عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4577 - 2014 / 9 / 17 - 23:00
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لقد كان لنتائج هذا التطور والتجديد والتحديث أن صارت الكنيسة بما تمثله من أتجاه روحي في الصف المعادي للقوميين الذين يعتمدون رأس المال الصناعي وحركة الألات وأتباع التقنية ومسايرة التحول نحو قوانين الدولة المعاصرة,وصار الشعار ((الدين لله)) نداء العلمانيين القوميين شعارا مقدسا ومطلبا ضروريا للوجود الحداثي ذاته,وبذلك أسس هذا النداء ضرورة فصل الدين عن الدولة وأطلاق يدها حرة في تنظيم التفاعل الأجتماعي ورفع يد الكنيسة عن التحكم في الكثير من القضايا الحياتية,ونتيجته تحولت الأقطاعية من قوة سائدة إلى قوة تابعة لسلطة الدولة وسلطة القوى المادية الفاعلة بها وفقدت بذلك سيطرتها على الإنسان الأوربي لصالح القوة الصناعية.
هذا التحول الذي أعلنته القومية العلمانية المتحالفة مع رأس المال الصناعي والنقدي,في الحقيقة هو أعلان للأنقلاب الحداثي الأوربي في تحول مفصلي في التأريخ الإنساني قادته النخبة العلمية التي تبرمت من العلاقات الإنسانية الشاذة التي سيطرة على الحياة الأوربية وأستهانت بالإنسان كقوة وجودية مؤثرة وقادرة على الأنفلات منها بتريرات قدست النزعة الروحية الدينية وما ينشأ عنها من مفاهيم تتعلق بالأنسان وعلاقته بالأخر الحاضر أو الأخر الغيبي,قاد هذا الفشل الروحي إلى هجران تلك الرؤية بكل تفاصيلها بأعتبارها تمثل حقبة زمنية يراد لها أن تندثر لتحل محلها رؤية حداثية تقودها التقنية الجديد بما أبهرت به العقول وتجاوزت به حد الممكنات والثوابت التي ما كان أحد ليتجرأ عليها تحت غطاء القداسة والتقديس لكل ما هو فهم ديني ولو كان مخالفا لأبسط قواعد العلم المجرد والعقل العملي والعلمي الذي أثبت جدارة خاصة في قيادة هذه التحولات الكونية.
هذا التفسير لحركة الأنقلاب لا يمكن عده تفسرا ماديا للتاريخ ولا خضوعا جبريا للمادية لأن من مؤديات هذا التحول والتي كانت من ركائزه الأصلية أيضا والتي بررت لطغيان الصورة المادية لحركة التأريخ وأضهار هذه الصورة,عوامل متصلة بتأصل الفهم الأسرائلي في الذهنية الأوربية والخانسة في مسارات هذا الفهم ومنها العوامل العنصرية التي لعبت دورا في حسم الصراع((أن الحضارات البشرية،والمدنيات الاجتماعية،تختلف بمقدار الثروة المذخورة في صميم الجنس،وما ينطوي عليه من قوى الدفع والتحريك،وطاقات الإبداع والبناء.فالجنس القوي النقي المحض،هو مبعث كل مظاهر الحياة في المجتمعات الإنسانية،منذ الأزل إلى العصر الحديث،وقوام التركيب العضوي والنفسي في الإنسان وليس التأريخ إلا سلسلة مترابطة من ظواهر الكفاح بين الأجناس والدماء التي تخوض معركة الحياة في سبيل البقاء،فيكتب فيها النصر للدم النقي القوي، وتموت في خضمه الشعوب الصغيرة،وتضمحل وتذوب،بسبب ما تفقده من طاقات في جنسها،وما تخسره من قابلية المقاومة النابعة من نقاء الدم)) .
التأريخ شهد هذا الصراع حقيقيا في أوربا وكان من نتائجه أنسلاخ الهوية الجنسية للأعراق الصغيرة في أطار أوسع معتمدة على نفس عناصر الأذابة والأظمحلال من خلال تجميع المفردات على قاعدة الأنتماء للجنس والعراقي ولكن في حدود أوسع من التقسيم السابق بأيجاد المشتركات العرقية بين المجموعات وهكذا نشأت القومية الأوربية,وهنا نعزز القول بأن الجنسية العرقية ساهمت في ذاتياتها في الأصطفاف القومي لعجزها هي أيضا في مجارات قواعد القوة في أوربا عصر التنوير,وعجزت هذه الفرديات العرقية في أثبات هويتها التي تستند إلى الذخير من القدرة التفاعلية في المساهمة الفردية وفي تفردها بالقوة المحركة والدافعة للتأريخ,وكان هذا مناسبا ومعززا للخروج من الأطار الضيق نحو المشاركة والمساهمة مع الغير في تثبيت قواعد جديدة لصنع التأريخ وفق أرادة الضرورة التأريخية نفسها والتي نشأت في ظلها العلمانية أيضا.
لقد كانت العرقية هدفا لسهام النقد العلماني وضرورة زوالها كانت ضرورة حتمية بالقدر الذي يساهم في دفع العلمانية للمجتمعات الأوربية الكبيرة نحو الحداثة والتجديد القائم على ترابط قوى الأنتاج ومتطلبات هذا القادم وفرض شروطه التوسعية نحو البحث عن الأسواق ومصادر الثروة الأولية التي هي عند الماركسية وهي الصورة المادية الأكثر ألتصاقا في تفسير التأريخ بقواعدها ترى فيها((بأن وسائل الإنتاج هي الأدوات التي يستخدمها الناس في إنتاج حاجاتهم المادية ذلك أن الإنسان مضطر إلى الصراع مع الطبيعة في سبيل وجوده،وهذا الصراع يتطلب وجود قوي وأدوات معينة،يستعملها الإنسان في تذليل الطبيعة واستثمار خيراتها)) .
هنا تبرز القيمة الحقيقية للتفسير المادي للتأريخ ولكن ليس على أعتبار أن العامل الأقتصادي وحده هو الذي قادر حركة التأريخ بل تظافر قوى ذاتية يمثلها العرق والجغرافية والدين أيضا لتساهم جمعيا من خلال فرض العامل الأقتصادي ودفعه للمقدمة ليفسر هذه الحركة ولولا تلك العوامل لم يكن للمادية أن تطرح نفسها بهذا الشكل الفاعل,فالصراع الحضاري بين القيم والمتغيرات الفكرية والأجتماعية لها أرتباطات بالماهية الإنسانية أيضا.
وهذه الماهية الذاتية للإنسان الأوربي هي من مجموع خواص ومميزات لها مقدمات تكوينية ذات أمد تأريخي كانت الروحية طاقة كامنة فيه ومحركة للخارج الوجودي,وهو ما يمثل في أحد جوانبه دور الدين والتفاعل الحضاري والفكري والمعرفي له في تحديد عوامل الأنتاج,فهي خاضعة له ومستحكمة بقوانينه أيضا,فالأثنية الدينية لليهود مثلا هي التي تصيغ الضمير المعرفي الذي حدد ترابط الوجود الأسرائيلي القائم على دور المال كقوة مؤثرة.
وحتى في علاقة بني أسرائيل مع الله بنيت العقيدة الأسرائلية فهما لها على أساس المال{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }البقرة247 .هذا الفهم نراه متكررا في الوجدان الأسرائيلي ولم تفرضه قوانين عوامل الأنتاج ولكن هي التي فرضت نفسها من خلال الإيمان المطلق بها.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟