أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم ازروال - حكايات حارتنا : حكايات التوت والنبوت















المزيد.....



حكايات حارتنا : حكايات التوت والنبوت


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 4182 - 2013 / 8 / 12 - 22:48
المحور: الادب والفن
    



تسعى حكايات حارتنا،إلى استجماع حكايات الطفولة البعيدة،ووقائع الماضي الموشح بالغوامض وبنفثات أساطير طرية،وثرية ،وعبقة بأكثر من أريج .
تكتب حكايات حارتنا،حكايات أناس يستكشفون الفعل التاريخي ،ويتفاعلون ، بسلبية أو بايجابية مع قيم العصر ومتطلباته الثقافية والحضارية، ويعيدون النظر،بأناة وبقليل من التشكك، في بنيتهم الذهنية ومتخيلهم الجماعي.
حكايات حارتنا،هي،تأكيدا،حكاية استكشاف لتخلق الثورة المؤسسة(1919) من رحم الإرادات الجماعية والتماهي،الأسطوري ،مع البطل الكاريزمي ذي المواصفات شبه العرفانية (سعد زغلول)؛وهي كذلك استبار لعوالم وخفايا و أسرار الفتونة ،وقصص الحب والعشق ومصائر المحبين والعاشقين والحالمين بالمجد بدون استحقاق أو موارد أو مواهب في الغالب ، واستجلاء لعالم ومتخيل المجاذيب والبهاليل والدراويش والحرافيش والمشعبذين.
تتواشج حكايات حارتنا ،بلا شك ،مع كثير من سرود نجيب محفوظ المخصصة ،لاستلهام واستيحاء وتأمل ،عوالم الطفولة(صدى النسيان / صباح الورد .......الخ) وعوالم الفتونة ( أولاد حارتنا وملحمة الحرافيش والرجل الثاني (مجموعة الشيطان يعظ) مثلا )وفضاءات المجاذيب والمهابيل والحرافيش ( زقاق المدق مثلا).
حكايات حارتنا،هي تاريخ الثورة والفتونة و"الولاية"،أي حكايات حارة منخرطة في الفعل السياسي ،ومفتتنة بتواريخ و أساطير الفتوات وبتاريخها العرفاني.فبقدر ما تنشغل الحارة،بالثورة والحب والفتونة ،فإنها تنشغل،بالتأمل في الوصول ،ومشمولات المحبة ،وفورة الجلال .فالحارة ،معزولة،فضائيا ،إلا أنها مفتوحة على تواريخ،وذاكرات و أخيلة و ميثات ونسوغ متدفقة من أقصى الذاكرة ومن أعمق البنى اللاشعورية ،ومنشغلة بالتأمل في الجمال والجلال ،في القوة والعدل ،في الوصول ومقتضياته والدهرنة ومدلولاتها،بطريقتها وبلغتها وبلاغتها الخاصة.
تكشف حكايات حارتنا ،تاريخ جماعة ،ممزقة بين مقتضيات الوعي الفكري الجديد ( الممارسة السياسية الجماعية وخروج المرأة للعمل والانفتاح النسبي على الغرب)،وتقديس الفتونة والفتوات،والافتتان بالمهابيل والمجاذيب والدراويش والحرافيش والبلهاء،أي بكل ما يحيل على الاستطراف .
تتصادى بعض وقائع وشخصيات روايات " زقاق المدق"و"بين القصرين" مع وقائع وشخصيات "حكايات حارتنا ، كما تتصادى بعض كنايات الحكايات مع بعض كنايات "أولاد حارتنا " و"ملحمة الحرافيش "و"زعبلاوي"(مجموعة دنيا الله).ولذلك،فهي موزعة،بين التشخيص والتوصيف والتقاط التفاصيل الطريفة،من جهة ،والتظليل الدلالي ،والتلوين الكنائي والتأشير الرمزي،للمشخصات والموصوفات ، من جهة أخرى .
(-تذكرت(أنور جلال) أنني طالب بين طلبة متنافسين ،في مدرسة تجمع بين طلبة الأزقة المتخاصمة ،في حارة وسط حارات متعادية ، وأني كائن بين ملايين الكائنات المنظورة وغير المنظورة،في كرة أرضية تهيم وسط مجموعة شمسية لا سلطان لي عليها ،والمجموعة ضائعة في سديم هائل ، والسديم تائه في كون لا نهائي ،وأن الحياة التي أنتمي إليها مثل نقطة الندى فوق ورقة شجرة فارعة ،وأن على أن أسلم بذلك كله ثم أعيش لأهتم بالأحزان والأفراح ، لذلك لا أتمالك نفسي من الضحك .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –ص.177).
ومهما اشتغل أبناء الحارة بعوالم وشجون حارتهم ،فإنهم لا يتناسون انتماءاتهم العالمية والكونية،وانشغالهم بمفارقات والتباس وأسرار الكون.ولم يملك بعضهم ،إزاء عابرية الوجود وهشاشة الكائن ،إلا المرح والضحك.

1-الثورة :
من التكية إلى الميدان:

الحارة موصولة عمقيا بالتكية ،أي بالمؤسسة العرفانية،المعنية،ببث قيم وسبل العرفان ورسم خرائط الكينونة والتعالي عن مسارات الصيرورة .ومهما بدت صامتة،بعيدة عن مجاذبات الناس وتجاوزات أهل الفتونة واللطف ،فهي البدء والمنتهى ،مبعث الوصايا وموطن الآمال.فكما يعبق عالم الفتوات بالعنف والشر ،فإن عالم التكية ،يحفل بالرفق والسكينة والتوت.
ومهما تفاعل وعي الحارة مع الديناميات الحديثة ،فإنه يلون ،الأحداث والوقائع،بلون الكرامات القديمة،والمعاني الظلية الموروثة ،عن تهاويل العرفان وعن مبثوثات الوعي العرفاني.
ولذلك،فالحارة،تتأول الأحداث ومصائر الأشخاص،تأويلا عرفانيا ،حافلا بفحاوى ورواسب الكرامات والخوارق والمتعاليات عموما .
(وتؤكد(أم عبده) أن جياد الفرسان حرنت سور التكية وألقت الفرسان عن متنها ..)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر–ص.29).
يقدم السارد سعد زغلول في هيئة العرفاني الكارزمي ،المتعالي عن الإحداثيات والمواضعات،وعن الاكراهات التاريخية.تقدم العين الطفولية،سعدا العائد من المنفى والمفاوض والمستقيل من مهامه ،في هيئة الكائن المتفرد الصاعد،رأسا، من رحم التهاويل والخوارق والكرامات.
(وأحمل لأبي خبرا من الحارة أثار خيالي فأقول له :
-يقولون إن اسم سعد يرى منقوشا على البيض بعد خروجه من الدجاج.
فيضحك أبي ،ويضحك ضيف يجالسه.ويقول الضيف عن سعد :
-كان أعداؤه يتجنبون النظر في عينيه وهم يجادلونه تفاديا للشعاع الحاد الذي ينطلق منهما.
ويطرب أبي للكلام ويتمتم :
-إنه هدية السماء إلينا .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –ص.31).
وحين يعود سعد من المنفى ،يحتفل حرافيشها ومجاذيبها ومهابيلها،بذلك الحدث الفارق في التاريخ المصري الحديث، كل على طريقته.
(وتكتظ البوظة بالسكارى وتشتعل الغرز بنيران المجامر ، وحتى المجاذيب والمتشردون واللصوص يسهرون ويفرحون .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –ص.40).
وإذا ارتضى الوعي الشعبي ،الانخراط في أطوار الثورة والتماهي مع سعد زغلول ،فإنه لم يرتض ،إلا بكثير من التردد والتمزق في الوعي ، اختراق المرأة للفضاءات والقطاعات العمومية.وهكذا يبدي الوعي العام قدرته كبرى على أسطرة وتقديس سعد زغلول ،وينفر من أسطرة بل ومن شرعنة هدى شعراوي.وهكذا ،يقبل الوعي الجمعي،مراجعة المواضعة السياسية ،فيما يمتنع عن مساءلة المواضعة الاجتماعية،رغم ارتباط النقد الاجتماعي بالنقد السياسي في الخطاب النهضوي المؤسس.(كتابات محمد عبده وقاسم أمين ...الخ).
(-إي والله ..موظفة(توحيدة بنت عم رجب)..تذهب إلى الوزارة وتجالس الرجال !
-لا حول ولا قوة إلا بالله ..إنها من أسرة طيبة ..وأمها طيبة ..وأبوها رجل صحيح !
-كلام ..أي رجل يرضى عن ذاك ؟)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –ص.21).
إن حضور الجسد الأنثوي،في الفضاء العام،إشارة حداثية،إلى تحديث بنية العلاقات الاجتماعية.فقد انخرطت الحارة في المظاهرات وتفاعلت،وجدانيا،مع قرارات سعد وحزب الوفد،إلا أنها لم تنخرط في أفقهما الرؤيوي والفكري.والأكثر من ذلك،أنها عاملت كل الحالمين والراغبين ،في مقاربة جديدة،للكينونة والصيرورة ،للحقيقة والوجود ،للقيم ومفاعيلها الاجتماعية الكبرى ،بكثير من الصدود والامتناع.
تجسد الحارة كما وصفها نجيب محفوظ،واقع عالم أثثه العرفان الشعبي،وأجج نيران متخيله لقرون وقرون ،وأعاد بناء بديهياته ، المرة بعد المرة ، بكثير من البذخ التمثيلي والكنائي ،وفتح أفق الكينونة فيه على أفق الخرق واللامعقول والأسرار.
وكما تؤرخ الحكايات للواقعات والشخصيات ،فهي تؤرخ للوعي الاجتماعي والثقافي المصري ،ولصعوبات تشكيل وعي حديث ،متكامل المناحي والمفاصل،ومنسجم الرؤية والتطلعات،في سياق التداخل بين المؤثرات العرفانية والتقليدانية ،والمؤثرات شبه الليبرالية الداعمة للتحرير والتنوير في ذات الآن(آثار فكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ولطفي السيد ... الخ ) .
تدفع الثورة بالعنف المحلي من التنافس المحاكاتي ، بين الأشباه والنظائر،إلى التنافس اللامحاكاتي ،الموجه للغير وللسوى .فلئن انحصر عنف الفتوات في نطاق الاستعمال العامي للجسد ولطاقاته وقدراته ،فإن الثورة ،ستقود إلى اكتشاف الجسد الاجتماعي ،والطاقة الجماعية ،المدارة بتقنيات سياسية ،عمليا ،ومنظورات إيديولوجية نظريا.وهكذا،صارت الثورة،محاكاة تنافسية ،مع آخر مستعمر،متفرد،بالقوة والمعرفة.وصار الميدان،لا ميدان ،استحضار التحدي الجسدي ،العاري من أي أفق بنائي ،وإنما ميدان استحضار إرادات راغبة في التحرر و الانعتاق من أسر الغير.
فكما تنشغل الحارة بتدبير المعيش وتدبير العنف والسلطة والحب ،فإنها منشغلة،بمأتى ومصير الأفعال.فرغم الإيغال ،في تدبر المعيش ، والبحث ، الصعب عن هناءة حبية أو عشقية ،في وسط لا يحفل إلا بالقوة والمال ونداءات الأزمنة الموحشة ،فإن الحارة،وفية لتاريخ وجدانها ولمساراتها الميثية.

2-الفتونة :
جدل العنف الأنثروبولوجي والعنف السياسي :

لا يمكن كتابة متخيل الحارة ،بدون استحضار تواريخ وعلامات الفتونةّ،وتواريخ الفتوات البارعين في ترويض العنف وطقسنته ومشهدته.يقارب محفوظ الفتونة بمثابتها ركيزة من ركائز الحارة،وينشغل بتسجيل،أفعال الفتوات وطرائفهم؛إلا أنه غالبا ،ما يتجاوز التسجيل ونقل المستطرفات الاجتماعية والثقافية ،إلى الترميز وصياغة الكنايات والمجازات،وتوليد المعاني الظلية ،والإشارات البعيدة ،واللمعات والبوارق الساطعة .
لقد حصرت الفتونة ،نظرتها في الحدود الدنيا ،وفقدت روابطها الفكرية والسياسية بالفتوة في نماذجها المتناسخة ( الفتوة الكوفية والعباسية والخراسانية والفاطمية...الخ) ،وبالابدالات الثقافية المترادفة على رقعة المشرق طيلة قرون؛ومن البين ،أن انبثاق ثورة 1919،أنهى العنف الأنثروبولوجي ،وحول الميدان ،إلى فضاء تقني ،لعرض قوة الرمزي .
تعني نهاية الفتونة ، نهاية العنف الطرفي،المحروم من كل امتداد تقاني،ومن كل تطلع إلى التوسع والمأسسة وإعادة بناء الذات للتوافق مع شرائط واكراهات العصر الحديث .
(كان حي الجمالية الذي نعيش فيه مركزا للثورة والمظاهرات ، وعندما رأيت المظاهرات لأول مرة في ميدان "بيت القاضي" حسبتها "زفة فتوات".ومن خلال أحاديث والدي ووالدتي عرفت أن هناك صداما بين المصريين والإنجليز .)
(-رجاء النقاش –صفحات من مذكرات نجيب محفوظ- دار الشروق-القاهرة –مصر –الطبعة الأولى -2011-ص.181)
لقد آلف السارد العنف المحلي الدائر في فلك ضيق؛والحال أن الثورة الوليدة،إذ تعيد لحم الجسد الاجتماعي ،إنما تستهدف تحويل الطاقة المهدورة في المناكفات المحلية ،إلى مجرى شعبي يخترق التاريخ الحديث ،وينازع القوة الأخرى ،على قاعدة الحرية.
نقيض الفتوة هو الأبله ،ظاهريا،إلا أن الأبله يملك ،في أعين الناس ،قدرات ميتافيزيقية ،مقدرة ومهابة ،بفعل التنشئة العرفانية ، ذات الجذور الملامتية ،المتجذرة في شمال إفريقيا منذ قرون.
الحارة هي في الحقيقة ،بؤرة حاضنة لبقايا عرفان ابتدأ بنظريات تأصيلية وانتهى إلى حكايات وقصص وخيالات ،لا يعلم أبطالها أنفسهم ،تواريخها الانتسابية.الحارة هي تهميش شعبي ،عن تاريخ عرفان قلت قدرته على التنظير و على احتضان قوى التاريخ وعلى إثارة المتخيلات الجمعية وتعبئتها،في زمان تقوده لا رياح الشرق بل رياح الغرب العاصفة.
الفتونة المتبقية،سلك مغلق،يستدعي انخراطا في مسارات تكوينية وتأهيلية متشابكة بل متاهية أحيانا ؛ولذلك، لا مناص ،عند كل تمييز بين الموهوب والمدعي ،من اختبار القدرات ،وتهيئة المرشح الجديد لممارسة العنف الأقصى وإفاضة الطاقة الغضبية على الآخرين.وحتى تشحذ الإرادة ،كليا،يطلب السناوي،من زيان صبي النحاس،قتل أم علي الدايةبالذات،لتأكيد أولوية العنف على العشق.فالفتونة ،هي تعبئة الطاقة،للانفصال عن كل الروابط ،أيا كان التعلق والارتباط النفسي أو الوجداني بها ، والتعلق الأوحد بصيرورة القوة وهي ترسم مسارها الدامي المرفق بالفرجة والانتشاء وتأكيد الحقائق الأنثروبولوجية بدون أدنى تململ .
حكايات حارتنا ،هي حكاية حارة هجرها الصوفية وسكنها المجاذيب والبهاليل والدراويش وأهل اللطف.فهي ،سجل مصغر ،لعالم تناسى التقاليد الفكرية والفلسفية ،للتصوف العالي ،واكتفى، بالتماس العزاء النفسي والتماسك الاجتماعي من أهل الانخطاف والكدية والمشعبذين والحواة والحرافيش والبلهاء.
وبما أن الحارة مغلقة ،والتكية صامتة والتصوف النظري انتهى أوان ازدهاره ،فلم يبق،في الميدان،إلا بلهاء ومهابيل ومجاذيب،يعوضون الأطباء الغائبين،ويعقدون ،بعض الصلات الخفية بالطقوس والجذبات القادمة من تواريخ وجغرافيات منسية (الزار).تعيش الحارة دوما على عتبة الانخطاف،تعبئ الفيزيقي للإطلالة الصامتة ،غالبا، والصادمة،أحيانا، على الميتافيزيقي .ليست الحارة ،في الحقيقة،إلا هواما،يستظل الناس،بمشخصاته،للانتقال ،بين برهة انخطافية وأخرى ،وغب كل عطل في آليات الجسد أو النفس ،إلى الما قبل، تارة، أو إلى الما بعد تارة أخرى .
(وتعلمني الخبرة مع الأيام أن حارتنا تقدس طائفتين : الفتوات والبلهاء .
وتحوم أحلام صباي حول الطائفتين .
احلم أحيانا بالفتونة وجلالها .
وأحلم حينا بالبلاهة وبركاتها !)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –دار مصر للطباعة –ص.112).
لا يجد السارد الحالم،إلا تعزية النفس بالحلم ،ببركات البلاهة وجلال الفتونة،وباحتلال مكانة اجتماعية عالية ،بتحصيل إحدى الملكتين ،ملكة الجلال المشفوع بالفضائل العالية ،أو ملكة البلاهة أو الجذبات الانخطافية ،المفضية إلى كينونة بينية جامعة بين مسارات الواقع السرية وظلال الكينونة المنقوعة في المجهول.
ومهما ارتخت ذاكرة الفتونة ،فإنها تبقى مشدودة ،إلى خفايا الإبدال ،والى رؤيته الكسبية ،بله الجبرية.
(...فدخن البوري(قرقوش العبد) وشرب قهوته ثم قام لينصرف وهو يقول لصاحب المقهى"غدا سأكون عندك في مثل هذا الوقت بالدقيقة والثانية كما اتفقنا فلا تنس"،وما أدري(الفتوة حمودة الحلواني) إلا والغضب يجتاحني فقررت في الحال قتله ،ولم يطلع عليه الصبح !)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –118)
فحمودة الحلواني ،الفتوة الجامح ،لا يحتمل الدقة ولا الانتظام العقلاني ،ويحفل بالتجويز والاحتمالية شبه الأشعرية.
يقتل الفتوة،باسم معيار يجهل كنه نظريا،بحكم انقطاع الفتونة بعد العصر المملوكي عن مراجعها و أطرها النظرية؛كل تخطيط لا ينهض على المصادفة،وخفارة النبوت،تخطيط ملغى ،في اعتباره.ينتصر الفتوة،دون أن يدري البواعث والمآلات النظرية والتاريخية لفعله، أي لإيمانه الموروث بالتجويز،ويشمئز من البرمجة والتخطيط وإدارة النشاط البشري وفقا مقتضى الإرادة.فالعقلنة،المضادة للتجويز،تتنافى ،مع وظيفة الفتوة ،الكامنة،أساسا،في إثارة العنف وعرضه وإخراجه وتكييفه مع متخيل الحارة وتاريخها الوجودي وتنافسها المحاكاتي مع أشباهها ونظائرها.فبما أن العقلنة ،مصاقبة لتهذيب وتشذيب القوة الخام،فإنها نقيض فتونة ،مسامتة ،للعنف الطبيعي في أعنف تجلياته.
تصور الحكايات ،مشاهد الفتوات ومواقفهم الاجتماعية والثقافية ،ولحظات اندحار الفتونة وانتفاء الحاجة ،الاجتماعية،إليها ،بدءا من الثلاثينات.لا يمكن من هذا المنظور،مقارنة ،حضور الفتوات في"أولاد حارتنا" و"ملحمة الحرافيش" و"الرجل الثاني" مثلا ،بحضورهم ،الواقعي ،الموشح بظليلات رمزيات في الحكايات .إن حكايات حارتنا ،جامعة ،في الواقع ،بين الذاكرة أي بين الواقعة التاريخية المتعينة ،والرمز المسكون بالتظليل والتجريد من عينية الحدثي المحض وإعادة التكييف الدلالي . من البين ،إذن،أن حكايات حارتنا ،تتولى الواقع بالاستبار والاستجلاء ،وتتخير بعض علاماته وحيثياته ،لتصييرها رموزا،ناطقة ،بفصاحة ،بأشواق القلب ،وميل الإنسان إلى تأمل مفاعيل الزمان وغرابة الوضع الوجودي للكائن عموما.

3- اللطف :
المجاذيب في زمان التحديث :

رغم انطباع الحارة بالمتعاليات،فإن استجابة الناس لمعنى الفجيعة وماهية الانكسار وحقيقة المأساة،ومقادير المسؤولية ،تتفاوت درجاتها ونوعيتها،تبعا لتحسساتهم الوجودية ،ومقدار تشربهم للوعي المأساوي وتفاعلهم مع مفاعيل الفقد والافتقار و الانجراح،ودواعي ميلهم إما للجمال والعذوبة وإما للجلال والعقوبة.
تسجل حكايات حارتنا،تاريخ الاستجابة ،للمخاوف والأشواق الوجودية ،وطرق تدبير الأوجاع والقلق والخوف من المجهول.
ثمة من يواجه الألم والوجع الناشب بالأعماق ،بمرح الوجدان،وبتطويع النفس الكلي ،لقبول كل مصير مثل أم زكي وست نجية .ومهما سارت الحارة في طريق الجلال ،فإنها لم تبعد البتة عن طريق المحبة والجمال،والبحث عن العذوبة ،حالا ومآلا.
(..فمآلنا إن شاء الله إلى الراحة والنعيم حيث ما كنا ، فإن اللطف الإلهي هو الذي يدرج الراحة من حيث لا يعرف من لطف به ، فالجمال له من العالم ، وفيه الرجاء والبسط واللطف والرحمة والحنان والرأفة والجود والإحسان والنقم التي في طيها ،نعم ..)
(-محيي الدين بن عربي –الفتوحات المكية –إشراف :مكتب البحوث والدراسات –دار الفكر –بيروت-لبنان-2002-ص.318-319).
نادرون ،هم القادرون ،على استنطاق البناء النظري للحارة.ولذلك ،فهي تتهيأ ،للتجاوب ،عملا ،مع الثورة ،لكنها،تمانع في معاودة النظر ،في معنى فجائعها و هشاشة الوضع الوجودي لإنسانها.
ومن الثابت ،أنها فقدت ارتهانها الكلي ،إلى قوة الرمزي،والى ظلال التوهمات والتهويمات،بفعل التثاقف والاستجابة العملية ،لا النظرية ،لبعض مفردات التحديث والعصرنة.
(ويهتف الشيخ(لبيب):
ملعونة المدارس المفتوحة لكم .
وتسوء حاله،وصحته أيضا .ويتوعد الناس والزمان بعقاب الآخرة ،ويتحسر على أيام الطيبين الذاهبين .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –دار مصر للطباعة –ص.152-154).
تقلص العقلنة النسبية ،مجال التجاوب مع اللامعقول،وتحد ،قليلا أو كثيرا ،من الحاجة إلى خدمات ، المشمولين باللطف أو المتعالين ، في منظور المجموعة،على الشرط الفيزيقي،وتدفع ،في حدود الممكن الاجتماعي ،إلى تقدم خدمات استشفائية وعلاجية ،أرقى و أوثق ،من الطب الشعبي.
(وقد أصابه لطف في آخر أيامه،وكان يقال إن الدروشة هبت عليه تحت فراش ست ما شاء الله .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –دار مصر للطباعة –ص.144-).
فكما تمسرح الحارة العنف،فهي تمسرح "اللطف"،وتقيم اقتصاده،على هامش علائقها العقلانية.تفيض الحارة ،بالرغبة في التقاط معنى كنايات البصارين والمجاذيب؛فحين لا توفق الذات في سلوك مسالك التعليل والعقلنة ،فإنها تعكف على مجازات وكنايات وتوريات،المجاذيب،وتبحث للإشارة عن مدلولها وللكناية عن قصدها وللمحة عن تأويلها.وهكذا ،يصير العلاج ،تأويلا طائرا ،يعجز الكل عن اصطياده مهما كانت شباكه التأويلية ضيقة.
تبرع الحارة ،في نقل الهامشيين ومجهولي الهوية والسراق والحرافيش ،من الحواف الاجتماعي إلى قلب الانشغال الأنثروبولوجي للمجموعة.فكلما كان الفرد،دون السوية الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية ،صار أقرب إلى التكريس الميتا-واقعي،وإلى التقديس. وهكذا،تعيش الحارة،انفصاما،جذريا ،بين احتفالها بالمواضعات الاجتماعية،وميلها إلى تكريس وتقديس ،من ينقضون ،جزئيا أو كليا ، أصول تلك المواضعات بالذات مثل أبي المكارم حارق نقوده.
(ويقيم الرجل الضريح ،وبمرور الزمن تتلاشى ذكريات أبو المكارم وتبقى له الولاية .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –ص.161-).
فالآتي من المجهول ،من اللاتاريخ ،هو الأقرب ،في مخيال الحارة إلى القداسة ؛إن عادم التاريخ والهدف،في مجتمع يقيم جدارة الفرد ،بناء على تاريخه السلالي وانخراطه في التاريخ الفكري والمسارات التوجيهية الكبرى للمجموعة ،أجدر ، بالتقديس والأسطرة .
(و أسمع ذات يوم رجلا يدافع عن "ولاية"عبد الله فيقول :
-أي فرد منا لا تتيسر له الحياة إلا بفضل معرفته للأصل الذي جاء منه والهدف الذي يسعى إليه ، أما عبد الله فقد تيسرت له الحياة و حظي ببركاتها مع جهله بكل ذلك ،ومن ينعم بملكوت الحياة وهو يجهل أصله وهدفه ومعنى حياته جدير بالولاية والتقديس!)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –دار مصر للطباعة –ص.162-).
هكذا ،تفلسف الحارة ،تكريسها لبعض" الاستثنائيين" ،المنفصلين،طوعا أو كرها ،عن مقتضى العادة وعن سلم القيم الاجتماعية.

4-علامات على طريق التحديث :
مخاض الفكر الحديث :

لم تخل الحارة ،البتة ،من حوار وحجاج ،بين الراغبين في الاحتفاظ بمعالم الحارة ،دون تغيير ، مهما تغير الزمان و كشف عن أوجه جديدة للتدبير والعيش والإقامة في العالم والكون ،والحالمين ،بكسر طوق العزلة الوجودية ،وتعريض زوايا الحارة ،لرياح التاريخ ،وأعاصير الحداثة.
فكما تتولى الحكايات تسجيل الحوادث المستطرفة أو المفجعة أو المستغربة ،فإنها تتولى كذلك ،تسجيل ،الحراك الفكري ،وكيفية استقبال ،الفكرية الجديدة ،الآتية في رحاب الثورة الجديدة.
(ويقول عبده :
-التكية تعترض مجرى الحارة كالسد وتحول دون انطلاقنا نحو الشمال .
فيقولون له :
- وهل علمت أننا متضايقون من ذلك ؟ وألا يوجد أكثر من سبيل إلى الشمال .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –ص.176).
لقد سعت قلة ،من المتفاعلين مع العالم الحديث ،إلى إعادة تهيئة الحارة،وإنهاء عزلتها التاريخية ،والانفتاح الذكي ،على الحداثة الآتية من الشمال .فلا ثورة سياسية ،من دون ،توثب إلى التحديث والحداثة ،وتهيئ نفسي وذهني ، ولو في قطاعات محدودة ،لإعادة تأثيث المشهد وإعادة النظر في وظائف الأمكنة وتاريخيتها وتحولات الأزمنة وتغير المواقع والتراتبيات الاجتماعية.
رغم تحذير مدرس الجغرافيا المسمى ،بالأستاذ مسيلمة،من مخاطر الغرق،فإن الحارة،تستهين بتحذيره،حتى يحل بها الطوفان.
(وتنهدم بيوت وتنقلب الأسقف مصافي وثقوبا فيهجر الحارة أهلها مذعورين وينتشرون في الصحراء لاجئين مشردين والخراب يحيط بهم وارثا الأرض وما عليها .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –ص.125-).
لقد أفقدت الامتثالية ،الحارة ،توهجها الاستبصاري ،وقدرتها على استباق الفجائع والكوارث وقراءة النذر والمحاذير والتجاوب العملي معها.
لا تخلو الحارة رغم انتظامها شبه الكلي في العرفان الشعبي،من مثقفية متطلعة إلى تحرير الإرادة من أسر التجويز والجبرية والاتكالية.وفي هذا السياق ، يقترح مصطفى الدهشوري،نظرة متجددة،للأشياء ولعلائق الكائن بتاريخه وعيشه ومصيره.وبما أن الوعي العام ،مؤثث،بتهاويل العرفان ومفطور على التجويز والتصريف والتماس العون من أهل الوجد واللطف والمرائي والمواجيد ،فإنه سيحتد في معارضة الرؤية البديلة،والنظرة الجديدة إلى صيرورة الحياة .وككل الخارجين،على سنن الحارة ،فإن مصير مصطفى الدهشوري،سيكون مأساويا.
والحقيقة أن أدب محفوظ يحفل،بمثقفين حالمين،بكسر الحلقة العرفانية ،وإخراج الحارة من سكونها الأبدي ومن انتظامها في قواعد ،هي الآن برسم الاستشكال ، في عالم ينقض أصول المواضعة القديمة ويتأهب لصياغة مواضعة جديدة.إلا أنهم ،كثيرا ما يفشلون في كسر الطوق ،وفي فتح كوى في جدار القدامة ،للمساءلة والتأمل ،وإمعان النظر في المواضعة الثقافية والبداهة الإبستيمية السارية في نسيج الخطاب العام وفي قوام الرؤية الجماعية.
تذكر أفكار ومصير ،مصطفى الدهشوري ،في الحقيقة،بكوكبة من الحالمين بإعادة ترتيب المواضعة الفكرية وإعادة تنسيق النسق العام ؛وبما أنهم أفراد متوحدون،فإنهم لا يفلحون في كسر الطوق العرفاني ،إطلاقا ،وتهوية الحارة فكريا،وتأهيلها للترقي والتطور والتأنسن .
يتم رفض رياح التغيير ،بقوة الاستئثار على المواضعة القائمة ،ورفض خلق عقد ثقافي جديد وبلورة مواضعة جديدة ،على قاعدة ترقية الشرط الإنسي تعيينا.
وأيا كانت نجاعة المشاريع المقدمة لوصل الحارة بالمدينة والمدنية ،فإن المتخيل الجمعي،يأبى كل مساس، ببنية الحارة وبالتكية؛وهكذا،قوبل مشروع هدم التكية ،بالرفض،واستبعدت كل الاعتبارات المعتمدة في صياغته.وهكذا ،تجمع الحارة ،باقتدار عرفاني ،بين التجاوب الوجداني والنفسي ، مع القادة الجدد،والتشبث الامتثالي ، ببنى فكرية وميثات اجتماعية،موغلة في القدم.

5-الحب :
من طوق الحمامة إلى تطويق الحب :

وكما افتتنت الحارة بالحرافيش والفتوات والمجاذيب ،فإنها افتتنت بحكايات المحبين والعشاق؛ولا تقل ،حكايات الحب والعشق،غرابة وطرافة ومأساوية عن حكايات الفتوات والحرافيش .بل إن الجمال ،مدعاة في الغالب إلى الافتتان والاحتيال والارتكان إلى الحلول القصوى أو إلى القرارات العجيبة(حكاية إدريس القاضي مع سيدة كريم وحكاية زينب وحكاية عاشور الدنف....الخ).
(وتحتدم المنافسات ،وتتعدد الاعتداءات ، وتتساقط التهديدات ،ويلتزم آل زيدان الحياد التام خوفا من العدوان ،ورغم بلواهم وكربهم تلفحهم أنفاس الحاسدين و ألسنتهم ، حتى يقول زيدان لبعض أصدقائه :
-لقد حلت بنا نقمة اسمها الجمال !)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر–ص.73).
فبدلا من أن يصبح الجمال معبرا إلى الارتقاء والاغتباط ،يصير عقبة ،مانعة للتحاب ،وبؤرة لجذب المتنافسين المتعادين والمتناهبين .
والمفارقة هنا ،أن الحارة المتحمسة للثورة وللتحرر السياسي ،لا تبدي أي حماس مساوق للتحرر الاجتماعي .وهكذا،ينفصل الأفق السياسي ،عن الأفق الاجتماعي ،ويضمن الحراك ،تحريك المخيال السياسي للجموع ،فيما يغوص وعيها الاجتماعي ،في غبار تاريخ انقضى مفعوله العام .
وحين يفقد الكائن ،قدرته المشروعة ،على التلذذ بالجمال ،فإنه يشكو ويتساءل :
(-يا رب ،نفسي في لقمة حلوة ومسكن نظيف وملبس لائق وأنثى ، أنثى حقيقية لا تمثال خشبي في هيئة امرأة ،يا رب نفسي في ولد أو حتى في بنت !)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر–ص.59).
لا يتمتع الجمال ،بالديمومة ،ولا بحق الاستيطان في الحارة المسترخية على تخوم الخلاء؛فهو محاصر بآثار ومفاعيل الزمان ،من ناحية و بالرفض الجماعي لحضوره وتجسده و وانبساطه أمام الأعين والمخيلات المفتتنة من ناحية ثانية.
فكل جمال ،معرض لمعاول الهدم الاجتماعي أو الميتافيزيقي ؛وكأن الخوف من فتنة وغواية الجمال،يمنع الحارة،من رعاية الحب والانهمام بمساربه ومساراته وانبثاقاته.
لا يحقق الفتوات الجلال ،بحكم افتقارهم للفضائل ،ولا يجد الحب مسكنه الوجودي داخل حارة،يتحكم الفتوات في اقتصادها الوجداني وفي كيميائها العاطفية.ولذلك يتخفى الحب وينزوي ،بعيدا عن العين المترصدة والمتلصصة والمستنكرة ،إن لم يتآكل وينتهي إلى فجائع ممهورة بالدم أو بالدمامة.
تصف "حكايات حارتنا" ،واقع حركة تتهيأ للثورة ،فيما ترفض كل ما يمنح الحب شرعيته العمومية ،وارتقاءه الثقافي.فالحارة مدفوعة ،خارجيا ،إلى الثورة السياسية(1919) ،فيما لم تنجذب إلى أي تعديل ،لاقتصاد الحب وسياسة العشق وفيض الهوى.
يخلق الجمال التنافس والتناهب والتعادي ،في وسط يبحث فيه العشق والافتتان عن حق الإقامة والاستيطان بعد طول إقصاء ومحاصرة في الزوايا والأركان المعتمة.
(وبحزن أتساءل :
-ألا يتيسر للجمال أن يهنأ بالبقاء في حارتنا ؟ )
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر–74).

6-الرؤية :
حلم طفولة وتطلع أزمنة آتية:

تقترب الحكاية من الواقع الاجتماعي وتستلهمه بدقة أحيانا ،وتنأى عنه أحيانا أخرى ،لتغوص عميقا ،في عالم دلالي ،عابق بالرمزية المكتنزة بأسرار العقل والخيال وبأشواق المتخيل وتحليقات المجاز .فبعد أن انشغل السارد بالتوت،فإنه سينشغل ،في آخر الحكاية،بالرؤية وطرق الوصول .والحوار الدائر حول الوصول ،الفنائي أو العقلي ،مترع في الحقيقة ،بتأملات حول المأتى الأكثر نجاعة،والمسلك الأقرب ،إلى الاقتراب من قلب التكية .
ومن المؤكد أن الحكاية الأخيرة ،تتصادى ،كثيرا مع قصة زعبلاوي(دنيا الله)،ومع كثير من سرود "أولاد حارتنا"؛فسارد الحكايات مثل سارد قصة "زعبلاوي "،يبحث جادا،بعد أن تلذذ كثيرا بحكايات الحب والفتونة واللطف الانخطافي ،عن رؤية الشيخ الأكبر.
فقد حلم بالرؤية صغيرا ،وسكنت وجدانه،وبقي أسير ذكراها.ولذلك ،فإنه يكثر النظر في سبل الوصول ،ويتردد بين أهل القلب و أهل العقل،بين أهل العرفان وأهل البرهان،بين المشاهدة و الاستدلال العقلي ، لعله يحقق بغيته الوجدانية والذوقية الكبرى .
(غير أن الرؤية المزعومة للشيخ قد استقرت في أعماقي نفسي كذكرى مفعمة بالعذوبة .كما أنني ما زلت مولعا بالتوت .)
(-نجيب محفوظ –حكايات حارتنا –مكتبة مصر –ص.5).
إنه ينشد ،تحقيقا ،عالما شفيفا ،هو توأم الحارة ونقيضها في ذات الآن مثل الباحث عن زعبلاوي،ويحلم بكينونة ،هانئة في أحضان البيت الكبير ،بعيدا عن تمخضات الحارة وإتاوات الفتوات وأعطاب الحب وحيل الشطار والعيارين والمجاذيب والمهابيل والبلهاء واللصوص والحرافيش .
( وكنت في غاية من الارتياح والطرب والهناء وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني ،وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي ، وبيننا وبين الدنيا فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ ،وليس في الدنيا كلها داع واحد للكلام أو الحركة ، ونشوة طرب يضج بها الكون .)
(-نجيب محفوظ –دنيا الله –مكتبة مصر –ص.132).
يحلم سارد الحكايات ،بهناءة شبيهة بهناءة الباحث عن زعبلاوي،بعد أن أعياه البحث عن السبيل الأقرب والأوثق للوصول،وأطال التأمل ،في مصائر الكينونة في حارة،تغوص تدريجيا ،في قلب حداثة قلقلة ،وتبتعد ،قليلا فقليلا ،عن خدر الحكايات ورهبة النبوت.

7-تركيب :

إن للحكايات ،ارتباطا ،بإيقاع الكينونة والكائنات في حارة هامشية ما تزال تحلم بتمثل بعض قيم العصر والعيش وفق إيقاعه الثقافي والحضاري ؛ولها ارتباط ،ثان باستقصاء ،الهواجس الوجودية ،لشخصيات قلقة ثقافيا ،ومتوترة نفسيا ومستنفرة اجتماعيا .تتقلص سعة الحارة اجتماعيا،وتضيق مجالات تحرك الشخصيات،ويصير الحب فيها محجوبا والجسد مغيبا والسعادة مستعصية ، وتتوسع إمتداداتها عموديا ،وتتطلع إلى استقصاء المجهول ، والى الرؤية الشاملة لقضايا الكينونة والمصير.تضيق الحارة،أفقيا ،وتنشغل بالهامش الثقافي ،وبالمستطرفات،وتتسع عموديا ،لما يسامت القضايا والإشكاليات الكونية الكبرى؛فهي حارة برسم التأريخ ،طورا ،وحارة –كونية برسم الترميز والتكنية.ينهض التأريخ السردي ،على عرض الواقعات وترتيبها وتوطينها محليا(حكاية إبراهيم القرد وهي حكاية ذات أصل واقعي ...) فيما يتوخى الترميز ،توسيع
حقل الرؤية ،وأفق القراءة ،والانفتاح على الكوني.


إبراهيم أزروال



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميرامار : شخصيات باحثة عن موقف.
- معاصر السكر بسوس في عصر المنصور الذهبي . قراءة في (أخبار أحم ...
- جماليات في عالم بلا خرائط : هوامش على -شارع الأميرات-
- مسخرة بوجلود : نحو تاريخية للكرنفال الأمازيغي
- حتى لا ننسج جوارب-للعقول-!
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 4
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 3
- أصول المراقبة في الفضاء الثقافي الإسلامي 2
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 1
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 4
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 3
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 2
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 1
- نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 2
- نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 1
- القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 2
- القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 1
- العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 2
- العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 1
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 6


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم ازروال - حكايات حارتنا : حكايات التوت والنبوت