أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تاجرُ موغادور: بقية الفصل الأول















المزيد.....

تاجرُ موغادور: بقية الفصل الأول


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 4419 - 2014 / 4 / 9 - 13:32
المحور: الادب والفن
    


3
أمَّحتْ من ذهنه في الحال، تلك الصورة الذكرى؛ صورة أميره، المنفيّ.
صدَرَ صوتٌ، آمرٌ، يدعوه إلى التحرّك. على الأثر، وجدَ " جانكو " نفسه في رواق طويل، مسنود السقف بأعمدة حجرية. وكانت أرضيّة الرواق تنتهي بعدة درجات عريضة، مرخّمة. هناك تركه حارساه يرتقى الدرجَ، المؤدي بدَوره إلى باحةٍ مستديرة ذاتَ أرضيّة من المرمر الأسوَد. في صدر المكان، كان رجلٌ مهيب الطلعة يجلس خلفَ طاولة كبيرة من خشب العرعر، المنحوت. إنّ ملابسه الحريرية المدبّجة، وعمامته البيضاء الكبيرة، لم تكن لتترك ريبة في أنه الباشا، المقصود. ولم يكن الرجلُ وحيداً، على أيّ حال: فضلاً عن حراس آخرين، كان يقفُ ثمّة رجلٌ مسنٌ نوعاً، مكتسٍ بملبس الجند. كان هذا الأخير، حسبما توقع " جانكو "، هوَ قائدُ حامية الحصن. وكما لاحظ أيضاً، فكلا القائدين كان ذا بشرة فاتحة اللون قياساً لأتباعه، الذين بدوا كما لو أنهم كانوا من جنس العبيد.
" أنتَ تاجرٌ عثمانيّ، بحَسب أوراقك، مع أنك قادمٌ إلى بلدنا بلا بضاعة "
قال الباشا وهوَ يثبّت نظرة مليّة في شخص المُخاطَب؛ نظرة من عينين كأنما قدّتا من فحم متقد. هذا الاستهلال، أوهمَ " جانكو " أنّ الأمرَ لا يعود عن كونه اجراءاً عادياً: " ولكن، هل التقليد هنا أن يتعهّد التحقيقَ عاملُ المدينة! "، تداعت اشارة استفهام في داخل تاجرنا لتفاقِمَ من دهشته. إلا أنه لم يتأخر في الكلام: " إنّ مسعايَ هوَ الاستقرار أولاً في موغادور، في ظلّ مولانا السلطان أعزه الله "، نطقها محنياً هامته بحركة تبجيل. هذا الجوابُ، جعل قسماتِ سحنة الباشا ترقّ قليلاً. لقد لعب الرجلُ الغريبُ، في فطنة ولا ريب، بالمعاني العربية: فهوَ جعلَ عاملُ المدينة ظلاً لسلطانٍ، يؤمن جميع المؤمنين بأنه بدَوره ظلّ الله على الأرض.
" أنتَ إذاً وكيلٌ لأحدٍ من أولئك المقيمين في الخارج؟ "، عادَ عاملُ المدينة إلى مخاطبته. نبرة السؤال، كما بدَت للتاجر، كانت أشبَه بالمُبيّتة. عند ذلك، تذكّر تاجرُنا حديثَ الرابي عن إحداق بعض الدول الأجنبية بالسلطنة. فلا بدّ أنّ ثمّة دسائسَ، يختفي تحت رقّها وكلاءُ تلك الدول. هكذا أجابَ على السؤال في اقتضاب، وقد ضاعفَ من حذره: " كلا يا سيّدي، لا أعرفُ أيّ موكِّل ". وكان الباشا أكثر نفاد صبرٍ، حينما رشقه مجدداً: " هل أبحرتَ رأساً من الشام، أم أنك كنت تتنقل بين بلدان أخرى؟ "
" بل إنّ سفينتنا تنقلت، بطبيعة الحال، بين عدد من المراسي "
" بطبيعة مهمّتك..؟ "، قالها الباشا مضيقاً عينيه. إلا أنه شاءَ الاستدراك فوراً " أعني، بطبيعة عملك كتاجر؟ ". وكان " جانكو " قد فكّرَ في غير قليلٍ من القلق: " ولكن، عن أيّ مهمّة يتكلّم؛ هذا الرجلُ، الداهية..! ". وقبل أن يُطلِقَ لسانه، استعادَ بلمحةٍ صورة الباشا الآخر، المنفيّ. بقيَ متردداً لحظاتٍ، إلا أنّ جوابه لم يتأخر كثيراً " مثلما أوضحتُ لسعادتكم، فإنني سأبدأ بالتجارة حال استقراري في محروسة موغادور.. "
" في أيّ الأشياء تتاجر؟ "
" في الأثاث الدمشقيّ "
" أهيَ صنعتكَ، أيضاً؟ "
" نعم يا سيّدي، ولقد ورثتها أباً عن جدّ "
" لقد منحناك الحقّ بالإقامة في مدينتنا، وبامكانك مباشرة عملك التجاريّ "، خاطبَ الباشا التاجرَ الغريب، مشفعاً ذلك بإشارة من يده تأذن في الانصراف. لبثَ الغريبُ جامداً، كأنما لم يعِ ما تناهى لسمعه. ولكنه ما عتمَ أن تحرّك، حالاً. تراجعَ خطوتين وهوَ ينحني احتراماً، ثمّ سلّم قياده ثانيةً للحرس. في طريق إيابه إلى الحجرة، كان " جانكو " يستعيدُ ملابساتِ الموقف، الفائت. إلا أنه سرعان ما فارقَ تلك الريَب، مُستعيداً رواء نفسه: " لقد اجتزتُ العائقَ بسلام؛ وهذا هوَ المهم! ".
ثمّة في الحجرة، كان الرابي متوحّداً. لم يبدِ هذا فضولاً لمعرفة ما جرى مع رفيقه. وكان أيضاً أقلّ دهشة، حينما علِمَ بأمر استجوابه من لدن عامل المدينة. إلا أنّ الرابي علّق بالقول " هذه من المرات النادرة، التي تحتم فيها على الباشا أن يأتي إلى الحصن البحريّ. فأن يتجشمَ الرجلُ عناءَ الابحارِ إلى فلوات هذه الجزيرة، النائية، فإنه يعني أنّ ثمّة أمراً على شيء من الأهمية ". ثم استدرك مبتسماً " وربما أنّ كلّ ما هنالك، هوَ وصولُ سفينة مُسيّرة بالبخار، لأول مرة، إلى مرسى المدينة..! "
" كأني بك على معرفة شخصيّة بالباشا؟ "
" لا، ليس تماماً. ولكنه كان على علاقة وثيقة مع عمّي، المتوفي منذ بعض الوقت. فما أعلمه عن الباشا، فهوَ من خلال هذا العم، الذي كان من أهم التجار المتعاملين مع المخزن "
" المخزن..؟ "
" إنه مدلولٌ محليّ، شائع. وعلى أغلب الظن، فإنه متداول فقط في موغادور. ولهذا المخزن سلطة السراي في مدينتكم، إذا صحَّت المقارنة ". التاجرُ، حقّ له أن يتعجّبَ من احاطة الرابي بأمور السلطنة العثمانية، القصية. وتابع الآخرُ قوله موضّحاً: " لقد بُنيت موغادور، قبل قرن واحد تقريباً، لتكون مرسى السلطنة بالدرجة الأولى. وكون المبادلات الخارجية، مثلما هو معروف، تعتمد على حركة المرسى والبازار، فإنّ للمخزن سلطة الاشراف عليهما. بل ويملك المخزن جميعَ منازل القصبة، وهوَ من يعمَد لتأجيرها إلى نخبة التجار "
" وما هيَ القصبة، هذه؟ "
" هيَ حيّ التجار الكبار، وفيها فقط يمكن أن يتجاور المسلمون واليهود والنصارى "
" في مدينتنا دمشق، وفي عموم الحواضر العثمانية، لا يُجاز هكذا تنظيم؛ لأنه يُعدّ مخالفة لوضع أهل الذمّة "، علّق التاجرُ. فهز الرابي رأسه، دلالة على الادراك، ثمّ قال " هنا أيضاً، في السلطنة المراكشية، يتجمّع يهودُ المدن في أحياء خاصّة بهم؛ يُدعى كلّ منها بالملّاح. ولكن تجارهم الكبار، كما أسلفتُ، مُنحوا حقّ استئجار المنازل الراقية في القصبة "
" فأنت كنت مقيماً، أصلاً، في تلك القصبة؟ "
" أجل، لقد نشأتُ هناك. ثمّ غادرتُ شاباً إلى جبل طارق، كي أستلم وظيفتي الدينية، وأيضاً، للإشراف على تجارة أسرتي فيها. غير أنني كنتُ أزور موغادور من حين لآخر. وها أنا ذا عائدٌ، ربما بصفة دائمة. عدتّ للحيلولة دون منزل جدّنا الأول والبيع في المزاد، تحصيلاً لدَيْن المخزن المترتب في ذمّة العمّ الراحل "
" حسبما فهمته منك، أنّ منازل القصبة جميعاً مستأجرة لصالح المخزن؟ "
" تماماً. وما عنيته، هوَ أنّ المزادَ يرسو عادةً على من يدفع ثمناً أكبر من الآخرين. فيصبحُ هذا في التالي المُستأجرَ، الذي يحق له التصرّف في البناء؛ كأن يُعيد تأجيره للأوروبيين، مثلاً، مقابل مبلغ فاحش "، شَرَحَ الرابي فيما كان يمدّ بصره إلى الخارج عبْرَ النافذة. من بعيد، كانت أسرابُ النورس تبدو وهيَ تحلّق مع ضوضائها، المُصمّة. لن تلبث هذه الطيور إلا قليلاً، قبل أن تتهادى على رمال الشط، المغمورة بالمدّ، بعدما تكون قد أنهت نهاراً من الكدّ في التقاط رزقها. ومع ميلان الشمس للأفول، تصبحُ أيضاً الرطوبة أكثر كثافة.
بدأ الرابي يتكلّم، وكأنما ليحدّث نفسه هذه المرة " الباشا شخصيّة اشكالية، ولا شك. أو بالأحرى، حسبما سمعتُ عنه. لقد مَحَضَ الأوروبيين دائماً كرهه الشديد، على الرغم من كونه يجيد اللغتين الفرنسية والاسبانية والقليل من الانكليزية. لا بدّ أنّ احتكاكه مع هؤلاء الأجانب، بحكم منصبه الرفيع، يُفسّر لنا موهبته في تقمّص لغاتهم. كذلك يمكن القول، في تعدد وظائفه؛ فهوَ عاملُ المدينة وقائدُ جندها وكبيرُ أمناء مخزنها ".
ازداد استحسان التاجر لخلق الرابي، المتجلّي في احالة معلوماته لمصادر الآخرين. بيْدَ أنه لم يعقب بشيء، خصوصاً وأن رفيقه كان قد استرسل في الشرود بعيداً. ربما كان قد شرَع في صلاة اليهود، كما أفصَحَتْ تمتمة شفتيه. على ذلك، استلقى " جانكو " فوق حشية الفراش ومضى بفكره إلى مكان آخر. أضحى على يقينٍ بأنّ السلطات قد عمدت إلى فتح الصندوق الصغير، الذي كان في رفقته خلال السفر ويحتوي ماله وكناشه الخاص: " أكانت ثمّة إشارة في ذاك الدفتر، مكّنتهم من التكهّن بطبيعة مهمّتي؟ "، تساءلَ متشككاً. ثمّة في " جبل طارق "، نصحه أحد التجار السوريين بأن يحتاط للطواريء بتسجيل صندوق ماله لدى مؤسسة تأمين بريطانية من تلك التي تحمل اسمَ " البنك ". غيرَ أنّ تاجرنا، في آخر المطاف، وَجَدَ أنه لا وقت لديه كافٍ للشروع في هكذا عملية.
ما لبث " جانكو " أن بدأ يهوِّمُ، ليغرق بعدئذٍ في لجّة الحلم. عندما أفاق، بُعَيْد سويعة، كانت العتمة تشمل كل شيء حوله. راحَ بصرُهُ يجول في الحجرة، مستعيناً بقبَسٍ متسللٍ خِلَلَ نافذتها وبابها. الرابي، من جهته، كان نائماً على فراشه وقد ارتفع غطيطه قليلاً. أما الرفيق الآخر، البربريّ، فلم يكن له أثرٌ بعدُ. صلاة العشاء، كان ميقاتها قد أزفَ بحضور الحارس مع قصعة الطعام وسلّة الخبز. على الأثر، توضأ " جانكو " ثمّ انهمك بعدئذٍ في صلاته. لقد سبق له، قبل صلاة المغرب، أن سألَ الحارسَ عن جهة القِبلة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاجرُ موغادور: تتمّة الفصل الأول
- تاجرُ موغادور: الفصل الأول
- تاجرُ موغادور: المدخل
- تاجرُ موغادور: المقدمة
- سيرَة حارَة 16
- سيرَة حارَة 15
- سيرَة حارَة 14
- سيرَة حارَة 13
- سيرَة حارَة 12
- سيرَة حارَة 11
- سيرَة حارَة 10
- سيرَة حارَة 9
- سيرَة حارَة 8
- من أجل عَظمة
- أحلام مشبوبة
- الشاطيء الشاهد
- النمر الزيتوني
- فكّة فلوس
- القضيّة
- الطوفان


المزيد.....




- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تاجرُ موغادور: بقية الفصل الأول