الجينوم دساس

مصطفى الصوفي

الحوار المتمدن-العدد: 4197 - 2013 / 8 / 27 - 11:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

العلم هو وسيلة إنسانيّة تعتمد على استخدام المنطق التجريبي والأسلوب المنهجي لبناء المعرفة حول استكشاف الوجود ، لكننا نجد الكثير من النّاس يعارضون نتائج العلم عندما تتعارض مع ما يعتنقونه من أفكار موروثة وقديمة , فالحقائق العلمية دائما ما تواجه اعتراضات عديدة سواء عامة النّاس أو المثقّفين الذي يجهلون البحث العلمي، وكمثال على هذا نلاحظ أنّ تأثير الجينات على الإنسان، يجابه برفض وتجاهل شديد .
جميعنا نرغب بأن تكون شخصياتنا رائعة وترضي الاخرين , فالبشر لتطور ذكائهم عن بقية كائنات هذا الكوكب, ولد عندهم هذا الحس والاهتمام الاجتماعي بآراء الاخرين وكسب رضاهم . لكن الانسان مهما اراد فهو يبقى عاجزا عن تكوين شخصيته بصورة التي يشاء, لأنها خارجة عن نطاق قدرته، الجينات و البيئة والتجاربها هي من تُعجن شخصية الانسان و تقولبها مثل طين الصلصال في يد عامل الفخار .


كلنا صنيعة هذا النظام التطوري، صفاتك الوراثية مع تجاربك البيئية هي المسؤولة عن تكوين نفسيتك وشخصيتك ,التي تتشابه وتختلف بدرجات متفاوتة مع غيرك.
يؤسفنا ان تنتشر البضاعات "التجارية الرديئة" في عالمنا العربي رغم حاجته الماسة لما يشفيه من واقعة العليل، من هذه البضائع هي " تجارة " أحاديث " تطوير الذات " التي باتت رائجة بين الناس والشباب خصوصا، مهووسين و مهتمين بسذاجة لما يروج له "ابراهيم الفقهي" وغيره من دعاة تطوير الذات , الذين يستغلون الانخفاض والتخلف الفكري في عالمنا العربي ليروجوا لبضائعهم المغشوشة التي يكشفها اي انسان واع ومطلع على العلوم،
تحوي أحاديث " تطوير الذات " على كم هائل من المخالفات العلمية والدجل والمخدرات العاطفية التي تبعث في النفس ثقة متطرفة أقرب للتوهم والعيش بأسلوب مصطنع يسقط بأقرب ضغط او ظرف غير مناسب، تكمن خطورة تلك الخرافات في أنها لا تكتفي فقط بإمدادنا بمعلومات خاطئة عن الطبيعة البشرية، لكنها علاوة على ذلك يمكن أن تؤدى بنا إلى اتخاذ قرارات حمقاء في حياتنا اليومية ، ان تعاطي كم هائل من الاحاديث التي لا تنظر للواقع ولأتأخذ معطيات علم النفس بمحمل الجد ، بدعوات لصناعة شخصية " وتطويرها " بغض النظر عن البيئة والتجارب والظروف التي يعيشها الانسان، تجعلني انظر لاحاديث تطوير الذات بكونها تهريج ميتافزيقي يداعب مشاعر الانسان ويخدره لفتره تجعله مدمنا على اللاواقعية ليصبح اشبه بممثل فاشل لاحد ادوار مسرحية , وقد أنتج دعاة تطوير الذات معتقدات منتشرة على نطاق واسع, يظن الكثير من الناس أنها صحيحة، رغم ان الابحاث العلمية اثبتت زيف تلك الادعاء وكذبها.


فهناك مثلا الاعتقاد الشائع بأننا نستخدم 10% فقط من قدرة عقولنا والاعتقاد بأن الكثيرين منا لم يصلوا بعد لحدود إمكاناتهم العقلية وارتباط ذلك بالاعتقاد الخاطئ في أن تدنى تقدير الذات هو سبب رئيسي لفقد القدرة على التكيف مع البيئة المحيطة والاعتقاد بأننا يمكن أن نصل لأى شيء بمجرد إيماننا بأنفسنا. تكشف الأبحاث العلمية على استحاله تعرض أي مساحة بالمخ للتلف نتيجة السكتات الدماغية أو التعرض لصدمات (ضربات ) على الرأس من دون أن يؤدي هذا إلى عجز خطير في وظائفه , وبالمثل، لم يكشف التحفيز الكهربائي لمناطق المخ خلال جراحات الأعصاب عن وجود أي منطقة خاليه من النشاط الكهربائي .
يؤكد علم النفس التطوري على أن العوامل المؤثرة في تشكيل السلوك البشري تتكون من , العوامل البيئية , الجينات الوراثية, فالفرد يولد مزوداً " بيولوجياً " بصفات وقدرات ذهنية وعقلية غير قابلة للتغيير, واخيراً تفاعل العوامل البيئية مع الجينات الوراثية في تحديد السبب, لماذا يكون البعض سريع الخوف ويفقد السيطرة بسرعة بينما يكون البعض الاخر ثابت الجأش مرح الطبع في مسار حياته ؟. كيف يكون البعض مدمن على الكحول, مكتئب, او مصاب بانفصام الشخصية (الشيزوفرانيا) في حين ان البعض الاخر يصمد امام مشاكل الحياة ؟.

منذ حوالي مئة عام يدرس العلماء لغرض مقارنة توائم ثنائية البويضات وطوال مدة البحث كانوا ومازالوا يستنتجون ان الفوارق المستقلة او المتفردة في الشخصية واحتمالية تعرض الفرد للأمراض النفسية بنسبة %30 -70 % لأسباب وراثية , الامر المفاجئ هو صعوبة البحث عن الجينات المسؤولة عن ذلك التأثير الهائل على قدرنا, بعد ان كثرت المقالات في بداية التسعينات عن هذا الموضوع وبضمنها فيما يتعلق بالجين المسؤول عن انفصام الشخصية عمّ الامر شيء من الهدوء في هذا المجال وظهرت دراسات مثيرة في الجينات النويرونية عن طريق التصوير المباشر للدماغ وذلك للبحث عن تأثير الجينات فيه يطلق على هذا المبدأ الدراسي اسم التصوير الجينومي (imaging genomics) وهو من الأساليب التي يعتمد عليها في ايجاد تلك الجينات التي تؤثر على شخصيتنا والجينات التي بسبب الامراض النفسية في الكائن البشري, في طفولتنا , نحب شخصيات أباءنا لحد كبير و نتمنى ان نكون مثلهم بالضبط , لكن في ايام المراهقة والشباب يتغير هذا الشعور ونحلم بالتغيير والتمرد على الاباء , ثم نكبر , تمر الايام , نجد انفسنا لا نختلف عنهم بشيء كثير , ألا يذكركم هذا بالمثل الشعبي الشهير( العرق دساس ) أو علمياً ( الجينوم دساس ؟ ) ولا ننسى أنّ نُذكر بتأثير الطفرات على تكوين بعض الصفات الجديدة التي لم تكُن سابقاً في الآباء وهذهِ الأخيرة نادرة الحدوث ويحتاج زمناً طويلاً لكي تظهر وتضفي شيئاً جديداً .


هامـش
الجينوم: بالعربية المُوَرِّثَة هي الوحدة الأساسية للوراثة في الكائنات الحية. فضمن المورثات يتم تشفير المعلومات المهمة للوظائف العضوية الحيوية. تتواجد المورثات عادة ضمن المادة الوراثية للخلية التي تمثلها الدنا (DNA)أو الرنا (RNA) ، بالتالي فإن هذه المورثات هي من تحدد تطور وسلوكيات هذه الكائن والفوارق بين الأفراد في صفات الجنس الواحد يمكن أن تعزى للفوارق في المورثات التي تحملها هذه الأفراد.

#مصطفى_الصوفي (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل