أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - تلك البلاد التي خذلناها















المزيد.....



تلك البلاد التي خذلناها


صبري هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 4419 - 2014 / 4 / 9 - 15:19
المحور: الادب والفن
    


***
يوميات غزو أنشرها كما كتبتها منذ 11 سنة .. لأن رأيي لم يتغير بما حدث .
***

* الربيعُ لم يعلنْ عن ضحكةٍ محتملةٍ والفصولُ التي سبقتْهُ قالت : إنَّ الربيعَ لن يأتيَ هذا العام وربما بالعراقِ لن يمرَّ بعد ، والحافلةُ التي امتعضتْ مِن الكلامِ استسلمتْ في الختامِ وواصلتِ الطريقَ . الحافلةُ لا رغبةَ لها في المشاكسةِ . سأُشاكسُها بدرعِ الجزيرةِ .. سأُقدِّمُ عليها درعَ الجزيرةِ ـ المقصود هنا درع الجزيرة العربية المتكون مِن البلدان الستة ـ الذي وقفَ على أُهبةِ الاستعدادِ دفاعاً عن الكويتِ ضدّ ضربةٍ محتملةٍ مِن العراق كما تقولُ الأخبارُ اليومَ ونحن في السادسِ عشر مِن مارس عام 2003 . توقّفي أيَّتها السلحفاةُ الألمانيةُ فدرعُ الجزيرةِ سيمسحُ بك الأرضَ كما سيمسحُ العراقَ لاحقاً !
* منذُ شهورٍ نُتابعُ تطبيقاتِ القرارِ الأمميّ 1441 القاضي بنزعِ أسلحةِ الدمارِ الشاملِ العراقيةِ . منذُ شهورٍ والعالمُ بأسرِهِ يرعدُ ويزبدُ ضدّ الحُفاةِ الذين لا يملكون قوتَ يومِهم وليس أسلحةً لدمارٍ شاملٍ . كيف سأَقْنِعُ كوفي عنان وهذا العالمَ المنفلتَ ـ الذي يتعهّرُ في أعلى شرفةٍ فيه السيدان جورج دبليو بوش وطوني بلير ـ أننا لانملكُ سلاحاً مُدمراً ولا أحذيةً لأطفالِنا .
* مساء السادس عشر مِن مارس مِن العامِ 2003 صدرَ مِن جُزرِ الآزور إعلانٌ عن قمّةِ الدولِ المؤيدةِ للحربِ تحت اسم " بيان القمة الأطلسية : رؤية للعراق والشعب العراقي " . هكذا وضعَ لنا السادةُ ، جورج دبليو بوش رئيس الولايات المتحدة وطوني بلير رئيس وزراء بريطانيا وخوزيه ماريا أثنار رئيس الحكومة الاسبانية ورئيس الوزراء البرتغالي مانويل دوراو باروسو ، رؤيةً جديدةً ستُخرجُنا مِن المأزقِ الذي نحن فيه وبالحربِ ، لأنَّ السادةَ الأربعة سادةُ حربٍ وإعلانهم إعلانُ حربٍ ومِن جُزرِ الآزور التي لم يسمعْ بها العراقيُّ المغلوبُ على أمرِهِ . وجُزرُ الآزور هذه عبارةٌ عن أرخبيلٍ يتكوّنُ مِن تسعِ جُزرٍ رائعةِ الجمالِ متناثرة في المحيطِ الأطلسي أمام سواحلَ البرتغال وهي : جزيرةُ كورفو ، فايال ، فلوريس ، غراكيوزا ، بيكو ، سانت ماريا ، سان جورج ، سان ميجويل ، وتيرسيرا . وتعتبر جزيرةُ سان ميجويل أجمل هذه الجزر . يقولُ البيانُ :
" لقد اختطف صدام حسين الشعب العراقي الموهوب ذا الثقافة الثرية والإمكانيات الهائلة . فقد حول نظامه الوحشي بلداً ذا تاريخ طويل أبيّ إلى دولة منبوذة عالمياً تقمع شعبها ، وشنت حربين عدوانيتين ضد جيرانها ، ومازالت تشكل تهديداً خطيراً لأمن منطقتها والعالم "
إذن نحن شعبٌ موهوبٌ ونملكُ ثقافةً ثريةً وإمكانياتٍ هائلةً ولَسْنا رعاةَ بقرٍ ولا قاطعي طريقٍ ولا قتلةً للشعوبِ الأخرى ولم نذبحْ الهنودَ الحُمْرَ لأننا نملكُ ثقافةً ثريةً باعترافِكم أي أننا نملكُ قيماً وأخلاقاً ولسْنا فقراءَ الحالِ فإمكانياتنا هائلة ، وبلدُنا له تأريخٌ " عريقٌ " طويلٌ كما يقولُ البيانُ . فلننصتْ لهذه القراءةِ ولنبشِّرْ العراقيين بالموتِ والدمارِ لأنَّ أميركا لا تُريدُ بلداً عريقاً وحضارةً عريقةً . رعاةُ البقرِ هؤلاء يرومون تحويلَنا خدماً لهم فهم حاقدون على كلِّ حضارةٍ وتاريخٍ لأنهم بلا حضارةٍ وبلا تاريخ .. لأنهم مسوخٌ وبلا أصولٍ .
* سيأتي ملاكُ الرغبةِ يدقُّ أبوابَ الدارِ أو يحرقُ فوق رؤوسِنا بقيةَ أحلامِ اليقظةِ .. سيأتي الطيرُ الآبقُ . مِن أين ؟ متى ؟ نحن في اليومِ السابع عشر على الثامن عشر مِن مارس .. نحن في يومِ الأثنين .. نحن نقيمُ على مشارفِ تكساس أو في شيكاغو . أين نقيمُ نحن ؟ لا ندري ! فالسيدُ السكّيرُ القابعُ في البيتِ " الأسود " الأبيض ، يعطي مهلةَ ثماني وأربعين ساعةً لصدام حسين وبنيه عدي وقصي لكي يتركوا العراق . السيّدُ المُتحضِّرُ يأمرُ صاحبَ الأرضِ بأنْ يتركَ أرضَهُ . يأمرُ المواطنَ ، بالرغمِ مِن اختلافِنا معه ، بأنْ يتركَ وطنَهُ . السيّدُ المُتحضِّرُ الديمقراطيُّ لا ينتظرُ ردّاً إيجابياً مِن الحاكمِ في بغداد ، فالحاكمُ لن يتخلّى عن الحكمِ ولن يبرحَ المكانَ . لن ينتصرَ للحاكمِ الظالمِ أحدٌ فيما ينتصرُ للباطلِ في بريطانيا البرلمانُ .. صوّتَ للحربِ البرلمانُ وتَبَخْتَرَ كالطاووسِ توني بلير .
خبرٌ لافتٌ للاهتمامِ نُذيِّلُ به الكلامَ : اختفى مِن مقرِّ إقامتِه في الدنمارك هذا اليوم السيدُ نزار الخزرجي ولم تُعرف وجهتُهُ والسيدُ نزار كان رئيساً لأركانِ الجيشِ العراقي .
* الأربعاء ومازالت حروبٌ إعلاميةٌ تُلاحقنا وأخرى بالصواريخِ تجري في مكانٍ بعيدٍ عن برلين إنما في وسطِ قلبي تجري .. وإلى المنافي تُلاحِقنا سلطاتٌ نَجْهلُها ولا نعلمُ منها إلاّ السلطةَ الرابعة فاليوم ، التاسع عشر مِن آذار 2003 ، اجتمع عصراً مجلسُ الأمن الدولي وأدانت بلدانٌ رخوةُ المنطقِ واهنةُ الخطوةِ أصواتَ الحربِ .. كانت ألمانيا ، فرنسا ، روسيا ، سوريا . بلدانُ ترفضُ الحربَ لكن رَفْضَها رَفْضُ المُغيبِ عن سلطةِ القرارِ .. رَفْضُ المتثائبِ في مساءٍ رَخْصٍ ، والوقتُ ماضٍ كالحسامِ . المهلةُ التي تكرّمَ بها مجنونُ البيتِ " الأسود " لم يبقَ منها إلاّ دقائق .. مئاتُ الملايين مِن عيونٍ بشريةٍ مشدودة إلى أجهزةِ التلفزةِ ومئاتُ الملايين مِن الآذانِ مُنصتة إلى أجهزةِ الراديو . أكاد أجزمُ على أنَّ نصفَ البشريةِ تترقبُ ما سوف يحدثُ في بغدادَ بعد اثنتي عشرة دقيقة . هل قلتُ بغداد ؟ أجل وإلاّ ما تفسير وجع القلبِ لقد آلامني اللعينُ ؟ أجل هي بغدادُ الموضوعةُ في هذا الليلِ على كلِّ شاشاتِ الدُّنيا .. بغدادُ عروسُ الشرقِ وعاصمةُ الرشيدِ التي ستُزَفُّ إلى المقصلةِ هذه الليلة . بغداد التي نراها الآن قبلَ انقضاء المُهلةِ بدقيقتين وفي الساعةِ الثامنةِ مساء من يومِ الأربعاء حسب توقيتِ واشنطن والثانية من صباحِ الخميسِ حسب توقيتِ برلين والرابعة من صباحِ الخميسِ حسب توقيتِ الضحيةِ . نحن الآن في المدارِ الجحيمي للترقُّبِ الأبله . نحن مخطوفون في عربةِ راعي البقرِ الهمجيةِ ومازلنا دون حراكٍ منذُ السوطِ الأولِ الذي تلقيناه على مؤخرةِ الأمةِ . بغدادُ هادئةٌ في الليلِ .. ضاحكةٌ في الليلِ .. تدمعُ في الليلِ عيناها فينحدر الدمعُ إلى دجلةَ .. تبكي على ضفافِ دجلة . الجسورُ مِن السابلةِ خالية .. مِن السّياراتِ والراجلةِ خالية .. نحن العراقيين أخطأنا خطأً كافراً بحقِّ بغداد . كان علينا أنْ ننتخبَ مَنْ يسكن بغداد .. كان علينا أنْ لا نجعلَ بغدادَ عرضةً لكلِّ مِن هبّ ودبّ .. كان علينا أنْ لا نسمحَ إلاّ للكرماء وأعزاء النفوسِ والشرفاء مِن القومِ ، السكن في بغداد . كان علينا أنْ ننتقيَ من بيننا الحكماءَ والعقلاءَ مِن الناسِ لكي يسكنوا بغداد . كان علينا أنْ نبعدَ عنها الغوغاءَ والرعاعَ والدهماءَ . كان علينا أنْ نصونَها وندافعَ عنها بالأخيارِ منّا إنما الآن ـ ونحن نرى مِن على الشاشاتِ صمتَ بغداد و وداعةَ بغداد و حيرةَ بغداد التي تُنبؤنا بمصيرٍ مجهولٍ ـ فالوقتُ متأخر . أيُّها الإنسانُ مِن أيّ جنسيةٍ ودينٍ .. أيُّها الإنسانُ مِن أيّ شكلٍ ولونٍ .. أيُّها الإنسانُ مِن كلِّ حدبٍ وصوبٍ أسألُك سؤالَ الملهوفِ : هل تستحقُّ بغدادُ التي تراها عبرَ الشاشةِ أنْ تُضربَ بصاروخٍ عابرٍ للقاراتِ أو منطلقٍ مِن بارجةٍ حربيةٍ تتعهّرُ في مياهِ الخليجِ العربي ؟ هل تستحقُّ بغدادُ التي تراها الآن مِن على شاشاتِ التلفزةِ وفي كلِّ أنحاءِ الدُّنيا أنْ تنزلَ عليها آلافُ الأطنانِ مِن قنابل الحاملات ب52 ؟ هل تستحقُّ بغدادُ التي قرأتَ عنها تاريخاً مجيداً أنْ تُرمى بوردةٍ ؟ مهما كان نوعُ الوردِ ؟ هل تستحقُّ بغدادُ مدينةُ السلامِ أنْ تُذْبَحَ باسمِ السلامِ العالمي؟
عيونُ مراسلِ قناة الجزيرة العراقي ديار العمري تستكشفُ السماءَ . إنّها معلقةٌ في السماءِ . عمّاذا تبحثُ أيُّها الموصليُّ فأنتَ لن ترى شيئاً سوى انفلاقِ الصواريخ في كبدِ بغداد .. في روحِ بغداد .. في روحي . في روحِ كلِّ إنسانٍ . انتهت المُهلةُ ومرّ مِن الوقتِ إحدى عشرة دقيقة . أظنُّ أنّهم لن يعبثوا بالوقتِ وسوف يترتبُ علينا حسابُ الزمنِ والمسافةِ بشكلٍّ دقيقٍ، فالزمنُ الذي يستغرقه أيّ صاروخٍ أو طائرةٍ مُنطلقةٍ مِن على ظهرِ حاملةٍ مِن الخليجِ حتى بغداد لن يكونَ أقلّ مِن نصفِ ساعةٍ .
أخذتني غفوةٌ .. أخذتني سَوْرَةٌ .. أخذتني سنّةٌ مِن نومٍ .. سمعتُ صرخةً ونداءً : استيقظْ لقد ذُبحتْ . نُحِرتْ . نهضتُ مفزوعاً . مَنْ ؟ . بغداد . قالت اليمامةُ . نظرتُ إلى التلفاز الذي ظلّ الليلَ صاحياً رأيتُ بغدادَ تتلوّى تحت ضرباتِ أكثر من أربعين صاروخاً انطلقتْ مِن مياهِ خليجِنا العربيّ أو الفارسيّ الإسلاميّ هذا لا يهم فالكلّ موغل حتى أذنيه بالخيانةِ . الساعةُ تشيرُ إلى السادسةِ والنصفِ صباحاً . رأيتُ "صداماً" بالزيَّ العسكريّ ، بالنصرِ متوعداً ورأيتُ السيدَ بوش متعهداً للعوائل ، الأمريكية ، بعودةِ أبنائهم ويتوعدُ بالنصرِ . يقول : " العراق بلد كبير وذو حضارة ولذلك فإنّ حملتنا ستطول ". أبشروا أيُّها العراقيون فالحملةُ تهدفُ للقضاءِ على حضارتِكم . الحربُ بدأت في الساعةِ الخامسةِ وثلاث وثلاثين دقيقة بتوقيتِ بغداد والصاروخُ الأول خرج من سفينةٍ في الخليجِ وبوش يلقي خطاباً مِن أربعِ دقائق قال إنه سيعودُ بعد تحريرِ العراق وتسليمه لأهلِه وأميركا ليست طامعةً بالعراق ! . محاولةٌ ساذجةٌ لاستغفالِ الرأيّ العام .. لاستغفالِ العالمِ . هذا كذبٌ صريحٌ يا سيادة الرئيس .. القادةُ الكبارُ في العالمِ هم أكبر الكذابين على سطحِ الكوكبِ. إنّهم لم يأخذوا درساً في الأخلاقِ التي تمنع إطلاقَ الأكاذيبِ.
ذبحوا السلامَ في مدينةِ السلامِ إذاً .. اليوم في العشرين مِن مارس سنة 2003 والعالم يغلي تنديداً .. مظاهراتٌ ضدّ إبادةِ الجنسِ البشريّ في العراق في كلِّ مكانٍ . برلين واحدةٌ مِن العواصمِ المُنددةِ تنفجّرُ ضدّ الحربِ كانفجارِ دمعةٍ في عينِ يتيمٍ . برلين يعصفُ بها الرفضُ ولم يعصفْ بأبناءِ جلدتِنا مِن العراقيين بكلِّ قومياتِهم وطوائفِهم . لم أرَ وطنياً واحداً في كلِّ المظاهراتِ التي نُظِّمت هنا في برلين . لم أرَ بعثياً واحداً يُنددُ بالحربِ وضدّ الإطاحة بنظامِهِ الدمويّ . مئاتُ البعثيين في برلين ذابوا كفصوصِ الملحِ . أين هؤلاء الأوغادُ الذي حلبوا العراقَ حتى القطرةِ الأخيرة ؟ . خرج بعضُ الشيوعيين بموجبِ مبدأ التقيةِ .. في الظاهرِ كانوا ضدَّ الحربِ ولسانُ حالهم يقولُ نحن معها .. عوّدنا هؤلاء عَبْرَ عشراتِ السنين على أنْ تكونَ لهم سياستان لا سياسةٌ واحدةٌ ويكونَ لهم لسانان لا لسانٌ واحدٌ . بعد ساعتين انفضّت الحشودُ وعاد كلٌّ إلى مأواه . مِن مكتبةٍ في ميدانِ الكسندر ابتعتُ روايةَ جورج أوريل " 1984 " في الواقعِ لا رغبةَ لي في القراءةِ .. لا رغبةَ لي في الحديثِ .. لا رغبةَ لي في التنزّهِ . عُدتُ إلى البيتِ لكي أظلَّ مشدوداً إلى شاشةِ التلفاز .. لكي أكونَ شاهداً على موتِ أهلي وهم يتساقطون بصواريخِ ورصاصِ الأمريكان وبمباركةٍ مِن أحزابِ المعارضةِ العراقيةِ .. هذه المعارضةُ التي لم تُقدمْ للعراق شيئاً غير الدمارِ والخرابِ ومنذُ عقودٍ .. المعارضةُ هذه هي المسؤولةُ عن عدمِ استقرارِ العراق منذُ تأسيسِ الدولةِ العراقيةِ وإذا كان لابدّ مِن الإشارةِ إلى مَنْ تحالفَ مع الأمريكان بالاسمِ فلا بأس مِن تسميتِها وهي : الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني ، الإتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني " بطل مذبحة بشتاشان التي نظمها ضد الشيوعيين " ، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة محمد باقر الحكيم ، حركة الوفاق بقيادة إياد علاوي ، المؤتمر الوطني بقيادة أحمد الجلبي ، الحركة الملكية الدستورية بقيادة علي بن الحسين . هذه الأحزابُ الستة المشاركةُ في الحربِ والتي أغوتْ الولاياتِ المتحدة بالتدخلِ لضربِ العراق ومِن ثم غزوه واحتلاله .
* أيُّها العراقيُّ "الوطنيُّ" المَنفيُّ ماذا تقولُ وأنتَ ترى بلدَك يحترقُ مِن على شاشاتِ التلفزةِ ؟ ما هو شعورُك وأنتَ ترى الصواريخَ "الديمقراطيةَ" تتساقطُ على المدنِ العراقيةِ ؟ هل عرفت قوةَ أعصابِك وأنتَ تشاهدُ أشلاءَ البشرِ تتناثرُ في السماءِ ؟ ما هي قدرتُك على رؤيةِ أطرافِ الأطفالِ المنزوعةِ بفعلِ القنابل المباركةِ مِن أحزابِ معارضتِك الوطنيةِ والقوميةِ ؟
هذه الأسئلةُ كان لا ضرورةَ لها لأنني اكتشفتُ ، غيرَ آسفٍ ، فيما بعد أنَّ تدميرَ العراقِ لا يعني أحداً مِن العراقيين في بلادِ الغربةِ وأنّ الولاءَ في الوقتِ الحاضرِ ليس للعراق إنما للقومياتِ الصغيرةِ والمذاهب والطوائف و للمصالح التي تدرُّ مالاً كثيراً .
* سقطتْ الفاو بعد منازلةٍ قصيرةٍ وأعلنتْ حكومتُنا الموقرةُ ذلك اليومَ الجمعة في 21 ـ 3 ـ 2003 وبقينا أسرى الكرِّ والفرِّ الإعلاميّ حول أمِّ قصرٍ : سقطت أمُّ قصرٍ .. لا لم تسقطْ أمُّ قصر .. سقطتْ . لا لم تسقطْ . وماذا تنفعُ أمُّ قصرٍ سواء سقطتْ أم لا فالميناءُ مغلقٌ والبحرُ مشتعلٌ بنيرانِ الهمجيةِ الديمقراطيةِ القادمةِ مِن وراء البحارِ . سقطت الفاو بعد حصادٍ بشريٍّ وبعد أنْ مهّدَ الجارُ الشقيقُ العربيُّ ، المسلمُ ، الكويتيُّ الحقودُ والجارةُ المسلمةُ اللدودُ إيران ، السبيلَ للغزاةِ . حقدٌ قوميٌّ وطائفيٌّ لم يتوقفْ منذُ القادسيةِ الأولى .. منذُ انكسارِ الفرس وانتزاعِ التاجِ الإمبراطوريِّ مِن على رأسِ مليكهم على يدِ سعد بن أبي وقّاص . الفرسُ لن ينسوا هذه الواقعةَ . كلُّ الأجيالِ اللاحقةِ دفعتِ الثّمنَ وما زلنا ندفعُ . يا إلهي كم سندفعُ عبرَ التاريخِ مِن أثمانٍ منذُ نبوخذ نصر والسبيّ المزعومِ حتى اليومِ ؟ . أُسِّر بعضُ الجنودِ العراقيين الأبرياء .. في البصرةِ ثغرِ العراق الذي لم يعد باسماً ولا ضاحكاً .. التقطتهم شاشاتُ التلفزةِ الكونيةُ لتجعلَهم مادةً قادمةً لشركاتِ السينما في هوليوود . ليكونوا مادةً " وثائقيةً " مجانيةً مستقبليةً تسوّقها ضدَّنا متى ما عنَّ لها ذلك . لكن الأمريكانَ وحلفاءَهم اعترفوا بشراسةِ المقاومةِ في البصرةِ فاستعانوا بالمدفعيةِ عليها وعلى الموصل التي احتشدَ للاستيلاءِ عليها مقاتلون أكرادٌ مِن البشمركة .. احتشدوا على حدودِ أربيل ودهوك .. هل هؤلاء طلاّبُ ثأرٍ ؟ مِمَنْ ؟ أُتركوها للأمريكان يا أخوتنا . لا تتحملوا وزراً وتتركوا لنا ثأراً .. لا ترتكبوا إثماً ، جرماً ، لا تلبسوا الخطيئةَ فلحومُنا مرّةٌ ودماؤنا طاهرةٌ ، مثلُ دمائكم ، ولا تذهب هدراً . سنطالبُكم بدماءِ أبنائنا العرب .. نحن أمةٌ مستهدفةٌ .. نحن العربَ لابدّ لنا مِن إعادةِ بناءِ الوعيّ بشكلٍ صحيحٍ . لابدّ مِن تأسيسِ الوعيِّ بصورةٍ صحيحةٍ وبطريقةٍ هادئةٍ . لابدَّ مِن بناءِ الوعيّ العربيّ الشاملِ بطريقةٍ مغايرةٍ .
* حربُ الخليجِ الثالثةُ اشتدّ أوارُها .. في أمِّ قصر بقيّةُ ضميرٍ لجنديٍّ عراقيٍّ جعلت القتالَ يحتدمُ وفجعت الغزاةَ بصمودِها ثم جعلت القتالَ تكهّناً : سقطت أمُّ قصر لا لم تسقطْ والنظامُ يسحبُ الجيشَ مِن الصحراء إلى المدنِ حتى صارتِ الصحراءُ سالكةً لمرورِ القطعاتِ الغازية .. صارت الأرضُ ممهدةً حتى بغدادَ. الأمريكانُ هدفهم بغداد لا المدن الأخرى وهم يعلنون : إنَّ مُبتغانا " صدّاماً " وليس البنية التحتية والشعب العراقي . اكذبوا ، اكذبوا أيُّها الأوغادُ لقد سقطَ مِن القتلى عددٌ كبيرٌ وسُفِك مِن الدّمِ ما يكفي لأنْ تصطبغَ كلُّ أرضِ الولايات المتحدة باللونِ الأحمر . إنْ سقطت بغدادُ سقط العراقُ .. سُوّيت الأرضُ لهم مِن الدوحةِ حتى بغدادَ مروراً بالسعودية والكويت وإيران وحتى أجزاء مِن أرضِ العراق التي يُهيمن عليها أَتْباعُ أميركا وإيران . حربُ الخليجِ الثالثة أخبرتنا عن حجمِ الخيانةِ في العراق ، والنظامُ كان قد ضيّق على الشرفاءِ مِن أبناءِ العراق فصادر منهم الوطنَ والمنفى حتى جعلهم مشلولي الإرادة فلم يستطع أيٌّ منهم الدفاعَ عن الوطنِ ولو مِن الناحيةِ الإعلاميةِ . الطريقُ إلى بغدادَ سالكةٌ وهذا ما حدا بأَحّدِ المتخصصين في الشؤونِ العسكريةِ إلى أنْ يُطلقَ تفاؤلَهُ فقالَ إنّ الأمورَ تسيرُ بسرعةٍ غير متوقعةٍ حتى وضِعت إجراءاتٌ أخرى على الخططِ العسكريةِ .. " روبرت هيد بن " هذا محقٌ مِن جميعِ النواحي لأنَّ معادلةَ الحربِ خاطئة وأنَّ الكفّةَ غيرُ متساويةٍ والخيانة ، في صفوفِ العراقيين ، عظيمة لكنه نسيَ شيئاً بسيطاً هو أنَّ أمَّ قصر لم تسقطْ بعد!
في ليلِ العراق رددتِ النّائحةُ ما رددهُ الغائبون
علينا اشتدّ الظلامُ وزحفَ نحوَنا ـ يا هذا ـ البحرُ
فلنسكنْ إلى الأبدِ أرضَ شنعار
ولتُزَفّ مِن نينوى امرأةٌ للملكِ الصّغيرِ مِن كنعان
وبفساتينَ سود نحو أرضِ السوادِ ستأتي
نسوةٌ مِن أمواجٍ سحريةٍ ، لها سيحرقْنَ البخورَ
في الليلِ قالتِ النّائحةُ يا سيدي العراق
نحن آلهة الرؤيا ورأيْنا ما لم يرَ العرّافون
نحن سادة الرؤيا وقد رأينا الفواجعَ
فاحذرْ يا سيدي العراق
قالت الليلةَ نائحةٌ
قالت في المأتمِ ومِن عُمقِ الليلِ جاء صوتُها :
سنسكنُ إلى الأبدِ أرضَ السواد
سنسكنُ أرضَ شنعار ولو زحفتْ بدلاً مِن البحرِ بحارٌ
ننتظرُ السّحبَ الفاجرةَ
ونبحثُ في القصفِ "الإنسانيّ" عن وجهِ الملاكِ
الذي سيمنحُنا أطباقَ الحلوى
ويأخذُ منّا في الصّبحِ عفّةَ بغداد
تقولُ النائحةُ :
سنسكنُ بلادَ العجائب
* على أشلائنا مرّ الغزاةُ والكويتيون .. في بلادِنا شبّ الحريقُ ، فلتحترقْ آبارُ النّفطِ ولينسحبْ البحرُ فنحن مازلنا في باديتِنا الأولى . ونحن نستمعُ للطرحِ المجنونِ في مؤتمرٍ صحفيٍّ لوزيرِ الدِّفاعِ الأمريكي السّيد دونالد رامسفيلد يقولُ إنّ قصفَنا على العراق كان " قصفاً إنسانياً " . هل سمعتم عن قصفٍ إنسانيٍّ ؟ وفي هذا اليومِ الجمعة المصادف 21 ـ 3 ـ 2003 اشتدّ على بغدادَ القصفُ وتكثّفتْ الغاراتُ التي سُميت غاراتِ " قطع الرؤوس " لكن أمَّ قصر لم تسقطْ بعد .
* صباح الخير يا عراق .. صباح الخير يا أمَّ قصر .. صباح الخير يا فاو .. صباح الخير أيّتها الحبيبةُ بغداد . نحن اليوم في السبتِ ندخلُ ونُسجِّلُ تأريخاً ، للمتحضرين " الهمج " ، دموياً . نحن في 22 ـ 3 ـ 2003 ومازلنا نُرددُ الألغازَ :
سقطتْ .. لم تسقطْ . سقطتْ .. لم تسقطْ . صباح الخير لمَن لقّنَ الغزاةَ درساً بليغاً لن ينسوه . صباح الخير أيُّها الفاو .. أيُّها الميناءُ .. أيّتها البلدةُ الصغيرةُ التي سقطتْ ومازالت تُقاوم !! صباح الخير يا أمّ الرجال يا أمّ قصر .
* عاد أطفالُ البصرةِ بحلوى البارودِ التي وزّعَها عليهم السيدُ رامسفيلد مِن على جسرِ الزبير .. عادت نساءُ البصرةِ بهدايا السّيدِ بوش التحرريةِ وبشالِ امرأةٍ " علويةٍ " أهداهُ لهنَّ بعد أنْ صلّى عليه " السيد " محمد باقر الحكيم الطباطبائي وباركه آيةُ الله خامنئي . عادت نساءُ البصرةِ وأطفالُهنَّ على أبشعِ صورةٍ تعرضُها قنواتُ التلفزةِ لمجزرةِ جسرِ الزبير التي راح ضحيتَها خمسون مِن الأطفالِ والنساءِ . لقد أمحتْ ملامحَهم الصواريخُ . لم أرَ في حياتي صورةً أبشعَ مِن صورِ المجزرةِ التي اُرتكبتْ فوق جسرِ الزبير ولم أرَ وجهاً أبشعَ مِن وجهِ " فكتوريا كلارك " الناطقةِ الرسميةِ باسمِ وزارةِ الدفاعِ الأمريكية . إنّها قاسيةُ الوجهِ ، غليظةُ القلبِ ، ففي مؤتمرٍ صحفيٍّ عقدتْهُ في الساعةِ العاشرةِ والربعِ مساءً تحدثت وكأنها مصّاصةُ دماء.
* صورٌ للموتِ .. صورٌ للدمارِ .. صورٌ للقتلِ .. صورٌ للرعبِ في البصرة .. صورٌ في الناصرية .. صورٌ للإبادةِ في السليمانية جاءت بعد أنْ ذبحوا جماعةً إسلاميةً بالإتفاقِ مع القائدين الكرديين مسعود وجلال .. أفتحُ عيني أرى صوراً .. أسدُّ عيني أرى صوراً . يقولون إنّ هذه الصورَ لا تُعرضُ في أمريكا وبريطانيا . نعم أنها لا تُعرضُ في كلِّ أوربا خوفاً على مشاعرِ الطبقةِ الأولى مِن البشرِ. ويقولون إنّ خمسمائة صاروخ مِن نوعِ كروز سقطت على بغداد اليوم.
* صباح الخير يا وطني .. صباح الخير يا أهل البصرة .. صباح الخير يا أهل الموصل .. صباح الخير يا أهل العراق .. صباح القصفِ والدّمارِ والرعبِ وأنا في الحومةِ معكم . تموتون معكم أموتُ . تعيشون معكم أعيشُ . الموتُ في الغربةِ أشدّ فتْكاً . هل تعلمون ذلك ؟ خاصةً إذا كان أبناءُ جلدتِك مِن الخونةِ . صباح الخير ونحن ندخلُ في رعبِ الزمانِ في التسجيلِ الذهنيِّ في الصورةِ العابرةِ للهاثِ في الثالثِ والعشرين مِن آذار مِن العام 2003 وأمّ قصر لم تسقطْ . الضميرُ الحيُّ للجنديِّ العراقيِّ العربيِّ مازال يقاومُ . خسئت كلُّ المعارضةِ . خسئ كلُّ أشباهِ الرّجالِ في المعارضةِ . صار حذاءُ الجنديِّ المقاومِ عندي يساوي كلَّ تاريخِ الأحزابِ ورجالِهِ مِن اليمينِ واليسارِ ، صار يساوي عندي مليونَ عمامةٍ عفنةٍ ، خائنةٍ .. سوداء أم بيضاء . أمُّ قصر لم تسقطْ . فوق أرضِها رفعوا العلمَ الأمريكيَّ ومازالت تُقاومُ . الضميرُ الحيُّ للعراقيِّ العربيِّ العزيزِ ، الكريمِ ، الشامخِ ، الأبيِّ مازال يُقاوم . جرّبوا ضدَّه صواريخَ جديدةً باسمِ " عاصفة الظل " ومازال يستبسلُ حتى النهايةِ . ألفُ صاروخٍ أُطلقتْ على بغدادَ والضميرُ مازال يتصدّى للغزاةِ والخونةِ على حدٍّ سواء . ونحن نرى قتالاً مباشراً على شاشاتِ التلفزةِ في أمِّ قصر . نتفرّجُ على وطنِنا كيف يُذْبَحُ . هأنذا أحضرُ حفلةً للذّبحِ مِن على شاشاتِ التلفزة . هأنذا أرى موتاً بالمجّانِ . إنه موتُ أهلي وأخوتي وصحبي والمسوّغُ المعقولُ المُصَدّرُ إلى عقولِنا القاصرةِ هو وجود الدكتاتور . أكلُّ هذا الموت بسببِ وجودِ الدكتاتور ؟ أكلُّ هذا الخراب بحجّةِ القضاءِ على الدكتاتور ؟ أكلُّ هذه الصواريخ العمياء التي لا تصلُ للدكتاتور بسببِ وجودِ الدكتاتور ؟ أكلُّ هذا الجحيم مِن أجلِ اسقاطِ الدكتاتور ؟ . أيّ كذبةٍ عظيمةٍ مكشوفةٍ صدّقها العالمُ وانطلتْ عليه ؟
* صباخ الخير يا وطن الخيانة .. صباح الخير يا أمّ قصر .. صباح الخير أيّها الفاو .. صباح الخير أيّها الجنديُّ المقاومُ الذي فاجأتَ ببسالتِك العالمَ . بغدادُ تحترقُ والحدودُ التي بوجوهِنا أغلقَها العربانُ فتحها الأمريكانُ فتدفقت جحافلُهم مِن عمّان والظهران . بغدادُ تحترقُ ونحن في صباحِ الرابع والعشرين مِن مارس مِن العام 2003 . صباح الخير يا علي عبيد المنكاش .. أيُّها البطلُ الأسطوريُّ المزعومُ .. أيُّها الريفيُّ المُغفّلُ الجميلُ .. أيّتها الضحيةُ المُتهمةُ بإسقاطِ الطائرةِ المُدرّعةِ " اباتشي " بالبندقيةِ " البرنو " .. صباح الخير أيُّها العراقيُّ الضعيفُ ، المسكينُ ، المغلوبُ على أمرِهِ . صباح الخير أيّتها الوجوهُ الطيبةُ في كلِّ بقعةٍ رافضةٍ ومقاومةٍ .. هأنذا عدتُ مِن مظاهرةِ رَفْضِ الحربِ والغزوِ إنما عدتُ وحيداً .. أنا العراقيّ الوحيدُ المُجَحْفَلُ بالرفضِ في برلين . عدتُ بوردةٍ حمراء هي هديةٌ للجميلةِ أمِّ قصر التي سأرسمُ لها تصوراً حَوْل ضفافِ القلبِ .
* لم يبقَ مِن الوطنِ سوى حشرجةِ صوتٍ تأتي عَبْرَ الهاتفِ ودمعة انفجرتْ مِن على الشاشةِ بوجهِ المشاهدين . لم يبقَ مِن الوطنِ سوى بشرٍ منقسمين . البعضُ صرّحَ بموقفِهِ وهو خلف الدبابةِ ، المحميةِ بفتوى السيستاني ، محتمياً بها كأنه ليس مِن العراق والآخرُ يُسْكِته الخوفُ في الأسرِ . لم يبقَ مِن الوطنِ سوى كلماتٍ جامدةٍ .. سوى أصواتٍ منبجسةٍ في الزمنِ البعيدِ .. في المكانِ البعيدِ .. لم يبقَ سوى الخرابِ .
* الثلاثاء يومٌ مِن أيامِ الرّمادِ .. يومٌ للحصادِ البشريِّ المُباركِ بمنجلِ الخيانةِ .. يومٌ لنهرِ الدّمِ المتدفقِ مِن قلوبِنا نحو مياهِ الخليجِ .. يومٌ للذلِّ العربيِّ المتلبسِ بالصمتِ .. يومٌ لبهجةٍ انزرعتْ في صدورِ رعاةِ البقرِ والجيرانِ الحاقدين مِن أبناءِ العمِّ الكويتيين والسعوديين وأخوانِنا في الدينِ مِن أبناءِ فارس . في الخامسِ والعشرين مِن مارس بحثتُ عن وجهِ اللهِ وجدتْهُ بالضحكِ غارقاً . لماذا يا الله يا سيدَ الأكوانِ دفعتْنا إلى غياهبِ الموتِ والظلامِ ؟ لم يجب .. ربُّكم الجميلُ المُبجّلُ ، المُعلّى والمُحلّى لم يجب .. ناديتُهُ بكلِّ أسمائه الحُسنى ولم يجب . يقولُ أخي عبْرَ الهاتفِ : نتيجةُ القصفِ " الإنسانيِّ " انهدتْ فوق رؤوسِنا أركانُ البيتِ .
وتسألُني أختي عَبْرَ الهاتفِ هل رأيت ؟
ماذا ؟
اخبرني بما رأيتَ فنحن في الظلامِ نعوم .
الظلامُ في العراق وجدَ له موطناً أبدياً .
وأجيبُ :
أجل ، رأيتُ قصفاً رحيماً على بغدادَ ، غاراتٍ على البصرةِ ، عاصفةً مِن الغيلانِ على بغدادَ وأخرى ترابية .
ويستمرُ الحوارُ :
ـ هل رأيتَ ؟
ـ ماذا ؟
ـ حرب الدبابات .
ـ هل رأيتَ ؟
ـ ماذا ؟
ـ عبروا الفرات .
ـ هل رأيتَ ؟
ـ ماذا ؟
ـ الجثث في شمالِ الناصرية بالمئات .
ـ هل رأيتَ ؟
ـ ماذا ؟
ـ 2000 طلعة جوية على قواتِ الحرسِ الجمهوريّ وعلى غيرِها من القوّات.
ـ هل رأيتَ ؟
ـ ماذا ؟
ـ إبادة فرقة المدينة .
ـ هل رأيتَ ؟
ـ ماذا ؟
ـ كثرَ الموتُ في النجف وكربلاء وكثر الأمواتُ . ثانية كربلاء .. ثالثة كربلاء .. عاشرة كربلاء ونحن في اليومِ السادس للحربِ انقطعَ الاتصالُ وانقطعتْ أصوات .
* صباح الشّهيةِ الطيبةِ .. صباح القصفِ أيُّها العراقُ الذي لم تعد لهؤلاء القادمين مع الدباباتِ وطناً . صباح الصواريخِ الطازجةِ التي تأخذُها مع فنجانِ القهوةِ . صباح القنواتِ الفضائيةِ " العربية " التي تُظهرُ محاسنَ القاذفاتِ ب 52 والقاذفة أف 17 وغيرها مما صنعت الآلةُ العسكريةُ الأمريكيةُ الامبرياليةُ .. تُعددُ مزاياها الإنسانيةَ فشهية طيبة أيّها العراقيون . شهيةٌ طيبةٌ أيُّها العربُ أدعوكم للتلمّظِ شوقاً وشهوةً لأكلِ صواريخ الحبيبة أمريكا .. لا تَحْزَنوا بعد الآن فقاذفات أمريكا تزيدُ مِن دفقِكم الروحيّ للحبِّ وتُعظِّم انتصابَكم الذكوريّ . صواريخُ أمريكا القادمةُ مع ب 52 مطليّة بالزيتِ وتدخلُ دون أذى في أَدْبارِكم . هكذا نَقَلتْ لكم القنواتُ العربيةُ . ونقلت القنواتُ بداياتِ اللذّةِ : ضَرْبُ مركز الإتصلاتِ الفضائية في بغداد ، ضَرْبُ الإذاعةِ والتلفزيون ، قصفُ البصرة بشدّةٍ أخويةٍ وإنسانيةٍ ، كوندليزا رايز تلتقي كوفي عنان بابتسامةٍ عريضةٍ أمام الكاميراتِ وبفستانٍ أخضر يُبْرِزُ جمالَها الأخّاذ ويُظْهِرُ فتنتَها كأنثى ليس لها مثيلٌ .. التقت العبيدُ في حفلةِ مضاجعةٍ كونيةٍ . البَصْرِيون يَبْحَثُون عن ماءِ الشِّربِ والغازِ والموادِ الغذائيةِ في انتشارٍ ذليلٍ يَفِتُّ القُلوبَ . الموصلُ تتعرضُ لصواريخِ القاذفاتِ الرَّحِيمة . الأردنُ " الشقيقُ " يُوقِفُ تدفقَ الموادِ الغذائيةِ عَبْرَ أراضيه إلى العراق ورَفَضَ أَخْذَ النّفطِ العراقيّ "بالمجّانِ" ، استنكافاً ، ورفضَ مع دولٍ خليجيةٍ " شقيقةٍ " تسميةَ الغزوِ والعدوانِ على العراق بـ ( العدوان الأمريكي البريطاني ) . ماذا يا أهلَ الأردن ؟ ما هذا المزاحُ الثقيلُ ؟ كنّا نُعطيكم نفطَنا بالمجّانِ و" الماجدات " العراقياتُ يتسولْنَ في شوارعِ عمّان ويبعْنَ أَجْسادَهن مقابل رغيفِ الخبزِ .
قصفٌ رحيمٌ على بغدادَ .. قصفٌ على البصرة .. عاصفةٌ مِن الغيلانِ على بغدادَ والأخرى ترابية .. والمُحررون "الطيبون الإنسانيون" الذين حرروا العراقَ مِن أبنائه ينتظرون السفينةَ . يقولون في اليومِ السابعِ للحربِ إنهم ينتظرون سفينةً للموادِ الغذائيةِ والأدويةِ والمياهِ .. وهاهم العراقيون أوقفوا الضجيجَ بانتظارِ السفينة . إلى أين تأتي السفينةُ ؟ مِن أين تأتي السفينةُ ؟ وأمّ قصر هل سقطتْ ؟ هل حقاً يريدون جلبَ المياهِ والأدويةِ والمواد الغذائية ؟ لو أرادوا لما انتظروا سفينةً ، إنما بجسرٍ بريٍّ عَبْرَ الخليجِ اكتفوا .
* عاد البرابرةُ مِن جديدِ إنما على ظهورِ الدباباتِ هذه المرّة . عاد الانكليزُ ثانيةً ومعهم عادَ كلُّ الثأرِ القوميِّ والطائفيّ وتصريحاتٌ يقشعِّرُ لها البدنُ . أيّ شعبٍ هذا الذي أبكي عليه !؟ ولولا وجودُ أخوتي الطيبين وعصبة مِن أصدقاء وحفنة مِن كرامٍ وقومٍ أعزاء نفوس لما ذرفتُ دمعةً واحدةً عليه بعد الآن . عادَ البرابرةُ ومعهم كلّ هوّامِ الأرضِ وكلّ ساقطٍ ولقيطٍ .. لولا المسافةُ لأغرقتُ كلَّ هذه الوجوهِ بصاقاً . وجوهٌ شيعيةٌ صفويةٌ وعلويةٌ وسنيةٌ وكرديةٌ وفارسيةٌ ومنتفعةٌ وعربيةٌ خائنةٌ وتركمانيةٌ وآشوريةٌ وكلدانيةٌ ووجوهٌ أخرى لهذا المزيج الغريبِ . يا إلهي ما أكثرَ الخونةَ في العراق ! لا يوجدُ بلدٌ آخرُ في العالمِ غير العراقِ يحتوي على هذا العددِ الكبيرِ مِن الخونةِ .
* قصفٌ رحيمٌ على بغدادَ .. قصفٌ على البصرة .. عاصفةٌ مِن الغيلانِ على بغدادَ وأخرى ترابية . لم تأتِ السفينةُ المنتظرةُ وكويتيٌّ يُصرِّحُ أدخلْنا الماءَ إلى أمِّ قصر العراقيةِ عَبْرَ أنبوبٍ مِن أمِّ قصر الكويتيةِ . لا يا ابن الكلب !! لم نسمعْ عن أمِّ قصرِكم الكويتية . سنُعيدُها أيُّها الساقطون . أيُّها الكلابُ نحن أبناء بلاد الرافدين وتعطوننا ماءً ؟
شيَّع الانجليزُ موتاهم ونحن مَنْ يُشيّعُ موتانا ؟ أحصى الغزاةُ موتاهم ونحن مَنْ يُحصي موتانا ؟ ونحن في المأزقِ الوطنيِّ ندخلُ تمهيداً لمآزقَ أخرى : مَنْ وقفَ مع الحربِ واصطفَّ مع الأمريكان والإنكليز كان وطنياً و مَنْ وقفَ ضدَّ الحربِ ، اصطفَّ مع النظامِ وصار بعثياً. إنه الوطنُ المأزقُ . إنه الرأيُّ الخطأُ في الزمنِ الخطأِ في المكانِ الخطأِ.
قصفٌ على بغدادَ ، وبغدادُ مازالت إلى دجلةَ تُرْسِلُ الضحكَ والدموعَ . قصفٌ على العراق ونحن في اليومِ الحادي عشر مِن الحربِ ، قصفٌ على البصرة .. في كلِّ مكانٍ يتندّرُ البَصْريون : إذا تعرّضت أوربا للحربِ فلا بدّ مِن قصفِ البصرة . قصفٌ على بغداد .. قصفٌ على البصرة .. قصفٌ على الموصل . قصفٌ في كلِّ مكانٍ . والعبرةُ نستخلصها مِن خبرٍ يقولُ في اليومِ الثالث عشر : صلّى الانجليزُ في البصرة على أرواحِ ضحاياهم الذين قُتلوا في ثورةِ العشرين .. إنهم للثأرِ جاؤوا !!
صباح الخير يا بلاداً بين نهرين .. صباح الخير يا أرضَ السّوادِ .. صباح الخير لكلِّ ذرةِ رملٍ وحبةٍ مِن تراب .. لكلِّ موجةٍ ساهمةٍ في نهرِ وضحكةٍ فالتةٍ مِن فمِ رضيعٍ .. لكلِّ أمٍّ مازالت تَرْسِمُ الأملَ بأكفِّ الدّعاءِ . صباح الخير أيّتها البلادُ التي أَنْهَكَنا الحنينُ إليها .
* مَنْ هم الأسرى ؟ طائفةٌ مِن النساء ، جماعةٌ مِن الرِّجالِ وعصبةٌ مِن الصِّبيةِ ، مكتوفةُ الأيدي إلى الوراء ومتمددة على بطونِها فوق الأرضِ وقد انشمرت عباءاتُ النّسوةِ وتدحرجتْ كوفياتُ الرجالِ وسقطتْ مِن على رؤوسِهم " العقلُ " الكريمةُ . أين ؟ في الناصريةِ ومشهدٌ آخرُ في البصرة . هذا عربونُ الديمقراطيةِ الأولُ أنْ يُهانَ العراقيُّ في دارِه . هل هي دارُهُ ؟ نسألُ المناضلين الذين جاؤوا مع الغزوِ لعلهم على السؤالِ يُجيبون ويُحددون هويةَ هذا الأصيلِ !.
* ما هو عنوانُ هذه الحرب ؟ أهي " حرية العراق " كما يدّعون ؟ .. عن أيِّ حريةٍ يتحدثون ؟ سقطتْ بغدادُ بدبابتين وقفتا في النهايةِ فوق جسرِ الجمهوريةِ منذُ اليومِ العشرين للحربِ في 8 ـ 4 ـ 2003 . قطعتا الجسرَ وراحتا تطلقان النارَ عشوائياً . قُتل عددٌ مِن الصحافيين وأُصيبَ آخرون . إنهم يريدون حرباً بلا شهود .
* سقطتْ بغدادُ . لم يدافعْ أحدٌ مِن أهلِ العراق عن بغدادَ وسقطَ تمثالُ الدكتاتور بموجبِ مسرحيةٍ أُعدّت بإتقانٍ وأُخْرِجت بعنايةٍ . الذين هللوا لسقوطِ التمثالِ كانوا قبلَ يومين يُقبّلون يدَ صاحبِ التمثال ، يُصفقون له ، وله تهتفُ الحناجرُ " بالروحِ بالدمِ نفديك يا صدام " . الذين ابتهجوا في الداخلِ والخارجِ لسقوطِ التمثالِ سيخرجون ذاتَ يومٍ للتصفيقِ مِن أجلِ ديكتاتورٍ آخر وستنطلقُ الحناجرُ مِن أجلِهِ مثلما انطلقتْ لصدام وسيخرجون ضدَّهُ في اللحظةِ المناسبةِ مثلما خرجوا ضدَّ صدام لأجلِ شخصيةٍ ثالثة وهكذا . سقطت بغدادُ واستقبل المعدانُ رعاةَ البقرِ .
الكاوبوي هم رعاةُ البقرِ
المعدانُ هم مربو الجاموس
رعاةُ البقرِ والجاموس = مربو الجاموس والبقرِ
الكاوبوي = المعيدي
فلماذا نرفضُ أمريكا ؟
* إلى بغدادَ أرسلْنا ثوراً أبيض لتُخطفَ على ظهرِه سيدةُ الدُّنيا إنما الثورُ حاصرهُ القنّاصون فأردوه قتيلاً قيل أُكلَ الثورُ الأبيض ومنه لم تأكلْ سيدةُ الدُّنيا . مِن مدينةِ السلامِ النازفةِ ليل نهار بعثنا بمَن يصيد اللؤلؤَ في قلبِ اللُجّةِ ويُقدّمهُ لسيدةِ الدُّنيا إنما الصيّادُ انهارتْ قواه فعادَ باللؤلؤِ المزروعِ .



#صبري_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شهادة روائية السردية في الرواية الشعرية
- قمّة النسور
- كُنّا عَلى وَشَكِ اللقَاء
- هوركي
- الملكةُ بكلِّ أُبهتها
- سلّةُ الحكايا
- عشقٌ اُسطوريٌّ
- الفراشة والجياد
- لا تغلقْ بوجهِ الريحِ باباً 2
- ساحة الشعراء
- لا تغلقْ بوجهِ الريحِ باباً 1
- مِن المتن إلى الهامش
- ابن الرمال
- لا تَرْمِي كلَّ الأقمارِ
- مِن أجلِها لا تنمْ أيها الليل
- هذا الشاعر العظيم
- الضابط الصغير
- ذاكرة للمسافة
- امرأة الكوثر
- أنتِ مَن يقود البحر


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - تلك البلاد التي خذلناها