقا الحجاب مرارة؟!
- -وَدِّينِي لماما-
- العرب والمسئولية الأخلاقية عن الفعل... وتداعياته
- الهزيمة كان اسمها فاطمة... عن الإنسان الرخيص
- البطولة... هل نحن في عصر الإنسان -العادي-!؟


المزيد.....




- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين محمود التلاوي - إلى أين قادتني القطة؟؟!! (1)