أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - طوني سماحة - بين كندا و لبنان















المزيد.....

بين كندا و لبنان


طوني سماحة

الحوار المتمدن-العدد: 4502 - 2014 / 7 / 4 - 19:11
المحور: كتابات ساخرة
    


في كندا
اصطحبت ابنتي لاستحصال رخصة قيادة. كان الصف أمامنا يمتد مسافة أربع أمتار. وقفنا شأننا شأن الآخرين. تحرك الصف أمامنا رويدا و كلما تقلص الصف أمامنا، احتل القادمون حديثا الأماكن الخلفية. كانت السيدة أمامنا من أصول آسيوية فيما تنوعت الأعداد لتشمل الأشقر و الأسود و الحنطي و الرجل و المرأة. كذلك كانت اللكنات مختلفة. تبادلنا مع الناس بعض الاحاديث الخفيفة و التي عادة ما تشمل حالة الطقس أو سؤم الانتظار في الصف.
و صلنا الى الخط الامامي و وقفنا ننتظر إشارة الموظفة للتقدم. واجهتنا لافتة كتب عليها " الخدمة شرف و امتياز. نحن لا نسدي خدمات بل نخدم." أشارت لنا الموظفة بالتقدم، أتممنا المعاملات المطلوبة و مضينا.

في لبنان
ذهبت الى دائرة النفوس لاستخراج إخراج قيد أو بديل عن الهوية. دخلت المكتب فرأيت فيه كتلة بشرية تجمعت على شكل نصف دائرة حول شباك الموظف الذي يفصله عن الناس حاجزا زجاجيا. كانت الكتلة تتحرك صعودا و هبوطا و تتقلص و تتمدد حتى لخيّل إلي أنني أرى كتلة دودية تداخلت فيما بينها. كنت لا ترى في هذه الكتلة سوى الرؤوس باستثناء أجسام الأشخاص المتواجدين على الطرف الخارجي لهذه الكتلة. كان الفصل صيفا و الحرارة خانقة، و كانت روائح العرق تنبعث بشكل خانق من هذا المكان.
كانت الضجة سيّد الموقف. يتهافت الناس على الموظف. كل يرمي أوراقه أمامه و يتشاجر مع الواقف الى جانبه على حق الاولوية في إتمام المعاملات، و الموظف من جانبه يشتم الجميع و يطلب منهم إعطاءه مساحة من الحرية للعمل. كان الموظف يأخذ الاوراق و يقول لصاحب المعاملة "تعا بكرا". يحاول صاحب المعاملة استجداءه لاتمام الاوراق بسرعة لأنه أتى من قرية بعيدة و تكلف إيجار النقل كما أنه عطل عن العمل لإتمام المعاملة، فيجيب الموظف بفظاظة " قلنا لك تعا بكرا. اللي بعده." و ما أن ينطق بالكلمة السحرية " اللي بعده" حتى تُرمى عشرات الطلبات على طاولته. يخرج صاحب المعاملة و هو يشتم و يلعن و يسب.
نظرت الى هذه الكتلة البشرية، فكانت في معظمها الساحقة من الرجال. نظرت الى تلك النسوة اللواتي يمكن عدهن على الاصابع و هن يحاولن شق الصف بعزيمة فأشفقت عليهن. و فيما أنا واقف لا أدري ماذا أفعل، تقدم مني رجل في منتصف العمر و بادرني بالقول " أستاذ، فيّ خلص لك معاملتك بربع ساعة." نظرت اليه. ما تبقى من شعر رأسه كان مزيجا من الابيض و الاسود. يبدو لي أنه نسي حلق ذقنه في الايام الثلاثة او الاربعة الماضية. لا عجب، قد لا يريد إضاعة الوقت في حلق ذقنه كي لا يتأخر عن عمله. كان كرشه يسير أمامه مستديرا مثل كرة القدم مع الفارق أن حجمه ثلاث او اربع مرات حجم كرة القدم. و استردف قائلا " ليش ترجع بكرا يا أستاذ، حرام تضيع وقتك. اعطيني الورق و انا بخلص لك ياه بربع ساعة." و قبل أن أجيب، سحب الورق مي يدي و قال " خمس طعشر ألف ليرة بس". ضحكت في داخلي و انا اردد " خمس طعشر الف ليرة بس؟ أوكازيون. يا بلاش". ناولته الخمس عشرة ليرة و انا اضحك. لا لم يكن ضحكي فرحا، لكن شر البلية ما يضحك. فالخدمة التي تكلفني و تكلف غيري خمس عشرة الف ليرة، يجب ان تعطى لي مجانا لأنني أدفع الضرائب التي تمكن الدولة من تعيين موظف و استئجار مبنى و... أحسست بعقدة الذنب و انا اعطي السمسار النقود لأنني أعرف أنني بتصرفي هذا أشجع على الفساد العام، لكن ما الحيلة؟ لو أنا عدت مجددا في الغد للحصول على معاملتي، لكان عليّ دفع ما يزيد على الخمس عشرة ألف ليرة بدل ايجار للتاكسي ناهيك عن ضياع وقتي.
تقدم السمسار من احد الموظفين و ناوله الملف. استشاط الموظف غضبا قائلا له " أنا ما قلت لك ما تفرجيني خلقتك اليوم." أخرج السمسار خمسة آلاف ليرة و ناوله إياه. قال له الموظف بلهجة جافة " ما في وقت اليوم". زاد السمسار ألفين آخرين على المبلغ المعطى سلفا. لم ترخ السبع آلاف أسارير الموظف، بل قال له " زيح من هون. نطر هونيك".
و بينما أنا أنتظر جانبا. على الضجيج و سمعت صراخا " زيح هيك ولا." و فجأة انفرجت اسارير الموظف، و قام عن مكتبه و بلهجة لطيفة و حارة صرخ " أهلا سيدنا. شرفتونا. زيح هيك يا ولد. ألف أهلا و سهلا." تفاجأت. ما الذي قلب هذا الموظف رأسا على عقب من رجل متعجرف جاف و متحكم بالعباد الى رجل لطيف مضياف؟ و لمن يراه يقول "أهلا سيدنا"؟ طبعا ليس لي، فأنا لا يبدو على مظهري الخارجي سمات السيادة. نظرت الى الباب شأني شأن كل الوجوه التي نست معاملاتها للحظة لأرى ملازما يتقدم نحونا و جنديان أمامه يشقان الطريق له. فجأة، شطرت الكتلة البشرية التي تحيط بمكتب الموظف الى نصفين و رفع الحاجز الزجاجي الذي يفصله عن الناس، ليدخل "سيدنا" الى قدس الاقداس (أي المكتب الداخلي).
أحاط الموظفون "بسيّدنا" و الكل يريد استدرار عطفه و عرض خدماته و السلام عليه. " شو بيشرب سيّدنا، قهوة أو شاي؟ يا صبي قهوة لسيّدنا. أمرك سيدنا"... فكرت في ذاتي " يا ليوم السعد الذي حبلت فيه أمك بك يا سيّدنا." عندها تذكرت معاملتي. بحثت عن السمسار، فوجدته يحاول ان يشق طريقه هو ايضا بين الموظفين ليسلم على سيدنا دون أن يتاح له هذا الشرف. و ماذا عن معاملتي؟ أدركت أن لا أمل في إتمام أي معاملة قبل إتمام معاملة "سيدنا". مضت عشر دقائق. أتم الموظفون معاملات "سيّدنا"، طبعا دون أن يتقاضوا مليما واحدا. خرج "سيّدنا" و أصوات الموظفين تلاحقه " الله مع سيّدنا، لا تطوّل الغيبة سيّدنا، خلينا نشوفك، شرّفتنا يا كبير..."
خرج "سيّدنا" و انتهى الفيلم السينمائي و عادت الكتلة البشرية للتفاعل فيما بينها و مع الموظفين الذين استبدلوا لغة اللطف مع "سيّدنا" بلغة الشتائم مع الزبائن. و عاد السمسار محاولا تحريك المعاملة، فيرد عليه الموظفون بلهجة جافة. ما كادت نصف ساعة تمضي حتى حصلت على اوراقي و خرجت من هذا الجحيم.
استقليت سيارة التاكسي و انا عائد الى بيتي. تذكرت خطبة الأب ج. ف. عندما كان يقوم بتأبين جدتي. قال لنا الأب آنذاك في عظته " شتان ما بين قيمة الانسان في لبنان و في الغرب. فهناك الانسان مجرد رقم على بطاقة، بينما الانسان عندنا قيمة و كيان، فهو "أبو الياس" و "أبو سليم". هو العم "جريس" و الخالة "وديعة". هززت رأسي فيما السائق يحاول الاستدارة و الالتفاف وسط طرقات غابت عنها كل آداب و نظم القيادة. فإذا به يشتم السائقين الذين لا يلتزمون آداب السير و المشاة الذين يخرجون من المجهول حتى يكاد يصدمهم. أوصلني السائق الى بيتي، فناولته حقه و خرجت من السيارة و انا أدمدم " الانسان هناك رقم، أما عندنا فهو قيمة و كيان. هو "أبو الياس" و العم "جريس" و الخالة "وديعة".



#طوني_سماحة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيدي فخامة الرئيس ساركوزي
- أهلا سادتي الدواعش
- الزواج في المسيحية بين النظرية و التطبيق- الجزء الأول
- ديانا الترك ضحية جريمة الشرف
- التحرش الجنسي بين الثقافة و القيم المعاصرة
- الموت لمريم
- رسالة الى سعادة القاضي الذي حكم على مريم بالشنق
- سامحينا يا مريم
- مات القمر
- أنقذوا الطفولة
- لارا و أحمد
- وزير تعتذر من طاه
- العنف التربوي و اساليب معالجته
- ورقة اللوتو
- زمن أبي اللهب
- سيّدي الرئيس/ جلالة الملك
- نساء عاريات أمام اللوفر
- رسالة الى تكفيري
- السيدة و الخادمة
- عذرا سيّدتي


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - طوني سماحة - بين كندا و لبنان