أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد العلمي الوهابي - سجين















المزيد.....

سجين


محمد العلمي الوهابي

الحوار المتمدن-العدد: 4217 - 2013 / 9 / 16 - 05:57
المحور: الادب والفن
    


سجين أنا... نعم أنا سجين. دفين هذا الوكر الإسمنتي، نزيل بلاد هواؤها أصفر،

كررت المعلومات أعلاه غير ما مرة، نحتها في كل مكان وجدتُ فيه، بحبر سري، لم يفضحه سوى هذا السخط العارم، قلتها للأصدقاء بأكثر من لغة وطريقة، دونتها في المدونات والمواقع الإجتماعية والمنتديات والأوراق، سئمها الجميع، ولم أسأمها، لأنها لم تسأمني...

سجين أنا... ليست بالمعلومة الهامة، ولا بالشيء الذي يستحق أن يثار نقاش أكاديمي حوله، مادام كل من قيلت لهم، يحملون سجوناً ومعتقلات على أكتافهم، ماداموا هم أنفسهم، سجناء أنفسهم، وانتظاراتهم الخاصة، فهم مثلي، سجناء، منهم من يحظى ببعض الإمتيازات، كتنفس الأوكسجين، والمبيت في العراء، وقول: لا، لكنني في هذا الوكر الإسمنتي الفاخر، ممنوع من أشياء أهمها الظل، وممنوع قلبي، من أن يضخ خمس لترات من الدم الصافي كل الدقيقة، محكوم بزنزانة متحركة، تنتقل معي في اتجاهات مرسومة، مسكون بالخوف، بالترقب، والضبابية...

من الجيد أن نبدأ بدايات صحيحة يا أصدقاء، حتى لا نتوه في دهاليز سوء الفهم مرة أخرى، اسمي، لا يهم بهذا القدر، موسوم به في أذني كبقرة، عنواني، هو الزنزانة الأولى شمال غربي المعتقل، أسند ظهري لجدار مريح، صار بعد سنين من الإعتقال مزعجاً...

كما ترون، هي معلومات تافهة لبعضكم، هراء بلا معنى لبعضكم الآخر، لكن أحكامكم يا رفاقي كلها مستأنفة، ومنقوضة منذ البدء، لسبب بسيط هو، أنكم لا تجلسون في مكاني!

وماذا أفعله هنا غير تكرار الكلمات، على قدر رتابة الألم، أنا يا من تهتمون، واستطعتم أن تستمروا في الإصغاء إلى هذه المرحلة، انسان مريض بالإنتظار، والخوف، والقيود... وغيرها من الأشياء الرتيبة... لا، لا تبدؤوا الآن في سرد حلولكم السحرية، وانتقاداتكم الساخرة، وحذلقاتكم العبقرية، يجب أن أتكلم، وأقول أشياء كثيرة، أعلم سلفاً أن أغلبها لن يحظى بأي اهتمام منكم، يمكنكم أن تنصرفوا عند هذه النقطة بعد أن تتركوا بعض الشتائم والبصقات هنا، لن ألومكم على رد الفعل هذا، لكنني سألومكم إن كنتم تعتقدون أنني أطلب النجدة منكم، أو أنني، بهذه الكلمات، استدر عطفكم، واستثير شفقتكم، سألومكم حينها، لأنكم ستكونون مخطئين، مخطئين تماماً...

فأنا، حين أبدأ بالكتابة، بهذه الطريقة البغيضة، المنفرة، المملة، المسقمة، إنما أصف بشكل دقيق، الطريقة التي يحيا بها أمثالي من السجناء في هذا الجزء من العالم، سيقول قائل، لماذا تصف لنا هذا؟ من سيعبأ بكل هذا؟ سأقول مجدداً: كل من يشعر بهكذا تساؤلات تتردد في جوفه وقبل أن يخرجها إلى العلن، فليتفضل مشكوراً بالإنصراف، أو الإنتحار... لأنني لم أوجه دعوة لأحد في الأصل، وإنما أقول هذا، وأصفه، لحاجة في نفسي، إلى القول، إلى استخراج الألم المعتصر بداخلي، بالكلمة، وبهذه الطريقة اللعينة بالذات، وحتى ننتهي من هذا الجدال العقيم، أحب العودة إلى نقطة الإنطلاق، إلى اللازمة المقرفة ذاتها...

سجين أنا... ليست شكوى، بل هو أنين، وإن كنت أبالغ في نظر الباقين هنا، فليتفضلوا وليثبتوا لي ذلك، لستُ مضطراً إلى سرد كل حيثيات الإعتقال، يكفي أن أعيد تكرار تلك المعلومة مرة أخرى: لقد ولدت في هذا السجن، وترعرعت فيه، رباه! يزعق أحدهم الآن قائلاً، كأنك أتيت بشيء جديد وأنت تقول ذلك! اللعنة، يسترسل...بحكم ثقافتنا الكبيرة، وإلمامنا العظيم بواقع الأمور، فنحن نعلم هذا دون أن تقوله... لكنني سأقاطعكم هنا، علمتم ذلك أم لم تعلموا، ليس بالشيء الهام بالنسبة لي، لكن الحاجة الملحة في نفسي إلى الإعتراف، إلى البوح، إلى تكرار الكلمات على قدر رتابة الألم، إلى التوجع، والأنين، والسخط، وحفر الأرضية بأظافري، وفي هذه اللحظة بالذات ينفجر بركان بداخلي، يعقب دخاناً كثيفاً، يتشكل منه مارد رهيب، يزعق بأعلى صوته:
عليكم اللعنة أيها المتحذلقون! هل تستكثرون على مريض أن يتألم!

لا يوجد دواء لهذا المرض، ليس عندكم على الأقل، حتى لو كنتم تحتفظون به، فلن أطلبه منكم، لأن هذا الكبرياء الذي يكتم أنفاسي، ويجعلني أبدو مهرجاً أمام نفسي، يمنعني من أن أطلب منكم أي شيء، وهنا بالضبط، لن أسمح لأحدكم أن يبادر لأن يقدم لي إكسير الحياة ذاك فقط لأنه تأثر بهذا البوح، أو لأنه شعر بوخزة ضمير تجاهي، أما الحمقى منكم، الذين ولدوا بوجوه شوهتها كثرة الأفواه المتكلمة، بلا آذان ولا أعين، فهم موكولون إلى حمقهم، ولا يستحقون في هذا المقام سوى ما تستحقه ذبابة مزعجة لا تكف عن الطنين... ومرة أخرى، يقضني الألم، فأقول:

سجين أنا... سجين البشر، سجين المظاهر الكرتونية، سجين الأقنعة المبهرجة، سجين الكلمات الغامضة، التي لم أضع لها ملحقاً للشرح والتبسيط، لأنني لست معلم صف، ولا دكتوراً محاضراً في جامعة، لأنني، آبى ذلك فقط، بدافع الكبرياء، أو بدافع السخرية من الآخرين، بينما علامات الإستفهام والإشمئزاز والإستهجان ترتسم في ملامحهم وهم يقرؤون هذا "القيء".

يكفي أن أكتب بكلمات تفهمونها جيداً، جملاً قد لا يفهمها في الغالب سواي، ولستُ في هذا الصدد مغروراً ولا متعجرفاً، سأشعر بالذنب إن ظننتموني كذلك، فهناك فرق كما هو معلوم، بين التكبر والكبرياء، ويمكنكم أن تراجعوا قواميسكم للتأكد من هذه المعلومة...

وأنا أخربش هذه الكلمات، أرى الإنسان الصرصار منتصباً أمامي يشير إلي بأصبعه السبابة ساخراً، يقول، وقد سال اللعاب من فمه القبيح، وانطلقت ملامحه تشي بكل حمولة للسخرية والإزدراء: يا له من مقلد فاشل!

ما ذنبي يا سيد دستويفسكي، ما ذنبي إن كنت قد سبقتني إلى هذا المنولوج السخيف، أو الغريب، بحسب الأذواق، منذ زمن بعيد؟ ما ذنبي أن أكون انسانك الصرصار إذن؟ لم اختر هذا المصير عن طواعية، على أية حال، بل فُرض علي فرضاً، غير أن العلامة الفارقة بيني وبين انسانك الصرصار، أنني أكثر قتامة، وأقل ميولاً للسخرية والهزل، وأكثر إضجاراً وبعثاً على اليأس والقنوط والرغبة في البصق...

اوه، أسمع أحدهم يقول كلاماً معروفاً لأذناي: يا له من سوداوي غبي، يا له من عدمي تافه، يا له من ثرثار سخيف، يا له من أحمق، يصدع رؤوسنا بأنينه، بدل أن يجد معنى لحياته، بدل أن يعكف على حل مشاكله بعيداً عن إضجارنا...

اوه، لحظة، لا استطيع أن أصبر إلى نهاية هذا الكلام، فعذراً إن قاطعتكم، لكن هذا الكلام معروف جيداً بالنسبة لي، حفظته عن ظهر قلب، وسئمته بدوري، لحظة واحدة، لأخرج قضيبي، وأجعله يوصل الرسالة التي أود أن أقولها رداً على هذا الكلام...

لا تعتبروا أن في الأمر إساءة ولا احتقاراً أيها السادة المحترمون، أنا فقط أبول على ما تقولون، وكل هذا، في إطار المواثيق الدولية التي تكفل للإنسان حرية أن يقتل أخاه الإنسان باحترام، ويبول عليه بعطف، ويضرم النار فيه بهدوء...

كل هذا مجرد هراء، وكل ما قلته، وما أقوله الآن هراء، لكنكم يا أحبتي، لن تعرفوا، أبداً لن تعرفوا، لسبب بسيط هو، أنكم لا تجلسون في مكاني، لأنني أعجز مهما حاولت، أن أقرب لكم الصورة، ولأنني أصلاً، لستُ مطالباً بتقريب الصورة إليكم حتى لو أردت ذلك تطوعاً، ولماذا سأقرب لكم الصورة؟ وفيما تعنيكم الصورة؟ إنها صورتي القبيحة، الهذيانية، المنفرة، إنها صورة تخصني وحدي، إنها ملك لي، وحدي من يدرك معالمها، ويحفظ شخوصها واحداً واحداً، ما دمتم لا تجسلون حيث أجلس، ما دمتم لا تملكون عيني، أو الذكاء الكافي لتعرفوا عن ماذا أرطن، فأنتم مطالبون بالإنصراف، فضلاً لا أمراً، فأنا هنا أتوجع فعلاً، وكل حرف أضعه هنا يصف وجهاً من ذلك الوجع، فأنا، في محكوميتي التي كُتبت قبل سبعة وعشرين سنة، قرر أحد القضاة الذين أشرفوا على ملفي، أن أتحدث بكلمات معروفة، تشكل جملاً غريبة، غير معروفة...

كفى إسفافاً إلى هذا الحد، فقد انحططتُ أكثر من اللازم وأنا أحاول أن أشرح لكم، وأبسط لكم، وأجعلكم تفهمون، لقد خصصتُ لكم مكاناً لتؤتوا فيه ما شئتم من ردود أفعال سلبية، وعودة إلى النقطة المحورية مرة أخرى، أقول ـ وأنتم تعلمون هذا ـ أنني سجين، ما أفظع هذا السجن، لو كنتم تعلمون، ما أقبح أن يكون المرء معتقلاً بينما يذرع الشوارع، ويجلس في المقاهي، ويسد الفراغات اليومية بما يناسب أو ما لا يناسب... ويأكل ويشرب، ويقتعد كرسياً مريحاً كهذا، بينما هو سجين في الواقع، محروم من الأشياء الحقيقية، محروم من أن يكون طبيعياً كالآخرين، سوياً كالآخرين، انساناً كالآخرين، غبياً أو ذكياً، لكن كالآخرين...

كل ما قيل أعلاه ليس وهماً ولا هلوسة، بل هو حقيقة مرة، تصف بكل دقة قبح الصورة، وقبح هذا الوكر الإسمنتي الذي أعيش فيه...

مخدوعون نحن بما نراه من سخافات جيدة تملأ الفضاءات من حولنا، خُدعتُ شخصياً بها لفترة من الزمن، لكنني استيقظتُ ذات صبيحة، عن غير قصد، لأجد كل هذا الجمال، مجرد رسومات أبدعها أحدهم على جدران زنازنتي...



#محمد_العلمي_الوهابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أخجل بكوني انساناً
- في انتظار المهدي الذي لن يأتي...
- قصة التاريخ... قصة الإنسان
- من وحي الفجر
- حيث تنطلق القوارب
- محاولة لإحباط الجميع
- قواعد الدين المسخ
- حديث الحلوان
- ربيع قاتل
- عربي أنا
- إلى إبراهيم
- إشكالية الفوضى السلبية في مجتمعنا
- ليل مريض
- حلم سوريالي
- رماد أحمر
- جرد لعام الثورات المشرقية
- بين الثابت والمتغير
- وطني الغالي
- النبَّاحون الجدد!
- رجال الدين امتداد للأوثان العربية القديمة ...


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد العلمي الوهابي - سجين