أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - صبري المقدسي - فهم حركة العصر الجديد















المزيد.....



فهم حركة العصر الجديد


صبري المقدسي

الحوار المتمدن-العدد: 4497 - 2014 / 6 / 29 - 13:27
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    




فهم
حركة العصر الجديد

تأليف
ستراتفورد كالديكوت
ترجمة
صبري المقدسي


2013

مؤسسة الحقيقة الكاثوليكية - منشورات الكرسي الرسولي


مقدمة المُترجم
تُعد حَركة العصر الجديد من الحركات الحديثة، التي تُحارب الكنيسة بالطرق المُختلفة. وقد تَتَبادر إلى الذهن الأسئلة البسيطة، عن الأسباب وراء إنتشار الحركة السريع بين المسيحيين، ولا سيّما في الغرب. والجواب يَكمن في الجَفاف الروحي لدى شرائح كثيرة من المجتمع الغربي، وإرتباط مُعظم المُمارسين للمسيحية بالأسم فقط، إذ هم مسيحيون حضاريا وثقافيا، لا أكثر ولا أقل، إضافة الى إفتقارهم لرؤية روحية حقيقية، أو إلى أخلاق مسيحية سَليمة تحصّنهم أو تردعهم عن الإنجرار وراء تلك الأفكار الجَذابة في الظاهر، والمُشوّهة والمَسمومَة مِن الداخل.
ففي الواقع إنَّ الظاهرة لها وجود قوي اليوم، ولها أتباع كثيرون، ولذلك يَجب التعامل معها بحِكمة ومَحبَة مسيحية، وإن لم تُعلن الحركة نفسها بكونها ديانة أو عقيدة، ولكنها تَدّعي البحث عن الحقيقة؛ وتؤكد على أهمية التعامل مع الأرواح، ومُخاطبتها لمعرفة الحقيقة المُغيَّبَة. ولكن الكنيسة ترى بأن الحقيقة واحدة، وإن تَعدَّدت أشكال وطرق إدراكها، لأن الحقيقة أعظم من ان يُعبَّر عنها من خلال كلمات بشرية. ولعلَّ هذا الأمر يُعد من أكثر العيوب التي تُلام عليها حركة العصر الجديد، وهي دعوتُها للوصول الى الحقيقة المطلقة، وليس الى الله.
ولذلك على الكهنة والقساوسة المسؤولين في الكنيسة أن يسألوا بصدق وإخلاص فيما إذا كانوا مُنتبهين ويَقظين إلى القلوب العطشى، وإلى الينبوع الحيّ الذي هو يسوع المسيح، الشخص الوحيد، الذي يَقدر أن يهب هذا النوع من ماء الحياة(يوحنا 4 :7 – 13). وعليهم أيضا أن يكونوا يقظين إلى البعد الإيماني، ونَقاوة رسالة الإنجيل، وعلى قابلية الإنجيل لتغيير وتجديد الذين يُقبلون إليه، ويَقبلون رسالته الخلاصية. وأن يَكتشفوا مَكامِن العطش الحقيقي والعلاقة الشخصية والعميقة مع الله. ولا يتم هذا المَسعى إلا بوقوف المسؤولين الكَنَسيين إلى جانب المؤمنين، يُرافقونهم ويَقودونهم بسلطانهم التعليميّ، مُستنبطين دائماً تَعابير جَديدة عن الحُب والرّحمة، ويَتجهون بها ليس إلى المؤمنين فقط، بل إلى جميع ذوي النيّة الطيّبة أيضاً.
ما هي حركة العصر الجديد؟
من أجل فهم حركة العصر الجديد، وكيفية إختلافها عن المسيحية، علينا أن نبدأ من بداية نشوء المسيحية التي أسسها المسيح، المولود من دون زرع بشري، الذي حُوكم وصُلب وماتَ على يَد الرومان، ولكنه عاد الى الحياة ثانية. ولم يعُد الى الحياة كيفما يكون، بل الى الوجود الجديد، بعيداً عن حكم المرض والموت، وذلك بحكم إمتلاكه للجسد المُمجّد الذي يؤهله للظهور والإختفاء كيفما يشاء. وعلاوة على ذلك إن الحالة الجديدة يمنحها المسيح القائم من بين الأموات؛ لكل من يضع حُبَه وثقته به، ويُقدم نفسه مِثله لإرادة أبيه السماوي.
ومع أن الأمر يُعد ثقيلا للفهم نوعاً ما، وصعباً للقبول، لكنّ المسيح وَعد أتباعه، بإرسال الروح القدس لحماية الكنيسة التي أسسها بدمهِ، وحفظها من الخطأ العقائدي، (بالرغم من كل الخطايا والأخطاء التي يرتكبها قادتها). ولكي يختم العهد الجديد، وَعد المسيح بإعطاء جسده المُمَجَّد القائم من بين الأموات ليأكلوه، ودمه الثمين لكي يشربوه في الأفخارستية (سر القربان الأقدس). فالأمر إذن إلهي نَحتفل به في الذبيحة الفصحية"الأفخارستيا"، كي نقرّب إلى الله الآب، ما مَنَّ به علينا هو نَفسهُ من عطايا الخلق، أي الخبز والخمر المُحوّلين بقدرة الروح القدس، وبِكلمات المسيح الجوهرية إلى جسدهِ ودمهِ. وبهذه الطريقة يُضحي المسيح حاضراً حضوراً حقيقياّ وسريّاّ. ولعل هذا هو السبب في رفض البعض للمسيحية بإعتبار أفكارها غريبة وصعبة للفهم والقبول. كما يؤكد بولس الرسول نفسه:"نُنادي بالمسيح مصلُوبا، عقبة لليهود، وحماقة في نظر الوثنيّين"(1 كور 1: 23 ).
التراث الغنوصي "العِرفاني"
على الرغم من الطبيعة المتنوعة للحركات الدينية المختلفة، إصطلح الدارسون والمُتَخصّصون على إستخدام مصطلح الغنّوصّيّة "المعرفة – العِرفانية" لوصف الكثيرٌ من تلك الحركات، مع أن معظمها لا علاقة لها على الإطلاق بالمسيحية. ولكن العناصر الأساسية في تلك الفِرق، تُجيز لنا تَصنيف جميعها في خانة "الغنّوصّيّة" أو "الغنوص" (المعرفة أو العرفانية).
فالغنّوصّيّة، تيار ومذهب فكري مُعقّد ذو فلسفات باطنية، بذل جهده لإكتساب المعارف الفلسفية الوثنية، مُهملاً فكرة الوحي الإلهي كأساس لكل معرفة لاهوتية، ومُفسّراً إياها تفسيراً مجازياً، خالطاً بين النظريات الفلسفية الوثنية والعبادات الشرقية، مكوِّناً بذلك نظريات وفلسفات غريبة ومرفوضة من قبل المسيحية. فعلى الصعيد الديني، إستخدمت الغنّوصّيّة المُفردات المسيحية نفسها، مُعتبرة أنّ المسيح جاء الى العالم حاملاً المعرفة الكلّية. وامّا على الصعيد الفلسفي، فكان شغلها الشاغل التوفيق بين وجود الله ووجود الشرّ من جهة؛ ووجود الله وأعماله "الصالحة"، بالمقابل مع العالم وأعماله "الشريرة" من جهة أخرى. ولهذا خرجت الغنّوصّيّة بمبدأ التعارض الدائم بين الروح والمادة (الجسد). وأما الخلاص بحسب هذه المفاهيم الفلسفية، فهو في تعلّم الأسرار الخفيّة، ومعرفة أصل الروح ومصدرها الحقيقي. ولذلك فإن معتقدها الثنوي يجعل الروح الخيّرة في مواجهة الجسد الشرير، وفي حالة تعارض دائم مع المادة الفاسدة.
لقد علّمت الفرق الغنّوصّيّة منذ بدء تأسيسها أموراً كانت تبدو سهلة ومقبولة سواء للعقل أو الخيال، وذلك أن الخلاص يأتي عن طريق المعرفة التأملية؛ وعن طريق الحَدَس الخاص بالإصغاء، وممارسة السِحر والشعوذة. نشات تلك الفرق في طبيعة الحال، في الشرق الأوسط في القرون الثلاثة الاخيرة قبل الميلاد؛ وانتشرت في جميع مناطق شرق البحر الأبيض المتوسط خلال بضعة قرون بعد تأسيسها. وكان الغنوصيّون قد أدينوا من قبل اللاهوتيين المسيحيين مثل "جستين الشهيد وإيريناوس"، وكذلك من قبل الأفلاطونيين الجُدد مثل أفلوطين.
كانت الغنّوصّيّة نظاما اسطورياً متطوّراً للتدرجات الهرمية الروحية مثل الأشكال الأخرى من أنظمة وحدة الوجود، ويُعد العالَم المادي نتيجة من نتائج الإنبثاق الإلهي في نظامها(وفي بعض المذاهب، نتيجة من نتائج الكائن فوق الكوني، السامي الالوهة، يُطلق عليه أسم الحكمة "صوفيا باليونانية"). وتدور مُجمل تعليم الغنّوصّيّة حول كيفية الإعتلاء (وخاصة للنُخبة أو المختارين)، وذلك من خلال دعاء الأراوح الخاصة، وللوصول الى عالم الألوهة. فالأنفس بحسب رأي الغنّوصّيّة، هي وَمَضات إلهية سقطت من عالم الإلوهية الذي لايدركه عقل الى عالمنا المادي الغارق في الشر؛ وهذه الوَمَضات الألهية أصبحت سَجينة الأجساد البشرية؛ وتحتاج الى الخلاص بالمعرفة والسحر والتعاويذ المختلفة، ولكن ليس عن طريق الإيمان بيسوع المسيح والوحي الإلهي. ولعل ذلك كان السبب في تعميق تلك الفرق في تطوير السحر والشعوذة، إضافة الى إستخدام العقل والمعرفة للوصول الى السموّ والخلاص.
وينظر معظم المفكّرين الى الغنّوصّيّة بكونها حركة فلسفية، وتعاليم دينية متنافرة؛ أخذت شكل أنساق أسطورية، جميلة في ظاهرها، وغاية في التنوع وعدم التجانس في تفاصيلها العميقة. فالمارقيونية، التي أُسست من قبل(مارقيون)، فصلت بين إله العهد القديم، وإله العهد الجديد؛ مُتجهة في أفكارها نحو الثنوية الإلهية المزدوجة(الفكرة التي تقول بوجود قوتين إلهيتين مختلفتين في الكون) بدلاً من قوة إلهية واحدة.
وقد إعتمد "مارقيون" كما يَتبَيّن من أفكاره على الديانة الزرادشتية التي تؤمن بوجود قوّتين كونيتين متوازنتين، وكذلك على الديانة الانتقائية التي أسسها المعلم الفارسي (ماني) في القرن الميلادي الثالث، التي سُميّت بالمانوية، والتي إنحصر مفهومها حول قوّتين متوازنتين متضادتين، وهي النور والظُلمة، وبوجود صراع بينهما يستمر الى يوم الدينونة، في اليوم الأخير.
وقد أُدينت الغنوصية من قبل المسيحيين؛ وأعتُبرت هرطقة دينية لعدة أسباب: أولاً، بكونها مؤسسة على الأساطير الخيالية البالية. وثانيا، بسبب التعريف السخيف والشرير للمادة والجسد. إذ إدعت أنّها المذهب الديني الوحيد الذي يُبشر بخلاص البشر. مع العلم إنّ الكتاب المقدس، ينظر إلى المادة على أنها مخلوقة من قبل الخالق السامي، كليّ الصلاح؛ وكل ما خلقه حسن جداً؛ ولكن الخليقة دُنست بسبب الشر الروحي – الكبرياء. وتؤكد المسيحية كذلك على أن الله لَم يَتخَلَّ عن البشرية الساقطة، بل أرسل إبنه الوحيد ليأخذ جسماً بشرياً، ويعيش بَينَنا لكي يُخلّص العالم المادي. ولم يأتِ المسيح ليُخلّص شعبّا واحداً أو عِرقاً مُعيّناً، بل الجميع. فالجميع إذن مدعوّون ليتبعوا الإبن، وليقوموا معه في قيامة الأموات، وبأجساد مُمَجّدة. وقد رَفَضت الغنّوصّيّة كل تلك التعاليم، ومن ضِمنها عقيدة التجسّد المسيحية.
ولقد أسهم في الحقيقة، الكهنة الغنوصّيون وحكماءهم في خلق نوع من التحدي لدى المسيحيين لتكوين ما يُسمى باللاهوت المسيحي الدفاعي، الذي أثر في توضيح الإيمان المسيحي القويم ضد الأفكار الهرطقيّة المزيّفة. وعلينا أن نشكرهم على كل ما قدموه من نقد وشكوك ضد الكتاب المقدس؛ إذ جعلونا نتعمَّق في فهم الكتاب بعمق أكثر، وأن نزداد قوّة في المعرفة، وأن نكتشف كنوزا ما كنا لنكتشفها لولا زيف عقائدهم، ومغالطاتهم الرهيبة.
وتجدر الأشارة أن الغنّوصّيّة لم تَختَفِ بعد كل الصراعات والجدالات مع اللاهوتيين المُدافعين عن المسيحية؛ إذ بالرغم من كل الإدانات وقرارات الحرم الكنسي، التي أرادت مَنعها من الأنتشار والقضاء عليها قضاءً كاملاً، إلا أنها، إستمرّت في النمو والأزدياد في ضواحي المجتمعات المسيحية؛ وأثرت تاثيراً كبيراً في الحركات الدينية المختلفة، وتركت آثارها الهَرطقية من حين الى آخر عبر القرون. ومن الامثلة على ذلك الهرطقات التي انتشرت في القرون الوسطى من الألبيجينية (Albigeois)، والكاثارية (Cathares ) ، المشتقة من الكلمة اليونانية( catharsis )، التي تعني "التطهّر" .
وقد إنتشرت تلك الأفكار الهرطقية بخاصّة في جنوب فرنسا؛ وقامت حملات صليبية داخلية لتقويض قوة الكاثاريين في نهاية القرن الحادي عشر. ولعل تلك الهرطقات كانت السبب المباشر في تأسيس الرهبنة الكاثوليكية "الدومنيكية" المعروفة بقوتها الدفاعية عن العقائد الكاثوليكية ضد الأفكار الدينية المنحرفة. ويُعد القديس "توما الأكويني" من أحد أعضائها، ومن المعلمين العظام للكنيسة الكاثوليكية.
ومع أن الغنوصية أعطت الإسم السيء لكل الغنوصّيين، ولكن "العهد الجديد" إستخدم بعض المفردات الغنّوصّيّة وخصوصاً الرسول بولس، في أثناء حديثه عن المسيحية كطريق للمعرفة. ومن المؤكد أن تلك الإشارات في الرسائل البولسية تدل على وجود تلك الأفكار في بدايات المسيحية، ومحاربة المسيحية لها بقوة وحكمة. ولذلك يُركز الرسول بولس على موضوع التجسّد، ويُوجه كلامه ضد مَن يَرفض التجسّد قائلا: إن المسيح هو الصورة الكاملة لله، وهو الله بذاته، ولكن مع ذلك ماتَ على الصليب كإنسان. وكذلك يؤكد الرسول قائلا: "لا يمكن لإنسان أن يخلص إلاّ بالمسيح وحده لا سواه، وبأن الله كشف لنا بسر التجسُّد طبيعته وصفاته". فالمسيح ليس معادلا لله فحسب، بل هو الله، ولايعكس صورة الله فحسب، بل جاء ليُعلن لنا الله، وهو ليس من تُراب الأرض، بل جاء من السماء. وأكد البعض من آباء الكنيسة الأوائل مثل (كلمونت الأسكندري) والذي كان يدعى بالغنوصي المسيحي، على أنه ليس بالمعرفة نَخلص كما إدعى الغنوصيّون، ولكن بالإيمان وبوجود العلاقة الحيّة مع يسوع المسيح الذي هو "المعرفة" أو " الحكمة" أو الكلمة (لوغوس).

تأثيرات العصور الوسطى
لعبت الجدالات في القرون المسيحية الأولى، دورًا كبيرًا للتعريف بالمسيحية؛ ولشرح عقائدِها، وتفسير كُتُبِها المُقدسة؛ وحول ما تؤمن به الكنيسة وبدقة شديدة؛ وخصوصاً في طبيعة المسيح، فيما إذا كان هو الله قد إتخذ جسدًا بشريًا، أو هو مُجرّد رجل مسكون بالروح القدس؟ أو فيما هو إلهي أم بشري؟. ولكن الكنيسة، أَكَدت في كل قراراتها في المجامع الأولى على أنّ المسيح هو إبن الله، وهو إلأله بالطبيعة منذ الأزل بولادته من الآب. من أجلنا ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتَجسّد من الروح القدس، ومن مريم العذراء متأنسًا. ولما كان يَستحيل على الإنسان أن يصير إلهًا، لكن الإله القادر على كل شيء، بإمكانه أن يصير إنساناً.
ففي مجمع خلقيدونية سنة 451 ميلادية، وَجَدت الكنيسة الطريقة المُناسبة والصادقة للتعبير عن إيمانها بالمسيح، وذلك بكونه إله كامل، وإنسان كامل في الوقت نفسه. وأكَد المجمع على أن المسيح، إبن وحيد لله بطبيعتين، من دون خَلط، ومن دون تحوّل، ومن دون إنقسام، ومن دون إنفصال. فالإتحاد إذن لم يُلغِ الفرق في الطبيعتين، فلقد إحتفظ كل منهما بطريقته، ولتلتقي الطبيعتان في شخص واحد(شخص يسوع المسيح).
ولكي يكون ذلك بيّناً وواضحاً، كان لا بد من إجراء تمييز حاسم بين الشخص والطبيعة، في شخص المسيح، الذي تؤمن به الكنيسة، بكونه المساوي لنا في الجوهر وفقاً للإنسانية، والشبيه بنا في ما عدا الخطيئة، والمولود من الآب قبل كل الدهور وفقاً للألوهة، والمولود من إمرأة، وفقاً للإنسانية، لأجلنا ولأجل خلاصنا في آخر الدهر، وهو المؤلّف من نفس عاقلة، وجسد بشري من دون عَيب، ومن دون خطيئة. واعتبرت الكنيسة أن من يرفض هذا الإعتقاد يُحسَبُ مُنحرفاً عن الإيمان ومُهرطِقاً. ولعل الغرض من هذا التَشدّد كان للتمييز بين الذين يعتقدون إعتقادا صحيحاً، وبين الذين يغالطون في الأيمان.
وتجدر الأشارة أن الغنوصّية إختَفت عن الأنظار بعد مجيء المسيحية، كديانة أو طريقة للعيش بصورة علنية، ولكنها إستمرت كمجاميع صغيرة هنا وهناك، تعيش في الخَفاء، وتَنقل أسرارها وتعاليمها وطقوسها من جيل الى جيل بدون معرفة أتباعها لجوهرها الحقيقي، إلى أن جاءت فترة القرون الوسطى. واستمرت الأفكار الهرطقية تعشعش في الخفاء حتى بعد أن أصبحت الكنيسة المؤسسة الرسمية للأمبراطورية (أو بالأحرى ما بقي منها بعد تفكك الأمبراطورية). وقد ظهرت تلك التأثيرات في مدة الخمسة عشر قرنا من الزمان، ولا سيّما بعد أن جمعت حركة العصر الجديد قواها وخرجت من زواياها الخَفية والمُظلمة.
رَكزت السلطة الكنسية، من خلال كل تلك الجدالات الدينية القاسية نوعا ما، على فعل الإيمان وعلى العقيدة الصحيحة للمسيحية. وكان يبدو من الطبيعي ظهور كل تلك المشاكل بسبب التناقضات في الطرح والشرح والتفسير للتعليم الكنسي، إضافة الى إنتشار الأيمان في مختلف المناطق، ووجود التأثيرات الفلسفية والثقافية المختلفة في كل شعب ومنطقة. ولذلك عندما كانت تظهر هرطقة في منطقة ما، كانت الكنيسة تُسرع بالدعوة لإجتماع عام بحيث تمثل فيه جميع الكنائس في المسكونة كلِها، للنظر في الموضوع بعد إرشاد وتوجيه من الروح القدس. وتَصدر بعد المناقشات والمداولات الطويلة، الحُكم بِصَددها وبإتفاق الحاضرين. فالسلطة الكنسيّة إذن كانت تنطلق من فعل الإيمان، ولكن الجميع لم يكونوا مستعدين لذلك، وتنطلق من منطلق وجود المواهب الإلهية، ولكن الجميع لم يكونوا مُستعدين للحصول عليها.
وشهدت بدايات القرن الثالث عشر، تأثيرات أخرى على مسيرة الكنيسة ومن ضمنها الأفكار الثورية للأنبا (يوياقيم دي فيوري)، الذي توفي سنة 1202 ميلادية، وكان يُحسب من قبل الكثيرين في تلك الفترة بأنه قديس حقيقي. وقد بادر المدعو "يوياقيم" وبتشجيع عدد من البابوات في عهده على تفسير التاريخ على أساس الكتاب المقدس، واستخدام الدلالالت السِحرية للأرقام والجمل الكتابية، مما جعله مُؤهلا لكي يكون من أوائل العصرانيين الجُدد.
ففي الموسوعة الكاثوليكية هناك شرح مُفَصّل عن تعاليم "الأنبا يوياقيم"، الذي أَكَد على وجود ثلاث مراحل في التاريخ، تَتَطابق مع الثالوث الأقدس. فالعهد الأول يسمى"عهد الآباء"، الذي يَتفق مع العهد القديم، ويَتمثل بالطاعة للتشريعات الإلهية، وهو عهد القوة والخوف. والعهد الثاني الذي سماهُ "عهد الأبن المُتجسّد" الذي رَفَع البشرية الى الدرجة الألوهية، ويتمثل بالحكمة المَخفية خلال العصور والمُتجسّدة في ظهور الكنيسة الكاثوليكية والعهد الجديد. والعهد الثالث وسماهُ "عهد الروح القدس"، الذي يَجعل البشرية تقترب من الله أكثر، وتتصل به إتصالاً مباشراً. ويَتمثل بالحصول على الحرية الكاملة كما مَنصوص عليها في الرسالة المسيحية. وتَبطل في هذا العهد، الحاجة الى المؤسسات التأديبية، لأن الإنسانية تَتَجه الى الله بصورة مباشرة.
كان المفروض بحسب "الأنبا يوياقيم" أن يكون العصر الجديد، قد تحقق الآن، ولكن يبدو أن تنبؤاته قد دُحضت، وتفسيره الساذج للتاريخ سَقط خلال خمسين سنة أو نحو ذلك، من قبل القديس "توما الأكويني"، والقديس "بونا فنتورا"، وبمساعدة الحملة الرهبانية الفرنسيسكانية الروحية. ولكن مع ذلك بَدت فكرة "عصر الروح القدس"، فعّالة بالنسبة إلى كثيرين في بداية عهدها، إذ أَقرّت بإلغاء حكم القانون، وبإنتشار الحُب الكوني، ولذلك جَذَبت الكثير مِن الماسونيين والصوفيين، وعدداً لا بأس به من الطوائف البروتستانتية، إضافة الى الفوضويين، وأتباع العصر الجديد، الذين يَنسبون أنفسهم بفخر الى فكرة "الأنبا يوياقيم".
ولقد لَعِبَت التعاليم اليهودية السِرانية(الباطنية) المُسماة بالقبّالاه في القرن الثالث عشر، وبخاصة في اسبانيا وجنوب فرنسا، دوراً فعالاً في طرح الأفكار التي تقوم على تفسير الكون على أساس الأعداد، وذلك بإفتراض وجود مَعانٍ خفيّة وسرّانيّة باطنية، لكل حرف وكلمة وجملة في التوراة. فإبتدعوا حساباً أسموه "حساب الجُمَّل" وذلك بتحويل هذه الحروف الى أرقام عددية، وفق قواعد رياضية معروفة. ويُعتقد أن الفكرة تعود الى عهد النبي موسى؛ وهي من أولى الأفكار الحِكَمية الباطنية المفقودة. فالمصدر لكل شيء هو الله، بحسب أتباع الفرقة؛ وإن لأسماء الله أيضا قوة خفيّة باطنية. فلا يمكن فهم التوراة، إلا من قبل المختارين الذين يستطيعون على التفسير والتأويل؛ وممارسة بعض الفنون السحرية والتنجيمية. مع العلم أن الكلمة "قبالاه" تعني العقيدة المتلقّاة أو الموروثة، أو التعاليم الشفوية غير المكتوبة، التي يقتصر فهمها على فئة محدودة ومُحدّدة، تُمكن القلة من المختارين، من الاتصال مباشرة بالله، وإستقاء المعارف منه، بوَسائل سِحرية وسرّانيّة باطنية. ويؤكد أتباع الفرقة بأنه لما كانت التوراة مُقدسة، فإن الأحرف التي كتبت بها مُقدسة أيضا، وكذلك القيّم العددية لتلك الأحرف، ومتى ما أمكن الوقوف على المفتاح، الذي يفك الشفرة، أمكن الحصول على الحِكَمة الخفية المَكنونة فيها. ولذلك عندما يبدأ الإنسان في الشعور بالرغبة في معرفة الأمور الروحية، تزداد أحاسيسه للرفعة والسموّ. ولا يتم ذلك - بحسب أفكار الفرقة - إلا بتنمية الرغبة، من خلال دراسة حكمة "القبالاه" التي أعطاها الخالق.
ولعبت الإتصالات بين المسيحيين والعلماء اليهود والمسلمين في إسبانيا أثناء الحكم الأسلامي، وكذلك الإتصالات المباشرة مع الشرق أثناء الحروب الصليبية، دورًا لا بأس به في إغناء المسيحية، وتزويدها بالموروث الأرسطوطاليسي المفقود، وبالترجمات العربية عن طريق الحكم العربي في الأندلس. وأسهمت أيضا التطورات الرياضية الهندية التي حصلوا عليها من خلال إتصالهم بالعرب في تطوير العلوم الرياضية الأوروبية. وظهرت تلك التأثيرات، جليةً في دور البنّائين والمُصممين المسؤولين عن بناء الكاتدرائيات رائعة الجمال، إضافة الى الإبداع في الفنون والموسيقى والمعرفة الرياضية، التي طوّرت من خلال إتصال المسيحيين بالآخرين.
أعطت كل تلك العوامل الدافع القوي والبَناء لفتح المجال أمام عصر النهضة التنويري. وأعطت المجال أيضا لإعادة إكتشاف الإرث الوثني مع كل أنواع الإكتشافات الجديدة بثقة خلاقة وغير عادية. ولعل كل تلك الإتصالات الحضارية كانت السبب المباشر في دفع الشعوب الأوروبية نحو الحملة التنويرية في الفن والعلوم، وكذلك نحو التعمق في الطرق السِحرية، لغرض الفهم والمعرفة وكيفية السيطرة على الطبيعة.
وتجدر الأشارة أن عصر التنوير لم يكن فرصة لظهور العباقرة والمُبدعين مثل "ليوناردو دافنشي، ومايكل انجيلو" فقط؛ بل سبباً أيضاً في ظهور كل أنواع السِحر والتنجيم والفلك والعلوم المختلفة. ولقد أدت تلك الأسباب أيضاً الى ظهور "القبالاه المسيحية" على غرار القبالاه اليهودية، والتي أدت بدورها الى تطور العلوم الكيميائية المَعنيَّة بطبيعة المادة ومكوناتها، وكيفية تفاعل المواد المختلفة مع بعضها بعضاً، ولمعرفة أكبر قَدر ممكن من المعلومات عن طبيعة المادة، التي أوجدها الله في هذا الكون.
ويبدو من الواضح جداً أن للقبّالاه اليهودية، وللأرث السحري والتنجيمي المصري القديم، تأثيراً كبيراً على القبالاه المسيحية التي برز في أحضانها علماء ومنجمون كبار مثل: "باراسيليوس، وجان دي، ونوسترداموس". وقد أعطت كل تلك الفعاليات في الحقيقة، الدافع الحقيقي لظهور العلوم المعاصرة، كالفنون والكيمياء والفلك؛ وجعلت العلم أكثر تَجرّدا وعقلانية. إذ كلما كانت الأمور الحَدسية أقوى، كانت الأمور الروحية والسِحرية، أكثر شيوعاً وإنتشاراً بين المنظمات السريّة مثل الماسونية وجمعية(الصليب الوردي)، وجمعية (البنائين الأحرار) التي تسمى "الماسونية"، والتي إزدهرت كثيراً اثناء الفترة التنويرية، مع العلم أن العاِلم "إسحق نيوتن" كان عضواً مهمّاً في كلا المنظمتين السريتيّن.

الغنوصية الجديدة
ننطلق بعد تلك الأحداث لنصل الى القرن العشرين، الذي إشتهر فيه مفهوم العصر الجديد بالمعنى الحديث. وتُعد المدعوة "آليس بيلي"، في الثلاثينيات من القرن العشرين مِن المُطوّرين للتيار الثيوصوفي، والذي تَسلَّم المَهمَّة مِن بَعدها المَدعو "بابا رام داس" (الياس ريتشارد ألبرت)، والآخرين في الستينيات من القرن العشرين، وخاصة عندما إنتشرت فكرة بعض المُنجمين والفلكيين الذين، آمنوا بمجىء عصر جديد يسمى بعصر الدلو(Aquarius )، والمُرتبط بالمتغيرات الجديدة في العالم، وبإنتشار الوعي والمعرفة التي تجعل من البشرية أكثر نضوجاً، بحيث تصبح قادرة على نَبذ العنف والقوة؛ وتبدأ بتأسيس النظام العالمي الجديد، الذي سوف يُعرف بالعصر الذهبي للمعرفة الكونية، والحُب الكوني والسلام العالمي، في عالم جديد تَغلب فيه صَيحات الضمير والعدالة واللاعنف.
فالدخول في عصر فلكي جديد، بحسب (أتباع العصر الجديد)، من المؤمنين بشدة بقرب مجىء(برج الدلو Aquarius )، والمؤمنين أيضا بقرب إنتشار السلام والإستقرار والتناغم والاستنارة والإتحاد مع الله. فالانسان بحسب أتباع الحركة، إبتعد عن الله، ليس بسبب الخطئية فحسب، وإنما بسبب الجهل، وعدم معرفة حقيقة الله، وعالم الطبيعة.
ويواكب حركة العصر الجديد، إنتشار في الثقافة والشعارات الجديدة، والتفسيرات والتأويلات العديدة عن الإنسان الجديد، المثالي والمُشبَع بحرية الفكر والتعمّق الباطني كمستلزمات للتطور الداخلي. وتؤكد حركة العصر الجديد أيضا على أنه سوف يَحين الوقت لوضع حدٍ للالتباسات والتأويلات المغلوطة، ولكشف الحقائق السامية، بعكس الفترات الماضية التي كانت تقتصر فيها المعارف على النُخب الصغيرة مِن رجالات العلم والإختصاص. ولذلك يمكن وصف (عصر الدلو) بكونه سِمة أخرى من سِمات الحركة الأساسية، ولتكوين نظرة عالمية شاملة، تضم العلم والروحانيات، إضافة الى خلق نوع من ترابط بين العقل والجسد والروح، أي في خلق نوع من واحدية ووحدة بين أجزاء الكون. وفي سبيل ذلك دعا العصريون الجُدد إلى تَقبّل بعض من العلوم الزائفة في نشر المبادىء العقلانية الكونية، والقدرة على إدراك أو إجراء إتصالات من هذا النوع، والتي تعني الإلتزام بالعطاء إلى حدّ التفاني في سبيل المصلحة العامة.
فمن المعروف لدى الباحثين والمُتابعين للحركات الباطنية، أن الحركة تَتَبنّى عقائد سِرية باطنية متلونة ومتناقضة أحياناً كثيرة، ولا تواجه الحق في الظاهر، وإنما تُظهر التوافق معه، وتعتبره ظاهراً لا بأس من قبوله وتفسيرهِ وشرحهِ، وفقًا لأصول العقائد الباطنية. فحركة العصر الجديد تنظر إلى الإنسان بكونهِ يخلق مُحيط حياته، ولا حاجة له في شيء يأتي من خارج نفسه، إذ باستطاعته - عن طريق تعديل حالته الذهنية - أن يَتحكم في مستقبله، وبصنع واقعهِ وصحتهِ وسعادتهِ، وبالتحكم في حياتهِ بعد الممات، كما أنه يستطيع - في نظرهم - أن يَصل إلى الكمال المُطلق! ويرجع ذلك إلى الاعتقاد بأن الإنسان يولد بشرارة إلهية، لا بد له من الكشف عنها، وتنميتها ليتحقق إتحاده مع الكل. فالباطنيّون إذن يَرون أن جوهر الدين واحد، ليس لأنهم يؤمنون بكل الأديان، بل لأنهم في الحقيقة لا يهتمون بالأديان أساساً، ولكنهم يستغلونها فقط، للوصول الى مآربهم وغايتهم الخاصة. إذ يتبنون ما ينص عليه المنقول الباطني في جميع الأديان، وهو دين الحكمة. فدين الحكمة الذي تقدّمه الحركة للبشرية اليوم هو حقيقة كل الأديان، ويسبق جميع الأديان"بحسب رأي الحركة". مع العلم أنّ أُسُسهُ وعَقائِدَه وطقوسَه موجودة ومتوارَثة في المَنقول الباطني المأخوذ من كل المذاهب والأديان في الشرق والغرب. وقد سَعَت الحركة لجمعهِ من الأصول المُتفرقة، وصَهرِهِ في بوتقة واحدة، ثم تقديمه للناس في برامج جديدة تحمل روحانيات العصر الجديد، وتدرّب على منهج جديد للحياة بعيد عن مَحدودية الأديان التقليدية، كما يصف "زعماؤهم ومعلموهم".
وعلى أيِّ حال، فالسيدة "آليس بيلي" ليست المؤسِسة للجمعية الثيوصوفية، بل هي السيدة الأوكرانية الأصل "هيلينا بتروفنا بلافاتسكي"(1891 – 1891)، أول من أسس المنظمة في نيويورك سنة 1875 ، والتي أصرّت في تصريحاتها وكتاباتها على وحدة الأديان في الجوهر والغاية، ونظرت إليها بوصفها نتفاً مختلفة الأشكال والألوان من نور الحقيقة الإلهية الواحدة؛ وأَكَدت على أن كل دين أو نظام ميثولوجي ليس إلا قطعة ملوّنة صغيرة في فسيفساء بديعة زاخرة بالأجزاء التي تبدو مستقلة عن قرب، متوحدة عن بعد، في نظام مُتكامل يُعطي معنى لكلّ من أجزائه، ويَستمد معناه من هذه الأجزاء ذاتها. وأَقرّت بوجود أديان عديدة حقًّا، لكن الدين الشامل هو دين واحد، وهو دين الحكمة، الذي يُدعى في الأدبيات الثيوصوفية بـ"الفلسفة الباطنية". ويُطلِعُنا كتاب العقيدة السِرية، على تصور خبرة "السيدة هيلينا"، مع الماسونية والمنظمات السرية الأخرى، وكذلك، المعارف المختلفة التي حصلت عليها، في رحلاتها المتكررة إلى الهند ومصر.
وسرعان ما إنقسمت الحركة عدة مرات بعد تأسيسها، وقامت الجمعية بإختيار صبي يدعى "جيدو كريشنامورتي" وأعطته لقب “معلم العالم”، ولكنه مع ذلك رفض الرعاية واللقب، واستمر في الكتابة وتقديم المحاضرات، وبدأ يُعلّم أتباع الجمعية بعدم وجود الحاجة الى "جورو- معلمين" للجمعية.
وتبع ذلك الحدث إنشقاق آخر في الجمعية من قبل العرّاف والمنجم "رودولف شتاينر" الذي ترك الجمعية الثيوصوفية، ليؤسس جمعية الأنثروبوصوفية المسيحية سنة 1923، وأكد في معظم كتاباته على المساواة العرقية والتطور البشري.
وفي أعقاب ذلك جاء "سوامي فيفيكانادا"، الذي كان مُناصرا لفسلفة فيدانتا، وأول من قدم الهندوسية للغرب في أواخر القرن التاسع عشر. وقد جاء الى البرلمان العالمي للأديان في شيكاغو عام 1893. وكان له تأثيره القوي والمُباشر على الجمعية الثيوصوفية، بحيث أمضى السنوات السبع التالية في السفر والتحدث في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا. وكنتيجة لعمل فيفيكاناندا، نَمَت المنظمة عالمياً وإنقسمت الى قسمين، سُميّت الأولى “جمعية فيدانتا”، والأخرى سُميّت “نظام راماكريشنا” في الهند. ولم يعش فيفيكاناندا، ليرى نمو هذه الجمعيات، إذ توفي عام 1902. ولكن أصبحت مقالاته ومحاضراته أساساً عملياً لتطوير الحركة، ونشرت بشكل سلسلة من الكتب الرائجة حول الفروع الرئيسية من اليوغا والكارما، بهاكتي، جنانا وراجا.
ولعبت جمعية الفيدانتا أيضاً دوراً مماثلاً لدور الجمعية الثيوصوفية في نشر الأدب الشرقي؛ وعملت على نشر الدعاية والإعلان عن الحكمة الهندوسية، ولا سيّما بين المثقفين الغربيين في نهاية القرن التاسع عشر. وشهد الغرب في تلك الفترة ظهور غورو "معلمين" جُدد من الشرق (جي. أي. غوردجييف، المهراشا ماهيش يوغي، بهاغوان سري راجنيش). وقد راجت فكرة "الزن" البوذية في تلك الفترة؛ وبدأت موجة من الإهتمام بها، وبخاصّة في ولاية "كاليفورنيا" الأمريكية، وذلك بتأثير كتابات (ألن وات، و دي. تي. سوزوكي) مع تأثيرات الصوفية العالمية، وبالتعاون مع(بير ولايات خان، وأدريس شاه، وفريثجوف سكوان).
وقد أصبحت كتابات هؤلاء وبحوثهم، الأرض الخصبة لرئيس الطائفة البوذية التيبيتية المنفي من قبل الحكومة الشيوعية في الصين "الدلاي لاما" لكي يؤسس المركز البوذي للتأمل وممارسة الطقوس البوذية في الغرب، وحتى الأديرة البوذية بُنيَّت كلها على الطراز البوذي بهيئة التنانين الذهبية. وأسس "الدلاي لاما" مجتمعات تعتمد على العمل الجماعي للأسر، تقليداً لمجمتع "سيامي لينغ" في اسكوتلاندا، الذي لعب دورا مُهمّاً خلال فترة النمو المبكرة لحركة العصر الجديد.
من الواضح جداً ان التراث الإنساني هو مُلك للجميع، وإن إنتشر بأسماء عديدة مختلفة باختلاف الشعوب والثقافات، التي اؤتمِنَت عليه على مر العصور. ومن الواضح أيضا أن العصر الجديد، وإن كان عصراً يُعرف بكشف الحقائق، وبإنتشار الإساءات المختلفة للأديان، إلا أنه يمنح فرصة سانحة للمسيحية في إثبات وجودها، وإعتبار كل ما يحدث في العالم نوعاً من التحديّ الجديد لنشر الإيمان المسيحي.
ولعلّ من أعظم التأثيرات الإيجابية على حركة العصر الجديد، جاءت من قبل السايكولوجي "كارل يونغ"، الذي إستخدم المصطلح "العصر الجديد" في وصف الحقبة المُقبِلة من التقدم الروحي (وقد أعطى إهتماما خاصا للخيمياء القديمة والغنّوصّيّة)، وكذلك التأثيرات المهمّة جداً، التي أضافها العالم الفلكي واللاهوتي التطوري اليسوعي الفرنسي"تيلار دي شاردان"؛ وتأثيرات اليوغا، وعلم حِماية البيئة، وجماعات الدفاع عن المرأة، إضافة إلى تأثير الترجمات المختلفة للنصوص المقدسة للأديان الأخرى، كالقبالاه اليهودية، والهرطقات المسيحية عبر العصور.
وفي هذه الأثناء، لما كان الإيمان المسيحي وممارساته الروحية تضعف، لعب البعض من قادة الحركات السِّرانية الباطنية من الفيزيائيين الذين أُعجبوا بالفكرة، مع إعجابهم أيضا بالفلسفات الصينية، ولا سيّما فلسفة الديانة الطاوية، ومن هؤلاء(إروين شرويدنغر، جيمس جينس، ماكس بلانك، فريجتوف كابرا). وأَلهَمت الحركة كذلك عالمة الكيمياء "إليا بريكوكين"، والعالم البايولوجي "روبرت شيلدراك"، واقتراحاته حول الوراثة، وتغيير الأشكال في البيولوجيا التطورية. وأسهمت أيضا الممارسات والتجارب العلمية للأنسانيين والعلماء النفسانيين التجريبيين، دوراً لا يُستهان به في نمو وتطور "حركة القدرة البشرية الكامنة"؛ وبرز في تلك الفترة أشخاص مثل (ابراهيم ماسلوف، وفريتز بيرل وروبرت أساغيولي).
وفي نهاية القرن التاسع عشر، بَلغت الظاهرة الروحانية، مَبلغاً كبيراً في الغرب؛ إذ وقع في فخاخها أناس مشهورون مثل "أرثر كونان ديولي" صانع شخصية "شيرلوك هولمز"، الذي أصبح نصيراً قويّا للحركة، مع الشاب "جي. كي. جيسترتون"، الذي وقع ضمن الدائرة أيضاً. وظهرت الحركة ثانية بعد عشرات السنين تحت عباءة أخرى تُدعى "الباراسايكولوجيا" (علم النفس، الحاسة السادسة)، والتي عُرفت بالأكاديمية الإنضباطية التي أسسها(جي. بي. راين) في الثلاثينيات من القرن العشرين. وقد غيّرت "الأكاديمية" نهجها وطريقتها وشكلها وحتى أسمها؛ إذ بدأت بالنهج الجديد ودَعت نفسها بأسماء مختلفة، كالرامثا، وسيث، وهلمّ جّرا. مع العلم إن ما نشرته الأكاديمية من الكتب والمنشورات، كانت من أكثر الكتب والمنشورات مبيعاً في تلك الفترة.
وعُرفت الجمعية الثيوصوفية كذلك بإستغلالها الظروفَ السياسية والإقتصادية للدول والشعوب؛ إذ إستغلت القمع الذي كان يُمارس من قبل المَدّ الاستعماري العسكري، من قبل الأمم الغربية المستعمِرة المشبعة آنذاك بوهم التفوّق للعرق الأبيض. إذ أعطت نفسَها الحقَ في إستغلال الشعوب المُستَعمرة بشريّاً واقتصادياً أبشع استغلال، محوِّلة إياها إلى سوق لتصريف الفائض من بضائعها، ماسخة ثقافاتها العريقة بما لا يدع لوخز الضمير مجالاً. ففي هذا الجو غير الإنساني جهرت الثيوصوفيا بأول مبادئ الفلسفة الباطنية، وأعلنت أخوَّة البشرية قاطبة، ووحدة كلِّ العروق والأجناس في الروح والإنسانية، ودأبت على تعريف الغرب بالعقائد الفلسفية والروحية للشرق في محاولة منها لإجلاء قيمها المشتركة والمُنسجمة، إلا أن الإهتمام بتلك التقاليد لم يفقد بريقه لدى المُتَخصّصين، الذين بَرَز من بينهم العالم في الأنثروبولوجيا "كارلوس كاستانيدا" الذي كتب سلسلة من الكتب في وصف الديانات الشامانية، التي سجلت مَبيعًا عاليا، أكثر من 28 مليون نسخة في 17 لغة. وإنسحب كاستانيدا من الرأي العام في عام 1973 ، وذلك لمواصلة العمل على تطوره الداخلي. وغيره من العلماء الذين إكتشفوا الديانات الشامانية القديمة، التي إدّعت بكونها الوسيطة بين عالمنا وعالم الأرواح وقوة الطبيعة. وكنتيجة لذلك ظهر الإعتبار للديانات الوثنية التي تُمارس السحر والشعوذة. مع العلم أن أكثر من 20,000 شخص يتّبعون تلك المناهج الوثنية اليوم في بريطانيا وحدها.
وأما في اوروبا الشرقية، فالسيطرة السوفيتية والآيديولوجية المادية التي مُورست لفترة طويلة، أنعشت الدراسات الباراسايكولوجية، وفتحت الطريق للظواهر العلمية والتجريبية غير الطبيعية. فبعد التفكك الذي أصاب الإتحاد السوفيتي سنة 1989 ؛ وَجَدَت أفكار العصر الجديد والثيوصوفية، مع مختلف الطوائف والهرطقات، الأرضية الخصبة والمُهيّأة للعمل والإنتشار. لذلك لبست حركة العصر الجديد، الآتية من الغرب، أقنعة مختلفة في روسيا والدول الأوربية الشرقية؛ إذ بدأت في بعض الأحيان تدخل بحجة التدريب وفتح الدورات العلمية والتثقيفية للنشء الجديد، وكذلك بفتح الدورات والمؤتمرات المختلفة في مواضيع النمو والتقدم والتطور.
وفي أثناء ذلك، بينما كانت الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية تُناقش الحكومات في كيفية إعادة الكنائس والأديرة والعقارات المَسلوبة الى الكنيسة، إستغلت الطوائف الغنية ومنها المورمونية، وشهود يهوه، الفرصة السانحة لملء الفراغ الروحي بين الشباب في تلك البلدان البعيدة عن الكرازة المسيحية لسنين عديدة.
بعض أفكار العصر الجديد
يعتبر السير جورج ترافيليان القائد والمُلهم لحركة العصر الجديد، وهو إبن أخي السير تشارلز تريفيليان المؤرخ البريطاني المشهور. الذي أسس جمعية ريكن ترست (Wrekin Trust )، التي كانت واحدة من المراكز العديدة للعصر الجديد، والمُرتبطة مع جمعية حِماية التربة، ومؤسسة فيندهورن الأسكوتلندية، وقاعة دارتنغتون، وهي مجموعة من المؤسسات الخيرية التعليمية، التي إشتهرت بإرتباطها بالزراعة العضوية، وتغيير النظام الغذائي. وكان النشاط الرئيسي للجمعية، إضافة الى كل ذلك، تطوير المُنتدى "ريكن"، لإيقاظ وتنشيط البُعد الروحي في المجتمع، من خلال تَمكين ودَعم إتصال أعمق بين المُنظمات والأفراد، والتي تختص في الحِفاظ على البيئة، وتقوم مبادئها على الشمولية والروحية الكونية والمبادئ الإيكولوجية.
ففي الكتاب "رؤية عصر الدلو"، الذي ألفه السير جورج ترافيليان سنة 1977 ، يُلخص الكثير من أفكار العصر الجديد، إذ يَذكر:" وراء كل الأشكال الظاهرية هناك الوعي المُطلق بالوجود؛ وكذلك وراء كل أنواع التنوع، وأشكال الطبيعة، هناك وحدانية مُطلقة؛ أسمى من كل تسمية بشرية، وقد يسمى الله أو الطبيعة، أو تلك الطاقة الكونية المُتغلغلة في الكون والمُتحدة به. وبإختصار شديد، إن الله، إنعكاس للعالم الأبدي للخيال المُبدع. أو تلك النواة الداخلية في كل إنسان، وداخل كل واحد منا؛ من الممكن تسميتها بالروح، أو هي قَطرة من الأصل الألهي الخالد والأبدي وغير الهالك. فالروح إذن، جوهر إلهي أزلي خالد، وخلودها يَستمر في حيوات شتى، وهي في إمتدادها حياة واحدة أبدية مُستمرة، وأما الجسد فهو بمثابة الغلاف الخارجي، الذي يموت ويبلى ويفنى" (ص 5 – 6).
ونستدل من هذا بأن الحديث عن الإله - في مفهوم الحركة - هو حديث عن الإنسان أو العكس. فلا وجود في معتقداتهم، لإله له ذات وإرادة، خالق للكون ومُدبّر له؛ وإنما الله، هو الطاقة الكونية المُتغلغلة في الكون والمُتحدة به. ولا فرق عندهم بين العالم والإله؛ حيث الكل هو الإله في صور وتجليّات مُتنوعة. فالعالم والإنسان، جزء من الإله أو تَجل من تجليّاته، والحديث عن الفرق بين الخالق والمخلوق، كما تَعده الحركة، ثنائية مرفوضة، تنافي التوحيد الذي يعتقدون به.
ويقودنا هذا الفكر ضمنياً الى عقيدة مشهورة ومنتشرة في الحركة العصرية الجديدة: التناسخ أو (التقمّص). كما يُعبر عن ذلك السير جورج قائلا: "إن النفس تعود الى مصدر أسمى وأنقى، وتتناسخ لغرض إكتساب الخبرة من كثافة الأرض – وهي مرحلة تعليمية أو تهذيبية ضرورية للتنقية والتصفية من كل الشوائب المتعلقة بها –، وبالتأكيد إن مثل هذا التناسخ ينطبق على جميع المخلوقات العاقلة اللاجسمية وغير المرئية، إذا سَقطتْ في الإهمال، تنزلق تدريجيّاً وتَنحط إلى الدَّرَكات السفلى، وتَتَخذ أجساماً، بحسب موضع الدَرَك الذي إنحدَرَت إليه. فالميلاد في الحقيقة يشبه الدخول الى القفص أو القبر؛ وتتم فيه نَزع الأجسام القديمة، ولبس الأجسام الجديدة. كما يَستَبدل الإنسان بثيابه البالية ثياباً جديدة (ص 6 )". وهو يُفسر ما هو وراء تلك العقيدة على النحو التالي: "وبعبارة أدق يجب أَن نَعترف بأن الإنسان، كائن يتكوّن من الجسد والنفس والروح. فالخالد "الأنا"، ليس النفس، ولا الشخصية العابرة. لأن الأنفس تتكون في البداية من الأثير، ثم من الهواء؛ وعندما تقترب من الأرض تحيط نفسها بأجسام أكثف، إلى أن تَصير مَغلولةً ومقيَّدةً باللحم البشري. ويُغيّر المرءُ جسمَه على الأغلب مثلما يُغير مقرَّه عند الانحطاط من السماء إلى الأرض".
ولكن الشخص البشري يتكون في المسيحية، من الوحدة بين الروح أو النفس مع الجسد؛ ويوعد بالقيامة الأبدية، التي هي الفصل بين شقاء الإنسان وسعادته بعد هذا العمر الأرضي الوحيد الذي نعيشه؛ وتنتقل النفسُ أو الروح بعد الموت مباشرةً إلى النعيم الأبدي، أو إلى الجحيم الأبدي. ولكن السير جورج يؤكد في كتاباته: "إذا كانت الأرض السهلة هي في الحقيقة إختبار عظيم للنفس، فمن غير المُستحسن المجيء هنا مرةً واحدة فقط. لأن الحياة مرةً واحدة هي من الصعوبة بمكان أن تكون كافية لجمع كل الحصاد من الخِبرات والتجارب التي تمنحها الأرض" (ص 36). ويبدو أن السير جورج يقتدي بأفكار (جي. ئي. ليسينغ) الذي يعتبر الأرض مدرسة لتَقمّص الأرواح، في كتاب نشره سنة 1780 م. فالفكرة كانت دائماً مَعروفة ومُنتشرة في الشرق الأقصى؛ ولكنها لم تكن كذلك في الغرب. إذ يُعد التقمّص أو التناسخ في الغرب أمراً سلبياً، بعكس الشرق الذي يعدّه جزءًا من ثقافته الشعبية.
ومن الملاحظات المهمّة للسير جورج على ذلك:" يبدو ملائماً لأفكارنا - نحن الغربيين - التفكير التطوري، الذي يجب أن يزيّن فهمنا وثقافتنا بمفاهيم التقمّص للأنفس البشرية التواقة الى الحيوات المُتعدّدة. ولذلك فكل واحد يجب أن يُضيف شيئاً، وأن يكون شخصاً مُبدعاً وخَلاقاً في حياتهِ على الأرض، لكي يدفع بالبشرية خطوة الى الأمام(ص 38). ولهذا فعقيدة التقمص (كما هي معروفة ومقبولة من قبل ربع سكان أوروبا) ليست ببساطة فكرة مُستمدة من الديانات الشرقية، بل هي تطبيق فكرة التطور التدريجي لنظرية ثنائية الروح البشرية.
فما يُدعى بالرغبة في التحوّل وتحقيق الذات هي مظهر من مظاهر حركة العصر الجديد، ومن دوافعها الكامنة. فالفكرة "أنا" التي لها مراحل حياتية عديدة؛ هي مراحل تعليمية أتعلم من خلالها أخطائي مرّة، وأكتشف ذاتي مع "الله في داخلي"، وقد تَبدو الفكرة جَذابة للكثيرين، مقارنة مع الفكرة القائلة بمجيء الناس الى هذا العالم لمرة واحدة، وإختفائهم بعد حياة قصيرة، أو الفكرة القائلة بالدينونة الأبدية للقرارات المُتخذة في الحياة على أسس جاهلة أو غير مقصودة كما تُفهم الفكرة خطأً في العقيدة المسيحية عن الحياة الأبدية"الآخرة". لأن الرغبة في تحقيق الذات أو في الشفاء الروحي، تكمن أيضا خلف العديد من الإتجاهات الفكرية مثل الطب البديل، فضلا عن العلاجات، التي وضعت من قبل مدرسة "فرويد ويونغ وأدلر وفرانكل"؛ إضافة الى التأثيرات الكبيرة لعلم النفس الإنساني، سواء بتأثير التيارات الغنّوصّيّة، أو الخيمياء القديمة، أو التنويم المغناطيسي، التي تعتبر كلها أدوات جذب مهمة لحركات العصر الجديد.
وعندما كان العالَم يَنشغل في الحرب الباردة بين القطبين الكونيين؛ عملت حركة العصر الجديد، تماشياً مع الفكرة السابقة بتطبيق المبادىء نفسها لعلاج الأرض التي في إعتقادهم قد أصابها العجز، وتتجه نحو الضياع، وتحتاج الى الحُب والحِماية البيئية. وعملت الحركة على إقامة المؤتمرات والندوات الثقافية لشرح وتوضيح الحقائق العلمية، التي كانت تُسبب القلق في قلوب الكثيرين في تلك الفترة، بسبب التصنيع غير المسؤول هنا وهناك؛ الذي يضر بطبيعة الأرض والبيئة والمناخ. ولقد إهتم "الهيبيون" في الستينيات من القرن العشرين الإهتمام نفسه حول البيئة والطبيعة والمناخ.
وحاولت الحركة أيضا من خلال نشاطاتها ومنشوراتها وأنظمتها الغذائية، التي تعلن عنها، تغيير الإنسان وتجديده. إذ يرتبط تغيير الإنسان بحسب معتقد الحركة، إرتباطاً رئيسيا بالعلاج الطبيعي والحِمية الغذائية، وكذلك بالتغيير في الكوكب الأرضي نفسه؛ وذلك من خلال إستعادة التوازن الطبيعي لطاقات الأرض، لإنشاء حضارة كونية جديدة، وغير عدوانية لشعوبها وللطبيعة. وتهدف الحركة أيضا الى تحقيق ذلك من دون قلب الموازين، ولا هدم الإقتصاد العالمي، ولكن من خلال التأثيرات الروحية والإحتجاجات السلمية والتأملات والصلوات الروحية.
وقد قادت المنظمات النسوية مع جمعايات حِماية البيئة العاملة على معارضة الأسس التاريخية القديمة في مفهوم الأرض والطبيعة، لتشكيل مفاهيم جديدة حول الأرض. وتؤمن الجمعية أن "الأمبراطور قسطنطين" وخلفاءه من الذكور، قد نَجحوا في تحويل العالم من أمومة الوثنية إلى البطريركية المسيحية، بشن حملة من الدعاية لشَيّطَنة مَعالم الأنثى المقدسة، وإلغاء عبادتها. ولهذا تحاول الجمعية إرجاع الأمور إلى نُصابها وذلك بإحلال الأرض الأم، مَحل الله الآب والله الإبن. ولتحقيق ذلك، ولجعل الفكرة أكثر قبولاً، دَعت الجمعيات الثيوصوفية الى تشجيع الكهنوت النسائي، ليكون أدوارهن للقيام بالصلوات والشفاءات الروحية والجسدية، عن طريق الطب البديل، في حركة قوية غرضها إحياء الديانات الوثنية وطقوسها السحرية وتفسير الفلكلور القديم والأساطير والخرافات الوثنية تفسيراً عصرياً، بدلا من تقديم الطقوس المسيحية في الذبيحة الكفارية للمسيح(جوزيف كامبل وروبرت بلاي).
ولذلك تُحاول حركة العصر الجديد عموماً، التشديد على إتجاهات ديناميكية، نحو العصرنة والحداثة والعقلانية التنويرية. وقد تُدرك تلك التشديدات، كرد الفعل للأسباب التي آلت إليها حالة العالم اليوم من إنتشار الأمراض المُزمنة، والتصنيع السيء والمؤذي للبيئة والإنسان وتهديد وجودهِ. ولعل الأسباب الحقيقية وراء كل ذلك بحسب المُتخصّصين، تعود إما الى الروح المادية الفاشية في كل مكان، أو إلى تأثير السلطات الغاشمة واللامسؤولة التي تشجع التصنيعات سيئة الصيت، أو الثلاثة معا. فهم يعدّون العالم كُلاً عضوياً حَيّاً يَحتاج الى العلاج، ويعدوّن أنفسهم المسؤولين عن القيام بهذا الأمر، بالطرق الروحية والشفائية والسحر والشعوذة؛ بدءًا بالأفراد ثم العالم والطبيعة والأرض.
ففي الحقيقة إن الكثير من القرارات والإفتراضات والدعاوى لتلك الحركات العصرية، تتفق مع النظرة المسيحية عن العالم والطبيعة والإنسان. ومنها على سبيل المثل، حِماية البيئة التي يُعد أمراً لم ينساه البابا يوحنا بولس الثاني، ومعه الكنيسة الكاثوليكية. ففي رسالته البابوية سنة 1995 المُعنونَة "انجيل الحياة"، دعا الى نوع جديد من الحركات النسوية، التي تنسجم مع المجتمع الذكوري ولا تنبذه. وفي مسألة البيئة أيضاً، إذ أسس البابا يوحنا بولس الثاني، مركز اللاهوت والدراسات البيئية في كلية مار يوسف في مدينة "ماين" سنة 2006 ، التي تشير بوضح شديد إلى وعي البعض من الكاثوليك أهمية هذا الحوار الخاص والشعور الراقي والمُتمدّن في مكافحة التدهور البيئي، وتعزيز النمو البشري المُتكامل، وطرح الحلول المُرضية للعلاقة بين الإنسان والبيئة.

ظاهرة شفرة دافنشي
إن العمل، غير العادي، الذي قام به "دان براون" في إخراجه القصّة "المُثيرة"، والمُعنونة "شِفرة دافنشي" والتي بلغ صيتها من خلال الفيلم كل أصقاع العالم، ودخلت مجالاته المختلفة، تُمثل اليوم تحديّاً كبيراً للمسيحية، بإعتبارها قصة تُجسّد أفكار حركة العصر الجديد. فهي في الواقع قصة خيالية، تستند الى إفتراضات ذُكرت في قصص مثيلة أخرى، وبشكل خاص في قصة (الدم المقدس والكأس المقدسة)، وقد أُعجب بها الملايين، وإتخذوها موضوعا في غاية الجديّة.
ترى القصة على أن الكنيسة الكاثوليكية أَخفت "السر"، قروناً عديدة لكي تَحمي سلطتها الدنيوية والروحية، وهو ما اهتمت بكشفه الرواية "الكأس المقدسة" في طبيعة سياقها ومضمونها الروائي. وترى القصة أيضا إن الكأس المقدسة هي بالفعل إستعارة تربط بين المسيح وسلالته، وبحسب هذه النظرية: تزوج يسوع المسيح، مريم المجدلية قبل موته، وأنها حملت منه طفلا( أو طفلة)، وإنتقلت إلى فرنسا. فمن المفترض بِحَسَب النظرية أن تكون سلالة المسيح، مُستمرة إلى يومنا هذا، وأن هذه السلالة، قد تزاوجت مع قبائل "الفرانكونية"، وأسفَر ذلك، ظهور الملوك "الميروفيجيين" في جنوبي فرنسا.
وبعيداً عن التصورات المغلوطة في وجود الكاس العجائبية، التى إستخدمها السيد المسيح فى العشاء الأخير، والتي إحتوت على قطرات الدم المُتساقط من جنبه أثناء نزاعه الأخير على الصليب، كما تقول أسطورة "حراس الملك آرثر"، التي جعلَت القصة من "الكأس المُستعملة" من قبل المسيح في العشاء الأخير موضوعاً مثيراً للغاية، بإعتبار أن "الكأس" هي الدم الملوكي. وتُعد هذه الفكرة نظرية سَبق أن طرحها بعض الباحثين والمؤلفين، ومفادها: إن "الكأس المقدسة" تمثل إستعارة تخفي وراءها "سلالة المسيح" وأصل تسلسل عائلته، وصولاً الى بطلة الفيلم "صوفي". وحاول هؤلاء العصرانيون، إقناع الناس بأن الفكرة "حقيقية"؛ وبأنها كانت معروفة لدى النُخبة من الحكماء، وأصحاب الصنائع المَهَرة الذين قاموا بإخفاء هذا "السِر" داخل أعمال فنية ومعمارية عبر العصور.
فالاهتمام الرئيسى للرواية يبقى في تَمجيد المرأة ورمزها التاريخى، وهي "مريم المجدلية" التى تزعم الرواية، أنها لم تكن مُجرّد عاهرة دعا المسيح للعفو عنها، بل كانت زوجته المُطهرّة التى حملت فى أحشائها سر المسيحية، مُجسداً فى سلالة المسيح. وبالتالى فهي الكأس أو القنينة التى استقر فيها السر المقدس. أي ان الكأس هي المجدلية نفسها، والقنينة التي تحمل الدم الملوكي. ومن هنا ينفذ "السيد براون" إلى فكر العصر الجديد، وذلك عن طريق تمجيد المرأة "الأنثى المقدسة" والتبشير بالأناجيل الغنّوصّيّة.
ويتبين في الرواية وبشكل واضح جداً، إن المغزى ليس إلا سَلب الألوهية عن يسوع، وسَلب العِفة والبتولية عنه، وجَعله رجلاً عادياً متزوجاً من مريم المجدلية. ويَتصوّر الكاتب أو يُريد تصوير المسألة وكأن الأمبراطور قسطنطينوس، وبعد قرون من رسالة المسيح أعلن ألوهيته، والكنيسة بدورها أَخفت الحقيقة عن مريم المجلية، وأَخفت معها عقيدة الجنس المقدس، الذي كان يُمارَس في المسيحية الناشئة للتوازن بين الذكور والإناث على الطريقة الطاوية، "الين واليانغ"، أو عن طريق العلاقة الجنسية والمساواة بين الجنسين. وتذكر القصة أموراً سخيفة، ولا أساس لها من الصحة في تاريخ الكنيسة كقتل 5 ملايين إمرأة ساحرة، وغيرها من الأمور، التي ذُكرت في كُتب أخرى أيضاً، كما في شِفرة "هوكس"، التي لا يتسع لنا الوقت أن نخوض فيها الآن.
كانت تلك المزاعم السرية معروفة لدى أتباع "جمعية حراس الهيكل" وفرعها "جمعية صهيون" التي كان "ليوناردو دافنشي" عضوا فيها. ويُحاول الكاتب والمخرج تصوير القصة، وكأن الكاثوليك لا يمتنعون عن إرتكاب أبشع الجرائم وهي القتل، لغرض منع السر من الكشف حتى يومنا هذا.
فالقارىء الفطن سيرى بسهولة، آثار حركة العصر الجديد في صفحات القصة من خلال مجريات الفلم؛ وسيرى أيضا حُب الكاتب والمخرج للمال والطمع والشهرة والربح الوفير، إضافة إلى حُب هؤلاء، نشر فكر الجمعيّات السرية، والإستهزاء بالشخصيات التاريخية، وإظهار الحقد على السلطات التقليدية. فما هو مُسجل في التاريخ لا يُعبّر بالضرورة عن الحقيقة، بل يَخفي من خلال سرده الأحداث رموزاً وألغازاً ومؤامرات، لأن التاريخ من وجهة نظرهم، في جميع أحوالهِ وصورهِ، يَكتبُه المُنتصرون، ويَصوغونه على حسب أهوائهم، ويَجعلونه لصالحهم، ويَمحون منه ما هو لصالح أعدائهم. ولذلك إتجه أتباع العصر الجديد، نحو الأساطير والخرافات، مُتصوّرين أنها تَضم في داخلها حقائق جوهرية. ولذلك بدأوا بالإطلاع عليها، لعلهم يقرأون ما بين سطور التاريخ، والكتاب المقدس، إفتراضات ونظريات لادينية إلحادية مُسبقة، تنفي الإيمان بإله واحد، أو تنفي وجود الله في الأساس. لذا فقد خلقوا تاريخا غير التاريخ المعروف لدى العامة والخاصة. واكتشفوا مسيحاً غير المسيح المعروف لدى معظم الفِرق والمذاهب المسيحية التقليدية والمعاصرة. وقرأوا إنجيلا غير الإنجيل المقروء في معظم الكنائس. ونظّموا لأنفسهم ديناً جديداً من وحي خيالهم الوثني المبني على الخرافات والأساطير والأوهام، التي من الممكن وجودها في العالم الخيالي فقط؛ إضافة إلى حبهم نشر السحر والشعوذة والبغاء الرخيص، التي تُعد دائما عناصر مهمة في الكثير من الجمعيات السريّة. ومن الغريب في الأمر ان تلك القصص المُخزية في مقاصدها الهدّامة، تُمَّثلُ على شاشات السينما والتلفاز، في حين لا يمكن أن يكون لها وجود في عالم الحقيقة والواقع.
ومن العناصر الأخرى، التي تظهر من خلال القصة والفلم، دور الجمعيات النسوية القوي، ضد شخصية السيدة العذراء، التي تُحاول القصة مع الفلم نزع المَجد عنها، وإعطاءَه للمجدلية. إذ نجد تقارباً كبيراً بين المجدلية والقديسة مريم العذراء من جهة البركة، ووصفهما بالمباركة بنوع من بركة تفوق الجميع. ويتكون نص الكتاب كله من حوارات، بين المخلص ومريم العذراء ومريم المجدلية، بإسلوب يتعذر علينا، فيه غالباً، أن نميّز إنْ كانت المُتكلمة أو المُستمعة للمخلص، هي مريم العذراء أو المجدلية.
وتَدّعي حركة العصر الجديد بأن الكنيسة في العصور الوسطى، دافعت عن الجنس المُقدّس ضد الغنوصيين والكاثاريين، الذين رفضوا الجنس، وحاربوه لِعدّه من الأمور النجسة. ولكن القصة تَعرض الفرضيات الخيالية للناس، وتعدّها حقائق عن الكنيسة، ومن دون أن تقدم أيّ إثباتات أو براهين، ومن دون أي إحترام لمصداقية التاريخ؛ وهذه أيضا من الميزات الموجودة في حركة العصر الجديد، وغير المقبولة في المسيحية.


الهروب من قفص العصرانية
لقد آن الأوان لتحليل الأمور بصورة أعمق من ذي قبل. ففي هذه الجزئية من التحليل عن حركة العصر الجديد، سأحاول بقدر الإمكان، إلقاء بعض الأضواء الفلسفية على ظاهرة "العصر الجديد"، وذلك قبل الإنتقال الى الأجوبة الكاثوليكية.
يظن البعض، من الذين لم يتابعوا تاريخ حركة العصر الجديد ونشاطاتها المختلفة، بأنّ الحركة مُستقرّة ومُوّحدة، ولكنها في الحقيقة وبحَسب خبرتي الشخصية ليست كذلك على الإطلاق. إذ تنقسم الحركة إلى ثلاثة إتجاهات. فالبعض من أعضاء الحركة يفضلون الإندماج مع التيارات الدينية التقليدية المحافظة، كالبوذية والمسيحية والإسلام.
ويتكون الإتجاه الثاني من المأسورين من قبل إحدى الطوائف الدينية المُتطرفة كالعلموجية ( Scientology) وكنيسة الشعب الموحدة. والإتجاه الثالث يندمج مع الثقافات العامة، ويتجه بقوة نحو المُعطيّات الاجتماعية والفكرية والمؤسساتية والمناهج الفكرية والمدارس الأدبية والفنية.
تمتاز الحركة بجميع فروعها ومؤسساتها الروحية والإجتماعية بأنشتطها الإستثمارية الضخمة، وبإمتلاكها سلسلة من المخازن والمحلات التجارية الضخمة، سواء لبيع الكتب أو النشر أو الطبع، وكذلك لإشتراكها في كل أنواع الموسيقى المشهورة مثل "البيتلز" والنجوميات السينمائية، إذ إن الحركة تَعلم جيداً مدى تأثير السينما على المعتقدات والأفكار، ودور الآراء والأذواق والزي والسلوك، بل حتى المظهر البدني في نشر الفكر الجديد. وقد إستَغلت الحركة العمل السينمائي أكبر إستغلال، في نشر أفكارها العصرانية. إضافة الى إستخدامها قوة الإعلام والدعاية في الجرائد والمجلات المشهورة مثل "وول ستريت جورنال".
ففي الواقع، كانت تلك الخطوات عوامل مُهمّة أسهمت في النمو السريع للحركة خلال الثمانينيات من القرن العشرين. وأدّت كذلك المنتوجات الناجحة للحركة دوراً لا بأس به في خلق الدعاية الإيجابية للحركة، والتي أصبحت تدريجيًا براهين مُهمّة على نجاح الأفكار العصرانية، ودليلاً على النمو في الوعي الكوني والمعرفي في العالم كله.
ولا يَهمنا الآن أن نتحدث عن العصر الجديد، بقدر ما يَهمّنا الحديث عن الطور الجديد الذي تعيش فيه. لأن الأفكار تنمو كما تنمو الأمم، وتَتَطوّر كما يَتطوّر الأفراد والكائنات الحيّة. فالإحتفالات والمهرجانات التي أقامتها الحركة في الثمانينيات من القرن العشرين، عَبّرت بوضوح عن مجيء العصر الجديد، وعن إنتشار الوعي المعرفي الكوني في العالم. وكان هذا بمثابة الزواج الروحي المُنسجم بين الحركة، وبين السوق العالمية والنزعات الإستهلاكية للناس. وإنتشرت الفكرة عالمياً بسرعة شديدة، بعد أن كانت السوق الأمريكية بمثابة إختبار وتجربة لأفكار الحركة وفعالياتها المختلفة. ومن الملاحظ أن التوافق العجيب بين الأسواق وبين الحركة، جاء تتمة لمشروع هيّأَت له الحركة منذ زمن بعيد.
وبالرغم من أن الأسلوب الجديد الذي تَبنّته الحركة كان الغرض منه الإثراء الفكري العالمي، إلا أن الأسلوب أدى إلى القضاء على رغبات الأفراد والجماعات وإلى تكريس الروح الفردية المستسلمة، وزرع إعتقاد خاطىء في إلغاء كل ما هو جماعي على حساب الروح الفردية القاسية، إضافة إلى تكريس النزعة الأنانية، وطمس الروح الجماعية. فعالم المؤسسات والشبكات العالمية يميل في طبيعة الحال إلى شكل من إستعراض الخيارات الدينية المختلفة والنظم العقائدية، بغية إختيار نمط من حياة بديلة من شأنها أن تُناسب له الأذواق الفردية على مستوى أعمق. وقد كان أخطر آثار العصر الجديد بروز الروح التنافسية كحقيقة أساسية تُحدّد نجاح أو فشل المؤسسات بدرجة غير مسبوقة. ومن هنا أصبحت المؤسسة في موقف يحتم عليها العمل الجاد والمستمر لاكتساب الميزات التنافسية، لإمكان تحسين موقعها في الأسواق، أو حتى مُجرّد المحافظة عليها في مواجهة ضغوط المنافسين الحاليين والمحتملين.
فالفكر العصراني مَبنيّ إذن على الاعتقاد بأن التقدُّم العلمي والثقافة المعاصرة يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدِّينية التقليدية على ضوء المفاهيم المعاصرة، أو مفاهيم العقل والمعرفة عمومًا، ومُحاولة تأويل النصوص الدينية لتتوافق مع هذا القول أو ذاك.
وادّعى الفلاسفة الوجوديون "إنّ الوجود سابق للجوهر" وإننا نكون ما نختار أن نكون" ويبدو أن مُعظم المُستهلكين اليوم يعيشون ليومهم. وكان للفلاسفة الوجوديين تأثير عميق في تطور الثقافات الفرعية. وقد أثر التأكيد على حرية الفرد على جيل كامل، ولا سيّما بين الشباب. وإستمرت هذه النسخة البوهيمية الوجودية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. لأن العالم بحسب فكر الحركة يعيش الآن في عصر المعرفة، وفي جميع الأحوال وبغضّ النظر عن التسمية؛ تختلف سِمات وملامح العصر وآلياته ومعاييره إختلافاً جذرياً عن كل ما سَبَقَه، وتفرض بالتالي على كل من يُعاصره ضرورة الأخذ بتلك المفاهيم والآليات الجديدة والمتجددة.

لمحة تاريخية عن الفردانية
بالرغم من حقيقة كون حركة العصر الجديد تتداخل، في مضمون عقائدها، التأثيرات القديمة من الماضي البعيد، والتأثيرات الأخرى من ثقافات الشرق الأقصى، إلا أنها مع ذلك تُدعى بالظاهرة الغربية المعاصرة. إذ بدأت بهيئة متمرّدة على الحداثة في بدايتها؛ ولكن جذورها تعود الى الحركة الإصلاحية والتنويرية البروتستنتية.
فما يُسمى بالإصلاح البروتستنتي، بدأ بشكل حركة إصلاحية داخل الكنيسة؛ ولكنها تحوّلت تدريجيا إلى حَركة عقائدية مستقلة ومناهضة لها، تدور حول محاربة السلطة الكنسية؛ وتشدد على الروح الفردية، والتفسير الشخصي للكتاب، على حساب الروح الجماعية؛ وتعمل على تغليب دور الدينونة الفردية، على حساب الدينونة العامة.
لقد شدد الإصلاحيون البروتستانت على الكتاب المقدس دون سواه، وإعتقدوا أن لكل فرد الحق في فهمه؛ ولكنهم بالغوا في رفض السلطة الكنيسة، وقدموا سلطة النص على سلطة المؤسسة الكنسية، بدلا من ذلك. ولكن نجاح "عصر العقل"، كان بمثابة الطلاق المؤكد والمؤلم بين الحركات التنويرية، وسلطة الكتاب المقدس نفسه. إذ أعطى العصر التنويري السلطة، بدلاً من ذلك، إلى كل من يُبدع في عمله. فأصبح كل من يفكر ويُبدع؛ بطلاً صاحب سلطة، وكذلك بالنسبة إلى كل عالم في مختبره؛ وكل فنان في عليّته؛ وكل شاعر في عالمه الخيالي. ولذلك شهد العالم، ظهور مُبدعين عظام أمثال: ليوناردو دافنشي، والبرت آنشتاين، وغاليليو غاليلي، وغيرهم كثير. واستطاع الغرب بهذا السلوك العقلاني، أن يصل الى ما وصل اليه من تقدم وتطوّر. فما أحرزه العالم من خصوصية وفرادة، ميّزته عن جميع الحضارات. وظهرت كنتيجة لتلك الأفكار المناوئة للدين، الصيّحات الإلحادية العالية التي طالبت بحرية الفكر وسيادة العقل، وإعتبار العقل، المصدر الوحيد للمعرفة.
ولقد أثرت الحركات التنويرية في الإيمان المسيحي وعقائده الجوهرية، وخصوصاً في مسألة التبعية والطاعة والإمتثال لإرادة خارجية، وكذلك في موضوع الإنقياد والبقاء في الجماعة الكنسية الجامعة؛ إضافة إلى حدوث شرخ كبير في فكرة الإستحقاق الأبدي؛ ومسألة خلود الروح بعد إنفصالها عن الجسد؛ كقدر محتوم لكل شخص بشري، كما عَرَضَتهُ المسيحية وأعلنته للمؤمنين بها لقرون عديدة. إذ صارَ القلق المُتزايد من المصير الأبدي لكل شخص بشري أمراً لا بد منه. ولكن القلق تضاءل تدريجياً بسبب التأثيرات التنويرية والمعرفية، وبسبب الوعي بالذات. فالوعي ليس بالضرورة وعياً مطلقاً بالأشياء، بل وعيًا نسبيًا. وقد أصبح التشديد على المصير، أهم من الوحدة الجامعة تحت إمرة سلطة كنسية واحدة. وتبعا لذلك فقدت الجماعة الدينية هويتها التقليدية وإستبدلتها بهوية جديدة، تَجعل منها رابطة بين مؤمنين مستقلين، وأحراراً متساوين في الحقوق والواجبات الدينية تماماً؛ لا سلطان لأحد عليهم سوى سلطان الضمير. فما قام به الإصلاح الديني هو في الحقيقة دَمَقرَطَة الحياة الدينية، سواء من حيث كسر طوق الوصاية الكنسية، أو من حيث تحرير الفرد من التَبعية في إيمانه، ورَبطهِ مباشرة بالنص الديني، وبعمل الخير وحده. ولعل هذا ما دفع المؤرخين إلى الربط بين حركة الإصلاح الديني، وتطور الروح العصراني أو الدنيوي.
ولذلك يبدو ان من إحدى نتائج ثورة العقل الأوربي التحرّر من القيود الكنسية؛ والتحوّل إلى الترف، وحياة التبذل والتهتك؛ ونبذ كل التقاليد الدينية والآداب العامة. إضافة إلى إنطلاق الشهوات من عقالها؛ وتفشّى الفساد في كل المرافق، حتى إستغرق العصرَ كلَّه.
فالهوية إذن، جسر يَعبر عليه الفرد إلى بيئته الاجتماعية والثقافية، وهي أيضاً إحساس بالإنتماء والتعلّق بمجموعة معينة. وعليه فالقدرة على إثبات الهوية مرتبطة بالوضعية التي تحتلها الجماعة في المنظومة الاجتماعية، ونسق العلاقات فيها. ويبدو أيضا ان هرطقة "العبادة الفردية" هي التي قادت الإنسان الغربي، نحو التشديد الهَوَسي على فرديته وحاجاته، وإنسياقه خلف ثقافة عالم يفتقد التقدير الصحيح لماهيات الأمور؛ وأولها ماهية الإنسان، ودوره وقيمته ومصيره الأبدي. فما تأليه المال، وتقديس الزنى، والحروب الطاحنة، إلا أمور هدّامة، على الكنيسة أن يكون لها دورٌ فعال في توعية أعضائها، وتعضيدهم نحو عمل الخير والمحبة.

إلى أين الهروب ؟
تحاول حركة العصر الجديد، بحسب رأي الشخصي، وبشكل مفهوم ودقيق، التغلب على الإنقسام بين العقل والمادة، والتغلب كذلك على العزلة المفروضة على الذات الروحية المُحاطة من قِبل القوى المادية. ولكنها في الحقيقة، تضل محصورة في الفكر الحداثوي العصراني الذي صاغه كل من غاليلو غاليلي، ورينيه ديكارت، وبالطريقة المعروفة اليوم في الغنّوصّيّة، وذلك للبحث في كيفية التَحرّر من إستبداد الجسد عن طريق نوع من أنواع التحرر الروحي(كما في التقمّص، ولم الشمل مع الوعي الإلهي)؛ أو في كيفية تحويل المادة الى العقل بحسب الفلسفة الأحادية أو الواحدية، التي تؤكد على أن الأشياء المتنوعة الموجودة في الكون، تتكون من مادة واحدة، وبهذا تكون خاصية الكون الأساسية هي الوحدة. وتتعارض هذه النظرية مع الفلسفة الثنائية التي تقول بوجود واقعين (مادي وفكري)؛ أو التعددية التي تقول بوجود أكثر من مادتين. فالأحادية من وجهة نظر لاهوتية تؤمن بوجود إله واحد مطلق. مع العلم ان الفكرة ترتكز في مبادئها على وحدة المطلق الذي هو الوجود بذاته، ومن ذاته، ولذاته. وتتصور على عدم عقلانية وجود الثنائية المانوية أو الكثرة "الثالوثية" في صعيد الوجود المطلق. فالعقل بحسب هذه النظرية غير مادي، فهو الإدراك والوعي الذاتي؛ ويتميّز عن الدماغ بأنه موضع الذكاء. وأشار الثنائيون والأحاديون إلى العلاقة بين المخ والعقل بأنها علاقة إرتباط، وتجنبوا إسناد السبب لأي منهما، برغم أن علم الأعصاب يميل إلى العمل في ظل الإفتراضات المادية.
وتعد مسألة "العقل – الجسد" مسألة فلسفية تظهر في مجال الميتافيزقيا، وفلسفة العقل، وذلك بسبب كون الظواهر النفسية، تبدو مختلفة إختلافاً كبيراً في النوع والجوهر عن الجسم المادي. ويوجد العديد من النظريات الرئيسية التي تحاول حل هذه المسألة. فالمثنوية إحدى هذه النظريات، والتي تقول إن العقل والجسم عبارة عن هيئتين مميزتين. بينما ترى النظرية الواحدية بأن الجسد والعقل هما جوهر واحد. في حين ترى النظرية الفيزيائية إن كلاً من العقل والجسد عبارة عن مادة. في حين أن الواحدية المثالية ترى أن كلاهما مُتمركز في العقل. وأما الواحدية الطبيعية فترى بأن كلاهما يمكن إرجاعهما إلى جوهر ثالث مُحايد.
ويمكن أن يفهم العصر الجديد جزئياً، كرد فعل، أو كمجموعة من التفاعلات، على النزعة الفردية للعصرانية الحداثوية ما بعد عصر التنوير، وإلى التفكك الإجتماعي والاغتراب المُرتبط بهذه النزعة، إضافة إلى الزحف الكبير للثقافة الإستهلاكية والمادية، ومنطق الربح السريع، وتصاعد النزعة الفردية، الذي قابله تراجع مماثل لدور الدين والأخلاق في الحياة.
فمن الواضح جداً أن الإحساس بهذا الأمر، أدى إلى تراجع دور الإنسان وقيمته، وإلى تكريس مذهب الشك في الحقيقة المطلقة واليقينية؛ وتزايد الإعتقاد بمذهب النسبية في كل شيء، وبالتالي بغربة الذات الفردية، وتمزقها بسبب التحوّلات الكبيرة التي شهدتها المدنية.
ففي الجانب السلبي يعرض العصر الجديد صورة عن داخل القفص الخاص، أو بالأحرى القفص الناعم ظاهريًا وشكليًا، ولكنه قفص مُظلم إيمانياً وعقائدياً، لكونه يُجرّد الفرد من علاقته بالآخر، ويُشدد على علاقته بذاته، ويَجعل منه شخصاً تابعاً وأنانياً، يدور حول نفسهِ، ولا يَعبُد إلا ذاتَه. فمن يُحاول إنقاذ نفسه من ذلك القفص الذاتي المُظلم، لا بد أن يكون له جرأة في القرار، وإصرار على الرجوع. لأن العصر الجديد "بحسب الكاثوليكية" هو جواب مُضلل لآمال الإنسان القديمة في الحرية المطلقة، والخلود الأرضي. ولذلك تَتَجنب الكنيسة أي مصطلح يُربط بالعصر الجديد. إذ إن معظم أفكار الحركة، تُعد غير عقلانية وتعتمد على التفكير السحري الأسطوري، الذي يتناقض مع العقلانية والضمير والوجدان البشري، وإن كانت تَدّعي نفسها بالمذهب العقلاني والتنويري. فالحركة إذن وُجدَت من أجل تحرير الإنسان، ولكنها في الحقيقة، وضعت الإنسان في أقفاص عبودية جديدة، هي عبودية العقل والعقلانية. ولقد أصبحت الذات الإنسانية في سياق هذا التطور موضعاً للعلم والعقلانية، إذ تم استلاب هذه الذات من مقومات وجودها الإنسانية. فإن كانت الحركة، تبحث عن السلطة والرئاسة لتقدم الطاعة، ولكنها في الحقيقة، لا يمكنها البحث عن شىء غير موجود. وإن كانت تبحث عن الحُب، ولكنها لا تستطع بلوغ مرحلة الإلتزام الحقيقي. وإن كانت تبحث عن إحترام وتقدير الطبيعة، ولكنها في الوقت نفسه تريد الهروب من قيود الطبيعة. وإن كانت تبحث عن الأبدية والخلود، ولكنها في الوقت نفسه تريد أن تتطور الى شىء يختلف عن ما هي عليه. وإن كانت تريد المعرفة، ولكن المعرفة أفسدت، أكثر مما قدمت من فوائد. وإن كانت تبحث عن الحرية، ولكن الحرية، فقدت في الحقيقة، قدرتها على تحرير الإنسان.
ولعل كل ذلك، يعود بحسب اللاهوتيين، الى المخاطر العقلانية الصارمة التي إجتاحت العمق الإنساني، واستلبت المشاعر السامية للإنسان؛ وأدت بالتالي إلى تراجع الأخلاق، والقيم الإنسانية؛ ودفعت الإنسان إلى دوائر الاستلاب والاغتراب؛ وأدت كذلك إلى تشويه الجانب الإنساني في الإنسان. وعلى هذا الأساس أدت إلى تَحوّل العقل إلى طاغية، والعقلانية إلى قهر واستبداد، تنتهك وجود الإنسان وتستلب ذاته. لذا تؤكد الكنيسة على أهمية إصلاح التربية والقيم، والمؤسسات السياسية والدين، من أجل الإنسان في أعمق مضامينه الإنسانية. لأن الإنسان يحتل مكاناً مركزياً في دائرة تصورات الكنيسة. وبعبارة أخرى من أجل انتصار الإنسان والإنسانية، بما تنطوي عليه الذات الإنسانية من كرامة وخصوصية، فلا بد للإنسان إذن أن يخضع لعقله وتأملاته العقلية، ولكن ليس على حِساب عَواطفه ومَشاعره وقيمه الخاصة. وعلى هذا الأساس فقط يستطيع الإنسان أن يتدرج، وأن يأخذ مكانه وحضوره في سياق وجوده الاجتماعي والروحي، ومن خلال كونه سيّدَ نفسه ومَصيرِه.
وقد حدثت كل هذه التغييرات على الساحة في الستينيات من القرن العشرين، إذ إنتشرت النهضة في كل المجالات، وما زال العالم يشهد نمواً مُتسارعاً في جميع ميادين المعرفة العلمية والتكنولوجية على مختلف المستويات الاجتماعية والإنسانية. وقد تنامت هذه المعرفة بصورة ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية على مدى العصور والأزمنة. وتَميّزت تلك المرحلة بظهور عدد كبير من التيارات والنظريات والفلسفات والاختراعات العلمية والتكنولوجية في مجال الفن والنحت والتصوير والموسيقا والأدب والهندسة والكيمياء، وفي مجال الذرة والبيولوجيا والشيفرات؛ وفي مجالات أخرى تنأى عن التعداد والحصر. وهذه الاكتشافات المُتزايدة والمُتنامية شكلت وما زالت تُشكل ثورة معرفية حقيقية وجبارة في مجال العلم والمعرفة الإنسانية، بل وتُعد الأساس المحوري والعلامة الفارقة في وضعية العالم، وذلك إلى جانب العقلانية التي تشغل فضاء الوجود الإنساني في العصر الجديد، الذي أدى الى البحث عن القيّم الجديدة، والحياة من نوع آخر. ولعلَّ تلك هي الأسباب الكامنة وراء ظهور مرحلة البحث عن الروحانيات الجديدة، التي لم يَعُدْ الكثيرون يجدونها في المسيحية بحسب رأي الكاتب(ألن غينزبرغ).

البحث عن السلطة

يساور الكثير من أدباء ومثقفي "العصر الجديد"، مَهمَّة البحث عن مَرجعيّات روحية مختلفة أو عن معلمين روحيين "غورو" كما يُسمى بالهندية. و"الغورو"هو المُرشد الذي يُقدم له الطاعة لغرض إيصال الناس الى الحالة القصوى من المعرفة. ففي الواقع، هناك قصص عن أشكال من السلطات الروحية الحقيقية في تقاليد عريقة لكل الديانات في العالم. ومن إحدى القصص التقليدية المهمة، قصة "حياة ميلاربا"، في التقاليد التيبيتية، التي يتركز مضمونها في حياة المعلم "ماربا"، وهي عبارة عن سلسلة من المِحَن والمُعاناة، ولكنها تنتهي بالنصر في المراحل الأخيرة.
وهناك أيضا الكثير من القصص المتشابهة الأخرى في الأساطير الصحراوية للرهبان والقديسين المسيحيين. وعلى الرغم من أن حركة العصر الجديد تقبل بوجود أفراد يملكون سلطة روحية (سواء كانت سلطة معينة بحد ذاتها، او سلطة تصاحبها قوى خارقة)، ولكن الحركة لا تميل إلى قبول فكرة أحقية المؤسسة الكنسيّة المسيحية لكي يكون لها الشىء نفسه، أو القبول بسلطة أصيلة يستطيع الباحث عن الحقيقة الإتكال عليها أو التعلق بها.
ففي بعض البرامج التجارية تجد أبواقاً دعائية للكتب الأكثر مَبيعًا عن "السلام الداخلي" التي وصلت مبيعاتها إلى أكثر من مئات الآلاف من النسخ سنة 1975. وقد قارن الكاتب نفسه بالمسيح، ونَسَب الى نفسه المعجزات والأعمال الخارقة. ووَصَلت به الجرأة ليذكر في كتابه: "أنا الوحيد الذي يصنع المعجزات من دون تمييز، لأني أنا الوحيد الذي يغفر الخطايا"، وأضاف قائلا: " لك دورك في التكفير ولكني اسألك سؤالاً: هل تحتاج لجهد كبير كي تَخلص، لا في طبيعة الحال، فإذا إتبعت إرشاداتي فأنت مُخلّص لا مَحالة. وقد قيل لك "لا تُدخلنا في تجربة"، وتفسيرها: " أن تعترف بخطاياك مع نفسك، وتنسى وجودها، فإذا تبعتني، وإتَّبعتَ نصائحي، فلا يكون لك خطايا تقلق بشأنها" (صفحة 7 ).
فبحسب أدبيات "العصر الجديد" إذن، "يتكلم المسيح من خلال يسوع الناصري، الذي يُعد أعظم "غورو – مُعلم"؛ وهو لايزال يَعمل بصورة خَفية على الأرض، ولكن ليس في طبيعة الحال من خلال المسيح". ففي العمل الأدبي الذي يُدعى "المسيحية الباطنية" (المنشور من قبل الجمعية الثيوصوفية، 1905)، تكتب "آني بيسانت" قائلة: "المسيح التاريخي هو الكائن المُمجّد، والمعلم الروحاني السامي، الذي قاد التطور الروحي للبشرية، وإستخدم لمدة ثلاث سنوات جسداً بشرياً للتلميذ "يسوع"؛ وجذب اليه الناس من خلال حُبه وحَنانِه. وعُرف بكونه صاحب حكمة فائقة لم يتركها لوحده، وإنما شارك بها أتباعه؛ وسُلم للموت أخيراً بحجة التجديف، وبسبب تعليمه الإلهي الصادق للبشرية جمعاء". (ص 140 – 141 ).
وحديثاً جداً، ولكن من وجهة النظر المختلفة، وبتأثير جي. أي. غوردجييف، في كتاب "المسيحية المفقودة 1980" يكتب عن المسيحيىة التي تحدث "تغييرا حقيقياً، وتحوّلاً جذريًا في طبيعة الإنسان"؛ ويُضيف قائلا: "عن المسيحيين المسؤولين الذين يؤكدون على الأمور التي يطلبها المسيح من كل واحد من أتباعه، بعد قبوله فاديًا ومخلصًا؛ ومنها "أن نحب بعضنا بعضًا". ولكن السلطات الكنسيّة كثيراً ما تهمل التعاليم الجميلة والسمحة، التي في الكتاب المقدس؛ ولكنها تُشدد على العقائد الثقيلة، وصَعبَة الفهم لدى الناس. ولذلك تحتاج الكنيسة أن تحثَّ الذين بيدهم السلطة، والمعلمين والمرشدين والكهنة والقسس، أن يُعلّموا الطرق والوسائل الصحيحة، التي تجعل المسيحية أكثر حيوية، وأسهل تطبيقا في الحياة اليومية.
وتُحاول حركة العصر الجديد في كل منشوراتها ومؤتمراتها التأكيد على أن المسيحية اليوم تختلف جوهرياً عن المسيحية في عصورها الأولى. ولهذا يجتهد بعض الأفراد من المُنتمين الى حركة العصر الجديد "بحسب معتقد الحركة" إلى إكتشاف المسيحية الصحيحة، فهم كما يَدّعون، يمتلكون النواة الحيّة للحقيقة المسيحية؛ وما سواها ليس إلا قشور، يجب تركُها أو نبذُها. ومن الجانب الآخر، وعلى النقيض من ذلك تماما؛ فقد وجد العديد من المُهتدين الجُدد الى المسيحية؛ ومن المنتمين سابقا الى "العصر الجديد"، وجدوا العَون الروحي العَميق في المسيحية، الذي لم يجدوه في الروحانيات التي تَدّعيها الحركة. فقد وجدوا الهِداية الروحية، ليس فقط في التقاليد الرهبانية القديمة، بل في حياة الصلاة الإعتيادية، وفي الأسرار المقدسة. وقد يكون هؤلاء المُهتدون الجُدد مصدراً ثميناً وغالياً للكهنة والقساوسة والسلطات الكنسيّة، لإيجاد الطرق المُناسبة للتعامل مع حركة العصر الجديد؛ وكذلك لفهم الروحانيات البديلة للمسيحية التي تُغري أعداداً كبيرة من المسيحيين في أحضانها، وتُبعدهم عن الكنيسة الأم. ولكن قوة جذب المسيح لهؤلاء، لا تزال تؤدي دورها في إبعادهم عن التعاليم الفاسدة للحركة. إذ لا يزال المسيح يجذبهم ويربطهم من خلال إعطائهم جسده ودمه على شكل الخبز والخمر في الأفخارستيا. فالرب نفسه وعد تلاميذه بإرساله الروح القدس لقيادتهم إلى الحق والحياة الجديدة(يوحنا 16: 13)، وقد وجد هؤلاء المُهتدون الجُدد هداية الروح القدس، بدلاً من هِداية "غورو" بشري مائت.
الكاثوليكية والعصر الجديد
أصبحت الكنيسة الكاثوليكية أكثر ضعفاً وعُرضةً للتأثيرات الجانبية في الفترة ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965 ). وكان المَجمَع عملاً جوهريًا تمهيديًا للنظر بعيداً في مستقبل الكنيسة، وذلك لغرض إعادة اللحمة للكنيسة الجامعة، والتغلب على الإنقسامات التاريخية في المسيحية، وكذلك لفتح الباب على مصراعيه أمام التبشير العالمي بالإنجيل في القرن الواحد والعشرين.
بَدَت فكرة المجمع في بداياتها، وكأن الكنيسة سَتَفتَح أبوابها أمام العالم المُعاصر من أجل إستيعاب التغييرات في الثقافات العالمية، أي أن تكون مثل الخميرة في العجين، لكي تعجنه كله في نهاية المطاف. ولكن النتيجة كانت دخول التيارات العصرانية في أروقة الكنيسة وتعشعشها في مُعظم المؤسسات الكنسيَّة. ولهذا أَلحَّت الكنيسة على: حِماية الجامعات الكاثوليكية، والمعاهد الكهنوتية، والمدارس الخاصة، التي كانت مُعرّضة لهَجمة شرسة من القوى العلمانية والحداثوية والعصرانية، وذلك لتغيير بنيتها وجوهر عقائدها.
فالعصرانية التي كانت قد حُوصرت من كل جانب، ودُفعت للعيش تحت الأرض خلال النصف الأول من القرن العشرين، حَصَلَت على فرصتها الذهبية بعد إنفتاح الكنيسة بعد المجمع. وحاولت الكنيسة، بقدر الإمكان، الحِفاظ على تألق أسرارها، والإسهام بفعّاليّة في تبديد الظلال على الصعيد العقائديّ. لأن السر في الكاثوليكية، لا يشير إلى واقع غامض، بل إلى المشروع الخلاصي الذي كان مستترًا في الله منذ خلق العالم، وقد ظهر جليّاً في الأزمنة الأخيرة، في يسوع المسيح.
وتجدر الإشارة إنّ الفترة ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، شَهدت وجود تعطش كبير بين الكاثوليك الى الخِبرة الروحية؛ وبلغت حاجتهم الماسة وللأسف الشديد، إلى إبتكار روحانيات فردية خاصة بهم، ومن دون مَرجعية من أي نوع كان. فبدأوا ببناء فسيفساء عالمهم الروحي من حِجارة يستمدونها من كل من هَبَّ ودَبَّ، من الممارسات الروحية الشرقية، والممارسات الباطنية، مثل اليوغا، والزن، والبوذية التيبيتية، والطقوس الوثنية الجديدة، التي أعلنت بكونها تُساعد على ممارسة السيطرة على النفس والتفوق الذاتي. وقد حاول البعض تَبني بعض تلك الطقوس والممارسات والتقنيات الروحية الشرقية، واستخدامها في المسيحية؛ ولكن بنجاح ضئيل في بعض الأحيان؛ وبنجاحات عظيمة في أحيان أخرى، كما في حالة كل من (توماس مورتن، بيد غريفيث، وجان ماين). وأما الآخرون فقد تركوا الكنيسة، ومن دون أمل للرجوع اليها ثانية، كما في حالة (ماثيو فوكس)، الأمريكي الدومنيكي المُتمرّد الذي جادل الكنيسة حول التشديد على البركة الآلهية في الفصل الأول من سفر التكوين المُسمّى بسفر الخليقة، بدلاً من التشديد على عقيدة الخطيئة الأصلية؛ بإعتبار الخطيئة الأصلية إهانة صارخة في حق المرأة. ويظهر تأثير السيد "فوكس" كثيراً في المنظمات النسائية، التي تدعو الى حِماية حقوق المرأة، إضافة إلى تأثيره على المنظمات التي تدعو بقوّة الى حِماية البيئة "الإيكولوجيا"، وكذلك الحِفاظ على التوازن في الطبيعة. وكان السيد فوكس متفتحا لجميع أشكال الحركات الوثنية في الغرب، إضافة الى تفتحه نحو الأديان الطبيعية، ومن ضمنها ديانات السحر والشعوذة (ستار هوكس).
وقد أصبحت التاثيرات الدينية الشرقية، وتأثيرات "حركة العصر الجديد" في الروحانية المسيحية، مصدراً للخلاف داخل أروقة الكنيسة نفسها. ولكن الروحانية المسيحية ليست روحانية مُرتجلة أو مُفبركة بحسب الذوق الشخصي، بل تنطلق من محورية المسيح، ومن معرفة المسيح يسوع وكيفية تجسيد فكره الروحي في الحياة اليومية. لذلك يدعونا الرسول بولس لكي تكون فينا المشاعر عينها التي كانت في المسيح يسوع. ففي الرسالة المُعنونة الى الأساقفة في الولايات المتحدة (التي أعلن عنها في أوبسرفاتوري رومانو، الطبعة الإنجليزية، 2 يونيو 1993) تحدث البابا يوحنا بولس الثاني، بإسلوب واضح ومُفصل:"إنه ليس من المبالغة القول أن علاقة الإنسان بالله، والدعوات المُتَكررة من أجل الخبرة الدينية هي في صلب الأزمات العميقة للروح في الإنسان. ففي حين أن العلمانية تستمر في الإنتشار في العديد من مجالات الحياة؛ إلا أنّ هناك مساعيَ جادة في المجتمعات الغربية للبحث عن الروحانيات الجديدة، التي تدل دلالة قوية على وجود أزمات أخلاقية حادّة في القيّم العليا. ويظهر ذلك جليّا في حضور العديد من الحركات الدينية والشفائية والمواهبية "الكارزماتيكية".
ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن هذه الصحوة الدينية تجعلُ من إبراز بعض الجوانب الإيجابية والبناءة، ومنها البحث عن معنىً جديد للحياة، والإهتمام البيئي الإيكولوجي، والإنطلاق نحو حالة أعمق من العقلانية اللاهوتية الجامدة، التي سادت المجالات الكنسيّة الغربية لعقود من السنين، مجالاً جديداً لكيفية عيش الإيمان. ولذلك لا بُد من ممارسة لاهوت صلاة وركوع، بدلاً من لاهوت مكتبة وطاولة أبحاث. ولكن يجب أن لا ننسى وجود بعض العناصر، التي تناقض الإيمان المسيحي في هذه الصحوة الدينية من الجانب الآخر؛ كما جاء في رسالة البابا: "وقد كتب الكثيرون منكم رسائل رعوية عن المشاكل بسبب الحركات الدينية والهرطقات، ومنها ما يسمى بحركة "العصر الجديد". إذ تجد الحركة المذكورة فرصتها الذهبية اليوم في إبراز نشاطاتها التبشيرية والتعليمية من خلال المؤتمرات والورشات العملية المختلفة، إضافة الى دورات للتأمل واليوغا والرياضات الروحية الخاصة. ولقد أثّرت تلك الفعاليات في الكاثوليك الممارسين للإيمان الكاثوليكي، من الذين لا يعلمون حقيقة تلك الفعاليات، ولا يعلمون حتى مدى توافقها أو عدم توافقها مع الإيمان الكاثوليكي".
فمن وجهة النظر التوفيقية الجوهرية، لا تهتم تلك الحركات والهرطقات بوعي حيوي وشخصاني للوحي الإلهي. وتحاول بدلاً من ذلك، المجىء الى الله عن طريق المعرفة، والخِبرة المستمدة من الروحانيات الشرقية، أو من خلال التقنيات النفسيّة للديانات الشرقية. لذا فهي تُركز بشدة في تقديم نظرتها الروحية من خلال الرموز والأساطير المُزيّنة بصبغة دينية خاصة، بدلاً من التشديد على الخلاص من الخطيئة، عن طريق الفداء في المسيح يسوع.
وعلاوة على ذلك، فإن أتباع الحركة العصرية الجديدة، غالباً ما يقترحون مفهوم وحدة الوجود؛ وهو ما يتعارض مع مفهوم الله في الكتاب المقدس والتقاليد المسيحية. ففي مفهوم وحدة الوجود (كل شيء هو الله)، لا يترك أي مجال لله الشخصي، والمُحب، وكلي السلطان، الذي تؤمن به المسيحية، والذي يدعو كل فرد إلى التوبة، وبقبول يسوع المسيح، مخلصاً وسيّداً له.
"ومع ذلك ففي وسط كل هذه الفوضى الروحية؛ على الكهنة والقساوسة المسؤولين في الكنيسة أن يكتشفوا مَكامِن العطش الحقيقي والعلاقة الشخصية والعميقة مع الله. وعليهم أيضا أن يقفوا في هذا الجهد إلى جانب المؤمنين، يرافقونهم ويقودونهم بسلطانهم التعليميّ، مُستنبطين دائماً تعابير جديدة عن الحب والرّحمة، يتجهون بها ليس فقط إلى المؤمنين، بل أيضاً إلى جميع ذوي النيّة الطيبة. فالبحث عن المعنى قد أصبح في الحقيقة مسعىً جديّاً عن الحقيقة والخير، التي تجد أساسياتها في الله نفسه، صانع كل خير ووجود. ففي الحقيقة إن الله نفسَه هو الذي يوقظ هذا الشوق في قلوب الناس. "إنَّ الروح الذي يوجِّهُ بعنايةٍ عجيبةٍ سَير الأزمنة، ويجدِّدُ وجه الأرض، هو يُشرف على هذا التطور. أما الخميرة الإنجيلية، فهي التي عَملت، وتعمل على أن تبعث في قلب الإنسان شعوراً بالكرامة لا يُقهر".
فالرسالة المسيحية إذن، تدعو أعضاء الكنيسة كي يفحصوا شهادتهم الإيمانية. وعلى الكهنة والقسس أيضاً، أن يسالوا بصدق وإخلاص، فيما إذا كانوا مُنتَبهين ويَقظين للقلوب العطشى، وللينبوع الحيّ الذي هو يسوع المسيح، الشخص الوحيد، الذي يَقدر أن يَهب هذا النوع من ماء الحياة(يوحنا 4 :7 – 13). وعليهم أن يكونوا كذلك مُتيقظين للبُعد الإيماني، ونقاوة رسالة الإنجيل، ولقابلية الإنجيل في تغيير وتجديد الذين يقبلون عليه، ويقبلون رسالته الخلاصية.
"يقول القديس بولس: يجب أن نسعى إلى الأُمورِ التي في السَّماءِ حَيثُ المَسيحُ جالِسٌ عَنْ يَمينِ الله (كولسي 3 : 1). ولكننا اليوم أمام الأوضاع الدينية المختلفة والمتبدّلة جداً؛ فالأوضاع الإجتماعية والدينية، التي كانت في الأمس واضحة ومُحدَّدة تماماً، تتطوّر حالياً وتَتَعقد. إذ حاولت بعض التيارات الهرطقية والعلمانية، إفراغ المسيحية من معناها الروحي؛ وذلك بإهمال البعد الماورائي، والتركيز على هذه الحياة فقط، من تحسين الوضع المادي والإجتماعي، الى الإنشغال في دوامة الحياة الحاضرة، وليس الحياة الأبدية، ولهذا يذكر الرسول بولس: "وإذا كانَ رَجاؤُنا في المَسيحِ لا يَتَعَدّى هذِهِ الحياةَ، فنَحنُ أشقى الناسِ جميعًا".( 1 كورنثية 15: 19).
ونستنج من كل ذلك، إن المسيحية تتعرض اليوم إلى تجربة تقليصها لمجرّد حِكمة بشرية، وتغيير تكريسها للحياة الدنيوية، وإفراغها من أبعادها الروحية والباطنية، وذلك بتصوير المسيح على أنه مجرّد معلم عظيم أو مصلح إجتماعي أو أخلاقي مُتجدّد. ولذلك ففي هذا العالم المُعلمن جداً، الذي يريد خلق إنسان مُشَوّه وأنانيُّ، مُحجم في بُعدِه الأفقي. يأتي دور الكنيسة لكي تُجاهد بقوّة من أجل الإنسان، وخَلاصِه الأواخري. لأن الرجاء الوحيد والنهائي للمسيحية هو الإعتراف بالله، وبيسوع، حامل الخلاص الكامل والعجيب، الذي يتناول الإنسان كله، والبشرية جمعاء؛ ويجعلهم ينفتحون لأفق البنوّة الإلهية، وقيامة الأجساد، وملء الحياة الأبدية؛ كما تؤكد الكنيسة الكاثوليكية، سواء في قانون إيمان الرسل، أو في تقاليدها الكاثوليكية العريقة.

فضيحة التَجسّد
لو تتبعنا في الواقع، الإرشادات والأمثلة التي قدّمها البابا يوحنا بولس الثاني، وتَمعّنا جيداً في الرسالة الأصلية للإنجيل عن قرب، كما كانت تُفهم من قبل آباء الكنيسة والقديسين، قبل العهود العصرية الحديثة، لوَجدنا أموراً لا تَتَطابق مع فكر "العصر الجديد". فالتجسّد في المسيحية مثلا، وقف حجر عثرة أمام معظم الفرق الغنّوصّيّة، ومن ضمنها حركة العصر الجديد. إذ كيف يَتحد اللاهوت المُنزَّه عن المادة بالجسد المادي، بحسب عقيدتهم، ولذلك إدَّعوا أن جسد المسيح ليس هو جسداً مادياً، إنما نزل من السماء؛ وبذلك أنكروا التَجسّد، وفَصلوا السيد المسيح عن بشريته، وأبعدوا الله عن الإتصال بالعالم.
ورَكزت المسيحية منذ البدء على شخص المسيح، الذي قام بجسده المُمَجد بعد ميتة شنيعة على الصليب، إضافة الى مسألة القبر الفارغ – إلا إذا فسرت بطريقة رمزية صِرفة - وبرغم ذلك، إن التأكيد على"التَجسّد"، من قبل المسيحية يُعد الركن الأساس، الذي تَبني عليه المسيحية أُسُس إيمانها وتفسيراتها الروحية الباطنية. وأنا أعتقد بأننا نستطيع إعادة إكتشاف المسيحية الصادقة في معضلتنا المعاصرة. لأن التَجسّد أولاً وقبل كل شيء، هو إرادة الله المُسبقة، فإذا ما لم نَتخذ هذا الإعتقاد كأساس أولي، نبدأ به في كرازاتنا وتبشيرنا المسيحي، فكل التقاليد الأخرى سوف تكون مُعَوَّقة ومُشوَّهة ومن دون معنىً يُذكر.
وقد شدّدَت اليهودية منذ بدايتها على التاريخ، ولتلك الخاصية أهمية كبرى لم تتخلَّ عنها اليهودية قط؛ إذ بنى اليهود كل شىء على التاريخ، ويظهر ذلك جَليّاً في فترة الخلاص من عبودية مصر، وفي تسليم العهد والشريعة من قبل النبي موسى، وصولاً الى فترة الحروب في كنعان، وتأسيس الدولة اليهودية. ولكن اليهود آمنوا بنهاية التاريخ، وبمجيء المسيح، المَلك المُنتظر، إبن داود، الذي على يَدِهِ سوف يَكون إستعادة مملكة داود الى الأبد، وإعادة أمجادها الغابرة. وتُعد حياة يسوع المسيح، "بحسب المسيحية" إستمرارية لذلك التاريخ، وبداية لِتَتَمة مشروع الخلاص لتاريخ اليهود العريق. وإن كان الإدّعاء المسيحي بالتواصل مع التاريخ اليهودي صَعباً وغير مقبول من قبل اليهود، إلاّ أنه سهل وبسيط من المنظور المسيحي: وهو أن يسوع الذي هو المسيح المنتظر، لأجيال وأجيال؛ هو في الحقيقة إنسان كامل، وإله كامل، أو هو الإنسان الإلهي، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس.
ففي التجسّد "بحسب المسيحية"، صار خالق الكون إنساناً بلحم ودم، شبيهاً بنا نحن البشر في كل شيء ما خلا الخطيئة؛ وهو الواسطة العظمى لإتمام قصد الله في الفداء، والمحور الذي تدور عليه المقاصد الإلهية في خلاص البشر. كما جاء في رسالة البابا يوحنا بولس الثاني"نور الشرق": (ينغمر المسيحيّ في ذهول في هذه المفارقة: اللامحدود يُحَدّ، والعذراء تلد، وبواسطة الموت، من هو الحياة يَغلب الموت إلى الأبد؛ وفي أعالي السموات، جسدٌ بشريٌّ، يَجلس إلى يمين الآب).
ولكن التَجسّد المسيحي بالنسبة الى العقائد الثَنَوِية أو الثنائية الغنوصية، وكذلك بالنسبة الى المانوية، يُعد إدعاءًا باطلاً ومُهيناً، ولا يمكن القبول به على الإطلاق. إذ تؤمن الفرق الغنّوصّيّة، ومعها حركة العصر الجديد، بعقيدة تناسخ الأرواح أو التقمّص، التي هي الإعتقاد بإنتقال الروح بعد الموت من بَدن إلى موجود أعلى أو أدنى؛ لتتنعّم أو تتعذّب، جزاء سلوك صاحبها الذي مات بدنه، فيمر في مرحلة التكفير، إلى أن يكتسب حياته الجديدة. ولذلك يستمر التناسخ " بحسب العصر الجديد" حتى تتطهّر النفس من تكرار الولادات المستمرة.
وقد رفضت الفرقتان "المانوية والغنوصية"، القبول بناسوت المسيح؛ وقالوا إنّ المسيح ظهر في هيئة إنسان، دون أن تكون له حقيقة جسد إنسان. وأنّه لم يولد، ولم يتألّم، ولم يَمت بالحقيقة، لأنّ جسده كان طيفاً أو خيالاً تراءى للناس. وفريق آخر، قال: إنّ جسد المسيح، لم يكن ماديّاً كباقي أجساد الناس، ولكنّه كان جوهراً خاصاً سماويّاً. ولعل الرأي الثالث، يُعد أكثر غرابة، لأنّ أصحابه ينادون بناسوت المسيح، دون لاهوته، ويعدّون المسيح أعظم إنسان على الأرض، بل أعظم من كل الأنبياء؛ فهو إذن معلّم عظيم "أفتار" كما في العلوم الفيدية للتعاليم الهندية.
فما أُعلن عنه في الفرق الغنّوصّيّة لا يبتعد كثيراً عن ما هو معروض في الفلسفة الأفلاطونية، التي تؤكد على أن الوجود هو وجود المُثل، وأما الوجود المَحسوس، فهو وجود مُزَيَّف. ليس أكثر من ظل من ظلال الحقيقة، كما في فلسفة المعلم اليوناني "أفلاطون"، الذي إدّعى بأن المعرفة الحقيقية، التي يمكن الإعتماد عليها، تأتي عن طريق العقل. وأما معرفة الحواس، فلا تصل بنا إلا الى الوهم والزيف. لأنها تعتمد على الحواس، فهي محدودة القدرة، ومتغيرة وزائلة. ولكن ماهيّة الإنسان، تكمن في النفس المُجرّدة التي كانت تعيش في عالم "المُثل"، قبل أن تنزل إلى العالم المحسوس، وتلحق بالجسد. وما الجسد بحسب تلك الفلسفة إلا عائق يُعيق النفس عن الوصول إلى المعرفة الحقيقية.
ولكن القيامة والصعود في المسيحية ترتبطان إرتباطاً جوهرياً في مفهوم التجسّد، وهي من أعظم عقائد المسيحية، وتُختصَر في أن ابن الله الوحيد، وُلد في ملء الزمان، وعاش كإنسان على هذه الأرض، وبذلك تم التجسُّد المجيد؛ وهو إله مُتجسّد الآن وإلى الأبد، ولا يزال في حال التجسّد بعد صعوده من هذا العالم. فالتجسّد إذن حدث له ديمومة مستمرة، وهو أساس عمل الفداء، وشرط ضروري ليتمم المسيح وظيفته الفدائية للبشر، وهو أيضا الواسطة العظمى لإتمام قصد الله في الفداء، والمحور الذي تدور عليه المقاصد الإلهية في خلاص البشر. ويؤكد الرسل الأمر نفسه عن المسيح الذي مات، والمسيح الحيّ الذي قام ممجّداً. فهم لا يربطون بشارتهم فقط بيسوع التاريخ، الذي عاش فترة زمنية ثم مات وقام، بل أيضاً بيسوع نفسه، كما هو الآن، مُمجدّاً وجالساً عن يمين عظمة الله. فالمسيحية إذن دين تاريخي، غير أنّها في الوقت نفسه، تعيش في الزمن، آتية من الأزل.
ومن اليقين إذن إنَّ الحقائق تُغيّر مصائر البشر، وإنَّ إيماننا المسيحي ليس كإيمان الذين يُجاهدون بالمعرفة والتناسخات التطهيرية حتى يتخلّصوا من الجسد الفاني، ويلتحقوا بالروح الأزلية. إذ هناك قدر أسمى من "النيرفانا": إنه الخلاص الذي تتحدث عنه المسيحية، ونُمنح من خلاله "السعادة الأبدية". فما تمنحه المسيحية، ليس أقل مما تمنحه الأديان الأخرى، بل أكثر بكثير مما تمنحه تلك الأديان.
وتتحدث هذه الحقائق في طبيعة الحال عن مصيرنا وخلاصنا الأُوخرَي. فتطلعنا إذن لم يعد حول كيفية الخلاص من الجسد الفاني، كما تزعم العقائد الغنّوصّيّة، بل عبر التزاوج بين السماء والأرض. وبذلك يشدّد آباء الكنيسة القديسون على "أن الله صار إنساناً لكي يجعل الإنسان إلهاً. ولا يبلغ أي إنسان التألّه إلا عِبر ابن الله وكلمته المُتجسّد، الذي يُفيض الألوهة في قلب البشرية المُعذّب؛ ويجعلها قادرةً على أن تُصبح إلهاً بالنعمة". ولم يقصد آباء الكنيسة، أنّ المسيحيين سوف يصبحون آلهة بالطبيعة بين ليلة وضحاها، بعد قبول المسيحية، بل يُصبحون آلهة بالنعمة. ولعلّ هذا هو جوهر الإيمان المسيحي. فمن خلال عمل الروح القدس، حيث الألوهة والبشرية يلتقيان في عِناقٍ، لا يمكن حلّه البتّة. إذ لم يكن الإنسان ليستطيع أن يبلغ الشركة مع الله، لو لم يكن هناك وحدة أقنومية بين طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية، لأن هناك فرقاً عظيماً بين المخلوق وغير المخلوق. ولم يكن المخلوق ليستطيع أن يتحد مع غير المخلوق، لو لم تكن هذه الوحدة الأقنومية بين الإثنين في شخص المسيح، حتى نكون نحن بعد إنتقالنا من هذه الفانية في شركة القديسين.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن العلاقة بين الأنا والآخر ضرورية ومقدسة في المسيحية. وعلى العكس منها في حركة العصر الجديد حيث الحياة الأبدية تعني التلاشي والضَياع في التناسخات المستمرة. فالرسالة المسيحية هي أن المُحب يَحيا مع المحبوب حباً أبدياً لا يوصف، لأن المَحبَّةُ لا تَزولُ أبَدًا ( 1كورنثوس 13: 8). فمَتى جاءَ الكامِلُ زالَ الناقصُ. وعلاقتنا هي من أهم الأمور بالنسبة إلينا. فالحُب هو الطريق، بل الطريق الأوحد للدخول إلى الحياة الأبدية. ولكن لا بد من وجود محبوب، ولكن بوجود الإبن فقط، يمكن أن نصف الله بالحب أزلياً. فالحب ليس شيئاً حادثاً أو مستحدثاً بالنسبة لله. بل إن الأبوّة والحُب متلازمان، وما دام وجود الأبوة، فهناك المحبة بين الآب والابن. ولكن الحب لا يصير كاملاً إلا بوجود الأقنوم الثالث، لأن الحب نحو الأنا، هو أنانية وليس حباً. والحب الذى لا يتجه نحو الآخر، هو حُبٌ ناقص؛ بينما الحب الذى يتجه نحو الآخر، والى كل من هو آخر، هو الحُب المثالى. وهنا تبرز أهمية وجود الأقنوم الثالث، من أجل كمال محبة الله. ومن هذا المفهوم أيضاً، يبدو أن المسيحية تعلم في الحقيقة معاني "النهاية السعيدة"؛ وكذلك من خلال التجسّد تجد الخليقة نفسها فى نطاق هذا الحب اللانهائى، الذي يُعد أعظم حب فى الوجود كله، لأنه يتجه نحو الخليقة. فالوحدة هي عمل الله، بل من جوهر الله نفسه، وهي أيضاً رباط الشركة مع ذات الله الواحد في الجوهر ذي الثلاثة أقانيم، بغير إنقسام أو مزج أو إنفصال. فهناك إذن تميّز بين الأقانيم، ولكن لا يوجَد إنقسام، بل وحدة، ولكن وحدة مركبة.

التحدي المستمر للعصر الجديد
نمت حركة العصر الجديد لأسباب إيجابية وسلبية مجتمعة. وتكمن الأسباب السلبية في الذكريات التاريخية المريرة للمسيحية التي يَصرُّ على قراءتها الكثيرون، بالرغم من مرور مئات السنين على وقوعها وحدوثها؛ ويُحمّلون المسيحية المسؤولية عن الكثير من الحروب والإضطهادات عبر العصور. والغريب في الأمر - حتى بالنسبة الى الذين يؤمنون ويُمارسون الإيمان المسيحي - أن الكثير منهم لا يحملون صفة المسيحية إلا بالأسم فقط؛ فهم مسيحيون حضاريا وثقافيا، لا أكثر ولا أقل؛ ويفتقرون إلى رؤية روحية أو اخلاقية سليمة.
وهناك أيضا الأسباب الإيجابية التي جَذَبَت البعض للبحث عن البديل من المسيحية. وقد يكون السبب الحاجة أو الرغبة في الحرية وروح المغامرة؛ أو الحاجة الى الإستشفاء الروحي وتضميد الجراح؛ أو الحاجة الى تَجَمّع خاص كَمتنفّس إجتماعي لا أكثر ولا أقل. ومن الأسباب الأخرى كذلك، سهولة الإنتماء إلى الحركة، وليونة ومطاطية الطقوس، التي يُمارسها أتباع العصر الجديد بحرية ومن دون قيود. إذ يُمارس كل عضو طقسه الخاص، وعلى طريقته الخاصة، وبحسب وضعه ومزاجه الخاص.
ولكن من خلال تاريخ الكنيسة، ومن خلال البراهين والإثباتات من داخل أروقة الكنيسة، ما يُثبت، عكس ما تَدّعيه حركة العصر الجديد في شأن المسيحية. إذ إن الكنيسة عُرفت بوجود قداسة أصيلة عبر تاريخها العريق، وغالبا ما كانت معجزات قديسيها تُوصف بغير العادية، وذات طبيعة بطولية. ومع ذلك فالقداسة (في التقاليد الكاثوليكية بالخصوص)، لعبت دوراً كبيراً في نشر المسيحية؛ مع أن الكثير من أتباع الهرطقات وأتباع الوثنيات الجديدة، يَرفضون المعجزات المسيحية، ويَنكرون حقيقتها. ولذلك وصف البابا "بيوس العاشر"، فكر الحركة بالكفر والإلحاد، وبأنها مُرَكّب جديد لكل عناصر الهرطقات القديمة مجتمعة، وأعلن: "بأنه لو حاول إنسان أن يجمع معاً جميع الأخطاء التي وجهت ضد الإيمان، وأن يَعصر في واحدة عصارتها وجوهرها كلها، لما استطاع أن يفعل ذلك بأفضل مما فعله رواد الحركة". ولكن في الواقع إنَّ الظاهرة لها وجود قَويّ اليوم ولها أتباع كثيرون، فعلى هذا الأساس يجب التعامل معها بحِكمة ومحبة مسيحية، وإن لم تعلن الحركة نفسها بكونها ديانة أو عقيدة، بل تَدعّي البحث عن الحقيقة؛ وتؤكد على أهمية التعامل مع الأرواح ومخاطبتها لمعرفة الحقيقة المُغيَّبَة. ولكن الكنيسة ترى في هذا الخصوص أيضاً أن الحقيقة واحدة، وإن تعددت أشكال وطرق إدراكها؛ فالحقيقة أعظم من أن يُعبَّر عنها من خلال كلمات بشرية. ولعلَّ هذا الأمر، هو من أكثر العيوب التي تُلام عليها حركة العصر الجديد، وذلك في دعوتها للوصول الى الحقيقة المطلقة، وليس الى الله، وبالحدس وليس بالعقل، وبالوجد وليس بالإستدلال. ولا يتم ذلك بحسب عقيدة الحركة، إلا بالرياضات الروحية، والتأمل الإرتقائي، والتنفس العميق، والتنويم المغناطيسي والإيحائي.
ولا يقف أتباع الحركة عند هذا الحد، بل يَعدّون المسيحية، وكل دين آخر أيضاً، من رفات الجهل والتخلف. فمن وجهة نظرهم، يجب أن تحل الحركات الباطنية محل الديانات التقليدية لتنقذها من الموت المُحقق. ويُحاول أتباع حركة العصر الجديد بكل الطرق، إثبات صحة عقيدتها الباطنية، ولا سيّما من خلال طرق علم النفس المُختلفة والمُتشعبة، كـالتنويم المغناطيسي، والممارسات الاستشفائية الروحانية، والظواهر الخارقة بما فيها المعجزات الإلهية.
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين الإله والإنسان والكون (بحسب مفهوم الحركة) هي علاقة وحدة الوجود، والمعرفة الحَدسيّة الداخلية التي تأتي من وراء نطاق عمليات الفكر والحواس الخمس، والقوى العقلية عن طريق (العرفان الغنوصي) والإلهام المباشر. ولذلك أكدت الحركة على إستخدام العقل والخيال، والسُبل العلمية والخرافية معاً، ومن دون حَرج. وبَشرت بوجود قدرات كامنة غير محدودة للإنسان تُمكّنه من التعامل مع العالم الميتافيزيقي الغيبي بلا حدود.
ولكي تُثبّت حركة العصر الجديد أركانها، وتنشر عقائدها، تَبَنّت الفكر الغنوصي القديم كسائر الحركات والطوائف الباطنية؛ وإعتمدت كذلك على الحدس، وحالات الوعي واللاوعي، لمعرفة الحقائق المُغيَّبة. وسعت الحركة منذ تأسيسها لنشر الفلسفة الباطنية، ومنهج العرفان الباطني بين الناس، بطرق حديثة تُناسب توجّهات الناس، ورغباتهم في العصر الحديث؛ ولا سيّما أمور الصحة والسعادة والجمال والفن والفكر الإيجابي ونحوها، وتحت مِظَلاّت البرامج التدريبية والعلاجية والتنموية. وأمام كل تلك الحملات الدعائية والمُغرضة لنشر الحقد والكراهية ضد الأديان وبخاصة المسيحية؛ لم تبقِ الكنيسة ساكتة، بل تَصدّت للحركة وأفكارها الهَدامة بقوة، ولكن مع ذلك إستمرت الحركة في عَرض أفكارها عن طريق الكتب والدوريات والبرامج المتنوعة. ومن المعلوم أن المنشورات تَتَضمن الكثير من التضليل حول حقيقة الحركة ومنابعها الهرطقية والوثنية؛ وتَتَضمّن كذلك الكثير من الأكاذيب حول المسيحية. إذ كثيراً ما تتهم الحركة "المسيحية" بالخرافات مع أنها هي نفسها ترتكز في الحقيقة على الخرافات والسحر والشعوذة. ولذلك تستغل الحركة من خلال مؤتمراتها ومحاضراتها؛ نشر كل أنواع الدعايات التي تجد لها آذانا صاغية؛ ولا سيّما بين الطبقات الشاسعة من الشباب الغربي المُتعطش الى الحُب والفن والجمال والتغيير والبحث عن الحقيقة ورؤية المعجزات، والحاجة الى وجود قديسين جُدد وحكماء، يُصغون إليهم ويتبعونهم. وتؤكد الحركة كذلك في كل نشاطاتها على إستخدام العقل والخيال والسُبل العلمية والخرافية، ومن دون حرج.
فالحركة إذن سعت، ولا تزال تسعى بكل الطرق والوسائل لتطويع الدين، ومن ثم إخضاعه لتطورات الحضارة. وشددت وتُشدد على الخلاص عن طريق "الحكمة والمعرفة" كنموذج للخلاص الفردي؛ بدلاً من انتظار مخلّص كوني مبعوث من مصدر خارجي. وتؤكد الحركة أيضاً على وجود قدرات كامنة غير محدودة للإنسان، تُمكنه من التعامل مع العالم الميتافيزيقي الغيبي بلا حدود. ولكن تَبيّن للكثيرين اليوم، ومنهم العلماء والمُتخصّصون، زيف الممارسات الروحية ولا سيّما الإستشفاء والأمور الخارقة، وإحتواءها كل أنواع العلاج الروحي الجماعي، وكذلك قدرات العرفانين من النُخب الخاصة، كالتخاطب مع الأرواح، والتنويم المغناطيسي، ووجود الطاقة الحيوية التي يرون أنها المسببة للشفاء والحيوية والسعادة. وقد ثبت أيضا أن تلك الإدعاءات كلها باطلة؛ إذ لم يثبتها العلماء؛ بل هي مُجرّد ألاعيب لِخداع البسطاء، إذ يشوبها الكثير من الخداع والدجل في ممارساتها الروحية.
نستنتج من هذا كُله، إن الإننشار السريع للحركة لَم يَكن إلا نتيجة للفراغ الروحي، واستخدام الحركة لجميع العناصر الجاذبة، ولا سيّما بين شريحة الشباب، وكذلك إستخدامها المفاهيم الهَرطقية القديمة، وكل أنواع الثقافات والديانات والأساطير الوثنية والتنجيم والسحر والفلك؛ والطرق العلمية والنفسية الحديثة، إضافة إلى الحكمة المُستمدة من آداب الكنيسة، ومن حياة قديسيها وأشعارهم؛ بدءًا بالشاعر المسيحي الكبير القديس افرام السرياني، والشاعر والمرتّل رومانوس، الى اللاهوتي والقديس توما الأكويني، ويوحنا الصليبي، وجيرالد مانلي، وهوبكنس ودانتي، وكُتاب آخرين، سواء في النثر أو القصة أو الشعر، ومنهم: جورج مكدونالد، وكوفنتري بالتمور، وجي. كي. تشيستيرتون، وسي. أس. لويس، وتشارلس وليام، وغيرهم.

إستَعدوا للكاثوليك الجُدد
فأجابَها يَسوع: "كلُّ مَنْ يَشرَبُ مِنْ هذا الماء يَعطَشُ ثانيةً، أمَّا مَنْ يَشرَبُ مِنَ الماءِ الذي أُعطيهِ أنا، فلَنْ يَعطَشَ أبدًا. فالماءُ الذي أُعطيهِ يَصيرُ فيهِ نَبعًا يَفيضُ بِالحياةِ الأبديَّةِ. قالَت لَه المرأةُ: أَعطِني مِنْ هذا الماءِ يا سيِّدي، فلا أعطَشَ ولا أعودَ إلى هُنا لأستقِـيَ". (يوحنا 4: 13 – 15)
إنخفضت نسبة ممارسي الطقوس والشعائر الدينية في أوروبا الغربية إنخفاضًا كبيراً في العقود الأخيرة، وكذلك نسبة الدعوات الكهنوتية، أو المُسجلين في المدارس والمعاهد الكهنوتية التي شهدت تقلصاً لا مثيل له في تاريخ الكنيسة. ويشبه ما يحدث في الكنيسة الكاثوليكية الى حد ما، تفكك "الكاثوليكية الثقافية" كما يصفها بعض المتخصّصين، وهو مصطلح واسع، يُستَخدَم لوصف أشخاص علمانيين ذوي خلفية تراثية وحضارية كاثوليكية من ناحية عرقية أو ثقافية أو دينية أو تعليمية، أو بسبب الروابط العائلية؛ إذ قد لا يؤمنون بالمعتقدات الدينية الكاثوليكية، أو غير ملتزمين بها إطلاقاً، ولكنهم مع ذلك يُعرّفون أنفسهم بكونهم كاثوليك، لارتباطهم بالكاثوليكية وراثيًا وحضاريًا. ويعود ذلك كله بحسب المتخصّصين، إلى إنتشار الليبرالية والعلمانية والإلحاد من جانب، ومن جانب آخر، عدم إستعداد الكنيسة لمتطلبات العصر الجديد، بالرغم من إنفتاحها الكبير للعالم، ومحاولتها تقريب الطقوس والشعائر من قلوب وعقول المؤمنين؛ إلا أن المشكلة الكبرى برأي المتخصّصين، كائنة في فقدان الطقوس سِحرها الليتورجي الجَذاب بعد ترجمتها الى اللغات القومية، إضافة الى فقر الكاثوليك الروحي، وجهلهم العام بحقائق إيمانهم المختلفة، وضعفهم في فحص عقيدتهم، وعدم قدرتهم على متابعة ممارساتها الدينية المختلفة.
فالكاثوليكية الثقافية إذن، تبدو قوية في الظاهر، ولكنها في اللحظة التي تتفكك فيها، يظهر الضعف والوهن في جسدها وأركانها المختلفة. ولعل من الأسباب المهمة الأخرى، بحسب المتخصّصين، هي عدم إستطاعة الكاثوليك مقاومة التيارات العصرانية الحديثة، ومعروضاتها الجذابة في التلفاز والإنترنيت والآيبات والآيباك وكثرة الأسواق المركزية المنتشرة في كل مكان، إضافة إلى البحث المستمر وبحرارة عن الإزدهار المادي، والغوص في مادية الإستهلاك، وبالتالي خلق الحاجة الماسة الى حياة داخلية، والبحث عن المعنى، والتوق إلى تعلم أشكال وطرق جديدة للتامل والصلاة. ناهيك عن حالة الفساد في مجتمعاتنا الغربية التي تشجّع على التشويش في القيَم، والإغراءات المادية، والشهوات الجسدية، التي توصلنا الى الرضى والسعادة المزيّفة.
حاول بعض القسس ركوب الموجة ومجاراة "المودة" العالمية لغرض منافسة الظاهرة الجديدة، والتسابق مع الزمن، ولكن على طريقتهم الخاصة، إلا أنهم لم يوفّقوا في برامجهم، ولم يقدروا إظهار أي تأثير ذي قيمة تُذكر للكنيسة في هذا النوع من اللباس العصراني الحديث والمُزيّف، لأن المسيحية لا يمكن أن تتسابق ولمدى بعيد مع أنصار العصرانية والمودة، كالمغنية "مادونا"، والمُغني "مايكل جاكسون"، وغيرهم من العصرانيين الآخرين.
ومن المُلفت للنظر، إن البُعد الداخلي أو السرّاني هو الجزء الأكثر حيوية في الممارسات الدينية، ويكمن الخوف من فقدان ذلك البعد الباطني الأهم. لأنه لو بقي جُلُّ التشديد على الجوانب الخارجية أو المظهرية للديانة، أو على شَكليات العبادة الخارجية فقط، دون اللقاء بالمسيح نفسه، فذلك يؤدي إلى فقدان التواصل مع الحياة الروحية الداخلية، الذي يمثلها المسيح يسوع، جوهر عبادتنا وسر حياتنا الروحية.
ولعل السؤال الذي يُطرح بقوة اليوم هو ماذا يحدث بعد تفكك الكاثوليكية الثقافية، وإبتعاد الأجيال في معظمها عن ديانة الآباء والأجداد؟! من المعلوم أن القمع الديني لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فالعلمانية كما هو معروف عنها شقت طريقها من خلال التَديّن في البداية، إذ بدأت مع الحركة الإصلاحية البروتستانتية، ومن ثمّ تحرّرت كليًا من التقاليد الدينية. ومن الملاحظ إنه لم يَبقِ اليوم تقليد ديني واحد يستطيع صبغ ثقافة معيّنة بصبغته الخاصة، لأن الثقافات أصبحت مُتعدّدة ومُنتشرة في كل مكان، بحيث أن كل ديانة لها ثقافتها الخاصة وصبغتها الفريدة، ولا يمكنها إذن فرض لونها الخاص على الجميع. وقد يكون وضع الأديان في العموم على أحسن حال اليوم، والسبب لأن الأنظمة العلمانية لم تبدأ إضطهاداتها الحقيقية ضد الأديان بعد. وقد يكون السبب الآخر هو الوهن الذي أصاب الكاثوليكية.
ولا يخفى على أحد ما فعله"دان براون"، وهو مؤلف أمريكي لقصص الخيال والإثارة الممزوجة بطابع علمي وفلسفي حديث وبأسلوب مشوق، والذي حققت رواياته رواجاً كبيراً بين الأجيال الشابة في أمريكا وأوروبا. فالذين تابعوا أحداث الفلم شفرة دافنشي "دافنشي كود" وهو من أفلام عالم الروح والأسطورة الدينية؛ يُلاحظون مدى الحقد الكامن في القلوب ضد الكنيسة. ولعلكم سمعتم أيضاً، أو إطلعتم على فعاليات الطوائف الهرطقية الجديدة، والمؤمنين بالتقمّص والمذاهب الوثنية الغامضة، ومؤتمرات حركة العصر الجديد التي نحن في صددها في هذا الكتيب، وقد تجعلكم تلك الممارسات أن تكونوا على يقين من وجود أزمة روحانية جديّة وحقيقية في العالم.
ولكن كل هذا لا يعني، بحسب رأيي الشخصي، أن نتخاذل ونقبل بالأمر الواقع، لأن المسيحية في حقيقة الأمر هي على أبواب حَملة جديدة من الإهتداءات من خارج المجتمع التقليدي، وبالتحديد من أتباع العصرانية والحداثوية وأتباع حركة العصر الجديد، وكذلك من أتباع الحركات الوثنية الجديدة. ولعل خير مثال على ذلك، المتصوف الروسي "فالنتين تومبرغ" الذي توفي سنة 1973 بعد إهتدائه للكاثوليكية، إذ ألف كتاباً تحت عنوان "التأمل على تاروت"، وبنى فيه حكمة الكنيسة وجواهرها السحرية الثمينة، وشدد في الخصوص على حياة القديسة "تيرزا الأفيلية، والقديس فرنسيس الأسيزي، والقديس بونا فنتورا"، وغيرهم. وقد كتب عن هذا العمل، اللاهوتي السويسري الكبير "هانس أورس فون بالتازار" الذي أكد على عظمة العمل وعدّه عملاً رائداً في الكتب الفلسفية والتصوفية المسيحية، ومحاولة رائعة في إحياء تراث الحركات المسيحية الباطنية.
ومن هنا أقول وأشدد على إتخاذ الموضوع بجدية شديدة ولا سيّما بالنسبة الى التقليديين الكاثوليك والمؤمنين بإنتقال الإرث المسيحي من جيل الى جيل، لكي يكونوا حذرين في أثناء تبشيرهم وكرازاتهم من هذا الوباء التاريخي المُسمى "الكاثوليكية الثقافية". وعلى الكاثوليك أيضاً التأكيد بصورة أكثر عُمقا على جمالية القداس الإلهي والإحتفالات الطقسية الأخرى، التي تُساعد كثيراً على التواصل الروحي مع المعاني الباطنية والإختبار الملموس، أي في عيش الحياة الداخلية بِشكل مُتكامل، وبإدخال الله في حياتنا، واستيعاب حقيقة الوحي فائق الطبيعة، التي تتوق إليها إرادة الإنسان.
ومن الملاحَظ أن كل تلك العوامل تُساعد على تجديد وتقوية الإيمان، وإنقاذه من براثن الرتابة والتديّن الفارغ، وتُساعد أيضا المدافعين عن الكاثوليكية من المثقفين والمفكرين، ومعلمي التعليم المسيحي، والمرشدين الروحيين، بالتشديد على أهميّة التجدّد في مجال التعليم الدينيّ، وذلك بفتح وسائل، أو قنوات جديدة للتعليم الدينيّ، بخاصة القنوات المؤثرة في حياتهم الباطنية ومنها: إحياء حركة الميستاغوغية ( mystagogy) وهي كلمة يونانية تعني "القيادة من خلال الأسرار"، أو المرحلة التي تتم فيها التنشئة المسيحية النهائية للبالغين الموعوظين، التي كانت تُمارس في بدايات المسيحية طوال موسم عيد الفصح، وتُختَم في عيد العنصرة. ويَتَضمَّن البرنامج، السماح للحياة الجديدة أن تجري في عروق الموعوظين الجُدد، هذه الحياة التي هي أسمى حياة. ومن خلال موقف تواضعنا هذا، نكون قد جذبنا الله إلى دواخلنا، ويكون بالتالي في مقدورنا إعطاء الأجيال المقبلة، تلك الدُرّة الثمينة التي لا تُعوَّض. لأنه بالرغم من كل العبادات التي نظهرها في طقوسنا وشعائرنا، وبالرغم من إعتنائنا الكبير بمراقبتنا تعاليمَ كنيستنا وعقائدها وأخلاقياتها، تبقى حياتنا الروحية مُجمّدة إنْ لم تكن حيّة من الداخل. ولكي ندخل الشرارة الإيمانية الى الداخل، علينا الإستمرار في النمو في الإيمان. وعلينا أيضا أن نكون حذرين من كون الحقيقة المطلقة ليست أمرًا او شيئًا نَملكُه ونَضعُه على قصاصة ورق. فالحقيقة المطلقة واحدة وسامية جداً، بل أسمى من أن نحصل عليها بِقِوَانا الخاصة، فهي الشرط الأساسي، الذي يوصل المؤمن إلى إصلاح وجودي فردي، بل إلى إصلاح العالم "كالخميرة التي تغير وجه العالم". فالميستاغوغية إذن هي عملية التعلم بعمق أكثر، وعملية الحُب بِحَق، أو هي عملية جِديّة لجذب أعضاء العصر الجديد إلى الكنيسة لكي يبقوا في أحضانها. ولتحقيق ذلك، علينا أن نتشجّع كمسيحيين ونَتَعلم من روّاد حركة العصر الجديد أنفسهم، ونَستخدم طرقهم النيّرة والحديثة في جذب الناس من دون أن نفقد جوهر إيماننا، وجمالية طقوسنا، وإرثتا الديني والتاريخي.







المحتويات

مقدمة المترجم
ما هي حركة العصر الجديد؟
التراث الغنوصي "العِرفاني"
تأثيرات العصور الوسطى
الغنوصيّة الجديدة
بعض أفكار العصر الجديد
ظاهرة شفرة دافنشي
الهروب من قفص العَصرانية
لمحة تاريخية عن الفردانية
الى أين الهروب ؟
البحث عن السلطة
الكاثوليكية والعصر الجديد
فضيحة التجسّد
التحدّي المستمر للعصر الجديد
إستَعدّوا للكاثوليك الجُدد



#صبري_المقدسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار الاديان: دواء شافِ للإنسانية المُعَذَبة
- السياسة والإرهاب
- الدين والعلم بين الصراع والمصالحة
- الحرب والسلام
- المرأة في الدين والتشريعات المدنية
- الأخلاق
- الصوفية طريق لممارسة الحب الالهي الأصيل
- دور الاسطورة في حفظ الكلمة المقدسة
- هل نحن وحدنا في الكون الواسع واللامحدود
- روسيا تعود من جديد
- من يقود الحركة التنويرية في العالم الإسلامي اليوم؟!!
- متى تتحرر مجتمعاتنا من تصلب العقول والإنغلاق الفكري؟!!
- الديمقراطية انجح وسيلة لتحرير العقول
- 90 مليون تحية للشعب المصري
- لماذا لا يحق للأكراد، ما يحق للآخرين
- مفهوم الصليب والقيامة في المسيحية
- مريم العذراء الحواء الثانية
- بولس رسول الأمم
- انتشار المسيحية الكنيسة الشرقية - (آسيا )الحلقة الاولى
- إنتشار المسيحية أوروبا (الحلقة الثانية)


المزيد.....




- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...
- بسبب متلازمة صحية.. تبرئة بلجيكي من تهمة القيادة ثملا
- 400 جثة وألفا مفقود ومقابر جماعية.. شهادات من داخل خانيونس
- رسالة من شقيقة زعيم كوريا الشمالية إلى العالم الغربي
- الشيوخ الأميركي يقر -مساعدات مليارية- لإسرائيل وأوكرانيا
- رسالة شكر من إسرائيل.. ماذا قال كاتس لـ-الشيوخ الأميركي-؟


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - صبري المقدسي - فهم حركة العصر الجديد