|
دور الاسطورة في حفظ الكلمة المقدسة
صبري المقدسي
الحوار المتمدن-العدد: 4436 - 2014 / 4 / 27 - 10:54
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
دور الاسطورة في حفظ الكلمة المقدسة يُعرّف البعض الاسطورة، على انها تصوير رمزي للأشياء وللثقافات، بأبعادها الدينية والمادية، وترتبط الإسطورة دائماً ببدايات البشر. وكان القدماء يكتبون الاسطورة أو ينقشونها على الألواح والأواني والأحجار والجدران والقبور. ويقصّون فيها، قصص الأولين عن حياة الانسان في الماضي القريب والبعيد. ويبدو ان الغرض من كتابة تلك القصص والأساطير، كي يشعر الإنسان بأنه ينتمي إلى العائلة نفسها حينما يستمع إلى قصص أجداده. وتتكلم الاسطورة عادة عن الحوادث الطبيعية وفائقة الطبيعة، لذا أصبح من الصعب التمييز بين الدين Religion والاسطورة Mythأو بين الاسطورة والخرافة Legend أو بين الاسطورة والفلكلور Folklore. سنحاول هنا المرور على كل هذه الأنواع من خلال عرضنا لهذا البحث. مع العلم ان الاساطير والملاحم والفلكلور والحكايات الشعبية وحكايات الخوارق والخرافات، كلها تعدّ فنا وأدبا يجب أن نعتز به وأن نقدمه للأجيال الآتية بفخر وإعتزاز، كونه يُجسّد تاريخنا الإنساني. إذ أن "الاسطورة" في اللغة اليونانية mythologia mythos تعني (قصص تقليدية) وتتكلم عن قصص الآلهة والأبطال وتُعد قصصاً حقيقيةً مُتداولة تقليدياً، تنوي تفسير بدايات الأشياء سواء كانت كونية أو طبيعية. وتُفسر حالة طبيعية لها صدى عالمي عميق في النفوس، وأشياء أخرى حدثت أو تحدث في حياة الانسان (كل إنسان) ويُعبَّر عنها برموز تحكي عن القصد والمعنى. فالاسطورة إذن، تتكلم عن الواقع، في حياة الناس، بصيغة واحدة تقريباً (ما كان في البدء)، وهي كما يراها مفسرو الكتاب المقدس الكاثوليك: "إطار يضعه الإنسان حول حقيقة ما يحاول أن يُزيّنها كما نُزيّن اليوم العروس والعريس". وأما الخُرافة والفلكلور فهي حكايات لا يُعرف لها مؤلف ما، وتنتقل عبر الألسن في المجالات الشعبية المختلفة. فالخُرافات لا تعتمد على الحقيقة أو الحدث أساساً لها، بل تعتمد على البطل (الآلهة)، وتختار من الأحداث ما يُلقي الضوء على شخصية (البطل) وتُؤثر في حركته. وأكثرها غير مُقنعة وغير منطقية. والشىء الذي يمُيّز الاسطورة عن بقية الأجناس الأدبية الشبيهة هو طابعها وجوهرها المقدس، الذي يريد أن يُخاطب الإنسان، الذي أبدعها وصاغها لنفسه وللأجيال من بعده. وأما الخُرافة، فإن راويها والمستمع اليها يعرفان بأنهما ليسا مُكلفين بتَصديقها. ففي سبيل المثل، حين نبني بيتاً، فإننا نحتاج الى الخارطة أولا ثم الى المواد الاولية للبناء. إذ لا يُمكننا أن نبني بيتا من دون خريطة – الحقيقة، أو المواد الاولية للبناء - الرموز الاسطورية. يعتمد الكتاب المقدس على الكثير من تلك القصص الإسطورية، ولاسيما في روايات خلق العالم، وخلق الانسان، وروايات الطوفان ورواية عبور البحر الاحمر ورواية برج بابل وغيرها من القصص التي تشتهر فيها الحبكة الإسطورية التي تبناها كاتب الكتاب المقدس للتعبير عن تفكيره الخاص، وحَولها تحويلا عميقاً، وجعل منها رواية لاهوتية تاريخية. وعندما نقول تاريخية لا نقصد في طبيعة الحال، التاريخ العلمي الذي لا يتكلم إلا وفي يده المصادر وأمام عينيه آثار التنقيبات. إذ أن كاتبُ الكتاب المقدس، لا يريد ان يكتب عن التاريخ والحضارة البشرية الاولى أو تاريخ الانسان الاول، بل بالحري يكتب من الواقع الانساني الحالي ليقول شيئا أو ليُبدي رأيا في التاريخ بما هو الواقع الانساني الماضي، وفق تفكير منطقي وحضاري، مستعينا بآداب الشعوب المجاورة من سومرية وبابلية وكلدانية - اشورية وكنعانية وفينيقية ومصرية وفارسية واغريقية، كمواد أولية للبناء. حيث يوجد تشابه كبير في أساطير المشرق القديم وسائر الاساطير العالمية وقصص الكتاب المقدس كقصة آدم – "آدمو" في السومرية، وقصة طوفان نوح – "أوتونوبشتم" في السومرية، وقصة يونان وايوب وحزقيال وغيرها من القصص المنتشرة قديماً في الشرق. ومن هذا المنطلق ومن هذا المفهوم للاسطورة والدين، سنعالج هنا قصتين من قصص الكتاب المقدس. 1 ـ الايام الستة للخليقة. 2 ـ قصة الانسان و(الخطيئة) في البستان. 1ـ الايام الستة للخليقة: في البدء خلق الله السموات والارض، وكانت الارض خاوية خالية وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور... وفصل بين النور والظلام... وكان اليوم الاول. وقال الله ليكن في وسط المياه جَلد يفصلُ بين مياه ومياه... وكان اليوم الثاني. وقال الله: لتجتمع المياه... ولتظهر اليابسة... وسمى الله اليابسة ارضا ومجتمع المياه بحارا... وقال الله لتنبت الارض نباتا... فأخرَجت الارض نباتا... اليوم الثالث. وقال الله: ليكُن في جلد السماء نيّران تفصل بين النهار والليل، وتُشير الى الاعياد والايام والسنين... فكان كذلك... اليوم الرابع. وقال الله: لتفض المياه خلائق حية ولتطير طيور فوق الارض على وجه السماء... وكان مساء وكان صباح: اليوم الخامس. وقال الله: لتخرج الارض خلائق حية من كل صنف... ورأى الله ان هذا حسن. وقال الله: لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا، وليتسلط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع وحوش الارض وكل ما يدب على الارض. فخلق الله الانسان على صورته، على صورة الله خلق البشر، ذكرا وانثى خلقهم. نجد في هذا المقطع ان الكاتب يريد أن يقول للقارىء المؤمن، أن الله في الايام الثلاثة الاولى، لا يخلق، وإنما يفصل الاشياء بعضها عن بعض. إذ يفصل الله في اليوم الاول بين الليل والنهار، بين النور والظلمة، كأنه يوجه رسالة للذين يعبدون الليل والنهار (النور والظلام) إلهين (اهريمان واهورمزدا)، للزرادشتيين الفرس إذ يقول لهم: ان النور والظلمة ليسا بإلهين، فانما الهُنا الذي هو اله واحد، خلق النور والظلام، في اليوم الاول. وفي اليوم الثاني، يفصل الله بين المياه التي فوق الجلد والمياه التي تحت الجلد. وفي اليوم الثالث، يفصل الله بين اليابسة (الارض) وبين مجتمع المياه (البحار). إذ نجد الارض كأنها جزيرة في وسط الماء. فبعد أن يجري الله عدة عمليـات فصل، تظهر اليابسة ليجعلها مكاناً مناسباً للانسان. السموات والارض النور والظلمة (اليوم الاول). الشمس والقمر والنجوم (اليوم الرابع). السماء والبحر (اليوم الثاني). السمك والطيور (اليوم الخامس). الارض والنبات (اليوم الثالث). الحيوانات والحشرات والانسان (اليوم السادس).
والارض ليست إلهة، كما كان البعض يُقدسها ويُؤلهها كالكنعانيين والفينقيين والسومريين. قائلا لهم أن الهُنا (يهوه) الذي هو إله واحد، هو خالق الأرض في اليوم الثالث. وفي الأيام الثلاثة الأخرى نجد أن الله يخلق النيّرين العظيمين والطيور وأصناف الحياة في المياه والطيور والبهائم والحوش، وأخيراً يخلق الانسان، ذكراً وانثى. ويذكر كاتب الأيام الستة، النيّرين العظيمين بدلاً من الشمس والقمر، فهما مثل سراجين مضيئين شبيهين بالسراج في الهيكل. اذاً ليست الشمس والقمر بإلهين (الشعوب المجاورة كانت تعبد الشمس والقمر كإلهين عظيمين). وكأنها رسالة جوابية من "يهوه " اله اليهود، الواحد الأحد، قائلا لجيران اسرائيـل الوثنييـن، إن آلهتهـم ليست بآلهة، وإنما هي مُجرّد خلائق لالههم يهوه، خلقها في اليوم الرابع. وفي اليوم الخامس، يُوجه رسالة للفينيقين وغيرهم من الذين يعبدون آلهة في البحار تسمى (ليوثان) ويقول لهم بأن آلهتهم باطلة وإن الله "يهوه " هو الذي خلق الاسماك الكبيرة في البحار. وهو بالتالي الإله الحق. خلق العالم اذن، موزع على ستة أيام للوصول الى السبت. ويُشّدد الكاتُب هنا على السبت مُبيّنا أهميته للإنسان، لان الله نفسه يحفظه ويُضفي عليه طابعاً مقدساً. والله "يهوه" يخلق عالماً جميلاً عادلاً بالرغم من الشر والألم، كون اليهود (ومنهم كاتب القصة المقدسة) كانوا في جلاء بابل، يعيشون في عالم مُحطم، ملىء بالإحتقار. وبعد ما درسنا هذا المقطع نعود فنقارنُه بمقطع من مقاطع القصة البابلية عن خلق العالم: لم يكن هناك سوى "أبسو" المحيط الازلي... و" تيامات " المياه المالحة... لا سماء ولا أرض... لا آلهة ولا بشر... فقط الفضاء.. والمياه الممتدة الى ما لانهاية.. لا شىء سوى ظلمة حالكة... وكان منها آلهة نور... فأطّلت "تيامات" حيث قررت ان تتخلص من آلهة النور (كونها لم تعرف سوى الظلام والفوضى)، وخلقت " تيامات " الوحوش المُخيفة المفترسة وانطلقت الثعابين المهولة ذات السموم... والتنانين.. والكلاب.. والعقارب.. كلها تتحرك تحت امرة الاله الوحش " كنغو" الذي وعدته تيامات بالزواج اذا تغلب على آلهة النور... فيأتي الاله مردوخ لمحاربة الالهة " تيامات" لنُصرة إلهة النور... فيقتل تيامات.. ثم يقطع قلبها.. يأخذ منه حبوب القضاء والقدر.. ومن جسم تيامات الممزق تخلق.. السموات.. والارض.. والكواكب.. وبعد ذلك، فَكر مردوك بخلق من يعبد الآلهة.. ويقوم بخدمتها، ولهذا خلق الانسان.. إنحنى مردوخ على الارض وشرع يعجن التراب بدماء كنغو الشرير.. يصنع من الطين ناسا تقوم على خدمة الآلهة وعبادتهم. فاذا قارنا هذه القصة من آداب البابليين مع قصة التكوين التوراتية: نجد تشابهاً كبيراً مع وجود فروقات كثيرة أيضاً. فالتشابه بين القصتين: هو مفهوم الخلق للكون والانسان وخلق كل شىء تقريباً. مع وجود الماء والظلام قبل الشروع في الخلق في القصتين. وأما الفرق بين القصتين: ففي قصة التكوين ان الله "يهوه" لا يحتاج الى عقد معاهدات مع آلهة أخرى للشروع في الخلق، فهو يُقرر لوحده وبكلمة من فمه يخلق كل شىء في الكون، وفي فترة قصيرة (ستة أيام). وأما في الأدب البابلي فنرى أن الآلهة تعقد معاهدات مع بعضها البعض، وتتزوج وتحارب بعضها بعضاً. في حين أن الله "يهوه" في التوراة، يخلق الإنسان حراً من تراب الأرض فقط وليس فيه شىء من الآلهة. فالخالق في التوراة مجّرد كليا عن الخلائق، صاف من أي تعلق بالمادة، والشر ليس من جوهر الانسان، ولا يحتاج لأن يستخدم الانسان كما تستخدم الآلهة الإنسان في القصص السومرية - البابلية. ففي الاسطورة البابلية (اينوما ايليش) أي (حينما خلق)، تخلق الالهة تيامات آلهة شريرة، ويحدث قتال بينها وبين الاله مردوخ، فينتصر الاله مردوخ على هذه الآلهة وينتصر كذلك على تيامات، ويلقى القبض على الاله "كنغو" قائد الالهة المتمردة، ويُحكم عليه بالموت، فيُقتل "كنغو" للتخلص من الشر، ويُستعمل دمه (الممزوج بالشر) في جبل الانسان. فالغاية من خلق الإنسان هنا ليست إلا للعبادة والخدمة ولمساعدة الآلهة في أعمالها. لأن الانسان في هذه القصص، لا حول له ولا قوة، والشر من جوهر جبلته، وفي طبيعته الانسانية ومن دون إرادته أو إختياره. فإذن يوزع الكاتب في الكتاب المقدس، عمل الله على ستة أيام ويستريح في اليوم السابع. ولا يوجد مجال هنا للتفسير العلمي المُبرر الذي يحاول ان يقول: ِإن الكاتب يقصد باليوم الواحد الف سنة أو بعضهم يقول مئة الف سنة وغيرها من المهاترات والمزايدات الدينية التي لاعلاقة لها بالكتاب المقدس. فهو أي (الكتاب المقدس)، قبل أي شىء آخر هو كتاب ديني والقصة تعدّ، قصة لاهوتية تعليمية، تهتم بمعنى وجود الأشياء وكيفية ظهورها للعيان. وليس بكيفية وجودها. وهو أيضا كتاب يَحكُم على الاشياء الموجودة حوالينا، حُكما عيانيا وليس حكماً تحليلياً علمياً على الاطـلاق، لان القصـة أصـلا تعتمـد على الاساطير كمواد للبناء، والايمان اللاهوتي بالله الواحد الاحد، كخارطة هندسية لهذا البناء. ملحمة اطرا - حاسيس (قبل 1600 سنة في بابل) ان الالهة مرهقة بسبب الاعمال التي تقوم بها: الالهة تحتمل العمل القاسي الشديد، فاستقر رايهم (الآلهة) على خلق الانسان: ليذبح ولتأخذ ننتو (الالهة الام) دمه ولحمه وتجبل طينا حتى يختلط الاله والانسان في الطين.
فالخلق إذن يكون بشكل تدريجي. اذ يبدأ، بالنور والظلمة، فاليابسة، فالنبات، فالنجوم، فالسمك، فالطيور فالحيوانات والحشرات ومن ثمّ الانسان.
2- قصة الانسان و(الخطيئة) في البستان: وأما في المقطع الثاني الذي بودنا أن نعالجه هو: النص المقدس: "وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي خلقها الرب الاله. فقالت للمرأة: "أحقا قال الله: لاتأكلا من جميع شجر الجنة ؟ "فقالت المرأة للحية:" من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا ". فقالت الحية " لا لن تموتا، ولكن الله يعرف أنكما يوم تأكلان من ثمر تلك الشجرة تنفتح أعينكما وتصيران مثل الله تعرفان الخير والشر". ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهية للعين، وأنها باعثة للفهم، فاخذت من ثمرها وأكلت وأعطت زوجها أيضا، وكان معها فأكل. فأنفتحت أعينهما فعرفا أنهما عُريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا لهما مآزر. فنادى الرب الاله آدم وقال له: أين أنت ؟ فأجاب سمعت صوتك في الجنة، فخفت ولأني عريان أختبأت. فقال الرب الاله: من عرفك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لاتأكل منها ؟ فقال آدم: المرأة التي أعطيتني لتكون معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الاله للمرأة: لماذا فعلت هذا ؟ فأجابت المرأة: الحية أغوتني فأكلت". نجد في هذا النص المقدس، أجوبة دينية عديدة، لأسئلة طالما، يسألُها الإنسان أينما كان والى اليوم: وتدور هذه الاسئلة بمعظمها حول الانسان نفسه والكون الذي يحيط به والشمس والقمر والنجوم والكواكب والمرأة والشر والموت والخلود وعلاقة الإنسان بالآخر ولاسيما بالمرأة والحيوانات والنباتات والطبيعة بالعموم. ويحاول الكاتب ان يجيب على كل هذه الاسئلة بأسلوب اسطوري استقاه الشعب اليهودي من آداب الشعوب المجاورة ولاسيما الادب السومري والبابلي والكلداني - الآشوري. ونجد في هذا المقطع، ان الله يخلق الانسان (آدم وحواء) ويقيمه وكيلا وسيّداً للكون ليدير شؤونه وليجعله صالحاً للسكن له ولنسله. ويسمي الأشياء والكائنات الحيّة بمسمياتها. وفي هذا نجد ان الله يظهر أهمية الانسان وكرامته، فهو لم يُخلق ليكون عبدا لله أو مسّيرا منه، وانما يخلق حراً ومُخيّراً في أعمال الخطيئة وفي أعماله الاخرى. ان الكاتب يتكلم عن الانسان الاول منذ بداية ظهوره على الارض بتعابير لاهوتية وفلسفية وليس بتعابير علمية، فهو يتكلم عن فجر البشرية ولا يدّعي إمتلاكه سجلات البشر الأوائل الذين سكنوا العالم منذ العصور الحجرية القديمة. ويريد ان يقول: إن محبة الله هي السبب الرئيسي التي من أجلها وُجدت الخلائق كلها وأن العالم ليس وليد صدفة، كما يدّعي بعض العلماء وبعض الفلاسفة، بل هو ثمرة من ثمرات مُخطط الله الآب المُحب الذي من فيض حبه أعطى الوجود لجميع الكائنات. ويريد الكاتب ان يقول: إن الانسان (كل إنسان) هو مُجرّد حفنة من تراب نفخ فيه الله نسمة الحياة، ويُسميه الكاتب (آدم - التراب الأحمر) والمرأة، ويسميها (حواء - السيدة الحياة)، ومعنى هذين الاسمين (السيد الانسان والسيدة الحياة). من الاسطورة البابلية في الالف الثاني قبل الميلاد: ان ملك الآلهة، خالق البشر، والاله ايا الذي جبل طينتهم والآلهة التي صنعتهم قد وهبوا للانسان روحا فاسدا وأعطوه للأبد لا الصدق بل الكذب. فالانسان إذن مخلوق من لاشىء وليس فيه شىء من جثث الآلهة كما تدّعي القصص الاسطورية البابلية. ولهذا فإن الكاتب يُركز على علاقة الله بالانسان والكون وعلاقة الرجل بالمرأة، هذه العلاقة التي بدأت وكأنها العلاقة نفسها بين الله وشعب اسرائيل في سيناء، التي يُعبر عنها بعلاقة العهد (العهد بين الله والانسان)، هذا العهد الذي يعني أن يكون شعب اسرائيل أمينا مع الله وان لا يعبد غيره من الالهة (لايكن لك آلهة تجاهي) الخروج 20: 3. فهذه العلاقة أو العهد يُعبَّر عنها هنا بإسلوب إسطوري وتعليمي جميل جداً، وهي ان يكون الانسان (كل إنسان) أمينا للرب، وأن لا يتعدى حدوده المرسومة له. ولكن وللاسف الشديد يدخل الشر في العالم نتيجة خطيئة الانسان الاختيارية، فكما ان الانسان يخلقه الله في الفردوس ويضعه تحت حمايته (بركته) فإذا زاغ واخطأ يخرج من تحت حمايته (بركته)، فحينئذ فقط يشعُر بعريه (انفتحت اعينهما فعلما انهما عريانان) "تكوين 3 :23"، وموتا يموت (فأنت يوم تأكل منها موتا تموت) " تكوين 2 :15 "، ويقصد بالموت الهلاك الروحي أو الموت الروحي. مقطع من ملحمة جلجامش: يجد جلجامش ثمرة الحياة بعد جهد جهيد، فيرأى بئرا مياهه عذبة، فينزل اليه ليغتسل. حية تشم رائحة الثمرة، فتخرج من الارض لتأكل الثمرة وتغيّر جلدها القديم. فيبقي جلجامش هناك ويبكى الى الابد وتسيل دموعه. فالرجل والمراة هما من طبيعة واحدة وانهما يختلفان عن الحيوانات. وعلاقتهما ليست، علاقة سيد ومسود، بل علاقة شريكين على نفس المستوى. وفي قصتنا يتعجب الرجل حين يرى المرأة لانها تكافئه، وأما في الاساطير االقديمة، فالمرأة غير متكافئة وغير محترمة كسيدة وشريكة حياة للرجل، كما نراها هنا في هذه القصة من التكوين التوراتي. والشىء الوحيد الذي من أجله تُحترم المرأة في الاساطير هي انها مصدر للتكاثر. وبعد ان يجبل الله الانسان (ادم ـ السيد الانسان) ويُسكنه في جنة عدن (الفردوس) ويخلق له شريكة الحياة (حواء ـ السيدة الحياة) ويقيمهم وكلاء له ومسؤولين عن كل ما خلق، ويضع فيها كل ما كان الانسان يتمناه: واحة خضراء مليئة بالاشجار المثمرة والمياه الغزيرة، إضافة الى الانهر الاربعة التي كانت في الفردوس. وتمتده هذه الجنة (الفردوس) جغرافيا لتشمل الارض كلها (المعروفة سابقا). فهذا الفردوس ليس حُلماً جميلاً فقدناه، بل عمل يجب أن نقوم به وغاية مستقبلية مُثلى علينا تحقيقها بالعمل الدؤوب لحراثة الأرض وتشجيرها وتنظيفها وزرع الخير والسلام والمحبة في كل مكان. واستخدام كل شىء في هذا الكون البديع لمجد الرب الاله ولخدمة البشر، مهما كان لون بشرتهم وجنسهم ودينهم. وبعد ان تُغري الحية المرأة بالأكل من الثمرة الممنوعة ومشاركة الرجل بالاكل منها، يدعو الرب الاله آدم وحواء وكذلك الحية ليقاصصهم بدءًا بالحية ثم المرأة ثم الرجل، فيُطردون من الجنة أي من (الحياة مع الله). ونجد هنا أن للحية دوراً مهماً مع ان الكل يعلم أن الحية لا تتكلم، ليس الان ولا في عهد الإنسان الأول. والحية تلعبُ دوراً شبيهاً في الاساطير القديمة ولاسيما (اسطورة جلجامش)، حيث نراها تسرق منه (ثمرة الحياة) بالحيلة، فيصبح الانسان مغلوباً على أمره، فيعود الى مدينته (اوروك) خالي اليدين. فأن كان اختيار " الحية " رمزاً اسطورياً مشابهاً للاديان القديمة، الا ان مفهوم الخطيئة هو مفهوم خاص بالكتاب المقدس لا نجده في الاساطير القديمة، سواء كانت اساطير بابلية أو مصرية. والشر (الخطيئة) في قصة التكوين هو إختيار شخصي للإنسان وحرمانه من شجرة الحياة كان بارادته الحرة واختياره الخاص، ولم يكن بسبب مباشر من الحية (دور المجرب) ولا بفعل عملها هي. ولكن في الاساطير القديمة، فالانسان لا حول له ولا قوة، وهو خادم للالهة ومجبول بالشر من الآلهة، يفقد الخلود بالصدفة المؤلمة. وهذه بعض التوضيحات والتفسيرات لنص مقدس من نصوص سفر التكوين، مع نص من نصوص الاسطورة البابلية: النص من سفر التكوين: + يخلق الله الانسان من تراب وهو هباء (لاشىء). + يخلق الله الانسان من منطلق المحبة الفائضة. + يخلق الله الانسان حُرا في ارادته وفي تصرفه ومُخيّرا في افعاله. + يخلق الله المرأة شريكة مساوية للرجل تُكافئه. + تلعب الحية دورا ثانويا (كمجرب). + يعدّ الله الارض كلها فردوس يفقده الانسان كلما اخطأ وأبتعد عن الله. النص من الادب البابلي: + تخلق الالهة الانسان من الطين الممزوج بدم الاله المقتول. + تخلق الالهة الانسان لحاجتها الى معين، يساعدهم في اعمالهم. + تخلق الالهة الانسان كعبد وهو غير حر، وهو ليس مُخيّيرا في اعماله. + تخلق الالهة المرأة رمزاً للتكاثر ولهذا كانت تعدّ مقدسة. + للحية والتنانين والعقارب والوحوش المفترسة دور مهم جدا في الاساطير. + العالم مخيف وملىء بالشرور والاكاذيب.
المصادر: ـ الاسطورة والمعنى، فراس السواح، مقالة في موقع "المعابر". ـ الاسطورة والتاريخ، فراس السواح. مقالة في موقع " المعابر". ـ محاضرات الاب المخلصي لوسيان كوب في المعهد الكهنوتي في بغداد 1982. ـ الاساطير، دراسة حضارية مقارنة، الدكتور احمد كمال زكي. ص (6 و 196). ـ هو الذي رأى، عبد الحق فاضل، ص (9 و 32 و359) ـ قصة الديانات، سليمان مظهر. ص (49 ـ 66). ـ دليل الكتاب المقدس، اسطيفان شربانتييه. نقله الى العربية الاب صبحي حموي اليسوعي.دار المشرق، بيروت لبنان. ص (6 و 10 و18 و 21 و 39 و 72).
#صبري_المقدسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل نحن وحدنا في الكون الواسع واللامحدود
-
روسيا تعود من جديد
-
من يقود الحركة التنويرية في العالم الإسلامي اليوم؟!!
-
متى تتحرر مجتمعاتنا من تصلب العقول والإنغلاق الفكري؟!!
-
الديمقراطية انجح وسيلة لتحرير العقول
-
90 مليون تحية للشعب المصري
-
لماذا لا يحق للأكراد، ما يحق للآخرين
-
مفهوم الصليب والقيامة في المسيحية
-
مريم العذراء الحواء الثانية
-
بولس رسول الأمم
-
انتشار المسيحية الكنيسة الشرقية - (آسيا )الحلقة الاولى
-
إنتشار المسيحية أوروبا (الحلقة الثانية)
-
رموز عيد الميلاد: -البابا نوئيل ( سانتا كلوس Santa Claus )-
-
مفهوم القربان المقدس (الافخارستيا) في المسيحية
-
الطوائف اليهودية في عهد المسيح
-
النصوص المسيحية غير القانونية (الكتب المنحولة)
-
النصوص المسيحية المقدسة
-
المسيحية: هل هي ديانة أم مُجرّد تعاليم أخلاقية وإنسانية
-
نشوء المسيحية: البيئة والخلفية التاريخية
-
المُختَصر في تاريخ المسيحية
المزيد.....
-
Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
-
خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت
...
-
رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد
...
-
مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
-
عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة
...
-
وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب
...
-
مخاطر تقلبات الضغط الجوي
-
-حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف
...
-
محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته
...
-
-شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|