|
حديقة - قصة قصيرة
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1217 - 2005 / 6 / 3 - 13:08
المحور:
الادب والفن
انقضت ستة أيام دون أن نتخير اسما للصبي الوليد . كانت فرحتنا به غامرة ، الأيام الأولى مرت ونحن نتبادل حمله وتقبيله ونناديه من دهشتنا كل لحظة باسم . فإذا نام قصدت غرفته بين وقت وآخر ، أجلس بصمت على حافة السرير أرقبه وهو يغط في النوم ، رقبته مثل غصن ، ووجهه مثل وردة ، أتملى ملامحه الدقيقة طويلا حتى أرى ابتسامة ناعمة فوقها سحابة رقيقة من الهناء ، فأدعو الله أن يسعد الناس جميعا . في اليوم السابع كان لابد له من اسم لنضعه في شهادة الميلاد . ترددت أسماء كثيرة كل منها مرتبط بذكرى أو أمل. وطالت الأمسية وانفضت ثم دخل الليل علينا . وشعرت بالتعب ، فقمت لأنام في مكان آخر . وقفت في الصالة شبه المعتمة أفرد ملاءة في الهواء لأضعها على الأريكة ، متسائلا : ما الذي يراه الطفل في منامه ليصبح سعيدا هكذا ؟ وبان وجه جدتي : التجاعيد الخفيفة حول زاويتي فمها، ونظرتها الوديعة ، والطيبة التي تسكن ملامحها ، تقف إلي جواري في الشرفة وأنا صغير ، وتهبط ببصرها إلي السيارات المصطفة تحت وتسألني : لو اخترت لنفسك سيارة فأي لون تنتقي ؟ . مددت رقبتي لأسفل محدقا واخترت . رأيت جدي أيضا ، مرق وجهه بسرعة ، ثم أمي ، وأبي ، فأخي الكبير ، وهم مجتمعين في مناسبات عائلية وأعياد يتبادلون الأحاديث . نهضت من مكاني ومضيت فترة في عتمة حتى طلع نور ، فسرت قليلا في ممر طويل مشمس ، برزت من جانبيه أغصان ملتوية مطلية بالأبيض تحمل زهورا حمراء وصفراء ، وتقدمت في ضوء هادئ بين بقع الضوء والظل ، يهب على هواء منعش مشبع برائحة الفل. قادني الممر إلي وسط الحديقة الصغيرة المعلقة كربوة في النور اجتمع فيها الأهل . كانت أمي أول من شاهدني وهي جالسة بروب منسدل متكئة بمرفقيها إلي منضدة مستديرة وبيدها سيجارة ، ابتسمت بسعادة . جلس أبي عن يمينها وقد حاد عنها قليلا واضعا ساقا على ساق ، ابتسم هو الآخر . وظهرت جدتي قادمة إلي الضوء الأبيض في ثوب باهت السواد كأنه بنفسجي تحمل بيدها شيئا ، ربما طبقا ، أو كوب ماء . ونظر لي جدي من ركن ، ثم أخي الأكبر الذي حدق في وجهي طويلا بعينين يقظتين ممازحتين . كان الجميع سعداء بقدومي ، وضح هذا من نظرات السرور والبهجة الخفيفة التي شملت حركاتهم . وجدتني جالسا على كرسي . وأخذنا نتبادل الحديث دون كلام كأنما كان يكفي أن يفكر أحدنا في شئ فتنتقل الفكرة إلي الآخر ، ويرد عليها ، ويطلع الجميع على رده . سألوني عن أخوتي وأخواتي وزوجتي وأعمامي ومعارف قدامى فقلت إنهم جميعا بخير. لم يكن باديا من أخي في الجو سوى كتفيه ورأسه حين قال : لماذا لم يأت أحد معك ؟ قلت وأنا أتخيل مشقة المشوار : سيأتون . همست أمي: اشتقت إليهم . هز أبي رأسه يؤمن على قولها. تذكر أحدهم عمتي ، وبناتها ، وطمأنتهم أنهم جميعا بصحة وفي أحسن الأماكن . شع الجو حولنا وتخلل وهج متورد كل شئ ، الملاعق التي تضوي ، وبشرة الأيادي ، ومساند الكراسي . لزمنا الصمت ، وحدنا في ذلك السكون ، نعب من سعادة رفت بداخلنا مثل رنة هينة بعيدة على إصبع بيانو ، ووجوهنا تترقرق وتتكسر في اتجاه النسيم . التفتت أمي نحوي سائلة : هل اخترت اسما للولد ؟ . وبدا ذات السؤال بقوة في أعين الآخرين . أجبت بنظرة حاولت أن تشملهم كلهم : جئت أسألكم . قال جدي: سنجد اسما . أعطتنا جدتي ظهرها واختفت مغمغمة : لابد من ملح ينثر ، وهاون ومدق . تحلل الضوء وتكسر ، ولاح لي وجه الصبي يختلج ، ثم تشنجت ملامحه في بكاء متقلصة في الهواء . رفعته إلي صدري ، وضممته فتشبثت أصابعه بقوة برقبتي . ما الذي يراه الطفل في أيامه الأولى لينشج هكذا ؟ من البقعة التي غيبت جدتي هبت دفقة هواء بارد . مد والدي يده لأخي الكبير بشال خفيف، فوضعه على كتفيه وهو يزم شفتين زرقاوين . تجمدنا في الصمت ، ساهمين ، دون أدني حركة ، سوى رعشة أهدابنا الخفيفة ، عائلة واحدة ، وحدنا ، من دون غرباء ، لنا تاريخ مشترك تشعب فينا وتجمد . ظهرت جدتي وقد تدلت من قبضة يدها حزمة أعواد جافة هشة ، جالت بعينيها في المكان وظلت على وقفتها صامتة . الآن كنا جميعا ننتظر ، بأمل ويأس ، الآخرين : الذين كان الدم الحار مازال يندفع إلي وجناتهم، والغبار يعلق ببشرتهم ، والكلمات تصدر من حلوقهم ، أولئك الذين ما زالوا أحياء . *** أحمد الخميسي . كاتب مصري
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المستشار محمد بك نور .. الذي برأ طه حسين
-
أيام واحات صنع الله إبراهيم
-
التمويل الأجنبي عمالة صريحة
-
جذور للكتابـة
-
المادة 76 في حياة مصر الثقافية
-
معرض القاهرة والكتب
-
طول لسان رياض النوايسة
-
في وداع كاتب شريف
-
كلمة سحرية تتحدى الزمن
-
-- قصة قصيرة - بط أبيض صغير
-
من تثقيف العسكر .. إلي عسكرة المثقف
-
كعك أمريكي لسكان الفالوجة
-
ياسر عرفات .. تغريبة أخيرة
-
ليلة القبض على العريش
-
عبد الحليم قنديل .. اختطاف الحقيقة
-
محطة الضبعة ومستقبل مصر
-
العالم يحتفل بمئوية تشيخوف
-
صفحة الحوادث والأدب الروائي
-
القمة والقمامة في مصر
-
ثورة يوليو .. بهجة التاريخ
المزيد.....
-
-الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال
...
-
-باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
-
فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
-
مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
-
إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|