أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - النص القرآني) يعقوب واولاده عليهم السلام















المزيد.....



النص القرآني) يعقوب واولاده عليهم السلام


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4305 - 2013 / 12 / 14 - 10:21
المحور: الادب والفن
    


لقد ترك إبراهيم الخليل ولديه إسماعيل في الجزيرة العربية وإسحاق في الشام ليكملا دعوة التوحيد التي بدأها في العراق، مع أن المعلومات التاريخية محدودة جداً عن إسماعيل عليه السلام، إلا أننا نستطيع القول أنه شكل مركزاً دينياً مهماً، مازال أحد أهم أركان عقيدة التوحيد "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ-;- إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)"البقرة ، "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)" إبراهيم، هذه الآيات تؤكد لنا استمرار قدسية المكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإذا عدنا إلى مقدمة الكتاب سنجد أن مكة استمرت قدسيتها، منذ أن بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وما زالت تشكل أحد أهم أركان عقيدة التوحيد، والتي يمثل الحج إلى مكة أحد أركانها .
أما إسحاق عليه السلام فهو الآخر لا يأخذ الحديث عنه في القرآن الكريم السرد التاريخي، لكن يخبرنا بعض المفسرين أنه كان في الشام، وعلى ملة أبيه إبراهيم، وقد ترك ذرية صالحة سيكون لها الأثر الكبير في عقيدة التوحيد، "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ-;- مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ-;- ذَٰ-;-لِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰ-;-كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)" يوسف ، فالقرآن الكريم يخبرنا أن ولدا إبراهيم، إسماعيل وإسحاق عليهم السلام، قد اختص كل منهما بمنطقة جغرافية معينة، الأول في الجزيرة العربية والثاني في الشام، وهما قد ولدا في الشام من أب عراقي المولد، ويتكلما اللغة الهلالية، وهما على نهج التوحيد الذي تركه إبراهيم عليه السلام من خلال الصحف التي أنزلها الله عز وجل، والمكتوبة باللغة البابلية، ويشكلان فرعين متوازنين من مجرى واحد _ إبراهيم _، من هنا لا يمكن الحديث عن إقليمية أي منهما بتاتاً، لأنهما يشكلان عائلة مفردة واحدة في الشام وأخرى في الجزيرة العربية، فهما موجودان ضمن مجتمع كبير جداً وذي مساحات جغرافية مترامية الأبعاد، فلا يمكن أن نتحدث عن عائلة تعيش في منطقة جغرافية كبيرة جداً مثل الجزيرة العربية، ونقول إن تلك العائلة تشكل قومية أو أمة، لأنها لا تملك من معايير ومكونات الأمة شيئاً، فهي تستخدم اللغة المتبعة التي يتداولها الناس، وتمارس عملها الأقتصادي والأجتماعي ضمن المجتمع الأكبر والأشمل، ولمعرفة تفاصيل العصر الذي وجد فيه يعقوب وأبناؤه لا بد من العودة إلى القرآن الكريم، لنضع استنتاجاتنا التاريخية حول هذا الموضوع من خلال سورة يوسف، تتميز هذه السورة عن سواها، بأنها السورة الوحيدة من السور الطوال التي تتحدث عن موضوع واحد فقط، فهي تعطينا صورة واضحة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تعيشها المنطقة _ بلاد الشام ومصر _ .
بعد ثلاثة أجيال من حياة إبراهيم عليه السلام يمكننا أقول أن أحداث القصة جرت بعده بأكثر من مئة عاماً، حيث هناك إسحاق الذي جاء متأخراً جداً، ثم يعقوب الذي جاءه يوسف وأخوه متأخرين أيضا، فإذا اعتبرنا حياة إسحاق سبعين أو ثمانين عاماً، وأضفنا عمر يعقوب، سيكون هناك زمناً لا يقل عن مئة عاما، من خلال ما سبق نصل إلى جملة من الاستنتاجات حول هذه السورة،
أولا : _ إنها تؤكد عملية التنقل والهجرة واستمراريتها بين الشام ومصر، بعد اكثر من مائه عاما من هجرة إبراهيم عليه السلام، "وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ-;- وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)" يوسف
ثانياً : _ العلاقات الاقتصادية بين مصر والشام ميسرة جداً، والعملة النقدية مقبولة من الإقليمين، ويتم تداولها بدون أي موانع أو عوائق "وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ-;- أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ-;- " يوسف
ثالثاً : _ القوم الذين يحكمون مصر في هذا الزمن ليسوا من المصريين وإنما جاءوا من بلاد الشام "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ-;- قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ-;- إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)" يوسف، القرآن الكريم يخبرنا أن المصريين يلقبون الحاكم بفرعون أو الملك وليس بالعزيز، وهذه التسمية هي اقرب إلى تسمية الحاكم في بلاد الشام _ بعل أو السيد _
رابعاً:ــــــ نظام الحكم والعلاقات الأجتماعية والسياسية تختلف كثيراً مع النظام الفرعوني "قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ۚ-;- وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) يوسف، نجد هنا الاستقلالية التامة للقضاء، الذي يساوي بين زوجة الحاكم وخادمها، وجعل التهمة تنسب إليها كما نسبها إلى خادمها
خامساً :ـــــ اللغة التي يتحدث بها في الشام ومصر لغة واحدة ومفهومة من كلا الإقليمين "ثمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70 قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ (72)" يوسف
إذا رجعنا إلى هذه الآيات وما بعدها، سنجد حواراً طويلاً قد جرى بين صاحب النداء واخوة يوسف، وهذا مؤشر إلى وحدة اللغة في مصر والشام
سادساً : _ نجد بذور التوحيد وألمفاهيم الأخلاقية مازالت ضمن المعايير السائدة "قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ۚ-;- قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)" يوسف، نجد هنا رغم عظمة الجرم الأخلاقي، وما يتبعه من انكسار نفسي واجتماعي، حيث أن صاحبة الخطيئة من أهل المكانة الرفيعة، إلا إن النوازع الأخلاقية و الدينية دفعت المرأة إلى الاعتراف بخطيئتها، وتحملت كل تبعاتها .
سابعاً : _ هذه السورة تؤكد على أن يوسف على نهج إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، وعلى أن صحف إبراهيم الخليل مازالت متداولة وبلغة الأم التي كتبت بها، أي إن اللغة الآرامية ما زالت حية ومتداولة في مصر والشام "وَكَذَٰ-;-لِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ-;- آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ-;- أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ-;- إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)" يوسف
ثامناً : _ من سمات هذه السورة أنها تضع معايير النظام العنصري ذو النعرات البغيضة عند الله وعند الناس وألتي تتمثل في ما يلي : ـ
أولا : _ الكيد "قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)" يوسف
ثانياً : _ الاعتزاز والتفاخر بالعصبية " إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (8)" يوسف
ثالثاً : _ الحسد وبغض النعمة عند الآخرين "أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا"
رابعاً : _ التآمر على الآخرين "اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا"
خامساً : _ حب الذات فقط "يَخْلُو لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ"
سادساً : _ القتل بغير ذنب "اقْتُلُواْ يُوسُفَ"
سابعاً : _ الكذب والخداع "قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ-;- يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) يوسف

ثامناً : _ الخيانة "فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ"
تاسعاً : _ التمثيل في المشاعر "وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16)" يوسف)
عاشراً : _ الاعتراف الضمني بالجريمة ونسب الدوافع للآخرين "وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)" يوسف .
هذه عشر صفات ستشكل بعد زمن، التجمع الذي كفر بالأنبياء وجحدوا بنعمة الله وفضله، وسيتم تطويرها وإضافة المزيد من الصفات الرديئة عليها، بحيث تمسي ملازمة له، ومن السمات الأخرى التي تعطينا إياها هذه السورة، وصول الهلاليين إلى أعلى المراتب الدينية والدنيوية، وذلك من خلال وصولهم إلى حكم مصر، ونشر التوحيد بعد اعتلاء يوسف العرش، "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا(100)" يوسف، وهذا الأمر سيعطي عقيدة التوحيد بعداً جغرافياً وبشرياً، حيث تم نشر العقيدة في مصر، واصبح اتباعها من المهاجرين _ الاموريين _ والمقيمين المصريين .
وسيستمر الأموريون في ألحكم إلى أن يأتي حاكم طيبة المصري، ويعيد الحكم إلى المصريين، ويضع الهلاليين ضمن القوانين والشرائع المصرية (العنصرية) القديمة، والتي ستكون جائرة وشديدةً عليهم، ثم يستخدم بحقهم كل أشكال البطش والجور، ويجعل منهم عبيداً أسرى للمصريين، فتكون هذه الحقبة من أشد وأظلم الفترات في تاريخ مصر نحو الآخرين. إذن مع عودة حكم الفراعنة إلى مصر، وما يحمل من عنصرية وبطش نحو الأقوام الأخرى المتواجدة فيها والذين أطلق عليهم (الهكسوس) الملوك الرعاة، وعن هذه التسمية سنجد في القرآن ما يشير إلى المهاجرين الهلاليين، الذين وصلوا مصر أن إحدى صفاتهم الرعي والتنقل "وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ (100)" يوسف، نجد هنا السبق التاريخي للقرآن الكريم وكذلك الدقة والصدق في سرد الخبر، فلم يكن الاخبار القرآني عن يوسف عليه السلام وعن اخوته الا اخباراً صادقاً وموضوعياً، ولم يخفي حقيقتهم رغم النبوة والمجد الذي وصلوا اليه .
فكما يفصل علماء الاجتماع التقاسم الوظيفي في المجتمع، الذي يعطي البدو مهنة الرعي وما يتبعها من بيع الحليب ومشتقاته والصوف وحياكته، وان البدوي لا يخرج عن هذه المهن إلا نادرا، ويبقى أسيرا لها ويورثها لأولاده، ولا أدل على ذلك من استمرار البدو في عصرنا بهذه المهنة، القرآن الكريم جاء ليفصل لنا حقبة زمنية مرت بها بلاد الشام ومصر تحديداً، بكل تفاصيلها الاجتماعية والسياسية، موضحا بأن مصر في هذا الزمن لم يحكمها المصريون وإنما الهلاليون المهاجرون إليها .
قبل الفض من هذا الأمر نود الربط بين الصفات العشر، التي جاء بها القرآن الكريم كمعايير للنعرات ألإقليمية والعنصرية، وبين أصحابها في سورة التوبة "الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)" التوبة "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)" التوبة، ثلاث صفات رذيلة للأعراب مقابل صفة واحدة حميدة، وهذا يدل على أن مهنة البداوة تحمل صاحبها على النفاق والكفر والأخلاق الرذيلة، وإذا عدنا إلى صفات المنافقين المذكورة في سورة التوبة، سنجدها ضمن الصفات العشر التي ذكرناها آنفاً، إلا إن القرآن أراد أن يزيد من وضوح صورة هؤلاء، فوصف لنا طبيعة حياتهم وهي التنقل والترحال ولا يعملون إلا بها، وكأن القرآن يرفض أن يشتغل قوم بكل فئاتهم مهنة واحدة فقط، لأنها لا تعطي ذلك ألمجتمع التميز والتنوع الذي سيسمح بوجود التنافس ثم التطور والرقي، إن العصر الحديث يعطي حقيقة ما ذكره القرآن عن هؤلاء، الذين يتبعون أهواءهم في كثير من الأحيان فهم الأداة الطيعة لكل من يصل إلى السلطة، ولا يتوانوا عن خدمته وبصرف النظر عن معتقداته ومسلكيا ته، ما دام يقدم لهم حاجاتهم الأساسية من طعام وشراب ومسكن وملبس.
إذن نستطيع القول أن سورة يوسف أكدت وصول الهلاليين إلى سدة الحكم في مصر وعلى التنقلات المتكررة ما بين الشام ومصر وعلى أن يوسف عليه السلام قد وصل عرش مصر وشكل بذلك مسألتين مهمتين في حياة مصر القديمة :
الأولى:- بداية تشكيل جماعة متميزة بعائلتها ونسبها النبوي
الثاني:- أنها أول دولة (عالمية) ـ نسبياً ـ تصل إلى الحكم وتدعو إلى التوحيد، فقبل هذه الحالة لم يذكر لنا القرآن الكريم أن هناك نبياً أو رسولاً استطاع الوصول إلى سدة الحكم، وإنما ذكر لنا أن الأنبياء والرسل عليهم السلام، وجدوا الاضطهاد والتشرد والعذاب من أقوامهم، فمن خلال هذا الوصول العائلي إلى الحكم، يمكننا القول أن بداية مجتمع متميز عن غيره قد بات يتشكل في مصر، وسيكون لهم إطاراً خاصاً بهم، يدفعها نحو المزيد من الأستعلاء على الآخرين ومن ثم المغالاة فيه، ليصل من الحدية إلى العزلة التامة وتقديس الذات، ونفي الإنسانية والفاعلية عن الآخرين نفيا تاماً، و تبرير وجودهم بإرادة ألهيه وجاعلة الهدف من وجود الناس كافه (لخدمتهم وإطاعتهم)، وإذا عدنا إلى التفاسير سورة يوسف سنجد بداية آمن الملك ثم تبعه الكثير من الناس، وأصبح العدل والتوحيد سيد الجميع، وقد عم السلام والازدهار عهد ذلك الملك الهلالي إلى أن توفاه الله ثم اعتلى العرش يوسف عليه السلام، وأسس بذلك أول دولة حاكمة بأمر الله عز وجل، تطبق شريعته وحكمه على الناس بصرف النظر عن أصولهم وفصولهم القومية، فكانوا جميعا متساوين أمام الشرع والدين وقد أسس يوسف عليه السلام، مملكة كانت المثلى في تحقيق العدالة والرقي الأجتماعي، حيث ما زالت شريعة إبراهيم هي المتبعة واللغة الآرامية التي كتبت بها الصحف متداولة بين الناس، ونحن نؤكد أن استخدام اللغة الآرامية في العهود اللاحقة، من قبل الفراعنة، دليل على أن اللغة الآرامية قد انتشرت في مصر وإنها أصبحت اللغة الأقوى والأرقى والأوسع إنتشاراً، ويؤكد على أن اللغة التي كتبت بها صحف إبراهيم، هي لغة متطورة جدا وقابلة للحياة وللاستمرار كما تحدثنا سابقاً، فلا يمكن أن ينزل كتاب من الله بلغة آيلة إلى الانحطاط والزوال وإنما بلغة راقية وعصرية ويستطيع استيعابها وفهمها أكبر قدر من الناس، ونعتقد أن عهد يوسف قد أعطى الحكم الهلالي لمصر عمراً إضافيا، لأنه جعل المصريين يلتفون حوله، ومن هنا نجد أن الحكم الهلالي لمصر استمر ولأكثر من مئتي عام، أزيل خلالها الاضطهاد الفرعوني لعامة الشعب المصري، وللأقوام والجماعات المتواجدة فيها .
ونحن نؤكد أن فترة حكم الهلاليين لمصر قد أزالت الفوارق الاجتماعية والقومية داخل مصر، وألغت نظام العبودية الذي كان سائداً، بحيث أن الفئات الأكثر عدداً قد أخذت حقوقها، ولم يتضرر من هذه الحقبة إلا الفراعنة وحاشيتهم من حكام المقاطعات والكهنة، من هنا سنجد شراسة وبطش الفراعنة لهولاء الهلاليين بعد أن يعودوا إلى الحكم .
قبل الفض من هذا الموضوع، نذكر أن صحف إبراهيم كما عاشت في مصر وتداولها المجتمع، كذلك استمرت كأحد أهم مصادر عقيدة التوحيد في الجزيرة العربية وبلاد الشام خلال هذه الحقبة من الزمن .
لقد فرط ورثة يوسف بالإرث الديني الذي تركه، وبدأ بينهم التنازع والتنافس على المكاسب والمصالح الشخصية، مما أدى إلى حل مركزية الدولة الهلالية، وبدأت تتشكل مجموعات قبلية تلتف حول اخوة يوسف، باعتبارهم ورثة الرسالة السماوية، ومن البيت النبوي الذي يتصل بإبراهيم عليه السلام، وتوسعت حدة التنازع بينهم مما أدى إلى المزيد من ألتشرذم والانحلال الديني والاجتماعي والضعف السياسي والعسكري، فأصبحت كل فئه تشكل دويلة مستقلة بذاتها، واخذ النظام العشائري والقبلي يمتد ويتسع ويتجذر أكثر فاكثر، من هنا لما وجد حاكم طيبة المصري الفرصة مواتية للانقضاض على هولاء الهلاليين، الذين أصابهم الوهن والضعف، وبدأ يشتد عوده، وارتفع طموحه وعمل على إعادة الحكم الفرعوني لمصر، وفعلاً نجح هذا الحاكم المصري في إعادة النظام الفرعوني، وعمل على الانتقام من هؤلاء الهلاليين بكل ما أوتي من قوة، فأعاد كل مظاهر الحكم المصري إلى سابق عهده، وبدأ عهد جديد من الذل والقهر يقع على هؤلاء الهلاليين
واستمر الاضطهاد الفرعوني للهلاليين، إلى أن جاء حاكم مصري يدعى (اخناتون) عمل على إعادة العمل بعقيدة التوحيد وإرساء العدل والحق ، فأزال كل أشكال الوثنية الفرعونية، وعمل بما تبقى من صحف إبراهيم، وأبعد الكهنة المصريين عن سدة الحكم، وأعاد ترتيب البيت المصري على أسس التوحيد، وأزال النعرة الإقليمية التي وضعها أسلافه، وكل أشكال الاضطهاد القديم الذي مورس في العهد السابق، وتم إزالة كل أشكال ومظاهر الحكم الفرعوني (الوثني) لمصر، فأعطى الأسرى والعبيد الذين استخدمهم الفراعنة الكثير من الحريات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مما يتعارض مع مصلحة الكهنة واصحاب النفوذ في الدولة، فبات هناك من يتربص لهذا الحاكم، وينتظر الفرصة لعودة العهد الفرعوني، وفعلاً تم إعادة كل شيء إلى نصابه بعد وفاته .
وسنورد النشيد التالي لمعرفة المزيد عن هذا الحاكم (اخناتون) الذي دعا الى التوحيد بكل معانيه
"ما اكثر مخلوقاتك
وما اكثر ما خفي علينا منها
انت اله اوحد ولاشبيه لك
لقد خلقت الارض حسبما تهوى انت وحدك
خلقتها ولاشريك لك خلقتها مع الانسان والحيوان كبيره وصغيره
خلقتها وكل ما يسعى على قدميه فوق الارض
وكل ما يحلق بجناحيه فوق السماء "
من خلال هذا النص نوكد على ان هناك ديانة توحيد دعا اليها (اخناتون) وقد اعاد هذا الحاكم امور مصر الدينية والاقتصادية والاجتماعية الى عهدها السابق عهد يوسف عليه السلام أي قبل وصول حاكم طيبة الفرعوني

من هنا نجد القران الكريم يخبرنا عن بعض حاشية فرعون ما زالت تؤمن بالله الواحد " وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ-;- وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ-;- وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ-;- إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر
واذا عدنا الى موقف السحرة من آية موسى، والسرعة التي امنوا فيها، تجعلنا نؤكد بان الفترة الزمنية التي جاء بها موسى علية السلام كانت مباشرةً بعد انتهاء حكم (اخناتون) التوحيدي ووصول حاكم جديد عمل على إعادة الديانة الوثنية المصرية الى ما قبل وصول يوسف عليه السلام، أي قبل عصر الهكسوس في مصر "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ-;- (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ-;- إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ-;- فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ-;- (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ-;- مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ-;- فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ-;- إِنَّمَا تَقْضِي هَٰ-;-ذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ-;- وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ-;- (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ-;- (74)وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰ-;-ئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ-;- (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ-;- وَذَٰ-;-لِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ-;- (76) طه
ان هذه الايات توضح لنا ما ذهبنا اليه من تتابع الاحداث السياسية في مصر، فما ان انتهى حكم التوحيد على يد حاكم طيبة الفرعوني، حتى عمل على اضطهاد كل من هو على ديانة التوحيد، وزعزعة الافكار التوحيدية من خلال دفع الموحدين الى العمل بالسحر، من هنا نجد السحرة كانوا على يقين تام بكل تفاصيل عقيدة التوحيد، ولذلك نجدهم اخذوا بمناقشة فرعون بامور العقيدة.
المتتبع لتفاصيل المحاورة مابين السحرة وفرعون يجدهم متمكنين تماماً من عقيدتهم وانهم قد فهموها ووعوها منذ زمن بعيد، فلا يمكن لمن يتحدث عن كل تلك التفاصيل العقائدية، من ثواب وعقاب والحديث عن الجنة والنار، وان يقبل بيع كل الترف والرفاهية والتخلي عن أرفع المناصب وتحمل أشد أنواع العذاب والبطش، ان يكون طارئاً او جديداً على هذه العقيدة .

إن حالة الذل والاضطهاد تترك عند من تقع عليهم، مشاعر السخط والبغض على الذين يقومون بهذا الاضطهاد، وكذلك على من لا يعملون لخلاصهم من هذا العذاب، وسيكون هذا السخط مضاعف ومركب، خاصة عندما تأتي حالة الاضطهاد والبطش بعد عزة وعظمة، حيث ستدفعهم الحالة البؤس الجديدة إلى التقوقع على الذات والنظر إلى الآخرين _ من سلبوهم _ مجدهم السابق، نظرة البغض والسخط وهذا ما حصل بعدما رجعت مصر الفرعونية، اشد بطشاً وجبروتاً بحق الهلاليين المتواجدين فيها، فأخذ ينظر إليهم على انهم أعداء جاؤوا لحكم مصر وإزالة النظام الفرعوني منها، ولا أدل على ذلك من الآية القرآنية، التي تتحدث عن موقف فرعون مصر من دعوة موسى التوحيدية "قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ-;- (57)"طه، والآية التالية تتحدث أيضا عن موقف أصحاب النفوذ من الدعوة "قَالُوا إِنْ هَٰ-;-ذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ-;- (63)" طه، من خلال هاتين الآيتين نؤكد أن القرآن الكريم قد اخبرنا أن هناك قوماً من غير المصريين قد وصلوا إلى الحكم، وعملوا على إزالة الديانة (الوثنية) المصرية، وتغير نظامها الاجتماعي والاقتصادي، واحلوا بدلاً منها نظاماً جديداً يتناقض تماماً مع النظام القديم، إن سيطرة المصريين على مصر بعد عهد اتون التوحيدي، جعل الكثير من الهلاليين يتعرضون لأشرس أنواع البطش والاضطهاد على يد الفراعنة وحاشيتهم، فتم استخدامهم كعبيد وكأسرى محرومين من كافة الحقوق، مما دفع هؤلاء المستضعفين وخاصة من كان منهم ذو مكانة رفيعة إن كانت دينية أو سياسية، إلى الانعزال والتقوقع على الذات، فهم يعتبرون أنفسهم ورثة إبراهيم واحفاده ، وبأنهم أول من أقام دولة تقيم شرع الله في الأرض، إلا انهم تناسوا أن إزالة تلك الدولة والنظام التوحيدي قد كان لهم يداً فيه، من خلال انحرافهم عن الطريق القويم الذي وضع اسسه إبراهيم عليه السلام، وتفضيل المصالح الشخصية على المصلحة الدينية والعامة، إن كل الأقوام والأمم المهزومة دائماً تنظر إلى التاريخ نظرة تعزية وتبرير لما آلت إليه الأوضاع في الزمن الحاضر وتعتبر أن الازدهار والمجد الذي تحقق في غابر الزمان يكفي، وتبقى أسيرة هذا التاريخ بدون فاعلية مستقبلية وحتى أن بعض فئاتها تنعزل عن الآخرين تماماً، وتعيش حالة من النرجسية جاعلة من ماضيها _ الذي تعتبر ذاتها جزءاً منه _ هو أسمى ما وصلت إليه الأمم والشعوب، ومع تطور مظاهر الاضطهاد والفقر تتوغل مثل هذه الفئات اكثر في عزلتها، وما أن يأتي أحد المؤرخين أو المصلحين ليذكر تلك الأمجاد الغابرة، حتى ترتفع وتيرة النرجسية والنظرة الدونية للآخرين وتستمر في العيش على النظرة الو رائية، ومطورة من فكرها الانعزالي حتى لا يمكن الفصل بين فكرها والمسار التاريخي للعلاقة الأقتصادية والأجتماعية التي شكلت تلك الجماعة .
إن عودة الحكم المصري جعل هناك أعدادا كبيرة من الهلاليين يعيشون حياة الفقر والاستعباد، فمنهم من عاد إلى موطنه ومنهم
من هاجر إلى مناطق جديدة، إلا أن غالبيتهم قد استعبدت من قبل المصريين، الذين لم يتوانوا عن إنزال اشد أنواع الاضطهاد والحرمان بهم، ومع تزايد الفروق الاجتماعية الجديدة والعلاقة القومية مع المصريين، تكونت مع الزمن فئات ترد على هذا الاضطهاد بالتذكير بالأمجاد الماضية، مواسية ذاتها بذلك، إلا إن الوصول المصري إلى الحكم قد تمكن اكثر، واخذ يفرض ثقافته ولغته على هؤلاء، مما أدى إلى تمايز لغة تلك الجماعة خاصة بعد أن ترك العمل بتطويرها، كما حدث في عهد يوسف عليه السلام، كل ذلك شكل فرعاً من لغة أو ثقافة أخذت من الحالة الاجتماعية والدينية والاقتصادية التي تعيشها خطاً موازياً لها، وبذلك ومع ترسيخها وتطويرها المسلكي والفكري للسلبيات التي وصفها القرآن الكريم في سورة يوسف، بداية من الكيد وانتهاءً بتبرير الجريمة، أخذ يتضح معالم خط فكري إنعزالي متخذاً من الحالة الاجتماعية الاقتصادية الدينية، بيتاً آمناً وتربة خصبة لأفكاره ومعتقداته، التي أخذت تظهر معالمها في جماعة أطلق عليها بني إسرائيل .
إذن اليهود هم جماعة هلالية عاشت في مصر، ونتيجة الظروف الأجتماعية والأقتصادية والسياسية والدينية التي عاشتها تشكلت تلك الجماعة، بعد أن تم إعادة الحكم الفرعوني إليها، وكانت عملية الأضطهاد والذل التي تعرضوا لها سبباً أساسيا في انتهاج فكر إنعزالي متشدد، أخذ يبرز عندها مستفيداً من تاريخ عريق ودين توحيد دعي له من قبل أنبياء يعتبرونهم من أجدادهم، هذه النظرة جعلت منهم جماعة عنصرية تنظر إلى الآخرين نظرة دونية، وبأنهم أبناء الأنبياء فهم من سلالة عريقة دينيا وعلى الناس جميعاً يجب أن يتبعوهم ويكونوا في خدمتهم، ومن الأمور التي ساعدت هؤلاء على العزلة اعتمادهم على كتاب سماوي _ صحف إبراهيم _ الذي كتب باللغة الآرامية التي اعتبروها لغتهم الخاصة .
وسنورد بعض النصوص من تفسير الرازي نؤكد ما ذهبنا اليه من هلالية إبراهيم واحفاده ، " قال الكلبي : كان أهله نحو سبعين آنسانا …وقيل حمله وهو حاف وحاسي من مصر إلى كنعان " وهناك اجماع عند المؤرخين والمفسرين على الاصل العراقي لإبراهيم، وعلى الهجرات الأمورية التي تحدث عنها القرآن الكريم، وهناك ثلاث آيات في سورة يوسف توضح لنا طبيعة البيئة الجغرافية التي كان يعيش فيها يعقوب وذريته "قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) " فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ" "وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ(99)" يوسف، من خلال هذه الآيات نجد إنها بيئة قفرا قاحلة يعيش فيها الذئب، الذي يدل على وحشيتها، ومن معالمها أيضا أنها قليلة المياه ولذلك يوجد بئر ماء معروف للجميع، إذن يعقوب يعيش في أطراف الطرق التي تربط مصر بالشام وليس في مدينة او منطقة حضرية، وهم تجمع عائلي يعمل على تأمين متطلبات الحياة مجتمعاً، من هنا يمكننا القول إن يعقوب عليه السلام يعطينا صورة واضحة لطبيعة الحياة التي يعيشها في البادية، فهي حياة قاسية وجافة وشحيحة المياه والعطاء، ويعتمد أهلها على الترحال والتنقل من الأماكن الجدباء القاحلة إلى الأماكن الخصبة وذات المياه .
ومثل هذه البيئة تشكل مجتمعها بصورة أكثر قسوة من غيرها، بحيث تجعل منهم يميلون إلى الحصول على قوتهم بكل الطرق والسبل، المشروعة وغير المشروعة، وأيضا التركيبة العائلية لمثل هذا المجتمع تدفع بأفرادها نحو المساواة في الكثير من الأمور، مما يودي إلى النظرة السلبية تجاه كل متميز من أفرادها، إن كان هذا التميز اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، مثل هذه العقلية ستستمر ليست باتجاه أفراد العشيرة الواحدة وحسب وإنما ستتجاوزها إلى العائلات والعشائر الأخرى، فما إن يتميز أحد الأفراد أو مجموعة أفراد من عائلة أو عشيرة بموضوع معين حتى يجد النظرة السلبية له من الآخرين، والتي ستعمل على انتزاع ذلك التميز وحرمانه منه، ضمن هذه البيئة الاجتماعية تربى يوسف عليه السلام والذي تعرض لكل إفرازات الحياة البدوية .
إذن هناك عقلية تتحكم بمسلكية المجتمع البدوي، وتعمل على التشبث بمنطلقاتها الفكرية والمسلكية ثم تسير بها إلى الوراء اكثر واكثر، والآن سنحاول أن نجمع بين سمات النعرة العصبية المذكورة في سورة يوسف، مع الحياة الأجتماعية التي يعيشها المجتمع البدوي، فكما تحدثنا سابقاً بان المجتمع البدوي ينظر إلى الأفراد والجماعات المتميزة نظرة انتزاعية ويعمل على حرمان الآخرين من تميزهم، فأولاً تتم عملية التفكير لوضع الطريقة التي تمكنهم من تحقيق هدفهم _ انتزاع التميز من الآخرين _ ثم العمل على انتزاعه فعلاً، ضمن هذه المسلكية سيتشكل سلوك اجتماعي يمارس هذا العمل باستمرار، بحيث سيكون مستقبلاً عادة اجتماعية _عادية _ ليس فيها من الخطيئة أو ألإثم شيء، بل هي عمل يحمد فاعله ويثنى عليه .
أما إذا لم يستطع هذا المجتمع انتزاع التميز من الآخرين، فسيكون هناك هاجساً انفعالياً داخلياً لديه، يحاول أن يعبر عنه من خلال تأليف قصص أو حكايات، تتحدث عن أخبار البطولة التي قاموا فيها والمجد الذي تحقق في غابر الزمان، محاولة ان تقلل من أهمية ذلك التميز، فإن لم تحقق هذه الوسيلة غايتها، ستعمل على نسبه لها، أو تحاول أن تقلد هؤلاء المتميزين إن أمكن ولو بصورة شكلية، من خلال استخدام اللباس أو اللهجة أو بعض العادات التقليدية، وبذلك سيكون هناك قطبين، قطب المحرومين من التميز وهم ألاكثريه، وقطب المتميزين وهم ألاقلية، وبسبب عدم القدرة للمحرومين من التماثل مع المتميزين سيندفعون نحو التعصب لانفعالاتهم ولثفكيرهم الضحل، وسيشكلون حالة خاصة بهم تميزهم ثقافيا واجتماعياً، وسيعملون على اخذ لهجة من اللهجات مبتعدين عن تطور أللغة ألام، ومع تطور العصر وما يترتب عليه من تطور المجتمعات في كافة الأصعدة، سيجعل منهم تجمعاً متخلفاً عن عصره، من هنا سيعملون على انتحال كل ما يصل إليهم من حضارة وثقافة الأمم والشعوب الأخرى، وأيضا العزلة تجعلهم يتخلفون أكثر عن جيرانهم المبدعين، مما يعمق الهوة بينهم، وهذا المتشكل الجديد سيلعب الدور الأكبر في مسلكية هذا التجمع، بحيث يكون الفعل أو العادة الفردية قد تطور إلى فعل اجتماعي، يمارس من كل افراد هذا التجمع، ومن هنا سنجد التآمر على الآخرين بكل السبل والأساليب .
إن التجمعات المتطورة دائماً ينظر إليها نظرة استحسان من الآخرين، أما التجمعات غير الفاعلة حضارياً أو التي لا تستطيع أن تواكب التطورات الإنسانية، فإنها تتجه نحو الهاوية وتتوغل أكثر في مسلكيها والمتمثلة في نرجسيتها اتجاه الآخرين، من هنا نجد هذا التجمع القبلي قد طور حاله فكرية تتمثل في ( الأنا ) منعزلة عن التطور الحضاري، ومع تصاعد الهوة مع المجتمعات الفاعله، سيتشكل سلوكاً جديداً يعمل على امتصاص ردات الفعل، وفي ذات الوقت يحقق الغاية العامة لهذا التجمع _ تحطيم كل ما هو عند الآخرين _ من خلال الكذب والخداع
وفي الجانب الآخر هناك تنافس بين الفاعلين أنفسهم، وفي أحيان أخرى العداء ولذلك كان لابد من تشكيل الأحلاف والمعاهدات بين المجتمعات والشعوب، وبما أن المجتمع البدوي اقل حظاً في كل مظاهر الحضارة والثقافة الإنسانية، فانه سيركب الموجه إن استطاع، وفي أكثر الحالات يفضل الإبقاء على عزلته، أما إن تم ودخل مع أحد في حلف أو معاهدة فانه سينقض على حليفه في أقرب فرصة يشعرون بها إن الكفة مالت على حليفهم، متخذين من فكرة التحطيم والإزالة سلوكاً وحيداً لتحقيق التوازن الأنفعالي لديهم، وإذ أمكنهم لن يتركوا حلفاءهم وحيدين في المعركة وحسب، بل سيشاركون في عملية التحطيم والإزالة إن كان بالقتل أو تقديم العون والمعلومة للعدو، وإذا ما انقلبت الأمور، أو أن لهم مأرباً آخر سنجدهم يستخدمون مظاهر الإنسانية والأخلاقية، ليوهموا الآخرين بصدقهم وإخلاصهم، وفي حالات أخرى عندما تتساوى فيها موازين القوى، يعملون على تبرير تخاذلهم بعدم قيامهم بواجبهم اتجاه حلفائهم بالذرائع والأعذار
إذن نستطيع القول إن الصفات العشر قد تكونت في المجتمع البدوي، والذي عمل على زيادة فاعليتها، ثم اخذ بها إلى طور جديد تتوازن مع عدم الفاعلية الحضارية والثقافية، فالمعضلة ترسخ أكثر عند الجماعات القبلية، حتى وهي تعيش في بيئة اجتماعية فاعلية، فهي أينما حلت تحمل صفاتها وخصائصها السلبية التي تحد من تفاعلها مع الآخر، حتى وهي في علاقة مباشرة مع الحياة المدنية، ومع تطور الزمن والمجتمعات تبدأ هذه الفئات بالانسلاخ والعزلة عن الأماكن والمجتمعات الفاعليه، وبذلك تتوغل اكثر لتقنن في عزلتها، مما سيؤدي بها إلى التفكير المتواصل لازالة الخير والتميز من الآخرين، وبذلك سيتشكل تجمعاً منبوذاً كلياً، لعدم فاعليته ولمواقفه التآمر يه من الآخرين، وبذلك لا يمكن لها أن تعيش إلا إذا اخفت حقيقتها وأظهرت ما ليس فيها وبذلك سيغدو هذا الفعل _ التظاهر _ كأحد أهم الصفات لهذه الجماعة .



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النص القرآني (اول الكتب السماوية)
- ( النص القرآني ) عدم نضوج علم الكتابة
- مدخل الى النص القرآني
- أيهما خطر الكيماوي العربي أم النووي الإيرني؟
- الدين بين التطور والنزول من السماء
- الماركسية والدين
- الثورة العرابية لرفعت السعيد
- السادات والبحث عن الذات
- غطاء العقل العربي
- الثابت والمتحرك والعقل العربي
- أوراق بعيدة عن دجلة
- المسألة الطائفية في مصر
- الفدائي الصغير بين الشكل الأدبي والمضمون
- ماركو فالدو والتقديم الهادئ
- عمارة يعقوبيان والفساد الطاغي في مصر
- التشدد والتكفير
- استنساخ قرطاج في بغداد ودمشق
- الديانات الثلاث ودخول الجنة
- التخندق القبلي في المجتمع العربي
- أوهام الشيوعيين الفلسطينيين


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - النص القرآني) يعقوب واولاده عليهم السلام