أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (35)















المزيد.....

منزلنا الريفي (35)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4370 - 2014 / 2 / 19 - 00:10
المحور: الادب والفن
    


الشيظمي...القنانة...الإخصاء الوجودي

كان قد أتى من بلاد بعيدة، وكان فقيها جوالا، تحكي أمي فاطنة : " أنه دخل أرض كرزاز على متن بغلة سوداء "، وينحدر من بلاد " الشياظمة "، لقد تردد على العديد من جوامع العلم، وها هو يجد نفسه بين الكرزازيين يبيع العلم إلى أبنائهم .
لم يكن يبيع العلم للكادحين والفلاحين، بل كان يبيع العلم لأبناء الأعيان، وفي هذا الصدد تقول أمي فاطنة : " لقد كان يشتغل عند القايد العربي "، وكان هذا الأخير يبث الرعب في القرويين، فهو الذي يملك الأراضي، والفيلة الفخمة التي تحيط بها أشجار النخيل، وكان جميع القرويين يعملون لديه كالأقنان، فلا يعطيهم إلا أثمنة زهيدة، وفي بعض الأحيان لا يعطيهم شيئا، لقد كان خائنا ومتواطئا مع الفرنسيين، ومن يرفض العمل لديه يتم الزج به في الكهوف الرهيبة، يسرد خالي محمد : " ذات يوم رفضت العمل، فوجدت نفسي بين زنازين مقفرة، ولا وجود للمراحيض، ولا وجود للأسرة، ولا حتى الطعام، وكان هناك حراس يتناوبون في تعذيبنا في الكاشو وسط ظلمة حالكة يتخللها وهيج نور يأتي من بعيد " ؛ إن العمل المجاني الإجباري كان آلية رهيبة تمارس على رقاب القرويين، وهو نظام أشبه بالقنانة، لا أحد يحق له أن يرفع رأسه، وكان الشيظمي يكرس هذه الآلية، أليس هو الفقيه ؟ أليس هو العلامة العارف ؟! بلى ! لقد كان يعتبر أن طاعة القايد من طاعة الله، وأن الخروج عن هذه الطاعة كمن يخرج عن طاعة الله، وإن جهنم السجن هي مقدمة لجهنم الآخرة . ولهذا مورس على القرويين التفقير والإخصاء الوجودي، وكان هذا الفقيه هو الأداة الأساسية التي تشرعن علاقتهم بالقايد، عليهم أن يطيعوه ويعبدوه، فلما كان يخرج من فيلته كانت كل القبيلة تخرج لتحييه وفق مراسيم الطاعة والولاء، ولا أحد يحق له أن يرفع رأسه، وحتى خدامه كان لا يرف لهم جفن، تحكي امرأة عملت كقنة في إحدى فيلاته في بداية القرن العشرين : " أن كل من يعمل في قصره كان مخصيا، وقد كان للقايد ما لا يحصى من النساء، فهو يتزوج دون حدود، ويطلق دون حدود، وحتى إذا كانت المرأة متزوجة، فلا يتوانى في تطليقها، وإذا رفض زوجها يقتله " . مازال المخيال الشعبي يحتفظ بهذه الوقائع الأليمة التي تتجلى في الإخصاء والطمر، فالإنسان ما كان بالإنسان، كان قنا يبيع جسده وأولاده وزوجته ومحاصيله لسيد يتصرف تصرف الأسياد مع أقنانه الذين يعتبرونه إلههم الأرضي الذي يذر عليهم بالخير والعطاء، كان يوهمهم بالعمل في مزرعته لمصلحته، بينما الفقيه الشيظمي يقرأ عليهم تعويذاته واعدا إياهم مقابل طاعتهم بجنة في السماء .
كان القرويون – الأقنان يذهبون إلى المسجد ليسمعوا تعويذاته، ومن اعترض عليه، يجوز زجه في الكهوف والسجون، والعمل في الأشغال الشاقة، حتى " يتوب " ويعود إلى " رشده " ؛ إن " الرشد " في النظام الإقطاعي هو أن تعيش مغبونا، وفاقدا لكرامتك، أما إذا رفضت، وأعلنت تمردك ووعيك، فأنت " مجنون " أو " مسطي "، ويعمل هذا النظام الاجتماعي على وصمك وإبعادك، فهو لديه نظام، وإذا حصل تصرف ضده، أصبح هذا النظام في خطر، إذن عليه أن يحارب خصومه وينبذهم . ولهذا نجد الأضرحة تنتشر في العالم القروي كالفطريات، لقد كانت مأوى المجانين – العقلاء الذين كانوا يحلمون دون حدود، يفكرون دون تأطير، ويتحدون بالمطلق دون مراسيم، كما كانوا يتسمون بحس ثوري رافض للنظام الاجتماعي برمته ؛ تحكي امرأة تسعينية توفيت في مطلع الألفية الثالثة : " الأضرحة كانت تغص بالمجانين مثلما تغص الكهوف بالمساجين " ؛ منذ زمن بعيد، كانت القرية مخنوقة، فهذا الجفاف يبيدها، وهذا الجراد يلتهمها، وتلك الزلازل تدمر بنياتها، وذلك الفيضان يجرف محاصيلها . أما النظم السياسية التي تعاقبت على نفوذ القرية، فكانت تستنزف كل شيء، كل هذه الظروف كانت تتغول في القرية، فحولت ساكنتها إلى هيكل عظمي ضعيف الجسد والإرادة والوعي والحرية...إنه يخاف من كل شيء، حتى مواء القطط ونباح الكلاب ...لقد عاش مرعوبا – خائفا، يخاف من الأرض ويخاف من السماء ؛ إن هذا الهيكل العظمي مافتئ يفرخ عدة هياكل عظمية جديدة تلقنت العبودية والقنانة والخضوع، وعبارة " عليك ألا تتكلم في السياسة " تطرح نفسها بحدة إلى يومنا هذا، فالقرويون يخافون من السياسة حتى وإن كانت تمارس عليهم يوميا، لكن لا يجرؤون على الكلام، إنهم يقدسون أي مديني، وخاصة إذا كان بورجوازيا، فيعملون كبوصلته، وتراهم يتصارعون ويتدافعون كقطيع من الماعز الذي نخره العطش ويتوق إلى الحصول على مورد ماء .
مازلت أذكر حتى عهد قريب حينما كانت تدخل سيارة الدرك إلى دوارنا ؛ كان الكل يرتعد ؛ كان الكل يخاف، وترى النسوة تخرجن رؤوسهن من النوافذ وجلات، أما الرجال فيفقدون رجولتهم، وإذا نفذت إلى صميم كل واحد، فلا تستغرب أن تسمع في دواخله : " لقد فقدت قضيبي في هذه الآونة، المخزن هو من يملك قضيب القضبان "، كان يمكن للدركي أن يفعل ما يريد، ويقول ما يريد، فإذا كان للقرية نظامها الأخلاقي، فإن اللحظة التي تدخل فيها سيارة الدرك يتلاشى كل شيء، ويتحول إلى حطام، ولا تسمع إلا مصطلحات العهر، وإذا سألت أحدا عما حصل، يقول لك : " المخزن يا أخي، المخزن...." .
كان القرويون في دوارنا يسمون سيارة الدرك " بالشعيبية "، ومعنى ذلك القوة والجبروت، تحكي الرواية الشفهية المحلية أن شبانا كرزازيين هاجموا فرنسيا عقب الاستقلال السياسي، فاستولوا على ممتلكاته، وتركوه خالي الوفاض، فما كان من دورية الدرك إلا أن مشطت المكان، وعثرت على المهاجمين، لكنها لم تقودهم إلى المخفر كبشر يستحقون كل ضروب الإنسانية، كلا ! إن المخزن متغول، ودفاعه عن الاستعمار الجديد قضية مصيرية، ومن ثمة عليه أن يفعل فعلته الجهنمية لتكون عبرة لكل تمرد قروي . امتطى الدركيون خيولا، وأمضوا يبحثون عن المهاجمين، وها هم يطاردونهم بين شعاب الوادي، وسفوح المنحدرات وأدغال الغابات، حتى قبضوا عليهم في الأخير بعد جهد جهيد . وضعوا لهم الأصفاد في الأول، بيد أنهم حينما اقتربوا من القرية، ربطوهم بسلك حديدي كما تربط الخرفان، وهذا السلك ربطوه بالحصان، وهكذا بدأت عملية الجر، لقد كان الجو صيفيا، ومازالت الأشواك تربض فوق الأرض، أما هؤلاء القرويون – الأقنان – الأكباش فمصيرهم معلق بإرادة الأحصنة – المخزن ؛ لم تكن المسافة هينة، بل كانت طويلة، والملابس تمزقت والجلد انكشط والعظام اهترأت والوجه فقد ملامحه الإنسانية ؛ كل شيء يحيل إلى القنانة .
كانت أجسادهم ترزح تحتها، أما أرواح القرويين الذين خرجوا ليتفرجوا، وليقولوا : " نعم أسيدي، هاد الشي اللي خاصهم، المخزن كيدير خدمتوا "، ففي عمقهم يسكن الألم والعذاب والبؤس ....
كانت العجائز تبكي، بينما الرجال تكوروا في مكانهم، الخوف يسكن كل شيء، حتى تلك الصخور التي لا حياة فيها، إنه شبح مرعب، لا يعرف الرحمة، كلماته تتركب من دماء، وحروفه عصية على الفهم، أما الموت فشيدت عمارة طويلة، والإخصاء هو الذي سكن العمارة .....

يتبع
ع ع / واد زم – وسط المغرب / 14 فبراير 2014



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتاهة
- هزيمتي
- منزلنا الريفي (34)
- منزلنا الريفي (33)
- متاهات
- قبلة من الوادي
- منزلنا الريفي ( 32 )
- منزلنا الريفي (31)
- نحو رؤية هادئة للتملق
- منزلنا الريفي ( 30 )
- عائد إلى القرية
- حمى الاستسلام
- دروب التيه
- نشيج الكلمات
- منزلنا الريفي (29)
- منزلنا الريفي (28)
- منزلنا الريفي (27)
- منزلنا الريفي (26)
- منزلنا الريفي ( 25 )
- منزلنا الريفي (24)


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (35)