أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابراهيم ازروال - نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 2















المزيد.....


نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 2


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 3111 - 2010 / 8 / 31 - 08:51
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


2- العرفان الحضري:
ومن الملاحظ أن التصوف الأرثوذكسي أو الهرطوقي ، شكل جزءا من التراث الفكري والاجتماعي للبوادي وللحواضرالمغاربية على السواء. ففي معرض حديثه المستفيض عن فاس ، خصص صفحات للتصوف ، عبر فيها عن تمثله للظاهرة الصوفية ، وأشكال حضور الفكرية الصوفية في حاضرة الفكر الأشعري / المالكي( فاس ) .
( يوجد بفاس بعض الأشخاص الذين يحملون اسم الصوفية ، أي علماء الأخلاق وشيوخها ، يسيرون على قوانين خارجة عما شرعه محمد – عليه السلام - يعتبرهم البعض سنيين ، ولا يعتبرهم كذلك آخرون . غير أن العامة تعتقد أنهم أولياء صالحون . وعلى سبيل المثال ، تمنع الشريعة الإسلامية الغناء أو تلحين أية قصيدة غرامية ، بينما يبيحها هؤلاء .ويشتمل مذهبهم على عدة طرق ، لكل طريقة قواعدها الخاصة ، ورئيسها المدافع عنها ، وفقهاؤها الذين يؤيدون مبادئها ، وكتبها العديدة المتعلقة بالحياة الروحية . )
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –-ج1- ص.267).
من المؤكد أن الحسن الوزان ، يقارب الظاهرة الصوفية من منظور فقهي مؤسسي صارم ؛ فهو يعتقد أن التجربة المحمدية ، هي التجربة المعيارية الضابطة للأنظار البشرية والراسمة لأطر النجاة والسعادة في الدارين و لأشكال التمفصل بين العقيدة والشريعة . فرغم انخراطه اللاارادي في سلوكات لا أرثوذكسية ( زيارة ضريح أبي يعزى ) ، فانه ينسب تقديس وتعظيم الصوفية إلى الانسياق العامي وراء النزعات اللاعقلانية . فهو يصر على ملامسة الفكر الصوفي والكرامي من موقع العالم المخلص للعالم الرؤيوي للنظام المعرفي البياني . لا جدال في أن النظام المعرفي البياني ، يربط الأشواق الروحية للإنسان بأفاق التجربة الروحية المحمدية ، ويحصر التذاهن البشري في ضفاف التروحن والتذاهن المحمديين ، ويحد آفاق الحقيقة بسياجات الشريعة والمنهجية الفقهية . فالفقيه ينظر نظرة تحريمية للموسيقى والسماع ، فيما ينظر العرفاني أو الصوفي اللاسني إلى الموسيقى كأداة لاستكمال التروحن وتكميل التجوهر والتلذذ بالجمال .
وتكمن قوة المتصوف ، في امتلاكه القدرة على التدليل الشرعي على صحة اختياراته النظرية وسلوكياته العملية ، وفي احتيازه لسلطة تدبير المتخيل الجماعي .لا يعني امتلاك الصلاح والولاية ،امتلاك ناصية التأويل وتذويت الفهوم والتآويل فقط ، بل يعني امتلاك زمام المبادرة السياسية –الاجتماعية ومنافسة المؤسسة الفقهية في مهمتها الجوهرية، إي إدارة الاجتماع على نحو يصل المحايثة بالتعالي .
فالصوفي ينازع الفقيه ، في المعرفة والسلطة ، في امتلاك آليات الترميز والتقديس وفي تحريك فائض قوة الكتلة الهيولية المتشكلة من مستهكلي الأساطير الألفية .فلئن تمكن الفقيه من منع الفيلسوف والأديب والمتكلم من تحريك المخيال الجماعي وصياغة المصير المشترك صياغة تعقلية مدنية ، فإنه لن يتمكن من احتواء نفاذية وعبورية التصوف واندغامه بالبنية السيكو- ثقافية للإنسان المغاربي إذاك .
والمنازعة في التأويل ، تنصب هنا على إعادة الاعتبار للطاقات الفنية والإمكانات الجمالية للفرد وللمجموعة وعلى استعادة جماع الطقس الشعائري ، وعلى تجديد الصلة بالتعبير الفني – الاسطيطيقي المزدهر في الثقافات القديمة للشرق الأدنى والشرق الأقصى على السواء .
ولئن مالت المؤسسة الفقهية إلى إقصاء السماع والغناء والموسيقى من دائرة التداول والإبداع ، فإن الدينامية الصوفية ، سعت إلى إدماج السماع والرقص في صلب الأداء الشعائري والممارسة الطقسية .وهكذا ، اعترض العرفانيون على الدعاوى الفقهية الحاثة على ذم السماع وعلى استسماج الرقص ، بدعوى مخالفتهما للنصوص المؤسسة وللعمل الشرعي .
يقول الأبشيهي في معرض تفنيده لحجج نفاة شرعية السماع والغناء ما يلي :
( ومن حجة من كره الغناء أنه قال : إنه ينفر القلوب ويستفز العقول ، ويبعث على اللهو ، ويحض على الطرب ، وهذا باطل في أصله ، وتأولوا في ذلك قوله تعالى : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ) [ لقمان : 6 ] .وأخطأ من أول هذا التأويل إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السير ، والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن ، ويقولون : إنها أفضل منه ، وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا ...)
(- الأبشيهي – المستطرف في كل فن مستظرف – شرحه ووضع هوامشه : إبراهيم أمين محمد – المكتبة التوفيقية – القاهرة –ص.438).
يكتفي الوزان بالإشارة إلى المعالجة الفقهية للسماع والغناء ، علما أن للفلاسفة والصوفية والأدباء ، أراء مستحسنة لهما ،ونظرات كاشفة عن علائقهما بالنفس ووظائفهما النفسية والاجتماعية .
لا ينظر الحسن الوزان إلى التصوف اللاارثوذكسية من منظور جواني ، باحث عن استكشاف المعاني وسبر أعماق العالم الدلالي للعوالم العرفانية ؛ فهو يلامس التصوف باعتباره ممارسة اجتماعية – ثقافية متفاعلة مع الواقعات الاجتماعية – الثقافية بالحاضرة الثقافية والروحية للمغرب السعدي . أضف إلى ذلك أنه ،لا يتناول التصوف والمتصوفة إلا في معرض تناوله لللامعقول والمعارف الغيبية ، أي العرافة و أسرار الحروف والتعزيم والسحر والزايرجة والبحث عن الكنوز والكيمياء والشعوذة .
ففي حديثة عن فاس أولى عناية خاصة للفقه والمؤسسة الفقهية ، باعتبارها أساس الاجتماع الحضري ، وبوتقة الصهر الاجتماعي فيما وضع التصوف في الهامش إلى جانب العلوم والمعارف غير المنضبطة علميا وإيديولوجيا . وبناء على هذه الملاحظة ، فترتيب المعارف والسلوكيات الاجتماعية يكتسي دلالة بالغة ؛ ويكشف عن صعوبة احتواء وتطبيع الفكر والممارسة الصوفيين في حاضرة مالكية لها تصور مركزي لتدبير المقدس وتسيير أمور السياسية على السواء .
وللتدليل على صعوبة توافق التروحن والسلوك الصوفيين مع المقتضيات المدنية ، أكثر الحسن الوزان من التركيز على الهرطقات الصوفية السلوكية والاجتماعية .ولئن أومأت إشارات الوزان إلى أزمة المؤسسة الفقهية العملية ، فإن إشاراته تحمل مؤشرات دالة على أزمة نظرية غير مفكر فيها في المتاح الفكري للوزان ولمعاصريه .فاستفحال الهرطقات العرفانية وتوسع الهوامش الإخفائية والباطنية ، ينمان عن اخترام عميق في بنية الثقافة الفقهية وفي نسيج سندها ومنهجيتها الاستدلالية .
( ومنذ مائة عام أصبح كل جاهل يريد أن يكون صوفيا بدعوى أنه لا حاجة إلى تعلم مذهب ما دامت العناية الإلهية تنير كل قلب طاهر بمعرفة الحقيقة ، وبدعاوي أخرى لا قيمة لها كذلك . )
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –-ج1- ص.269)
مما لا شك فيه ، أن الحسن الوزان ، يعترض هنا على المسلك الفكري لتوجه صوفي ناف للمعرفة الكسبية وللاستدلال والاجتهاد والتعليل وسوى ذلك من مسالك وطرائق منهجية ومعرفية اعتمدها النظام المعرفي البياني في صوغ المعرفة وتدبر الإلهي .فهو يقر بالتصوف المتفقه ، أي المتحرك ضمن ممكنات الفقه وأصول الدين لا غير ، أما التصوف الهرطوقي أو العرفاني ، فلا ينال منه سوى النقد والتقريع . فبالنظر إلى تكوينه المعرفي ولوضعيته السوسيو- ثقافية ونوعية ارتباطاته المؤسسية ، فانه لا يتصور الممارسة الصوفية والمعرفة العرفانية إلا في سياق مسايرتها لمقتضيات المنظومة الفقهية وترسانتها المفهومية الصارمة . وهذا ما يفسر تثمينه العالي ، لكتاب إحياء علوم الدين ، لأبي حامد الغزالي، رغم الطابع الإشكالي للفكرية الغزالية وانهماماتها العرفانية بله الغنوصية الظاهرة .
والحقيقة أنه ركز كثيرا على تفكك الروابط التنظيمية والمعرفية والمنهجية والمفهومية بين التصوف والفقه آنذاك؛وقد نتج عن هذا التفكك ، أن غرق التصوف بفاس خصوصا والمغارب عموما ، في أنماط تعبدية بعيدة عن النسق العبادي الأرثوذكسي ،وفي ممارسات معرفية غير معيارية . فالمتصوفة قدموا ممارسة سوسيو-ثقافية ، متمايزة عن المعيارية التقليدية للفكر المؤسسي الفقهي المطعم بالمفاهيم والمتصورات المالكية / الأشعرية . فقد قدموا تصورا لا معياريا ، للشعائر التعبدية ، وللحقيقة الاعتقادية ، وللغيرية العقدية ، وللحب الإلهي ، وللتثاقف بين الثقافة المركزية والثقافات الطرفية .إلا أن الوزان ، لا يركز كثيرا على المنطلقات النظرية للفكر الصوفي ، بل على هرطقة الصوفية واختراقهم لمرسخات الشريعة ومخالفتهم المعلنة لنموذج المدينة المعياري وللمسلكية العبادية المحمدية .
وتكمن خطورة المتصوفة بوصفهم صور المعنى في قدرتهم على خلق المعنى في أوان الفوضى الدلالية أو في أزمان اهتزاز اليقين الانطولوجي أو المعرفي وفي قدرتهم على استثمار الثيمات الأسطورية للمتخيل الاجتماعي وخلق دين المعنى لدى المستعينين بخدماتهم الرمزية والمعنوية .كما تكمن في قدرة بعضهم على استشكال النواة الصلبة للاعتقاد ، بناء على منطلقات تأويلية مخصوصة .فالفقه إطار قبلي معياري متماسك ، أما التصوف فأطر بعدية لا معيارية ومتشظية .
يقول ابن حزم :
( قال أبو محمد : ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفصل من جميع الأنبياء والرسل ، وقالوا : من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها ، من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك ، وحلت له المحرمات كلها ، من الزنا والخمر وغير ذلك ، واستباحوا بهذا نساء غيرهم ، وقالوا : إننا نرى الله ونكلمه ، وكل ما قذف في نفوسنا فهو حق . )
( - ابن حزم – الفصل في الملل والأهواء والنحل – وضع حواشيه : أحمد شمس الدين – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان –الطبعة الثانية -1999 المجلد الثالث-ص.166)

3- التصوف والشهوانية :
ولا يخرج تصور الوزان لمتصوفة عصره عن مفاد افادة ابن حزم الظاهري؛ ففك الارتباط بالمعايير الشرعية ، لا يعني من منظور فقهي ، إلا الإباحية والتحلل الأخلاقي والشهوانية .
( لهذا أعرض الصوفية عن جميع أوامر الدين ، سواء منها المستحبة والواجبة ، ولم يعودوا يتقيدون من الشعائر إلا بما يمارسه العلماء ، بل راحوا بعكس ذلك يتمتعون بكل الملذات التي تعتبر مباحة في مذهبهم . وهكذا يقيمون مآدب كثيرة ينشدون فيها أناشيد غرامية ويرقصون رقصا طويلا . )
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –- ج1-ص.269).
لم تختر الصوفية اللاسنية الانفصال عن الإبدال الفقهي وعن المقتضيات السياسية – الاجتماعية المترتبة عليه فقط ، بل استعادت المتخيل الشعائري والتراكيب الطقوسية القديمة .فقد أفضى تجاوز المسوغات المعيارية للإبدال الشرعي ، إلى التماهي مع المتخيل الايروسي ومع الطقوسيات الانخطافية ومع الجنسية اللامعيارية .ولا يمكن لهذا التماهي أن يستكمل كل دلالاته ، إلا إذا رج سماكة الثقافة الفقهية العالمة ، وجدد الصلة بالثقافات اللامعيارية والطرفية ،ومع اللاشعور الثقافي القديم ومع التاريخ الإبداعي للجماليات الطقوسية المزدهرة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط.
( ويحدث أحيانا في هذه اللقاءات أن يمزق أحد الحاضرين ثيابه تأثرا بما ينشده المنشدون أو بسبب الأفكار الطائشة التي قد تخطر ببال أناس فقدوا كل اتزان . ويقول هؤلاء القوم حينئذ إنهم مكتوون بلهب الحب الإلهي ، وما أظن شخصيا إلا أنهم مكتوون بالإسراف في الطعام ، لأن الواحد منهم يأكل ثلاثة أضعاف ما يكفي لشخص واحد : أو أنهم على ما يبدو لي أكثر احتمالا ، عندما يطلقون تلك الصرخات المصحوبة بالآهات ، إنما يفعلون ذلك من أجل الهوى الذي يكنون لبعض الغلمان المرد. )
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –- ج1-ص.269-)
ولا يختلف النظر النقدي للوزان عن تشنيع ابن الجوزي الحنبلي على الصوفية .
( وإنما تفعل هذه الطائفة ما ذكرناه بعد تناول الألوان الطيبة والمآكل الشهية ، فإذا استوفت منها نفوسهم طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص والاستمتاع بالنظر إلى وجوه المرد ، ولو أنهم تقللوا من الطعام لم يحنوا إلى سماع ونظر . )
( - ابن الجوزي – تلبيس ابليس – تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي- المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2006-ص.256)
لا يحضر الصوفي في الاجتماع الشرعي ، إلا ليذكر بالجنسانية وبالأخص بالجنسانية المثلية .لا يجدي التشوف إلى الأعالي ، في تصفية الطاقات الليبيدية للمريد وللشيخ معا ؛ كما لا تجدي قرون من الجنسانية الشرعانية في استئصال الجنسانيات اللامعيارية المحظورة . فإقصاء الأنثى من المضمار العبادي ، لا يعني إلا الاهتيام بالمثيل جنسيا ، والتلذذ بالمثلية الجنسية .إن المكبوت يعود دوما ؛ إلا أن عودته تكون قاسية حيث تكون الهمة عالية .ذلك هو درس الفقيه ، الموجه إلى الصوفي .أما الصوفي فيرد باستشكال النسق الشرعي ، كليا !
( وليس من النادر أن يدعو بعض الأعيان إلى أعراسهم احد الشيوخ البارزين لهؤلاء المتصوفة مع جميع مريديه .فإذا أتوا الوليمة بدؤوا بتلاوة الأذكار وترتيل الأناشيد ، وبعد تناول الطعام يأخذ المسنون منهم في تمزيق ثيابهم ، و إذا سقط أحدهم أثناء الرقص أوقفه حالا على رجليه أحد الشباب المتصوفين فقبله العجوز في الغالب قبلة شهوانية . ومن ثم جاء المثل السائر على جميع الألسنة بفاس : " مثل مأدبة النساك التي حولتنا من عشرين إلى عشرة " . ومعنى ذلك أن كل مريد حدث يعرف ما ينتظره ليلا بعد الرقص .)
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –- ج1-ص.269-270).
ويقترب نقد الوزان المالكي كثيرا مع نقد ابن الجوزي الحنبلي للصوفية .
( والحديث بإسناد عن الرازي يقول : قال يوسف ين الحسين : كل ما رأيتموني أفعله فافعلوه إلا صحبة الأحداث فإنها أفتن الفتن ، ولقد عاهدت ربي أكثر من مائة مرة أن لا أصحب حدثا ففسخها على حسن الخدود وقوام القدود وغنج العيون ، وما سألني الله معهم عن معصية . )
( - ابن الجوزي – تلبيس إبليس – تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي- المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2006-ص.261)
تكمن مفارقة التصوف ، هنا ، وضعيته الملتبسة ، ابستيميا وأخلاقيا ، وتحركه اللامنظم بين الأنظمة المعرفية ، وبين الأنساق المعيارية .فهو لا يثور على سكونية وشكلانية الفكرية الأصولية – الفقهية ، إلا ليندمج في فكريات غير توحيدية ومضادة للنسقية الجنسية السامية تدقيقا . فالصوفي إذ يتعالى على الزامات الشريعة ، يلامس الوضع الجنسي والأخلاقي السابق للشرائع الكتابية .فالتعالي لا يعني ، هنا ، سوى استعادة ماكرة لمقدس جنساني قائم على ترتيبات وتراتبيات وعلائق مخالفة للعقل الجنسي السامي .
( ولقد شاهدت بعيني رأسي في ساحة بين القصرين بالقاهرة أحد هؤلاء الأشخاص يستحوذ على امرأة شابة في غاية الجمال كانت قد خرجت من الحمام ، فأضجعها في وسط الساحة وواقعها . ولم يكد يقوم عنها حتى أسرع الناس إليها يتمسحون بثيابها وكأنها أداة نسك وعبادة لما لامسها رجل صالح ، ويسر الناس بعضهم إلى بعض بأن الصالح إنما تظاهر بمضاجعتها ولكنه لم يقع شيء من ذلك . ولما بلغ الخبر إلى الزوج اعتبره نعمة عظيمة ، وحمد الله على ذلك وأقام وليمة وأفراحا كثيرة على ما أصابه من خير . ولقد هم القضاة والفقهاء بمعاقبة هذا الدنيء بكل الوسائل ، لكن العامة كادت أن تفتك بهم، لأنه ، كما قلت سابقا ، يتمتع كل واحد من هؤلاء القوم بإجلال كبير عند الجمهور ، وينال منه هبات وهدايا ثمينة جدا . )
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –- ج1-ص. -272)
لقد تمكن التصوف من خرق المعايير الفقهية والشرعية ، ومن التحلل من تجريدية القداسة السامية ومن طوبوغرافيا المقدس الأرثوذوكسي ؛ فلئن حصرت الأرثوذوكسية ،جغرافيا المقدس في مشخصات وعلامات وفضاءات محددة ، فإن المقدس الصوفي ، سيخترق كل السياجات الفقهية الموضوعة وسيتماهى مع الابتكارات العجائبية لتخييل منزاح دوما عن حدود التعقيل والتعليل والتدليل كما هي ممارسة في الحقل المعرفي التراثي .
لا يكتفي الصوفي باختراق النسق المعياري الشرعي ، بل يمسه في الصميم ، أي في معياريته الجنسانية .والأنكى أنه ، يحول الجنس اللامقدس ، إلى مصدر للبركة والقداسة والتسامي .لقد تحول الجنس اللاشرعي إلى مصدر للقداسة ، في المتخيل الجماعي ،والى أداة سحرية – دينية لاكتساب البركة والحظوة والنعمة الروحية .لا جدال إذن ، في تسرب العقل العرفاني إلى العمق الاجتماعي ، وفي قدرته على تفكيك التماسك الظاهري ، للنسق الشرعي البياني ومنظومته القانونية والأخلاقية .فللصوفي نصيران في صراعه ضد المؤسسة الفقهية : قوة اللامرئي وكتلة العوام المرئية .فالصوفي يحرر العامي من تجريدية الإيمان ومن معيارية الشريعة ومنظومة الطقوسيات الإسلامية ، فيما يحرر العامي الصوفي من طهرانية وشكلانية وصراطية المؤسسة الفقهية .وتتمثل خطورة الصوفي هنا ، في قلبه للموازين الأخلاقية وللمواضعات القيمية ، وفي استشكاله العملي ، للجنسانية الشرعية وللقداسة السامية عموما .ليس المتصوف خصما عنيدا للفقيه فقط ، بل هو حليف ، نظري أو عملي ، للتراث العقدي – الفلسفي وللبدع والهرطقات العامية .وبعكس الفيلسوف ، فهو يملك آليات تحريك المخيال الجماعي وإقناع الكتل الغارقة في اللامعقول السحري – الديني ، بالتحرك في الاتجاه المطلوب ، معرفيا وأخلاقيا وسياسيا، بدلالة المفاعيل السياسة الخطيرة لعرفانية ومهدوية : المهدي بن تومرت وابن محلي مثلا .
فالصوفي لا يخرق المحرمات الجنسية فقط ، بل يتماهى مع الجنسانية المقدسة المعروفة في الشرق الأدنى القديم ؛فحين تخف قبضة الفقه ، يعود الجنس المقدس ليتحدى الجنس الشرعي وينزع عنه مبرر الانفراد بالشرعية الاجتماعية .
يحاول الفقيه تفقيه وتسنين التصوف ، فيما يتوق المتصوف إلى تجاوز عبادة الرسوم والتكاليف الشرعية ومنهج الشريعة .وإسقاط المحرمات الجنسية الشرعية ، جزء من التحلل من الشريعة ومن الفقه المبنى على ثوابتها ومقتضياتها .فعكس الفقيه ، فالصوفي يقر بزمانية الأحكام أي بتاريخية الشريعة ،وإمكان نسخ أحكامها .فقيمة الشريعة وسيلية لا كمونية ، عرضية لا جوهرية ،تعليمية لا عرفانية.أما الفقيه ، فلا يرى في تاريخية الطقوسية والشريعة إلا تحلالا منهجيا من مقتضى الدين .
4- التصوف :النفاذية الاجتماعية الشاملة .
وتتجسد خطورة التصوف ، في نفاذه إلى مسام الجسد الاجتماعي ، وفي قدرته على صياغة الشخصية المغاربية صياغة عرفانية، و إدخال متغير القداسة ضمن خانة الثوابت المرجعية المنظمة للاجتماع .
( يملكون بعض الخيول لأن جبلهم يضم حوله أراضي جيدة ، ولا يؤدون كثيرا من الخراج لأن وليا مدفونا في بادس أصله من بلاد بقوية .)
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –ج1-ص. -330).
لا جدال إذن ،في تماسك البنية القداسية بالمجتمع المغربي الوسيط ، وقدرتها على التحكم في عمليات الاجتياف والاستدخال والمثاقفة ، والتعامل مع الكليات النظرية والجزئيات العملية للإسلام ، على نحو انتقائي يخدم تماسك لحمة البنية القبلية واتساق منظورها الميتافزيقي واتزان مواقعها السياسية و الاقتصادية .
وللتدليل على هذه النفاذية نحيل إلى أخبار وإفادات أوردها الوزان في كتابه .فقد أشار ، إلى تنقل الفاسيين إلى تاغية/ تاغيت بعد عيد الفطر لزيارة ضريح المتصوف أبي يعزى . فالحاضرة العربية الإسلامية المعتزة بأرثوذكسيتها وتماهيها مع حقيقة الشريعة وشريعة الحقيقة ، تلجأ إلى الفكرية الصوفية اللاارثوذكسية ، المخالفة للمعايير الفقهية ، خصوصا في أوقات الشدة واختلال المعايير السوسيو- سياسية .
( رأيتها في الوقت الذي تصالح فيه ملك فاس مع ابن عمه وذهبا معا إلى تاغية لأداء القسم على ضريح أحد صلحائهم المدعو مولاي بوعزة ، وذلك عام 920.)
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –- ج1-ص.204-)
لا يكفي المقدس الأرثوذكسي لإدارة الاختلاف والصراع بين الفرقاء السياسيين ، بل لا بد من تدخل المقدس العرفاني- السحري ، لضمان سريان التعاقد بينهم. لقد اقتضت تحولات التروحن المغاربي، ركون السلطة الفقهية – السياسية ، إلى الاستعانة بكاريزما التصوف وبرهبة المقدس الطرقي ، لضمان سريان التعاقد .فالقوة السحرية للكاريزما ، هي الوحيدة القادرة على حمل الفرقاء السياسيين ، على مراعاة التزاماتهم ، رغم التزامهم المبدئي بالصراطية الفقهية .
إن اجتماعا لا يحتكم لا إلى السياسة الشرعية ولا إلى السياسة العقلية ، منذور للإحتكام إلى رهاب المقدس .يصير الخواف والرهاب ، وسائل رمزية لإضفاء بعض الانتظام على حياة مفتقرة إلى الإرادة الرادعة .ففي غياب الردع الفقهي المستبطن ، تلتمس الجماعة معاييرها في القوى السحرية – الدينية المبثوثة في كثير من الظواهر الكونية .
( يترك أعراب تامسنا أدواتهم الفلاحية بالقرب من هذه الصومعة عندما ينتهون من حرثهم ، ويقولون إن وليا دفن هناك ، فلا يأخذ أحد أدوات غيره
خوفا من نقمة هذا الولي .)
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –1983- ج1-ص.199-)
لا يختلف سلوك أعراب تامسنا في هذا السياق ؛ فالمقدس هو القوة الزاجرة في مجتمع متعدد الانتماءات الاثنية والثقافية ، متكاثرالمشاريع العرفانية البديلة ، ومتصارع المرجعيات والأنظمة المعيارية .فالاحتكام إلى القوة الرادعة للمقدس ،يدل على هشاشة الهيكل الاجتماعي وغياب القيم المدنية الضامنة للتعايش السلمي ، والتساند الوظيفي . كما أن الافتتان بغرائبيته وعجائبيته ،يفصح عن مشترك ثقافي ، تصير فيه ثنائية ( الخاصة والعامة ) ، شكلية ، في غياب أية نفاذية عقلية أو نقدية لدى الخاصة .
( ويشترك جميع أهل تونس في اعتقاد ساذج يرى أن كل من يرمي بالحجر هو من الصالحين. وفي أثناء إقامتي بتونس أمر الملك ببناء زاوية جميلة جدا لأحد هؤلاء المجاذيب المسمى سيدي الداهي . وكان هذا الرجل يمشي في الأزقة مرتديا كيسا ، عاري الرأس ، حافي القدمين ، يضرب بالحجر ويصيح كالمسعور ، فأجرى عليه الملك إيرادا حسنا يعيش يه هو وعائلته . )
( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –ج2-ص. -76-77)
تحتكم الجماعة إلى الصوفي، حيا ، لتجديد انطولوجيا الحياة ، وإعادة ترتيب الوسائل الوجودية ، وإزالة حالات الاحتقان، كما تحتكم إلى هيبته ، ميتا ، لضمان سريان النظام أو بعضه ، في أحياز مجتمعية ، لم تمتلك بعد آليات السياسة العقلية .
يقول محمد القبلي عن سلطة الصوفي ما يلي :
( ونظرا لاندماج الولي هيكيليا في الواقع القبلي الإقليمي لمجتمعه الخاص ، فالراجح أن سلوكه المميز قد أدى به إلى تجسيد نموذج " الحكم – البديل " ضمن مناخ يغلب عليه افتقاد الحكم سواء بالنسبة للخصومات المجتمعية العادية أو بالقياس للنزاعات الجماعية الشاذة كما لا حظ العبدري ببلاد القبلة . )
(-محمد القبلي- الدولة والولاية والمجال في المغرب الوسيط – علائق وتفاعل – دار توبقال للنشر –الدار البيضاء- المغرب الطبعة الأولى – 1997-ص.64)



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 1
- القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 2
- القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 1
- العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 2
- العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 1
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 6
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 5
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 4
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 3
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 2
- الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان ...
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية -نقد تفكيكية علي حرب 4
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية - نقد تفكيكية علي حرب 3
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية -نقد تفكيكية علي حرب 2
- الانسداد النظري لما بعد العلمانية نقد تفكيكية علي حرب 1
- مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الرابع
- مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الثالث


المزيد.....




- نقل الغنائم العسكرية الغربية إلى موسكو لإظهارها أثناء المعرض ...
- أمنستي: إسرائيل تنتهك القانون الدولي
- الضفة الغربية.. مزيد من القتل والاقتحام
- غالانت يتحدث عن نجاحات -مثيرة- للجيش الإسرائيلي في مواجهة حز ...
- -حزب الله- يعلن تنفيذ 5 عمليات نوعية ضد الجيش الإسرائيلي
- قطاع غزة.. مئات الجثث تحت الأنقاض
- ألاسكا.. طيار يبلغ عن حريق على متن طائرة كانت تحمل وقودا قب ...
- حزب الله: قصفنا مواقع بالمنطقة الحدودية
- إعلام كرواتي: يجب على أوكرانيا أن تستعد للأسوأ
- سوريا.. مرسوم بإحداث وزارة إعلام جديدة


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابراهيم ازروال - نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 2