أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - -- قصة قصيرة - بط أبيض صغير














المزيد.....

-- قصة قصيرة - بط أبيض صغير


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 1049 - 2004 / 12 / 16 - 11:58
المحور: الادب والفن
    


بط أبيض صغير
قصة قصيرة
أحمد الخميسي
من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . منذ شهور طويلة لم أعد أشتري الصحف ، أية صحف ، لم أعد أفتح التلفزيون . توقفت عن توقيع البيانات السياسية ، وتوقفت عن النقاش فيما يحدث حولنا . أخبار الأحداث السياسية الهامة صرت أتسقطها من أفواه معارفي خلال مكالمات هاتفية عابرة ، أو لقاءات بالمصادفة وسط المدينة . قلت لنفسي : لا شئ يتغير إلي الأفضل . وكنت أعلم أنني مخطئ ، وأن ما أقوله يعني أنني لا أرصد التغيرات بدقة . فلابد أن هناك أشياء تتحرك إلي الأحسن وأنا لا أراها . توقفت عن الكتابة في القضايا السياسية حتى عندما ُضربت رفح على حدود مصر ضربا وحشيا ، وتهدم من غزة ما تهدم ، وفقد ثلاثمائة ألف فلسطيني نصف دخولهم ، لأنهم شعب يؤمن بأن الهواء الذي زفرته رئتاه هواؤه ، وهم يقولون له إن ذلك الإيمان تعصب ، ثم يتبعون ذلك بقصف جديد .
من قبل كنت أتابع كل ما يدور من أحداث ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . لكني بحكم العادة والفضول القديم أشغل التلفزيون من حين لآخر، أكتفي فقط بمشاهدة مقدمة النشرة الأخبارية ، وخلال ذلك ، مثل الماء الذي ترفع عنه السدود فجأة ، تتدفق نعوش أطفال الفلسطينيين من شاشة التلفزيون إلي صالة بيتي ، يحملها الناس وهم يهرولون بها قبل أن تشن عليهم غارة جديدة في الشوارع المحاصرة. أغلق التلفزيون وأندم على اللحظات القصيرة التي فتحته فيها . أغلقه ، لكن طوفان الأطفال يكون قد سرى من الشاشة الصغيرة وشغل كل فراغ في شقتي . طوفان ، ينظر إلي بعدم فهم ، نظرة مشبعة بالتساؤل ، لأنه احتمي بجدران بمنزلي دون استئذان وشغل كل المساحات الشاغرة بين قطع الأثاث في الصالة وفي غرفة نومي ، ومكتبي ، وجانبي الردهة الممتدة إلي الحمام والمطبخ . يستريح الأطفال المبتلون برذاذ الموت قليلا ، ويألفون المكان ، ولا يغادرون مسكني ، لأنهم خائفون من الدنيا المرعبة في الخارج . وما أن أنهض من مكاني حتى يسارعون بالتدافع خلفي مثل سرب من البط الأبيض ، ويتبعون خطواتي أينما توجهت برؤوسهم المشجوجة وبشريط من شاش أبيض يربط الفك السفلي بأعلى الرأس . صفوف متعرجة ومتكدسة من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ زمن وتتبع خطواتي ، كأنها وجدتني بعد جهد ، وتخشى الآن أن أضيع منها ، فتتنقل ورائي من غرفة لأخرى ، وتسارع بالالتفاف حول قدمي في المطبخ . حين أكون مضطرا لمغادرة المسكن ، تقف صفوف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة ، تمط رقابها النحيلة الطويلة لأعلى ، تتفحصني ، تهز رؤوسها قليلا ، ومناقيرها مثبتة من أسفل بقطع شاش معقودة عند رؤوسها الصغيرة . ينظر البط إلي صامتا إن كنت سأعود إليه أم لا ؟ . أرجع في المساء ، وأفتح الباب بهدوء ، فتخفق أجنحة البط الأبيض في الهواء ، وتضطرب صيحاته في ما بين الباب والصالة ، وتسبح في الجو عيون مغلقة وأحذية وصنادل صغيرة ملونة . أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا ، أتجه نحو غرفة مكتبي ، وتتدافع الصفوف ورائي، أتوقف أمام باب الغرفة ، وأشيح بيدي له لكي يتراجع ، أريد أن اهتف فيه، لكنه يظل واقفا ، صامتا ، وأعينه معلقة بي . في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في غرفة نومي ، وفقط حين أرقد في فراشي ينعس فوق صوان الملابس ، وعند حافة النافذة ، وعلى طرفي سريري ، فإذا تقلبت على جنبي ، أو تحركت ذراعي وأنا نائم يفتح أعينه بفزع وينقل نظراته ما بيني وبين باب الغرفة، أتطلع إليه في العتمة ، فيحدق في ، بصمت ، ورهبة ، وأمل . منذ زمن يداخلني شعور أن على أن أعيد تلك الكائنات الصامتة إلي هيئتها الأولى ، وأن أفك عنها وعني السحر الذي ربطنا هكذا . أفكر في كل ذلك ، وأهرب من كل ذلك إلي الكتابة في النقد الأدبي ، أكتب ، وأحس بالخجل ، لأن زجاج نوافذ شقتي يكاد أن يرتج من صوت القنابل الإسرائيلية ، لكني أسد أذني وقلبي بإحكام ، وأواصل عملي في المساء فأسجل ملاحظات عن تقنيات القصة القصيرة ، أو التقدم الذي حققته الرواية ، ثم أخرج لأتجول قليلا في الشوارع القريبة . أعود ، أفتح الباب ، فتلقاني الأجنحة البيضاء التي يتطاير منها الزغب الخفيف في الهواء ، وأجد أمامي تلك النظرات الخرساء ، فأشعر أنني كنت هاربا ، مثل جندي تسلل من موقعه خلال القصف وهبط من تل مشتعل بالنار إلي أشجار الغابات البعيدة . يقول لي صديق : " الحياة لا تتوقف ، والنقد والصحافة مهام ضرورية لا تتعطل " . أهمس لنفسي : " بالطبع . يد محترقة لا تمنع اليد الأخرى من دفع الطعام إلي الفم " . لكني أحس بمرارة وأنا أفعل كل ما هو ضروري ، أو حين ألتقي بأصدقائي القلائل ، أو أضع شفتي على حافة كوب الماء فأجد صفوف البط الأبيض تتطلع إلي بنظرة كثيفة مبهمة ، أحدق فيها هاتفا : وهل أنا المذنب ؟ هل أنا الذي ألقي بالقنابل كل يوم ؟
منذ زمن توقفت عن القيام بأي شئ . كل ما أفكر فيه ذلك البط الأبيض الذي يحيا في مسكني ، و يتخبط حولي ، ويمنعني من التنفس أو تناول الطعام براحتي، دون أن يصدق أنني برئ مما يحدث ، ودون أن يكف عن التماس الحماية . الزغب الأبيض الخفيف الذي يهفهف في أجواء الحجرات كلها ، دخل صدري يوما بعد يوم ، إلي أن وقفت صباح أحد الأيام وربطت بشريط من شاش فكي السفلي بأعلى رأسي ، ثم تجمدت بين الصفوف البيضاء ، ورفعت رقبتي النحيلة لأعلى ، وصرت أمشي معها بصمت في الغرف الفارغة ، وجناحاي يخفقان في الهواء ، أشهق لأعب نسمة ، على أمل أن تطرق الباب علينا يد بشرية .

***
أحمد الخميسي - كاتب مصري



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من تثقيف العسكر .. إلي عسكرة المثقف
- كعك أمريكي لسكان الفالوجة
- ياسر عرفات .. تغريبة أخيرة
- ليلة القبض على العريش
- عبد الحليم قنديل .. اختطاف الحقيقة
- محطة الضبعة ومستقبل مصر
- العالم يحتفل بمئوية تشيخوف
- صفحة الحوادث والأدب الروائي
- القمة والقمامة في مصر
- ثورة يوليو .. بهجة التاريخ
- نموذج بولاق .. لسيادة العراق
- طانيوس أفندي عبده .. الكاتب المجيد
- بط أبيض صغير
- أدب سياسي
- مجموعة - نيران صديقة - لعلاء الأسواني
- ترجمة الروح
- فاطمة زكي ونساء الثورة
- كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد
- وجهة نظر روسية في الاستراتيجية الأمريكية لعالمنا
- الشيخ أحمد يـاسـيـن ما الذي اغتالوه .. ؟


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - -- قصة قصيرة - بط أبيض صغير