|
هامش للحياة
بن جبار محمد
الحوار المتمدن-العدد: 4583 - 2014 / 9 / 23 - 10:38
المحور:
الادب والفن
بالقرب من المقبرة المسيحية التي تحاذي المزرعـة النموذجيـة رأيت تجمع كبير لعمال البلديـة و جمهـرة لمواطنين فضـوليين و عدد من سيارات الشرطـة و مسؤولين محليين على رأسهـم رئيس الدائرة ، يخرجـون رفاة الموتـى من المقبرة و يضعـونها داخل شاحنـة مغطـاة ، توقفت لحظـة ، فرأيت عمـي الجيلالـي يتـابع المشهـد ، أقتربت منـه وسألتـه عن هـذه العملية التي لا تخطـر على بال أحد ، قال لي بآسى يا صديقي عـواد ، حتـى الموتـى لـم يسلمـوا من الإساءة إليهـم ، هـذه المقبرة طـالهـا التخريب ، تخريب شـواهد القبور و نبشها و إخراج عظـام الموتـى الهشة من التوابيت الخشبيـة و البحث عن مـادة يزعـم البعض أنهـا ثمينـة ، الإسـاءة إلى الموتـى الأروبيين بلغت درجـة من الهمجيـة ، حتى بعض النفـوس المريضـة يزعمـون بتطهير هـذه الأرض من المسيحيين بإعتبارهـا أرض الإسـلام ، خربـوا الإنسان فينا ، دمروا الحياة ، قتـلـوا الأحياء ، هــاهـم الآن لم يجدوا سـوى الموتـى ليرحّلـونهـم من هـذا البـلد الذي أتسـع لكل الأمم و الحضارات ، كان عمي الجيلالـي يتحدث و شفتيـه ترتجفـان ، في هـذه المقبرة كان لـي أصدقـاء تقاسمنـا كثير من همـوم الحياة ، في هـذه المقبرة كانوا أحبائي من الأروبيين الذين عشقـوا شمسنا و هـواءنا و رائحـة الأرض و أحبـوا جزائر الحريـة و نـاضلـوا سرا و عـلنيـة وعُذبوا كما عذبنا و تحمّلوا كما تحملنـا ، مخطيء من يضع الأجانب في سـلّة واحدة ، بقيت مشدوهـا و أنا أتابع حمل الرفاة ، كأن هـذه الأرض ضاقت بنا جميعـا . أستأذنت صديقي و أنـا أشعـر بالمرارة . مرارة السنين التي تدفـع بنـا نحـو عـالم مجهـول لا يشبهنـا ، بالأمس في هـذه الطريق بالذات عند ملتقى شارعين وعلى إحدى لافتـات الطريق رؤوس مقطـوعـة معلّقـة ، متناثرة هنـا و هنـاك ، كانت مرحلة من الرعب الذي أستمرّت طويلا ، أكثر من عشر سنوات ، مرحلـة الكرامة المهدورة لبني الإنسان ، مرحلـة الحقد البشري الذي أوجـد لنفسـه مملكـة خيّم على الجميـع ، آلاف الضحايا و آلاف المآسي و آلاف القلـوب المفجـوعـة ، أرواح مضرجـة بالدمـاء ، دموع الأطفال و اليتـامى و الثكـلى ، أجهزوا ما تبقى من الفرح بالحياة ، أحتفظ بتلـك الذكريات الحزينـة و الحزن يأخذ بتلابيبي ، أنـه أقسى ما يمكن أن يفكر فيـه الإنسان في إقصـاء الآخـر من الحياة لإختـلاف في الرأي ، ما أتعس هـذا الإنسان بإسـم الله يدفـع بالآخـرين إلى جهـنم و لكي يستأثر بنفسـه الجنـان الموعـودة ، كنت قريبا من مقهـى في إحدى الأمسيات عندما تحوّل رواد المقهـى إلى أشلاء و أجزاء من لحم آدمي ملتصق على حيطان الشوارع ، مرحـلـة الهمجيـة التي تجاوزت بربريـة كتب التاريخ الدموي، خيّل لي أنني مازلت أعيش تلك اللحظات المفزعـة من الفظـاعـة الإنسانيـة ، تنهدت الصعداء ، لأنني تذكرت كثير من أفراد عـائلتي و أصدقـائي و جيراني و كثير من أفـراد الحي الذين كانوا ضحيـة هـذه الهمجيـة التي جـاءت في هجمـة غير مسبـوقـة من التاريخ ، جنود الشيطـان يخرجون علينا من ثنايا تراث موبوء بالحقد التاريخي للإنسان . أمتطيت الحافـلـة ، جلست إلى قرب نـافذة ، سـرت نسمـة باردة أنعشت قلبـي ، سرحت عينـي في بساتين البرتقـال و بساتين الزيتون التي تعانق الطريق بكبريـاء ، مساحات واسعـة من الحب ، من التحدي ، فتـرات طـويلـة لبلـد نقـرأه مجزءا في كتب التـاريخ ، هـذه مساحات من الأراضي و وهـاد و الوديان لا تعترف بتجزئـة التاريخ ، أنـه الكل ، تاريخ الإنسان الذي أبت السياسـة إلا أن تقسـمـه ، تفتتـه ، تقزمـه ، تختصـره ، تضعـه بين عـارضتين لترويضـه ، التـاريخ يروّض لقتـله تمهيدا لقتــلـه في قـلوبنـا ، كنت أهذي و قد أستأنست للهــواء المندفـع من نــافذة الحـافـلـة الذي أستثار ذهنـي و خــواطري من تلـك المشاهـد التي رأيتها في أمسيـة اليـوم ، الأروبيون يرحلـون ذويهـم و إنقــاذ بقايا أمواتهـم بعـد ان تحوّلت بلدنا إلى مرتـع من الموت البطيء ، وجودنـا محـاولـة أخـرى للإنتفاض ضد الموت ، يحاول الموت محاصـرة مناطق الحياة فينا بمعاوله الذي ينهش بقايا أمل . أستلقيت على أريكـة البيت ، لأطرد الهواجس السـوداء من رأسي ، أشعلت لفـافـة تبـغ غـولواز و أنـا أرتشف قهـوتي بمزيـد من التشبت بالحياة
#بن_جبار_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التحول
-
زوجة الرمال
-
حادثة الشقة
-
ثقافة الموت و أشياء أخرى
-
الشرطة الرومانسية
-
كلمة في حق )الحوار المتمدن(
-
كلمة في حق الحوار المتمدن
-
الذكرى الثالثة لخراب ليبيا
-
من وحي داعش
-
إرحموا عقولنا يا دعاة الدين
-
الله في ضيافتي
-
أزقة الكتابة
-
كيس الخيبات (1)
-
كلام آخر عن حرية التعبير
-
النظرة الإستعلائية
-
حرية التعبير بين جواد بوزيان و حمار بوزيد
-
أنا و مول النخالة (2)
-
هكذا تكلم مول النخالة
-
رسالة لا تنطق عن الهوى
-
أتركوا الجزائر لشبابها
المزيد.....
-
مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا
...
-
-الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم -
...
-
أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج
...
-
الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
-
وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على
...
-
البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل
...
-
الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب
...
-
كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي
...
-
وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
-
-نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|