أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابراهيم ازروال - مسخرة بوجلود : نحو تاريخية للكرنفال الأمازيغي















المزيد.....



مسخرة بوجلود : نحو تاريخية للكرنفال الأمازيغي


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 4054 - 2013 / 4 / 6 - 23:02
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



لم تقدم المدرسة التاريخية المغربية ، أية مقاربة تاريخية ، لفرجة بوجلود ، رغم الأهمية البالغة ، راهنا ، للمقاربة التاريخية ، في هذا السياق ، بالنظر إلى قدرتها على إضاءة الكثير من العتمات المتأبية ، على المقاربة الأنثربولوجية والسيكولوجية والأدبية –الاحتفالية .من المحقق أن نقد المناهج الوضعانية والتاريخانية ، والانفتاح على مدرسة الحوليات وعلى تاريخ الذهنيات ،لم يقودا الدرس التاريخي ، إلى توسيع واغناء مواضيعه البحثية ، والانكباب على منتجات المتخيل الجمعي.
بوجلود أو بيلماون من الفرجات المغربية الغنية بالدلالات والمعقدة التركيب ،في ذات الآن .فهي جزء من الإرث الإثنوغرافي ، المنذور ،للهوامش والحواف ، بحكم ترفع الثقافة العالمة عن الاحتكاك بعوالم الثقافة الشعبية ،وبحكم الرغبة اللاهثة،إثر الاحتكاك بالحداثة الغربية ، في الانخراط في" تاريخانية" تسلفية غير باحثة في النسغ الشعبي وفي المعاني الكمونية ، لتفاعلاته الثقافية على مر القرون ، وعلى اصطناعه للمعاني ، من شذرات متعددة الينابيع ، ومن ممارسات طقسية أو موتيفات ميثية مستلة أو مقتبسة من هذا السجل أو من ذالك .لقد عانت هذه الفرجة الشعبية ، أكثر من الفرجات المغاربية الأخرى ،من الحرم النظري ومن الإقصاء من التناول التاريخي أو المعرفي ، رغم كل محمولاتها الثقافية الدالة وتوطنها العميق في النسيج الثقافي الأمازيغي .
إن فرجة بوجلود ، طرس تثاقفي ، غني بموارد التثاقف بين المجموعات الثقافية المختلفة والمتنوعة ،و مترع بالاشتباكات المتجددة ، دوما ، بين الروافد والتيارات ، وبالترميز المتجدد ، وفقا لمستجدات الأزمنة والأمكنة والمستحدث الخاص والعام.وهي امتداد ،ثر ،لتدبير الروافد الثقافية وعقد الهدنات والمصالحات والموافقات ، بين المنقولات والمخزون الثقافي الأنثروبولوجي المحلي .وقد حاولت الإثنوغرافيا الغربية( إدموند دوتي وإميل لاووست و فاسترمارك و ماري- روز رباتي ... الخ) ، ملامسة ، أجزاء من هذه المسخرة المركبة ،وتأولتها ، وفقا لمنظوراتها المنهجية والنظرية الخاصة.ولئن انتقدت طرقها في التفسير والتعليل والتأويل ،فإن توصيفاتها الإثنوغرافية ، بقيت خارج مدار الاستشكال.لقد وفرت الكتابات الإثنوغرافية الغربية ، توثيقا إثنوغرافيا رهيفا ،فيما لازمت الإستوغرافيا والمدونات والمكتوبات التراثية،صمتا دالا ، عن الفرجات وعن منتجات المتخيل الشعبي عموما .

للتغلب على قصور المقاربة الأنثربولوجية والنفسية والكرنفالية ( الباختينية) ، لفرجة بوجلود ، لا مناص ، من اعتماد مقاربة تناهجية ، متنوعة العدد المنهجية والآليات التحليلية ، للكشف عن التشكل التاريخي لهذا التعبير الفرجوي ، وعن الرؤية الفكرية والتدبيرية ، الكامنة خلف تكييفات وتلوينات وابتداعات ، المتخيل والعقل الأمازيغيين في القرى والمداشر الأطلسية والمتوسطية ، سابقا ، وفي التجمعات الحضرية ، حاليا.وعليه ، فمن الضروري ،مقاربة هذه الفرجة من منظور ثلاثي الأبعاد :
1- تاريخي ،
يرصد الفرجة في المصادر التاريخية المتخصصة وفي المؤلفات المرصودة للفتاوى والنوازل والرحلات أو للتشريع أو للعرفانيات أو للجماليات.وبالإضافة إلى ما سبق ، فإنه يتتبع الانبثاق والاغناء والتحوير والاقتباس ، بين مقتبسات الثقافات المتحاورة والمتجادلة ،على الرقعة المتوسطية تحديدا.
2-أنثروبولوجي ،
ينكب على ممارسة الفرجة ، ميدانيا ،وعلى ماهية الوظائف والحاجيات ، المشمولة بانعقاد هذه الفرجة المطقسنة ، وعلاقتها بالذاكرة وبالمتخيل وبالتعاقدات الرمزية بين الجماعات المختلفة ،
3-أدبي –احتفالي .
يعتني هذا البعد ، بالفرجة من حيث هي تمسرح ، وتشخيص لفرجات ، ونسج لعوالم ، وإحالة على حالات ، واشتغال على اللغة ، وانتشاء بالنصوص وتلذذ بالباروديا وبالسخرية وبالفكاهة .
كيف استطاعت ، فرجة ، "تاريخية "،مرذولة معياريا ، أن تعبر عن الكيان الجماعي وعن انشغالاته الوجودية والاجتماعية ؟كيف استطاعت أن تراكم المؤثرات و أن تتفنن في صوغ التراكيب الفرجوية ، وأن تركب مركب السخرية من المعياريات الاجتماعية ،في أزمنة الامتلاء الدلالي ؟ كيف استطاعت أن تصير جزءا من التعبير الشعبي ، في الحواضر السوسية خصوصا ؟


ستمكن المقاربة التاريخية ، من تتبع إحداثيات الطقس وتطوراته على الامتداد الزمني ، واغتنائه المستمر ، بالتأويلات وبالوظائف المستجدة تبعا لمتطلبات السياقات ولنوعية الخطابات المعيارية المهيمنة ، المتعاقبة على شمال إفريقيا منذ العهد القرطاجني على الأقل .تأسيسا على التراكب الجيولوجي لهذا الطقس الألفي ، فإن استجلاء بنيته الطقوسية والتعبيرية ، رهين بهذا الاستقراء التاريخي ، للتركيب والتراكب والصقل وإعادة الصقل ، والتأويل والتأويل المضاد.
1-التطلب المعرفي والمنهجي :

يتطلب الكشف عن آليات الترابط بين الطقس والمسخرة في بوجلود ،استقراء آليات الجمع بين المقدس والدنيوي ، بين المعياري واللامعياري ، بين المثال ونقيضه ، في المؤديات الشعبية عموما ، وفي الثقافات الشرقية ، الحاضرة ، بنحو أو بآخر ، في الفضاء الثقافي المغاربي مثل عيد البوريم مثلا .لقد قادت المساجلة المنهاجية مع السجل الإثنوغرافي الأوروبي ،بعض السوسيولوجيين ( عبد الغني مونديب ) والأنثروبلوجيين (عبد الله حمودي )المغاربة ، إلى استكشالات نظرية ، لا يمكن البرهنة عليها إلا بما يلي :
-البحث في مورفولوجيا الكرنفال ، في الثقافات المتوسطية ،
أثر الترابط بين الثقافات المتوسطية ،قديما ، في المصير الكياني لكل ثقافة ثقافة ،و أمد المتخيلات الجماعية ، بميثات وصور ورموز وكنايات مازال نسغها ساريا في قيعان تلك المتخيلات .وعليه ، يتوجب ، الكشف عن مورفولوجية الكرنفال المتوسطي ، لرصد المؤثرات ، ولاستقصاء التكيفات والتكييفات ، وللكشف تحديدا ، على البنى التأسيسية ،لهذه الأشكال التعبيرية الشعبية .
والترابط والاستحياء ، لا يعنيان ، التقبل النسخي ، لفرجات الآخرين ، بل يعنيان ، الاستمداد المصحوب بالتكييف ، وإعادة الصياغة ،في الحد الأدنى ، وإعادة الصوغ المشفوعة بالإثراء والتحوير والقلب الدلاليين في الحد الأعلى .
( ويسود هذه الاحتفالات جو الغناء والرقص والنشوة والثمالة . وكان يتقدم موكب جوقة ديونيزوس (thiase) جماعة الساتير يرتدون جلود و أقنعة التيوس ، ويستعرضون مسخا ضخما لعضو الذكر الذي يرمز للخصوبة المرتبطة بطقوس ديونيزوس (procession phallique ..)
(عبد الواحد ابن ياسر –حياة التراجيديا – في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته –الطبعة والوراقة الوطنية – الطبعة الأولى -2006-ص.24).
(يجوب ديونيسيوس العربيد أنحاء العالم متنقلا من أرض إلى أرض مصحوبا بثلة من الميناد والساتير المتوجين بالأكاليل ، ويتقدم مواكبهم وعلى رأسه إكليل من العناقيد ، وبيده قضيب ملفوف لأغصان الكرمة بينما ترقص المينادات الفتيات من حوله بمرح ومجون ويهتفن مغنيات صاخبات ويتواثب من حوله الساتير الأجلاف السكارى .)
( -عماد حاتم – أساطير اليونان – دار الشرق العربي – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 1994-ص.135)
وحتى تتضح العلائق التركيبية الخاصة بالكرنفال المتوسطي ، عموما والكرنفال الأمازيغي خصوصا ، لا مناص من الإلمام بالكرنفال في الثقافة الإفريقية وفي الثقافات الآسيوية والأمريكية .
ما نوع العلائق القائمة بين الطقس الديونيزوسي ، و الاحتفالات الفرجوية الأمازيغية ؟ما علاقة مسخرة بوجلود بالنشوة الديونيزوسية والرقص الباخوسي ؟هل تنكر بوجلود ، بسبب الاشتراطات الفقهية ، لنشواته وسكراته وباخوسياته ، وانحصر في توهم نشوي وايروسيات مستثارة واستيهامات خصوبية واخصابات بلاغية ؟
كيف تعامل المتخيل الأمازيغي ، مع المستقدمات الإغريقية الممكنة بفعل الإقامة الإغريقية في أجزاء من شمال إفريقيا وتثقف جزء من النخب المغاربية " بالثقافة الإغريقية " في غرارتها العالمة والشعبية على السواء ، وتفاعلها مع طقوس المقدس الإغريقي ؟ألا يمكن الحديث عما نسميه ب"التساند التخييلي بين الفرجات" ، واستبعاد الاستقدام الكلي والنقل الصرف ؟ألا يقوم التساند ، على الإمداد والاستمداد ، على التبيئة والتطقيس الفرجوي المتكيف ؟
وقد عقد عبد الله حمودي مقارنات بين الكرنفال الأوروبي ومسخرة بوجلود وانتهى إلى ما يلي :
(الكرنفال، المعروض على هذا النحو ، قابل للمقارنة مع مسخرتنا .فهي أيضا تمسك بالمعكوس وتبني مشهدا هازلا للأعمال والأيام . وتحمل إلى الذروة نتائج تراتبية للأجيال تنظم الولوج إلى الجنس ، والى الإنجاب ذي الهيبة ، والى السلطة . وبالآلية نفسها ، تفضح التجديد في التعامل اليومي . إنها وظيفة للرقابة ذات قرابة مع الهجوم بالشارفاري .)
(-عبد الله حمودي – الضحية و أقنعتها – ص.211-)
ويمكن اغناء المقاربة الأنثربولوجية ،بالمقاربة التاريخية –الأدبية للكرنفالي le carnavalesque عند ميخائيل باختين وبالدراسات المنجزة حول الجسد الغروتسكي le corps grotesque .
-البحث عن دلاليات الطقس الأضحوي في الثقافات المتوسطية وفي الثقافات التوحيدية ،

لفهم خاصيات بوجلود ، لا بد من الإلمام بدلالة الظاهرة القربانية ، في شمال إفريقيا وفي الشرق الأوسط .ويمكن توسيع ، مدى الإحاطة ، باستعراض القربان الإفريقي ، بحكم التجاور الثقافي بين الفضاءات التاريخية الأمازيغية وجنوب الصحراء .ولما كان القربان التوحيدي ، تأسيسيا ، فمن الضروري مقاربة حقيقة القربان في التوحيديات الثلاث ، ونوعية التمثلات والتكييفات ، الحالة بها ، حين عانقت الأنثروبولوجيا الأمازيغية .

-البحث عن احتفاليات و مبدعات اليهودية الممزغة/المستمزغة المغاربية،

تمكنت اليهودية الممزغة أو المستمزغة ، من تغذية المتخيل التعبيري المحلي ، بما عقدته من اغناءات تعبيرية وترميزية بين المقتبسات والمنقولات .وتقدم فرجات البوريم اليهودية ، سوانح فرجوية ، قابلة ، لاستحثاث المتخيل الجماعي ، على التفنن في اللعب واللذة الجمالية والاستيهامات والتقمصات الأكثر تعبيرية .
(وجرت العادة بأن تقام المآدب ظهر "بوريم" ويكثر فيها من شرب الخمر ، حتى لا يستطيع شاربها التفرقة بين اسم مردخاي وهامان ، قصد نسيان مأساة الحدث ، كما يقولون . وجرت العادة في هذا العيد أيضا ، بأن يرتدي الصبيان الأقنعة وينتقلون بين الدور في جو من الجلبة والسرور .)
(أحمد شحلان- اليهود المغاربة – من منبت الأصول إلى رياح الفرقة - دار أبي رقراق –الرباط –الطبعة الأولى -2009-ص.47) .
من البديهي أن تتناص الفرجات الشعبية ، في فضاءات منفتحة على الهجرات منذ قرون مديدة ، بحكم المجاورة المكانية وتقاسم بعض المشتركات اللغوية والثقافية والاجتماعية .واستنادا إلى مقتضى تكييف المنقولات ، فإن الفرجات اليهودية ، استدمجت ، بعض المقتبسات أو المبتدعات المحلية ، و أثرت بالمقابل في الفرجات الشعبية الأصلية .ليس عجيبا ، أن تتوغل فرجة بوجلود ، في تشخيص المعيش اليهودي ، و أن تتبع مفارقات اليهودية الممزغة ، والمحتفظة،رغم ذلك، بلمساتها وخصوصياتها ، اللسانية والشعائرية والتنظيمية .
- رصد آليات التثاقف وتناص الفرجات في السياقات الثقافية الأمازيغية .

يصعب ، في الحالة الراهنة للمعارف التاريخية ، الجزم القاطع ، بالانتساب الجينيالوجي لفرجة بوجلود .كما يصعب ، اعتماد النسب الخارجي ، لهذه الفرجة ، الناشئة والمغتنية ، بالمؤثرات الثقافية ، الآتية من الآفاق الثقافية المزدهرة ، في العصور التاريخية –الثقافية ، البارزة والرئيسة .فهي فرجة ، ذاتية المنشأ ، ترجيحا ؛ لكنها تغذت بأكثر من تأثير ، وتأويل ، ومناولة ، حسبا لطبيعة الرمزيات ، الرائجة ، والمتدفقة على أرض المغارب في تاريخها الثقافي الطويل .لقد امتلكت الثقافات الأمازيغية ، القدرة على التكيف والتكييف ، وعلى الانفتاح النقدي ، على الثقافات العالية ، في ضفتي البحر الأبيض المتوسط .وعليه ، فعزو ، هذه الفرجة ، إلى جينيالوجيا إغريقية أو قرطاجية أو رومانية ، رأسا و أساسا ، مما يحتاج ، تحقيقا ، إلى بعض التنسيب .إن ثقافة ، برهنت ، على قدرتها الاجتيافية والتكييفية ، أمام الثقافات العالية ، وحكمت الاعتبارات الوظيفية في تدبير المقدس نفسه، لا يمكن ، أن تكتفي ، بفتح الممرات والمعابر الثقافية، للسجلات الخارجية ، دون تبيئتها ووسمها بميسمها الخاص .
(وبالنظر إلى هذه التعددية الوثنية والدينية يمكن اعتبار ظاهرة بيلمان في صورتها الحالية إحدى آثار وضع وثني قديم .فهي تذكر في بعدها الوثني بعادة تقديم القرابين للآلهة عند الرومان والقرطاجيين .)
(-محمد أديوان – "بيلماون" أو جدلية الظاهر والخفي في الأصول الأنثروبولوجية للظاهرة المسرحية بالمغرب – تاسكلا ن تمازيغت – منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي –مطبعة المعارف الجديدة – الرباط – 1992-ص.70) .
الاستعارة لا تعني غياب التكييف والتبيئة والتوطين،ولا سيما في السياقات الثقافية المشدودة إلى إبدالها التكراري ، الدائري ، المحين دوما ، للأفعال التأسيسية للأبطال التأسيسيين .من الضروري ، إذن ، وضع نظرية للتثاقف في المغارب منذ العصر البونيقي ، حتى تنكشف للعقل الاستطلاعي الراهن ، آليات ذلك التثاقف ، وإواليات الصوغ وإعادة الصوغ ، التأويل وإعادة التأويل ، الاستمداد والإمداد الممارسة ، في الفضاءات التاريخية الأمازيغية ، وفي تخومها الثقافية الشمالية والجنوبية على السواء .
إن اليهودية المستمزغة والمسيحية الدوناتية والتصوف الممغرب مع الجزولية- الشاذلية خاصة ، دلائل تاريخية ، على قدرة السياق الثقافي المحلي ،على تعميق التفاعل بين الروافد والتيارات البرانية والحواضن المحلية .

لا تكتفي ، الثقافة المحلية ، بالاستعارة والتلقي إذن ، بل تنتخب وتعيد صوغ ما يستثيرها ، ويستجيب ، فعليا ، لآفاق انتظارها ، أو لاهتياماتها الاسطيطيقية ، أو لتطلعاتها التاريخية.ولذلك ، فهي تستزرع ، الرافد ، في ثنايا ، الموروث التداولي ،وتتأوله تأويلات بعيدة أو قريبة ، وتصيغه بما يجعله جزءا فعالا في النسق المتجدد .تعبر الدلالات ، بين التخوم ، وتتسع الكلمات للمؤتلف والمختلف ، ويفيض المعنى على الضفاف ، ويصير الكلام المنحوت من أصلين ، معدا للعبور إلى التخوم والى الأقاصي الإفريقية .
( و حتى بعض الشعائر المشتركة ما بين اليهودية الأولى والإسلام ، مثل شعيرة الأضحية ، على اختلاف في تأويل دلالتها في الملتين ، لم يحتج معها المعجم الأمازيغي إلى اقتراض الكلمة العربية "أضحية" بشكل أو بآخر نظرا لأن الشعيرة كانت معروفة من قبل ،و إن تمت إعادة تأويل مقصديتها(ما بين التذكير بخروج بني إسرائيل من مصر ، إلى التذكير بتضحية إبراهيم ). فما يزال المعجم الأمازيغي إلى اليوم يطلق اسم [تا-فاسكا]على هذه الشعيرة ؛ وهي كلمة آرامية الأصل( פ ס ה א) تحيل على عيد الفصح ،الذي كان البربر المعتنقين للديانة الموسوية يحتفلون به ضمن بقية الأعياد اليهودية كما أشار إلى ذلك تيرتوليان .)
(محمد المدلاوي المنبهي – رفع الحجاب عن مغمور الثقافة والآداب – المعهد الجامعي للبحث العلمي- الرباط – الطبعة الأولى -2012-ص.327) .

لا تتم الفرجة في بوجلود كما في ءيمعشار ، إلا باستحضار المعيش والخصوصية اليهوديين؛ فاليهودي بما هو الآخر ، القريب والبعيد في نفس الآن ،الأليف والغريب ، المتكيف بحذر ، والمتأول على التخوم هو المعبر المثالي ، للتعبير عن الاختلالات الكيانية ، وعن مكامن الإثارة والتشقق والتلهف ، في النسق الاجتماعي .فالسخرية من المعيش اليهودي في طقس ءيمعشار ،عبر تقمصات وتشخيصات وباروديات الحزان –الحاخام وزوجته شميحة ، هي سخرية من تفرد الآخر ،أي من ذاتيته الغيرية ، وتطبعه غير الطبيعي ، وتوطنه الوطاني ، وسخرية من غيرية الذات ،أي من هوى الفصل بين الرغبة وموضوعها ، بين الكلام والقصد الدلالي ، بين ثراء اللسان وفقر المخيلة وانحباس الجسد بين الشهوة الحاضرة والشهوة المرتقبة .
(وفي مساء يوم عيد عاشوراء كان يقام مهرجان مشهود يطفح بالأدوار المسرحية ، يتشبه فيها الشبان باليهود في هيئاتهم وأخلاقهم و أحاديثهم وبالحيوانات في أقنعة يصنعونها من ذئب أو سبع أو وعل أو شيخ أبيض اللحية يتخذون ذالك من شقاق القرع ويلصقون بها اللحية والشارب ويتخذون العروس والعريس ويغنون ويرقصون من أجل الإمتاع والإضحاك وفي النهاية يقام أحواش طيلة الليل على العادة في ذلك . )
(أحمد بوزيد الكنساني – أحواش – الرقص والغناء الجماعي بسوس – عكاظ – الرباط – الطبعة الأولى – 1996-ص.66) .
من المؤكد أن تشخيصات وتقمصات ومساخر ومجسمات ،فرجة ءيمعشار ، وفضاءاتها التشخيصية الساخرة ، قادرة ، على إنارة مسخرة بوجلود ، وعلى إيضاح كثير من غوامض هذه الفرجة ، المغتنية ، دوما ، بالفرادات والإثارات .


2-الضحية و أقنعتها :
الجدارة والحدود
ولئن لم يستطع المؤرخون المغاربيون ، تخصيص دراسة تاريخية متعمقة لفرجة بوجلود ،فإن الأنثروبولوجي المغربي ، عبد الله حمودي ، خص هذه المسخرة الشعبية بدراسة أنثروبولوجية تأويلية ، جديرة بالاعتبار المنهجي وبالاستشكال المعرفي على أكثر من صعيد .
تنتمي دراسة "الضحية وأقنعتها –بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب " إلى إحداثيات ثمانينية ؛ وبالتالي ، فإن معايناتها الحقلية ، بقيت رهينة ، الفضاء الحوزي(أحواز مراكش ) ، في زمانية شهدت ، بالتأكيد ، تحولات ، في تركيبة الطقس وفي وظائفه ، بحكم ، التحولات الاجتماعية والثقافية ، الحالة بمغرب ما بعد الاستقلال .

رغم أهمة الدراسة الحقلية ، فإن الدراسة المقارنة ، يمكن أن تقدم ، إضاءات هامة ، لنسق هذا الطقس ولبنيته التركيبية .فمن البين ، أن ثمة اختلافات في تفاصيل العروض والفرجات ، في الفضاءات الشمالية والجنوبية ، رغم الوحدة البنائية والنسقية الجامعة بينها.ومن الطبيعي ، أن تختلف العروض القديمة قياسا إلى العروض الحديثة ، بالنظر إلى طبيعة التعبيرات الثقافية السائدة ، ونوعية المؤثرات الرائجة وطبيعة الرهانات المجتمعية والتوازنات السياسية والمجالية بين القوى اللامركزية والمخزن المركزي .

هل تكفي معاينة ظاهرة بوجلود ، في محيط قبلي محدد ومحدود ، (دوار ايمي نتاسافت بقييلة أيت ميزان ) بحوز مراكش ، للتمكن من إدراك كلية السيرورة الطقسية-الفرجوية ، واستخراج آلياتها وثوابتها المفصلية ؟ هل يمكن فهم التمفصل ، في فرجة بوجلود ، بين الطقس الأضحوي والمسخرة ، دون مقارنتها ، بفرجات شعبية ، ذات اقتدار على إقامة تمفصلات مركبة بين المقدس والمدنس ، بين المرجعية المعيارية والرمزيات التاريخية المتراكبة في البنى التاريخية المغاربية مثل فرجة "ءيمعشار" أو "ايصوابن" بسوس أو فرجة "سونة" بمنطقة الريف مثلا ؟
(كما لوحظ مؤخرا لدى بني سنوس بنواحي مدينة تلمسان ما يلي : في ليلة الثاني من عيد الأضحى ، يقوم شاب بالتنكر بجلود الدواب ويسمى "بوجلود" (الرجل المتشح بالجلد) : ويتنكر آخر في ثياب نسوية ، ويسمى "سونة" ، ويسيران الواحد مع الآخر متعانقين يطلبان من المضحين بعض اللحم يتقاسمانه في النهاية . )
(إدموند دوطي – السحر والدين في إفريقيا الشمالية – ترجمة فريد الزاهي – مرسم –الرباط – المغرب -2008-ص.348).
ومن المعلوم أن المقارنة بين الفرجات ، ومراعاة الأبعاد الزمنية والمجالية واللسانية المميزة لحقل الفرجات الاحتفالية بالمغرب ،كفيلان بالحد من التوسعات التأويلية للأنثربولوجيا التأويلية ، ومن تفسيرها لوظائف هذا الطقس وآلياته في توليد الاندماج ، وفي الحفاظ على تماسك اللحمة الجماعية وما نسميه ب"المعنى التاريخي المشترك" .
( وغالبا ما كان هؤلاء الفنانون يرتدون جلود ما يذبح من أضحيات العيد ، ويتزينون بأصداف الحلزون و أطباق قديمة مصنوعة من نبات الدوم أو الحلفى(=الحلفاء) ، أو أواني معدنية غير صالحة للاستعمال تتدلى من رؤوسهم وصدورهم ، ليتسنى لهم قرعها والضرب عليها بعصيهم حتى تحدث ضجيجا قد يزيد في تحميسهم ، أو يجلب المزيد من المتفرجين . )
(مصطفى رمضاني – ظاهرة سونا في الجهة الشرقية من المغرب – ضمن الفرجة والتنوع الثقافي – مقاربات متعددة الاختصاصات –منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة – الطبعة الأولى – 2008-ص136) .
تفيد المقارنة بين الفرجات ،في رصد الثابت والمتغير، في بنية الاحتفال ،وطرق العارضين والمشخصين ، في التجاوب مع الإكراهات ، وفي تحويل الامتناع المعياري عن التشخيص وقول اللامقول ووصف اللاموصوف ، إلى موضوع للسخرية والهزل.
(ففي منطقة حاحا جنوب الصويرة ، على سبيل المثال ، وبمناسبة عاشوراء ، يوجد كرنفال مشابه لما وصفنا آنفا . كما أن الجمل والجمال ، واليهودي والقاضي تعتبر الشخصيات والموضوعات الرئيسية المعتادة . بيد أن الشخصية الخصوصية للحفل هو أحد الأهالي يرتدي جلد تيس ، وعلى رأسه في الغالب يقطينة بها ثقبان و أشواك قنفذ ، وفي عنقه عقد من أصداف الحلزون .وهو يتجول ويرقص على إيقاع صياح الجمهور : ويسمى "الهرمة " أي المقعد أو العجوز المتهالك ، كما يسمى أيضا "هرمة الكركاع" (هرمة الجوز) أو "هرمة بوجلود " كما هو الأمر لدى بني سنوس قرب تلمسان .)
إدموند دوطي – السحر والدين في إفريقيا الشمالية – ترجمة فريد الزاهي – مرسم –الرباط – المغرب -2008-ص.349).
ثمة مشتركات بين الفرجتين ، ووحدة في المحكيات وفي الشخوص وفي الرغبات الهتكية والانتهاكية وفي اللعب الفرجوي الساخر من المواضعات الاجتماعية ومن العوائد والمتعاليات الثقافية .تشترك الفرجتان ، جذريا ، في التجاور بل في التداخل بين المقدس المعياري والمقدسات اللامعيارية ، بين الالتزام بالمعياريات والنسق القيمي ، طورا ، وتقمص معيش وكينونة الأغيار طورا آخر .يتم بالتشخيص والتمثيل والتقمص ، ومسرحة اليومي ،قول الممنوع ، وخرق القانون ، وإبراز الأيروسية الثاوية تحت رماد الطهرانية المجتمعية .
كما أن شخصية" البوهو" شخصية تنكرية ، مقنعة ،بجلود الأكباش ،وساخرة من نظام القيم ومن المثاليات الاجتماعية .من المحقق ، أن ثمة ترابطات ، بين الفرجات الكرنفالية المغربية ،تحتم ، ضرورة ، تتبع التناصات والتبادلات والاستيحاءات ، الجامعة بين مساخر شعبية ، ناطقة بثقل الحال،وبالرغبة في التخفف من وطأة الهشاشة الوجودية والاجتماعية .
(..ويتقدم الموكب " البوهو" الذي يرتدي جلد الكبش وبيده مسحة هائلة من التين المجفف ويحمل لحية مثل "مخلاة الحمار") .
( حسن بحراوي – المسرح المغربي – بحث في الأصول السوسيوثقافية –المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء –بيروت –الطبعة الأولى -1994-ص.45).
بناء على هذه الترابطات ، يصير من الضروري ، وضع كرونولوجيا للفرجات الكرنفالية المغاربية (بوجلود ، سونة ، ءيمعشار ، الحلقة ، البساط ، سلطان الطلبة ، سيدي الكتفي ، أقلوز ،العنصرة ....الخ ) ، ووضع هيرمينوطيقا للكرنفال المغربي-المغاربي .سنتمكن بفضل تلك الكرونولوجيا ، من تحديد السوابق واللواحق ، وتعيين التأثيرات ، والتطورات اللاحقة ، بالفرجات والمساخر والتعبيرات الشعبية .وستمكننا تلك الهيرمينوطيقا ، من جهتها ، من فهم اتساق الفرجة ، وآليات توليد معنى اللامعنى ، ومعيار اللامعيار ، في فرجات ساخرة من الذات ومن العالم ، ومرحليا ،من النسق الدلالي ذاته .
من الصعب دحض تفسير الإثنوغرافيات الغربية ، لمسخرة بوجلود، في غياب الدعامات والإحالات التاريخية ؛فقد تعددت ، ألبسة هذه الفرجة ، وتنوعت وظائفها ، وفقا للإحداثيات الثقافية والحضارية، على مدار السيرورات المغاربية المتعرجة والمعقدة .ستمكننا ، تاريخية الكرنفال ، من تعيين ،عناصر تشكيله،ونوعيات مقتبساته ،وكيفيات اندماجه مع المستحدثات التاريخية .
إن نقد المقاصد الإيديولوجية والإطار النظري للاثنوغرافية الوظيفية ، لا يلغي بالضرورة ، التفسير المقدم ،لفرجة بوجلود .لا تلغي هشاشة البناء النظري العام لمقاربة أنثروبو-تاريخية ما ، نجاعة بعض تفسيراتها وتعليلاتها للسيرورة الاحتفالية ؛ فقد تتهافت النظرية ، نظريا ،إلا أنها قد تصمد ، تفسيريا ، أمام ، نظريات أنثربولوجية ، أمتن بناء ، من الناحية الإبستمولوجية والمنهجية ، وتقدم تعليلات أرقى وأرهف لبعض الجزئيات .
( إن المزج بين الفرح والحزن ، وطقوس الحداد والبهجة أمر مميز للقتل الشعائري ، حيث يتم البكاء على الأضحية في الوقت الذي يتم فيه الاحتفال المرح بانبعاثه .ثمة السنة التي تموت والجديد الذي يشع بنوره . وهذا المزيج من المرح والحزن يمكننا ملاحظته لدى العديد من الشعوب في ممارستها للتضحية بالحيوانات ، بحيث يتم البكاء والانشراح في الآن نفسه . فالناس يبكون الحيوان الأضحية بعد نحره بشكل شعائري ، ويتم الفرح إما لرؤيته يبعث كما في التضحية الزراعية ، و إما للتطهر والتقرب من الإلهي كما هو الحال في كل قربان أو تضحية .)
(إدمون دوطي – السحر والدين في إفريقيا الشمالية – ترجمة فريد الزاهي – مرسم –الرباط – المغرب -2008-ص.363)
فالمقاربة التاريخية ، قادرة على تقوية الإطار التفسيري للمقاربة الأنثروبولوجية ، وعلى إنقاذها من ذاتانية وحصرية التحليل البنائي والتأويل الرمزي .فالمقاربة التاريخية ، راصدة للفرجة ، على شاشة الزمان ؛ أما المقاربة ، الأنثروبولوجية ، فمستقرئة ، لعلائق المسخرة بالكينونة و باندماج الرموز ببنية المعيش ، ولبناء الإنسان للمباني والمعاني على رقعة المجال .
من المؤكد أن المقاربة التاريخية ، كفيلة ، برسم خريطة ، المقدس ، المستقر والمترحل ، على الرقع المغاربية ،وتحديد الينابيع والمقابسات والمنقولات،المؤثرة ، قليلا أو كثيرا، في نسق المقدس المحلي.
لقد بينت دراسة عبد حمودي ، تمفصلات بوجلود مع معنى الذبيحة الإبراهيمية ،ومع المقدس المعياري عموما ، إلا أنه لم يوضح تمفصل المقدس المتعالي مع المقدس اللامعياري ، داخل الفضاء الحوزي ، ولا تمفصل بوجلود مع المقدس اللامعياري .
تميز التاريخ الثقافي المغاربي ، منذ قرون ، بالتجاور ، بله بالتشابك ، الملتبس ، غالبا ، بين المقدس المعياري ، الشرعي ، والمقدس "الوظيفي"، المرتبط بمبدعات المتخيل الأمازيغي ،وتثاقفه مع الثقافات الشرقية أو الشمالية أو الجنوبية ، الحالة ،لاعتبارات تفاعلية أو تمددية أو توسعية ، بالحواضن التاريخية الجهوية.
المقدس اللاممأسس والوظيفي ، رأسا، يستجيب للمخيلة الجماعية ، ويتجاوب مع الثيمات الكبرى للميثولوجيات الشرقية والمتوسطية، ويجيب عن المكنون وعن الانشغالات الايكولوجية والميتافيزيقية للذات وللجماعة، في لحظات الانتشاء والتلذذ بالوجود ، وفي لحظات التمزق والاقتلاع والخوف من مجاهل الذات والعالم ... الخ.
المقدس الوظيفي ، مقدس أدائي ، يمكن الإنسان من حفظ كينونته البيولوجية والثقافية ، ومن حفظ انتماءاته الثقافية ، في ظل الاحتقانات الرمزية ، المستشرية ، في هذا السياق العبوري التاريخي الغني ، المسمى بالمغارب .وهذا ما يفسر، جزئيا ، "التمركز المكاني للمقدس" ،واقتسام تقديس بعض الشخصيات بين الملتين (تقديس بعض المنتسبين للملتين لنفس الأضرحة مثلا) .
أما المقدس المعياري ، فمقدس محدد القسمات والملامح ؛ إلا أنه معاد التحيين ، وفق الاستجابات المعيارية ،للتحديات الداخلية أو الخارجية ، ومساعيها في الذود عن تصورها الخاص ، للنسق المعياري .وحين لا يتمكن المقدس المعياري ، من تفتيت المقدس "الوظيفي" ، في السياقات التاريخية ،ذات الاشتباكات الاجتماعية المعقدة ، فإنه يميل ، إلى المساكنة بل والى الاجتياف(العمل بالأعراف الجماعية مثلا) .

و الواقع أن الاعتراضات المعيارية على التوافقات المغربية ، مست هذا الاجتياف بين المقدسين بالذات و أحاطته بكثير من دوائر التشغيب والاستشكال، منذ أزيد من قرنين ، على الأقل .وتقدم رسالة المولى سليمان ، ضد الفكر الطرقي ، غرارا دالا عن التجاذب الضدي بين فكريتين متضادتين .(الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا لأبي القاسم الزياني ) .
ينبني المقدس الوظيفي ، على الامتثال للآلية الرمزية ، الأكثر صونا ،لديومة الذات ، والأكثر كشفا ، عن المعاني المبثوثة في الأمارات ؛لا عبرة هنا ، إلا بمسار الاختيارات الفردية والجماعية ، وتمثلات المخيال التاريخي ، والامتثال الاستيهامي للهويات التاريخية .
وبما أن العرفان المغربي انتهاكي في جزء منه، فإنه تآلف مع المبثوثات الطقوسية ، المتناسلة ، على مدى التاريخ الثقافي المغاربي .

لم يكتف عبد الله حمودي ، بالتتبع الإناسي ، لتشكل الفرجة ، في قبيلة أيت ميزان بالأطلس الكبير ، بل حاول ، اختبار نموذجه التحليلي لبنية السلطة في الشيخ والمريد ، اعتمادا على ما يوفره الحقل الطقسي ، المعاين والمحلل في " الأضحية و أقنعتها " .
(إن الحفل التنكري يقلب التضحية ، وبذلك يقلب ، وبصورة منطقية ، مركز السلطة الذي تحيل عليه شعيرة الأضاحي . )
(-عبد الله حمودي – الشيخ والمريد – النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة – ترجمة – عبد المجيد جحفة – دار توبقال للنشر – الطبعة الثانية 2000-ص.188)
حين ينقض العبد-مرافق بوجلود- على الحاضرين ، ويرغم أحدهم على أداء دور الخماس ، فإنه يقلب المعيار الاجتماعي ، ويحول ،في فرجة مرتجلة وساخرة ،الوضع الدوني للعبيد السود إلى وضعية تسيدية وتسلطية. لم يعد العبد الأسود ، يقبل بالامتثال ، للأوامر ، بل أضحى قادرا على تحويل الآخرين-في فرجة احتفالية - إلى خماسين مستغلين لدى الحاخام صاحب الضيعة .

3-تحولات بوجلود :

بعد القيام بكل مستلزمات الأضحية ، تنبري الجماعة ، للطقس الفرجوي ، وللعب المسرحي المرتجل ، من ناحية والمحدد التخوم التاريخية والدلالية من ناحية أخرى .تجد ، الجماعة ، غالبا ، طرقا ، للتوفيق بين الحساسيات الفكرية المتعارضة.فهما، كانت هيمنة الخطاب المعياري ،فإن الخطاب التهتكي ، الابتهاجي ، ذا الانهمامات الديونيزوسية ، قادر ، في هذه المناسبات ، على بسط بلاغته ، وتوسيع حقل استعماله ،والبرهنة ، من ثم ، على فعل الرغبة المتمكن من النفوس ومفعول المخيلة النافذ في مخيال الفرد والجماعة في ذات الآن .

توحد الإنسان بالجلد أي بالحيوانية ، فرصة للتذكير ، بالحب والخصوبة والايروسي ، أي بالرغبة المنزوعة الفتيل بفعل سطوة القانون .لا يكتفي بوجلود ، الجامع للحيوانية وللآدمية ،بإثارة المخيلة الأيروسية ، بل يوقظ الرغبة بالقائمتين .بالقائمتين يشفي ويقي الأطفال الرضع من الشر الممكن ، وبهما ، يوقظ الرغبة ، الهاجعة في سدول الأعراف .يتنقل بوجلود ، بين ظلال الرغبة ، يستحثها على البروز ، بالتلويح بالحبق ، وبالرقص ، وبالحركات الغزلية ، الناطقة ، بأكثر من لسان من ألسنة الصبوة .ما لا يقال ، لفظا ، يقال ، إشارة وإيماءة ، وتلويحا .الرغبة حارسة الخصوبة ، والخصوبة سارية في الطبيعية وفي الإنسان معا .فحين ، تنقطع الرغبة أولا تصل إلى محطاتها القصوى ، فإن الاختلال يحل بخصوبة الطبيعة نفسها ، ويتهيأ الإنسان للتيه في دروب القحوط والمجاعات والجوائح.ثمة تنافذ بين الخصوبتين .الطبيعة تسري في الفرد ، والفرد يثري الطبيعة،ويستحثها على تحقيق وعودها الموسمية .وحيث إن الخصوبة مشروطة بالحرث ، فالخصوبة البشرية ، معقودة على الالتقاء المتألق والخصيب بين الجنسين.

(لاحق أولا النسوة اللائي لجأن إلى السطح حيث صعد ليلحق بهن . هناك اقترب منهن قريبا جدا ، يلمسهن بقائمتيه على الكتفين والصدر وراسما بعض الحركات الغزلية . تلعب النساء آنذاك مشهدا حيث يبدين في الآن ذاته الرغبة في الابتعاد وفي الاقتراب . خلال لحظات ، يلذ لهن هذا الذهاب والإياب ،ثم يهرع الجميع إلى أصيص حبق موجود هناك ، يقطف منه بلماون بضعة أغصان يمدها إلى فتاة .تتراجع هذه الأخيرة ، لكنها مع ذلك تقبل الهدية .يشرع بوجلود في رقصة ويلاحق الأخريات اللواتي يضربهن ضربا خفيفا بقادمتيه .)
(-عبد الله حمودي – الضحية و أقنعتها - ص.98)

بعد الزيارة المصحوبة دوما بالغبار والضربات المنهالة على الأطفال والشبان ، والالتقاء بالنساء والفتيات ، تبدأ المجموعة في تشخيص فرجة الحرث والحصاد وما وقع للحبر مع الخماسين والحصدة .تتوغل الفرجة هنا ، أكثر في الانتهاك والتهتك والسخرية والكروتيسك والقلب السيمانتي .كما تعدد الأدوار ، ويجوز تقمص أكثر الحالات تنافيا.وعليه ، يتقمص بوجلود ، شخصية الأنثى ،ويتحول ،إلى زوجة الحبر اليهودي، في جزء من فرجة الحرث والحصاد .
تتقمص المجموعة ، أدوار الحبر وزوجه والخماسين والحصدة ، وتتوغل ، رمزا أو كناية أو تصريحا ،في الإشارات الأيروسية والإيماءات الجنسية والاثارات الشبقية ،وفي قلب القيم والمعايير الجمالية والايطيقية والاجتماعية . تضيع قواعد التناسق النغمي في الموسيقى ، وقواعد التناسق الجسدي في الرقص ،والمعايير الجمالية في الأقوال والكنايات.

لا يستقر بوجلود على وضع ، فهو يستحيل إلى بقرة ، (تموكايت) ، في مسخرة الحرث والحصاد ، وإلى زوجة الحزان-الحاخام، المكلفة بإعداد وليمة سوريالية(بالتراب والحجارة) ، للحصدة ، والمتواطئة ، جنسيا ، مع العبد الأسود ومع أفراد المجموعة اليهودية .ليست زوجة الحزان ،مولدة للاستيهامات الجنسية ، فقط ، بل هي مولدة بارعة للطرائف،من خلال تشغيلها للجسد المأسور بين التنكر والمحاكاة .
وهكذا ، يتحول بوجلود من الازدواجية الإنسانية –الحيوانية ، إلى حيوان (بقرة) ، في موسم الحرث ، والى امرأة مغناج شبقية ، وخرقاء .لا تفلح بسبب لهوجتها وشبقها في إعداد الوليمة السريالية ،ولا في إطعام الحصدة ،المتلهفين على وجبة بارودية،لا تشبع البطون،بل تثيرالخيال والغرائز.
ما دلالة طواعية بوجلود ؟ كيف ينتقل من الدونية الحيوانية إلى الغيرية الجنسية المصحوبة بوضع ملي إشكالي في وسط متسنن ؟هل تفسر ، روح الكرنفال ، هذا التغير في الهويات ، وهذا الاستكشاف الساخر ، للحالات الطرفية في مجتمع ، قطع أشواطا على درب التأنسن وعلى درب التسنن ؟ ألا يطل الكائن ، هنا ، على أوضاعه المنسية ، وعلى محكياته المدفونة في الأعماق أو على ممكناته المنسية والمقصاة من معلنات الوعي المشترك ؟

يقع بوجلود بين المقدس والفرجوي ، ينتقل من المقدس إلى الفرجة ومن الفرجة إلى المقدس ، بسلاسة .فبوجلود ،في بحث قدسي وفرجوي ، عن الأجساد ، لطبع حضوره على الآخرين .ولذلك فهو ينطوي على الأبعاد التالية :
1-البعد الاستشفائي –التبركي الموجه إلى الأطفال الرضع خصوصا،
2-البعد الاثاري –اللعبي الأيروسي الموجه أساسا إلى النساء والفتيات ،
3-البعد الترهيبي ، اللعبي الموجه إلى الأطفال والى الشباب.
خلافا للجدبات ،فإن بوجلود ، لا يوجه بحكم التباس وضعه الأنطولوجي ، أي تعنيف لنفسه، بل يبحث في كل الاتجاهات ، عن الأجساد المتنكرة ، جهلا أو ادعاء ، لجسديتها أي لمحايثتها الجسدية .ولذلك ، فالقائمتان ، بمثابة ، المجس ، الكاشف عن الحال الايروسية للجسد الأنثوي ،وعن درجات الارتواء والإشباع .
(داخل هذا النمط يشكل الضرب باليدين على الصدر العاري بالنسبة للرجال ، والصدر المحتجب بالنسبة للنساء ، نظام إيقاع حضرة الجسد ، كما يعتبر زفير الجسد محطة فاصلة بين الإيقاع الذي يخلقه هذا الضرب المنتظم باليدين على الصدر.إنها الأدوات التي تصنع إيقاعا متزايدا ومتصاعدا ينتهي بوقفة مفاجئة لامرأة أو رجل ، تم تعرية للرأس بالنسبة للمرأة أو انغماس كلي في الحضرة .)
(-نور الدين الزاهي –المقدس الإسلامي –دار توبقال للنشر – الدار البيضاء – المغرب –الطبعة الأولى -2005-ص.55).
ليس بوجلود في حضرة ،أو جدبة انخطافية ،تقربه من الانطفاء .إنه في التخوم الظليلة ، بين الشعيرة واللعب ، بين الطقس والفرجة ، بين مقدس جذل ولعب مكلل بالسخرية والفرح والتخويف الاثاري المثير للدهشة والتواطؤ اللعبي .يحتل بوجلود إذن ، موقع المتحرك ، بين المقدس المفارق والمقدس المحايث .ولذلك فهو لا يبحث عن انطفاء الجسد ، بل عن حضوره ، ولا يسعى إلى الإثارة الممغنطة لطاقاته ، بل إلى الإثارة اللعبية المحركة، عمقيا، لقواه الكمونية .
4-الالتباس وتكافؤ الأضداد :
فعلاقة الجماعة ، بالطقس ، علاقة ملتبسة ، بحكم تعارضات المرجعيات ،وتعدد الحاجيات الثقافية والوجودية .فبقدر ما تحمي الجماعة المعنى المعياري ، فهي تحمي بالمثل ، معانيها الجزئية ومبدعاتها ، استنادا إلى المتوارث التاريخي أو إلى رغبة وجودية عارمة في تأبيد الوجود والتعبير عن أوجاع الكينونة وعن المنتظرات، الأشد التصاقا بمجال فلاحي ، خبير ، بالآفات الطبيعية .
جاء في شهادة أحد سكان أزادن ، ما يلي :
( يتظاهر الناس بأنهم لا يحبون بلماون .لكن هذه ترهات ، لأنهم يحبون تموكايت .يهتف اليهود : " آبابا !آبابا !" وحين يصادف أحد واحدا منهم ، يسأله : "آليهودي ، كيف العام ؟ كيف الصابة ؟ " "العام زين" يجيب اليهودي ...)
(-عبد الله حمودي – الضحية و أقنعتها - ص.84)
من أمارات هذا الالتباس ،التحفظ على تهتك الطقس وتناصاته التاريخية مع الرمزيات المحلية واليهودية المستمزغة ، من جهة ،والاعتقاد الضمني ،بالإطلالات التنبؤية ،لمشخصي ومتقمصي الأدوار من جهة أخرى .فمتقمصو أدوار اليهود(تيعزا بالأمازيغية) ، مثل بوجلود ، يقعون ، رغم تهتكهم و ميلهم إلى قلب المعايير، في قلب المقدس الشعبي ، المثمن ، لإعلان الخصوبة، حدسا أو تنبؤا ، وللحمولات الاستشفائية والوقائية ،لطقوس الإنسان/الحيوان .
لقد تميزت الفضاءات الثقافية الأمازيغية ، بتوزيع الأدوار و الوظائف الثقافية بين مختلف ، الروافد والتيارات والفعاليات الثقافية .تشرع كل ثقافة في الاشتغال الوظيفي ، بمقتضى الآليات التداولية ، وتذوب في النسق الأكبر ، تدريجيا ، إلى أن تصير جزئا مغذيا ، للعمق الرمزي ، للكيان الثقافي العام .
إلا أن الرافد المعياري ، كثيرا ، ما يسعى ، إلى خرق هذا المقتضى التداولي ، وتصيير ، إبداله كبير الابدالات ، ورمزيته كبرى الرمزيات . لا تملك الجماعة الثقافية ،في هذه الحالة إلا الرجوع إلى سجلاتها التنظيمية ،لتأكد المنحى الخاص ، بكل رافد رافد ، في منظومة التفاعل التثاقفي ،بالمغارب .
(فالتصور الذي تتضمنه معتقدات الصلحاء والزوايا للغيب يتميز بحضوره المباشر في المواقف الحياتية ، ويزود حامليه بشكل ضمني بنوع من التحكم في المجهول ، في حين يظل التصور المثالي الذي يعطيه الاصطلاحيون لفكرة الوحدانية غريبا عن تجربة الناس وعن حسهم المشترك .)
(-عبد الغني منديب – الدين والمجتمع –دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب – أفريقيا الشرق –الدار البيضاء –المغرب -2006-ص.66)
بل إن المقدس المعياري في اعتقاد البعض ، مدين في تجذره ، اجتماعيا وتاريخيا ، بالمغارب ، المتوسطية والأطلسية ، للإمكانيات المتعالية وللمخزون الرمزي ، للمقدس الوظيفي ولآلياته التنظيمية نفسها كما يؤكد ذلك المفكر التونسي محمد الحداد .

5-الوظائف :
رمي البلوش :

ما موقف الأرثوذوكسية من بوجلود ومن الفرجات الشعبية ، ومن الكرنفال الأمازيغي ؟ كيف تمكن الوعي الشعبي ، من الاحتفاظ ومن تنظيم الفرجات الشعبية ، رغم عدم اتساقها مع النواظم المعيارية ، للنسقية المعيارية ؟ هل تمكنت الفرجات الشعبية ، من الاحتفاظ بوجودها ، بفعل انفتاحياتها على اللامرئي وعلى اللامعقول ، من جهة ، وبحكم أبعادها الاستشفائية والوقائية من جهة أخرى ؟ هل تمكنت مسخرة بوجلود ، من الدوام بفعل تعبيريتها وجمالياتها أم بفضل أبعادها الاستشفائية والوقائية ، أي بحكم فعاليتها القدسانية ؟ هل ترجع ، ديمومتها ، إلى تأثلها وارتباطها بالنسق الجماعي ، أم إلى استجابتها العميقة والمداورة ، لمخاوف وتطلعات ومرتقبات الجماعة ؟ ألا تضفي الجماعة ، أبعادا وقائية فردية ( تجنيب الأطفال الأمراض والعلل ) وجماعية( حماية تخوم الدوار ورمي "البلوش" على الآخرين ) على بوجلود ؟
(وإحدى وظائف بلماون هي أخيرا الركض لوضع "النحس" على تخوم القرية المجاورة . ذلك هو ركض بلوش حيث رأينا بلماونات المجموعات المجاورة والغريمة تتسابق لتصل الأولى إلى التخوم .وبهذا يمكن تفسير مفارقة أن سلوكاتها الأكثر صدما للقاعدة العادية ليس متسامحا معها فحسب ، بل تريدها الجماعة نفسها وتفرضها على الجميع ، في البيوت ، والساحات العامة ، والدروب . )
(-عبد الله حمودي – الضحية و أقنعتها –بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب ص.192)

رغم الطابع الفرجوي الممسرح الطاغي على بوجلود ، فإنه حامل لمؤشرات ولتوسمات وتطلعات ماورائية ، ظاهرة على أكثر من صعيد .فهو متماس ، جوهريا ، مع مقدس لا معياري ، لم تفلح معياريات الأرثوذوكسية في لجمه ، خصوصا بعد تحولات الإبدالات المعرفية بالمغارب ،بعد ترسخ مؤسسات "الصلاح" في أواخر الدولة الوطاسية.

6-الإشارات والدلالات :

ما معنى خلو فرجة بوجلود من الأمازيغي والعربي ، واكتفائها بالغير الملي ؟ لماذا تغيب الذات ، ذاتها وتكتفي بالأغيار ؟ ما معنى استحضار الغير الملي ، في السيرورة الطقسية ؟ لماذا تستلذ الجماعة التعبير عن مكبوتاتها وعن اهتياماتها الشبقية والايروسية والجنسانية ، عبر فرجة كرنفالية ،مترعة بالتهكم والفكاهة والسخرية والباروديا والمرح والمهاجيات والكروتيسك . ؟لماذا تكثير الإيماءات والإشارات الجنسية في هذه الفرجة الشعبية ،وتعديد الكنايات والاستعارات المومئة إلى الرغبة والشبق ؟هل تشكل الكنايات الكرنفالية ، متنفسا للجنسانية المستقرة ، وللعقل الجنسي المعياري ؟

ما معنى الاعتقاد ببركة الإنسان / الحيوان ؟ هل تحيل هذه البركة إلى تقديس الحيوانات أم إلى ارتباط مرأى الحيوان بالرهبة ، في وسط حوزي يخشى ظهور بوجلود الذرة ؟ ما دلالة التعويل ، في لحظات الظفر الثقافي على الأغيار الإثنيين والعقديين والثقافيين ، على الأدنى ، لتعميم الاطمئنان الجماعي ، وحماية الأطفال الرضع والمجموعة الثقافة رغم تحفظات العقل المعياري ؟
ما معنى التركيز على الإشباع الجنسي ، على إثارة الأيروس والشبق والتذكير بواجب المتعة ؟ هل للخصوبة الجنسية علاقة بالخصوبة الطبيعية ؟ ألا تلامس الخصوبة البشرية الخصوبة الطبيعية ، ويستحث الشبق الإنساني ، قوى الطبيعة ، وتسرع من إيقاعها الاخصابي ومن محاصيلها ؟ ألا تخفي ، البلاغة الشبقية ، الربط الميثي ، بين الجنس والخصوبة ؟

(في ختام معايناتنا ، بدت لنا هذه الاحتفالات أساسا كشرح ، بالفعل أو بالقول ، يقدمه المجتمع عن ذاته بوسائط الذبيحة والمسخرة اللتين ليس تحالفهما ، داخل نفس المجموع الطقوسي والدرامي ، من قبيل التناقض إلا ظاهريا . ويكشف سائر التحليل ، بالتحديد ، الترابط العميق بين هذين الفعلين المتعارضين كليا فيما عدا ذلك . إن البنيتين اللتين تؤسسانهما تتجاوبان فيما وراء الاختلافات التي تفصلهما ، ونحدس نسقا للمسخرة يطور خطابا بأكمله عن الذبيحة . وفي الأخير ، تجد هذه الذبيحة نفسها محتلة ببعض القوى التي تمسرحها الأقنعة .)
(-عبد الله حمودي – الضحية و أقنعتها - ص.17-18).

7-مقارنة بين فرجتين : بوجلود وءيمعشار

ثمة مقاربة توسعية ممكنة ، مفادها المقارنة بين فرجة بوجلود وفرجة ءيمشعار بتزنيت .ففيما توفق فرجة بوجلود بين طقس الأضحية ، والفرجة الشعبية ، المعبرة عن تناصات تاريخية متراكبة ،فإن فرجة ءيمعشار ، تمازج بين طقوس عاشوراء ، في فضاء سني ، وطقوس اللعب الفرجوي ، الموغل في اللعب والباروديا.تحدث فرجة ءيمعشار ، تمفصلات ، غاية في التركيب ، بين المتعارضات ، مما يعبر عن الآليات المستعملة في سياقات التثاقف ، المتراكب الطبقات والروافد والعلامات .
المشترك بين بوجلود وءيمعشار، زرع اللامعياري وسط المعياري ، الجمع بين المعياري والتهتكي ،و الانضباط الشعائري والفوضى الشعرية. تتقارب الفرجتان فيما يلي :
1-الربط بين الحدث المعياري والفرجة اللعبية الشعبية ،
2-التقمص والتقنع والأداء الساخر والباروديا والقلب القيمي والاسطيطيقا المقلوبة والكنايات الجنسية والفانطازيا والتعبيرات السوريالية،
3-الجمع بين المحافظة الاجتماعية و الجروتسكية والتمتع بالخرق والانتهاك ،
4-تمثيل واقعات المعيش اليهودي في الوسط الأمازيغي .
إن المقارنة ، بين الفرجتين ، ضرورية ، لاستجلاء بنية فرجة بوجلود ، وفهم ماهية ، الجمع المركب ، بين قيم أخلاقية متخالفة ، ومعايير اسطيطيقية متضاربة المقاصد، في كلا الفرجتين .
إلا أن الاشتراك في الكثير من الآليات وطرق الاشتغال ، لا ينفي ، بعض الفوارق ، الراجعة ، إلى الزمان القدسي أو الزمان الثقافي أو إلى تشعب الكرنفالات الإمعشارية(الأداء الفردي والثنائي والجماعي والمجسمات ...الخ ) مقابل التركيز البنائي لمسخرة بوجلود .
فلئن تميزت فرجة بوجلود ،بقيامها على هامش الأضحية ،فإن فرجة ءيمشعار ،ستدمج الأضاحي في حفلة التوبة الختامية .ومن مميزات الأضحية الختامية ، أنها مندمجة ، جذريا ، بالعرفان الشعبي ، المؤول للكشوف الصوفية في ضوء الرمزيات المحلية . من المعلوم أن الذبائح ، المقدمة ، في ختام فرجة ءيمشعار ، بعد التحلل من تقمص أدوار اليهود والانهماك اللعبي في القيم المقلوبة وفي الإثارة والاستثارة للطاقات الايروسية لدى الشباب خصوصا ، ،ذبائح تكفيرية ، واستغفارية ، وإعدادية لاستعادة الهوية العقدية داخل المجموعة .
(تقديم ذبيحة في حجم الحدث ، إذ ترصد لها كل مجموعة عجلا ذا سنتين فأكثر ، على أنه قربان لدفين أو دفينة المزار ، وتخضع مراسيم ذبحه لسلسة من الطقوس التي تحضر عادة في تقاليد المنطقة عندما تكون الذبيحة قربانا جماعيا ، أو أضحية أو عقيقة وما إليها ، أملا ربما في أن تحظى بالقبول ،إذ تقاد الدابة ، وعلى رأسها غصن من الحبق أو ما شابهه ، إلى مذبح المزار ، في موكب طقوسي على إيقاع الترديد الجماعي لدعاء : يا الله ، يا الله ، يا لعزيز يا ربي ....)
(جامع بنيدير-مهرجان ءيمعشار بتزنيت –المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية – مطبعة المعارف الجديدة – الرباط – 2007-ص.112) .
فإذا كانت أضحية عيد الأضحى ، تخضع للترتيبات الشرعية ، فإن الأضحية الامعشارية ، تخضع للترتيبات الطقوسية ، للمقدس الشعبي ، دون أن تتنازل ، عن إقراراتها المعيارية التوحيدية السنية أساسا .وإذا كانت الأضاحي المطقسنة واحتفالات التوبة الجماعية ضرورية للانتقال من عالم الغيرية العقدية والتخييلية في فرجة ءيمعشار إلى الانتماء الملي ، فإن العودة إلى حال ما قبل المسخرة والتطهر من التقمص ، فيتمان بالفاتحة والدعاء والاستغفار في كرنفال بوجلود .

8-بوجلود:اكراهات ورهات العصر الرقمي
تحولات المجال وتجدد الفرجة
لم يفلح العقل المعياري ولا العقل "الوضعاني" ، في اجتثاث فرجة بوجلود ، رغم تقلصها النسبي .بل إن هذه المسخرة ، استطاعت التكيف مع الفضاءات المتمدنة ، بقليل أو كثير ، من النجاح والتجدد، خصوصا في المدارات السوسية .وكما تحتاج الحقيقة التاريخية ، لهذه الفرجة ، إلى مقاربات متناهجة ، فإن الكشف عن الأوجه الجديدة لهذا الكرنفال ، تتطلب ، عددا نظرية وترسانة منهجية عتيدة وكشافة .
لقد حصرت مسخرة بوجلود في الوظائف التعبيرية –الاندماجية ، للأوساط القروية طورا ، وأفقرت ، دلاليا ، بحيث صارت فولكلورا ، شعبيا ، للعرض والاستعراض ، بدون أي مؤدى إدماجي أو تربوي أو تعبيري طورا آخر .والآن ، صارت ، منفتحة على العصر الرقمي وعلى تقنيات التسويق الثقافي ، رغم أنها لم تحتل مكانة موازية وطنيا ، لكناوة (الصويرة) ، أو عالميا ، لفرجة الهلوين أو لعيد الحب ( 14 فبراير ) .
إن الفرحات الشعبية ، محتاجة ، إلى مقاربات متعمقة ونافذة ، للكشف عن آليات المتخيل الشعبي .فليس مقبولا ، أن تخصص دراسات متخصصة للثقافة العالمة ، ويتناسى المتخيل الشعبي ، على الرغم من ارتباطه الصميم بالوجدان التداولي وبالكينونة الثقافية للكائن المغاربي .ثمة إمكان ، للاشتغال على المتخيل المكَوِّن والمتخيل المكوَّن ، ومقاربة المتخيل الشعبي ، ورصد ثوابته ومتغيراته وارتباطاته بالزمان القدسي والزمان الثقافي ، وبالمنقولات والمستوحيات الصحراوية والشرقية والمتوسطية.

إبراهيم أزروال



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتى لا ننسج جوارب-للعقول-!
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 4
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 3
- أصول المراقبة في الفضاء الثقافي الإسلامي 2
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 1
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 4
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 3
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 2
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 1
- نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 2
- نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 1
- القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 2
- القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 1
- العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 2
- العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 1
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 6
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 5
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 4
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 3
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 2


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابراهيم ازروال - مسخرة بوجلود : نحو تاريخية للكرنفال الأمازيغي