أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (48)















المزيد.....

منزلنا الريفي (48)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4461 - 2014 / 5 / 23 - 18:20
المحور: الادب والفن
    


همس الطفولة (5)

بعد أقل من شهرين، ستحل الذكرى السابعة لوفاة جدتي، صحيح أن هذه الذكرى تحيلني إلى لحظة الوفاة، لكن ما يغيب عني أن لكل حدث ارتداده وارتحاله عبر الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فجدتي لم تمت، فأثرها مازال باقيا، إنني أراه ماثلا في ذاتي، وعلى محيا جميع الأشخاص الذين تفاعلت معهم، ناهيك عن الأمكنة التي عمرت فيها، والأزمنة التي امتدت فيها، فكلما قدت القطيع صوب المرعى إلا ويأتيني صوت مفاده : تي سكر فين غادة ، هذه هي اللازمة التي لطالما رددتها حينما كانت ترعى قطيع الماعز بين الشعاب والغابات...أما تلك الشجرة الوارفة، فلا يمكن الاستمتاع بظلها بعيدا عن كلماتها المتفائلة نحو المستقبل، وشوقها إلى الماضي، واطمئنانها نحو الحاضر . كان النهر يتلوى، وبينما القطعان تروي عطشها ؛ كانت عجوز تحدث طفلا صغيرا عن ماضي النهر : اسمع يا ولدي، هذا النهر ينبع من الجنة، إنها تتوارى خلف الآفاق، هناك ما وراء الجبال، فلا تسئ إليه في يوم من الأيام، إنه ميثاق الحب الذي بيننا وبين الإله، وإذا ما تخلف النهر عن مدنا بالمياه، فقد أساء لنا الإله، وبإساءاته لنا تحق لنا الثورة والفوران، بطعم الحب والدماء، وإذا ما مت يوما ستعثر علي هناك، حية بين الأحياء، هناك خلف الآفاق، حيث يتوحد النور والظلام، وتذوب الأرض في السماء..." .
حينما ماتت الجدة، كان الطفل يعود إلى النهر، وكلما كانت مياهه تنساب بسرعة كانت تتراءى له جدته سعيدة، فكان ينظر بعين الرضا إلى الإله، هناك خلف الآفاق، وكلما حل الجفاف، ونفقت على ضفاف النهر الطيور والأسماك، وهاجم قريته الجراد، ونفقت القطعان، وعمت الأمراض، وأكلت النساء الجيفة والأطفال، كانت تبدو له حزينة فيحث الناس على الاحتجاج، ضد إله الأرض والسماء، رافعا أعلام العدالة والمساواة، ينادي وينادي ولا مجيب إلا الأموات، فسمع ردهم يخرج بين الأجداث، تحمل بسمة النضال، كانت جدته تحضر معه كل يوم، فأينما حل إلا وتكون معه، وكلما سولت له نفسه اقتراف فعل سيء إلا وتذكر تلك الكلمات الوجيهة، وذات يوم كان يستحم في النهر، فعثر على قنينة تحتوي على أوراق، ففتحها وقرأ : ولدي العزيز، أنا لم أرحل إلى السماء، أنا أسكن معك في الأرض، أنا هي تلك الزهور التي تعبق بالأريج، أنا هو النهر الذي ينساب، أنا هو أنت، أنا هي أحلامك التواقة إلى الأفق البعيد، أنا لم أرحل، أنا هي جدتك التي واريتها الثرى ذات يوم، وأذرفت من أجلها الدموع .
تحضرين معي كل يوم، أذكر آخر يوم رأيت فيك، منذ سبع سنوات تقريبا، كنت آنذاك قد لفظت أنفاسك الأخيرة، كنت جسدا صغيرا، لا حراك فيه، رأيت في عينيه الموت، وعلى محياه الذبول، وعلى وجهه الاصفرار، رأيت شبحا مخيفا، اعتمر منزلنا ذات يوم، كان جسدك ملفوفا بإزار أبيض، كلموك ولكنك لم تتكلمي، رجوك أن تفعلي ذلك، ولكنك لم تفعلي ؛ كان الكل يصرخ إلا أنت، كان الكل يبكي إلا أنت، كان الجميع يناديك باسمك، أين كنت ؟ لماذا لم تستيقظي كما هي عادتك دائما حينما يناديك زائر، أو يأتيك ضيف ؟ هل تعرفت علي أنا ذاك الذي كان يتردد عليك كل مساء باحثا عن جريدة، أو مطمئنا عليك، أو مستفسرا إياك في قضية من قضايا التراث...ذاك الذي سألت عن نجاحه في الامتحان قبل مماتك، هل تذكرين ذلك الطفل الذي كان يرافقك نحو النهر ؟
سيدة في الأربعين من عمرها، تفيض نظارة، تطفح جمالا، ترتدي جلبابا، تركب حافلة، وعلى رأسها تضع منديلا، تترك خلفها أرضا مسكونة بالجفاف، يلفها القحط والغبار، وتقف فوقها أعشاش تطايرت بها الرياح، وعند عودتها تصف رحلتها صوب ضريح الأضرحة " وسيد الأسياد "!!، مولاي بوعزة طاهر الأطهار !!؟؟ : حملت معي الشموع، بقلب متوهج بالدموع، راغبة في تجاوز القحط الذي عم الربوع، وأن تحل أنواء مفعمة بالغيث الموعود، أيها السيد الذي رضيت عليه السماء والغيوم، حملت معي عنزة كما أراد خدامك الطائعون، هيا فلترزق ذريتي بالبنات والبنين، من يدون هذا الحب والحنين، كالحبل السري الذي يربط الأم بالجنين، إنه ذلك النهر الذي يتلوى كالقضيب، وفي تجاويفه يحمل الحياة والنماء الخصيب .
توفي جدي في أبريل سنة 1982، ومنذ ذلك اليوم الذي ينيف عن خمسة وعشرين عاما لم تحقق جدتي وجدها الروحي، كنت أجلس بالقرب منها، وتحكي لي تطلعها لزيارة الضريح الذي يبتعد قرابة مائتي كيلومتر، تقول لي : إنها تغادر هذه الأرض فارغة الروح، سرعان ما تعود ممتلئة، كانت تترك الأرض عطشى، والنبات يراوح الموت، والنهر توقف عن السيلان، لكن بمجرد أن تعود حتى تهطل الأمطار، وتزغرد الطيور، وتدب الحياة في الحقول، الزيارة بالنسبة لجدتي هي حياة ما فتئت تتجدد، وروح باتت تنسخ، وولادة تعتصر...أليست هي الأرض والأرض هي ؟! تحقق الوجد ذات يوم من صيف 1981، ذلك اليوم الذي ولد فيه أخي جمال، تقول أمي : آويت تحت سقف بيتنا القزديري، وجاءتني القابلة عويشة ، وبعد هنيهات صرخ الطفل جمال، ففكت الحبل السري، أطلق أذنيه، فسمع في الجهة المقابلة موسيقى حائرة، تلفها جموع تنتحب، وبشر متوحشون يتمرمدون في ساحة المنزل على إيقاع نغمات حزينة، كان أفراد هذه الفرقة الموسيقية التي تسمى بعيساوة يكرهون من يرتدي اللون الأحمر، كما أنهم مهووسون بافتراس اللحم النيء، وبشرب الدماء، وتمزيق جلودهم ورؤوسهم بأدوات حادة كالزجاج والسكاكين والقزدير، ناهيك عن أنهم يتعاطون أكل الصبار، وشرب الماء الساخن...كان التربية التي يخضعون لها في الأضرحة والزوايا تلقنهم هذا التجلد وهذا الصبر، إضافة إلى ركوب الجنون واللامعقول، إن الإنسان يستوطنه اللاعقل إلى جانب العقل، ففي هذه اللحظات ينتفي كل شيء، فالموسيقى بعنفها، ورعشاتها الوجدية، وطقوسها الروحانية، ونغماتها الحزينة تدفعك إلى ركوب المستحيل، وتفريغ كل ضروب القهر والدونية، فإذا كانت هذه الفرقة تطلق على نفسها الدراوش "، أو الفقراء في إشارة قوية إلى أنها تتحدر من القاع الاجتماعي، فجدتي التي قاسمتهم بعض من دماء ولحم جديها الذي ترعاه مع القطيع، لم تكن تختلف عنهم، فالمرأة هي ذلك الوعاء الذي يملأ بالقهر والعنف والتبخيس والدونية ... إن المجتمع الذكوري بهذا الطقس يفضح نفسه، ويعيد التوازن إلى بنيته، كما يكشف عن نفاقه وتخلفه .
ذات تتلذذ بالسعار، على إيقاع ذلك الصيف الحار، وموسيقى من نار، تنقلب ذات اليمين وذات الشمال، ويسيل اللعاب، وترتعد الفرائص والأجساد، ويسود النحيب والبكاء، والتشوق إلى الله، في رحلة طويلة صوب الاكتمال، تسيل الدماء، كالنهر الجارف المنتحب بالفيضان، ويبدأ موسم الافتراس، حيث يتكوش الناس، خرفان وجديان، مازالت على قيد الحياة، تهاجمها جمهرة من الأنياب، تقطعها إربا إربا، يصيح هؤلاء المفترسون كما تصيح الأغنام، يطلبون المزيد فيتم رميهم بقطع الصبار، ينهالون عليه غير مميزين بين الأشواك ...ويبكي الأطفال، والوجد يسكن الأرواح....
خمسة وعشرون عاما من التطلع إلى شفاء الروح، طيلة هذه المدة ظلت جدتي تنتظر، كلما زارت قبر جدي إلا وشدها الحنين إلى تلك الأيام الزاهية، لقد مات وفي حلقها غصة، وهذه الغصة حملتها معها أثناء موتها، لقد كان يحبها ويتراوح مع رعشاتها الروحية، وطيلة المدة التي عاشتها بعد وفاته، كانت تحث أبناءها على فعل ما كان يفعل جدي، لكن تنامي الفكر الإخواني والسلفي في القرى والأرياف حال دون ذلك، لقد استحوذ على المساجد وعلى أجساد الناس، وبات يكفر العادات والتقاليد وزيارة الأضرحة، والموسيقى والإبداع، وكل ضروب الثقافة، ولقد وصل به الأمر إلى جواز لباس المايو ( يلبس تحت السروال ) من عدمه، ومتى يتبول الناس ومتى تتغوط المرأة، وأين تضاجع زوجها، وما هي الوجهة التي ينبغي أن يتوجه نحوها المرء للتبول !!؟ وماذا يقول في بوله وغواطه ؟! إنه نوع من الاستحمار والاستبغال الفكري الذي بات يخيم على العقول المبنجة . أذكر ذات يوم من عام 2003، وجدت الحصائر مرمية، والأرائك مكسرة، والجرائد ممزقة، والأواني متلفة، والأبواب ملطخة، والجدران وجلة، والذكريات مثقوبة ؛ كان المنزل يلفه صمت موحش كنظرات أختي الصغرى التي رمقتني بإشارات خجولة، حاولت استطلاع الأمر، لكن من صمتها فهمت أن الطلاعة لم تبرئ جدتي من وجدها الروحي، فطلبت من ابنها الإخواني أن تأتي بعيساوة ، فرفض رفضا مطلقا، وبات يقلب المنزل من أسفله إلى أعلاه، لم يكن يقدر على ذلك، فجماعته متزمتة لا تجيد إلا التحليل والتحريم والتكفير، بينما كان يتساهل معها في مجيء الطلاعة ، واختلائها بها متناولتين ديكا أسودا مطبوخا يفتقد للملح لكي يتقاسما الوجبة مع " الجواد والجن...كان يعتقد أنها مصابة بالصرع، ومن حين لآخر كان يرافقه فقيه الذي لم يتوان في قراءة تعويذاته القرآنية، لقد قرأها أكثر من عشر مرات بصوت تناهى إلى أعماقي وأنا أحاول أن أستطلع الأمر، لكنها لم تتماثل إلى الشفاء...كنت أجلس معها، وكانت تتطلع إلى الأيام البعيدة، فلا القرآن يشفيها، ولا الحديث يريحها، ولا نعيق الفقيه يخيفها، ببساطة شديدة كانت تريد موسيقى متدفقة كالنهر الذي حدثني عنه، تريد أن ترتعش كفراشة من فراشات الجنة، وهي تتماوج طائرة في السماء، تريد أن تصرخ وجدا وحبا في الله، لا تريد من القرآن وسيطا، ولا من نعيق الفقيه طريقا . كلنا من الله والله منا، وطريق الله مستقيمة، لا تعرف أي لف أو دوران .
في ذلك الأربعاء الأسود، وارى الحفار الثرى، تفرقت الجموع، وبقي شاب ينتحب، طلبت منه أن يرافقنا، لكنه قبل بصعوبة، فكان يقول : أريد البقاء مع أمي حتى تغفر لي، أنا عاق لم أحقق لها أمنيتها " .

ع ع / 23 ماي 2014 / المغرب .



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منزلنا الريفي (47)
- سخرية في صحراء الحمى
- منزلنا الريفي (46)
- منزلنا الريفي (46)
- منزلنا الريفي (45)
- منزلنا الريفي (44)
- هواجس ساخرة
- غدا سأولد من جديد
- الوداع
- مشاهد من المستشفى
- أريدها
- تمرد
- منزلنا الريفي (43)
- كلمات من دماء
- خوالجي الباكية
- شاعرة الافتراضي
- النافذة المغلقة
- منزلنا الريفي (42)
- منزلنا الريفي (41)
- منزلنا الريفي (40)


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (48)