أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - لحسن ايت الفقيه - دراسة حول المقابر المغربية، ومقترحات عملية من أجل إصلاحها- حالة مقابر المسلمين نموذجا















المزيد.....


دراسة حول المقابر المغربية، ومقترحات عملية من أجل إصلاحها- حالة مقابر المسلمين نموذجا


لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)


الحوار المتمدن-العدد: 4148 - 2013 / 7 / 9 - 12:38
المحور: حقوق الانسان
    


دأب المجلس الوطني لحقوق الإنسان منذ إحداثه في مستهل شهر مارس 2011 على دعم نشر الكتب ذات الارتباط بحقوق الإنسان مجالها. ومما يستدعي الانتباه من تلك المنشورات «دراسة حول حالة مقابر المسلمين بالمغرب، ومقترحات عملية من أجل إصلاحها»، وهي – وهو- من تأليف الأستاذ جمال بامي. صدر الكتاب في الحجم المتوسط مستغرقا 124 صفحة. والكتاب من منشورات «Editions la croisée des chemins»، ملتقى الطرق والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
يتكون الكتاب من مقدمة وخاتمة وخمسة فصول، تناولت المقدمة الأهمية الإنسانية التي تكتسيها المقابر، بماهي «مجالات ينبغي أن تتبوأ مكانة مركزية تحترم كرامة الإنسان» الميت و«الإنسان الحي الذي يعتبر المقابر جزءا لا يتجزأ من المشهد العام الذي ينتظم اجتماعه البشري»، يقول المؤلف. ولا غرو، فالمقابر ضمن المجال الحي، أو بالأحرى ضمن «المشهد العام داخل البوادي والمدن، بما يمكن أن نطلق عليه اسم «المقابر المشاهد»(Cimetières paysages)، وهو مفهوم يدخل في إطار تدبير المقابر ضمن استراتيجية محكمة ومتكاملة لإعداد التراب وتأثيث المجال.... ».
ومن دواعي إعداد الدراسة فلسفة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي حل محله المجلس الوطني، والتي استغرقت مجال المقابر وحمايتها وتدبير شأنها، لما تبين من خلال التحريات «الحالة السيئة للمقابر، حيث يتم الدفن في معظمها ... بدون نظام دقيق»، ومن المقابر ما لا يتوافر « على سجلات للدفن ولا على نظام الحراسة»، لذلك تبلورت فكرة المقابر «المشاهد»، بما هي «فكرة مفتاحية ومفصلية ينبغي تمثلها من أجل بعث روح جديدة في مقابر المسلمين، وفق رؤية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار الجانب الوظيفي للمقابر من الزاوية الدينية والروحية وأيضا بعدها الجمالي الذي وجب أن تتبوأه داخل الفضاء العام» (الصفحة 6 من المرجع المذكور).
ومن دواعي إعداد الدراسة، أن المقابر في المغرب «تعاني إهمالا كبيرا على جميع المستويات، حيث أضحت مرتعا للمتسكعين والمتسولين، ومجالا لرمي القمامة، ونمو الأعشاب العشوائية»، مما يحول دون آداء وظيفتها. فالدراسة تفرض نفسها «بإلحاح، لأن اقتراح مقترحات عملية من أجل الإنقاذ وإعادة الاعتبار تقضي عملا وصفيا وتحليليا مبنيا على معطيات ميدانية» (صفحة 6). والدراسة تكشف عن حالة المقابر، ونظرة الإنسان المغربي للمقابر والحالة المشهدية التي يمكن أن تكتسيها المقابر بالمغرب، وتعالج الكثير من الإشكالات أو على الأقل، تلامسها، «من خلال عمل ميداني شمل عدة مقابر عبر العديد من المدن، وكذا من خلال مراجع خاصة حول الموضوع» (صفحة 7). إنها دراسة تغني المكتبة المغربية، وتترجم اهتمام المؤسسة الحقوقية بكرامة الإنسان حيا أو ميتا.
وإلى جانب المقدمة أدرج الأستاذ المؤلف جمال بامي ثلاثة مداخل نظرية:
- (مدخل) نظري حول علم المقبريات وأبعاده العملية بالمغرب.
- (مدخل) الوضع الاعتباري للمقابر في المرجعية الإسلامية
- (مدخل) الوضع الاعتباري للمقابر من المنظور الحقوقي والقانوني
لا يزال علم المقبريات la nécrologie «خجولا في الدراسات المغربية، ولم يلق بعد الاهتمام اللائق، بالرغم من فوائده العلمية والعملية» (ص 9). لكن المغرب مدافنه وخاصة الحضرية منها أثارت اهتمام الدارسين الأجانب. ذلك أن الشواهد القبورية طالما تشكل وثائق لدراسة تطور السكان، ولقد وظفها دانيال شروير «حول مقبرة اليهود بإليغ»( ص9). ومن الباحثين من «أكد أهمية المجال القبوري في دراسة المجتمع والمدينة المغربيين» (ص10).
واستصحب موضوع المقابر «مفاهيم منهجية مندرجة في سياق الدراسات المجالية لدراسة المقابر والمزارات، وموقعها في المجال المدروس»، وهناك من اعتمد منهجية الذاتية الاجتماعية، كالباحث مصطفى مختار في كتابه «مسير القبورية بالمجال الفاسي»، والتي «تؤكد فاعلية بعض المفاهيم، ودورها الأساسي في تشكيل المجال القبوري، مثل مفهوم النسب، ومفهوم الحرم ومفهوم الحوز» (ص 11).
وباختصار، فالحاجة ماسة للمساهمة «في إنتاج معرفة بالمجال الحضري بشكل يساعد على تعايش الأحياء والأموات وفق شروط الاجتماع الإسلامي المتحضر»(ص13).
وعن الوضع الاعتباري للمقابر في المرجعية الإسلامية تناول المؤلف، في عهد الدعوة الإسلامية بالمدينة، وضع مقبرة البقيع ومقابر المهاجرين والأنصار، مقبرة بني خطمة، ومقبرة بني سلمة، ومقابر بني سالم وبني بياضة وغيرها، معتمدا على مصادر تاريخية: الروض المعطار في خبر الأقطار للحميري، ورحلتي ابن جبير وابن بطوطة وغيرها. وميز في مااطلع عليه من الأخبار التعامل الذي حظيت به جثث الشهداء «باعتبارها تكتسي بعدا رمزيا خاصا...»(ص 15)، ورأى «أننا في مغرب اليوم في أمس الحاجة لإضفاء طابع الرمزية على مقابر الشهداء والمناضلين والوطنيين، ومن ضحوا بأرواحهم من أجل إرساء مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان...»(ص16). وأورد الأستاذ جمال بامي أن كثيرا من المدن نشأت بسبب مدفن، أو قبر، أو ضريح مبينا صلة رحم راشجة بين المدن والدين، ومستشهدا بالنجف لعلاقتها بضريح علي بن أبي طالب، وكربلاء. وفي المغرب هناك مدينة وزان، وشفشاون، وأبي الجعد، وقرية مولاي عبد السلام بن مشيش، ومجال سبعة رجال بمراكش، وكلها نقط عمرانية أنشأتها القبور.
واسترسل المؤلف في أحكام زيارة القبور وآدابها، وتناول بناء القبور والاعتناء بها، وتجصيص القبر والكتابة عليه، وخلص إلى أن الشريعة الإسلامية «تقتضي الاعتناء بمقابر المسلمين بما يحفظ كرامة الموتى والأحياء»(ص21).
وعن الوضع الاعتباري للمقابر من المنظور الحقوقي والقانوني أورد مفهوم الانتهاك في لغة القانون، وفي مفهوم حقوق الإنسان، ويعني به «كل حالة لا تحترم فيها آدمية الإنسان»(ص 23). وخال السيد جمال بامي أن «حقوق الإنسان تشمله [الإنسان] حيا وميتا بدفنه وعدم العبث بجثثه واحترام مكان دفنه»(ص23). ولأن حقوق الإنسان عالمية (كونية) فإن احترام المقابر بات «يكتسي بعدا كونيا ينطبع بألوان ثقافية وحضارية خاصة، تدعمه وتكسبه تجذرا في الضمير الجمعي»(ص23).
وفي قانون المسطرة الجنائية المغربي صرامة بينة «فيما يتعلق بالجنح المرتبطة بالمس بحرمة المقابر» مع التمييز «بين هدم المقابر وتلوينها، وارتكاب أفعال مثينة ضد الموتى»، ولقد استرسل الأستاذ جمال بامي في الاستشهاد بفصول من القانون ذات الصلة بالموضوع في الصفحة24 من الكتاب وما بعدها. ووقف مليا عند الجماعات المحلية وعلاقتها ببساط الدفن، وصاغ مجموعة من الأسئلة لم يكن الجواب عنها قانونيا بالأمر اليسير من ذلك: «هل تعتبر المقابر الإسلامية منقبيل المرافق العمومية الجماعية أم لا تعد كذلك؟ إذا كان الفقه الإسلامي يمنع نبش القبور وبالتالي لا يجيز تغيير طبيعة المقابر، فهل يجوز تغيير طبيعة المقبرة وتحويلها إلى مكان آخر، إذا نفذ الدفن بها، أو إذا اقتضت ذلك موجبات التعمير؟» (ص28).
وبالفعل فقد سجل «تلكؤ الجماعات، ولاسيما الجماعات القروية، عن إحداث المقابر الإسلامية وتجهيزها وتسييجها وصيانتها»، وحصل إهمالا للمتواجد منها سواء بالمدن أو بالبوادي»(ص28). وأورد الأستاذ جمال بامي نماذج من الشنآن الناتج عن عدم إحساس الجماعات المحلية بالمسؤولية تجاه المقابر، والقلق المرتفع كلما تقلص الوعاء العقاري المخصص للمقابر (نموذج سلا) و(مقبرة الرحمة بالدار البيضاء)، ونماذج أخرى كثيرة. وهناك شأن «الموتى الغرباء، ووضعيتهم القانونية، وتوفير مقابر لهم» (ص31)، وهناك شأن الأطفال المتخلى عنهم بمستشفيات الدار البيضاء على سبيل المثال.
ولم يغفل الأستاذ جمال بامي ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان «يتمثل في تداعيات أعوام 1965، و 1973، و،1981 و1984 من القرن الماضي»، «حيث شهدت خلالها مظاهرات جماهيرية طالبت بتغيير الظروف السياسية، والمعيشية بالبلاد، فقتل العشرات في هذه المظاهرات، ودفنوا في مقابر جماعية سرية»(ص33).
وبعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة، جرى اكتشاف المقابر حتى في سنة 2008 التي هي خاتمة لتطبيق توصية الهيئة، مقبرة الناظور، وغيرها من المقابر المرتبطة بالمرحلة التاريخية المذكورة. ولا شك «أن تحديد أماكن المقابر الجماعية ووضعها في سياقها التاريخي والسياسي سيساهم في سد ثغرات تاريخية...ملازمة لفترة انتهاكات حقوق الإنسان بالمغرب» (ص36).
وباختصار، «فإن موضوع المقابر وحرمتها، واحترام حقوق الموتى محاط بترسانة قانونية وحقوقية ذات بعد إنساني كوني، وهي لا تخالف في سئ المبادئ الثقافية العليا للمغرب المتمثلة في الثقافة الإسلامية»(ص37). و«عليه، فإن تظافر الوازع الديني/الأخلاقي والوازع الحقوقي والقانوني من شأنه – إذا ما توفرت الإرادة السياسية- أن يغير نظرة الناس أن هناك وجها ثقافيا واجتماعيا للمسألة لا ينبغي إغفاله، يؤدي إلى تغيير الوضع الاعتباري للمقابر، يحتاج إلى طول نفس، وعمل متعدد الأبعاد، ومساهمة الجميع...»(ص37)
شكلت مقدمة الكتاب والمداخل الثلاثة مرجعية ل «دراسة حالة مقابر المسلمين بالمغرب ومقترحات عملية من أجل إصلاحها»، مرجعية دينية إسلامية، ومرجعية قانونية قوامها القانون الجنائي المغربي، ومرجعية حقوقية مركزة على مفهوم كرامة الإنسان، إلى حد ما. ولتمكين المرجعيات الثلاث استرسل المؤلف في تناول بعض النماذج والاستشهاد ببعض الأمثال، دون إغفال الوقوف عند إشكاليات العلاقة بين القانوني والواقعي. وفي جميع الأحوال فاحترام المقابر هي المنطلق والمبتدأ وهي الغاية والمنتهى. وإنها لمداخل سليمة تحيط بالفكرة المراد دراستها. ولتحديد مجال الدراسة أشار المؤلف إلى أنها تنتمي إلى «مجال علم الاجتماع»، وتستوجب «القيام بعمل ميداني ممنهج من أجل رصد المجالات القبورية بالمغرب والاطلاع على حالتها وعلاقة الدولة والمجتمع بها...» (ص39). ومن أهداف الدراسة «الإسهام في تأسيس مدخل سوسيولوجي أنثروبولوجي لفهم إشكالية تدبير المقابر بالمغرب وما ينجم عن تطبيقاتها من تداعيات اجتماعية وأخلاقية...»، ومنها ثانيا «رصد التداعيات الاجتماعية السلبية الناجمة عن سياسات تدبير المقابر، واختيار صدق القضايا، والفروض النظرية المؤسسة من المدخل السوسيولوجي المنطلق منه لدراسة حالة المقابر بالمغرب، والمتمثل في غلبة الإهمال والفوضى على مقابر المسلمين ...» ومنها ثالثا «اختبار مدى تطبيق القوانين المتعلقة بتدبير المقابر بالمغرب...». وهناك أخيرا، «اقتراح آليات المواجهة الرسمية، وغير الرسمية، لمشكل تدبير المقابر بالمغرب، واستجلاء الوسائل العملية الكفيلة بتحقيق ذلك...» (ص40). وبعد تسطير الأهداف استقر الرأي على صياغتها في «صورة تساؤلات وفرضيات تحاول الدراسة تقديم إجابات كافية حولها»، كإمكانية تأسيس مدخل سوسيولوجي/ سياسي دقيق ومنظم لفهم حالة المقابر بالمغرب، وفرضيات تخص رصد التداعيات الاجتماعية السلبية «الناجمة عن إهمال المقابر، واختيار صدق القضايا، والفرضيات النظرية المؤسسة من المدخل السوسيولوجي، وغير ذلك. وتناول منهج الدراسة المعتمد على «المسح كوسيلة فعالة لجمع البيانات» معتمدا على عدد كبير من العينات جرى اختيارهاعلى مصداقية التمثيل(Représentation). والدراسة «وصفية تحليلية، استعانت بالمسح الاجتماعي بواسطة العينة، حيث تم اختيار عينة من المقابر المغربية» لملامسة الكم. وأما «الجانب الكيفي فقد غطته دراسة الحالات المتعمقة الني خضعت لتطبيق دليل المقابلة» (ص41).
وأما النطاق المجالي للدراسي فقد حصل اختيار مناطق المغرب وجهاته والمجتمع الحضري والقروي، مع التمييز الخاص بالمقابر القروية بما هي ترتبط دوما «بالمزارات والأضرحة مما يجعلها في غالب الأحيان محطة تقدير وتوقير الساكنة المحلية» (ص41).
خلص السيد جمال بامي إلى تسجيل إجماع الكل على «أن مقابر المسلمين تعاني من وضعية مزرية غير مسبوقة». ومثال على ذلك «انتهاك قبور زعماء وطنيين...» والمقابر التاريخية، وممارسة الجنس بين القبور، واتخاذها مراقد من لدن المتسكعين، وممارسة الشدود الجنسي الجداثية [ممارسة الجنس مع الموتى]...إلخ (ص45). ولامس المؤلف عدة مشاكل منها ما يرتبط بتجهيزات المقابر وتدبيرها (التزويد بالماء والكهرباء، والتسوير، والحراسة، وتنظيم القبور، والأمن...) ، ومنها ما له علاقة بالاكتظاظ (معاناة البحث قبر عن شاغر)، وهناك مشاكل النظافة والصيانة.
ويرجع الباحث مسؤولية تدهور حالة المقابر بالمغرب إلى «تدخل الاختصاصات والمسؤوليات المادية والمعنوية فيما يتعلق بصيانة مقابر المسلمين... فالطرف الذي يتحمل مسؤولية كبيرة في الدفاع عن حرماة المقابرضد الاعتداءات والإساءات هو مصالح ومنذوبيات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، على الرغم من أنها ليست مسؤولة ترابيا عن تدبيرها، والتدبير الترابي كما هو معلوم مهمة وزارة الداخلية...» (ص57). ومن جانب أخر، ولما كانت المقبرة «مرفقا عموميا جماعيا، يعد تدبير شؤونها وصيانتها من المهام الملقاة على عاتق الجماعات المحلية بالمغرب...»، ولمصالح وزارة الثقافة دخل، في هذا الشأن، لأنها «مسؤولة عن القبور التاريخية، أو القبور التي تقع في مآثر تاريخية» (ص57).
وأما المقترحات العملية من أجل حماية مقابر المسلمين فيخالها مؤلف الكتاب في ما يلي:
- تفعيل القوانين المتعلقة بصيانة المقابر
- تدبير المقابر وصيانتها من لدن الجهات المعنية
- إحداث مقابر نموذجية
- إنشاء مكتب خاص لإدارة المقابر
- إحداث مؤسسة خدمات الجنائز تقوم بالتنسيق مع الجماعات المحلية من أجل تجهيز الموتى المحتاجين
- تشجير جنبات المقابر، خصوصا الواقعة فوق ربوة، من أجل وقايتها من الفيضان والسيول.
ونشير إلى أن «دراسة حالة مقابر المسلمين بالمغرب» تخللها الوقوف عند نماذج خاصة كدراسة مقابر الجنوب المغربي (العيون وفوازكيد) ودراسة مقبرة نموذجية، مقبرة الغفران بالدارالبيضاء وأما ملحق الصور والوثائف فكان غنيا بالمشاهد.
وفي الدراسة ما يستدعي الوقوف عنده:
لو لم تكن الدراسة تحمل الرسم الضوئي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان لكان مجالها أكثر سلامة، لكن الاقتصار على «حالة مقابر المسلمين بالمغرب»، أمر صعب للغاية، ولو أن الكاتب لا يفتأ يزيغ قليلا لتناول الفضاء القبوري المسيحي واليهودي، لأن طبيعة الموضوع قد لا تتلاءم وصناعة حقوق الإنسان. ولقد استعملنا عبارة «صناعة» لكي لا تقتصر حقوق الإنسان على مجموعة من القيم، يمكن اقتباسها من الدين والقول إنها كونية. يقول الكاتب «...إن المقاصد العليا للشريعة المبنية على قاعدة «لا إفراط ولا تفريط» تقتضي الاعتناء بمقابر المسلمين، بما يحفظ كرامة الموتى والأحياء، وذلك بتهيئ الشروط الموضوعية لحمايتها من العبث. وانطلاقا من الأسس النظرية التي تبلورت في الفكر الإسلامي حول مقابر المسلمين كمكون جوهري في الثقافة المغربية، وانطلاقا من الأبعاد الكونية لحقوق الإنسان، نسعى من خلال هذه الدراسة اختبار وضعية مقابر المسلمين بالمغرب، لنرى مدى أهميتها في حياة المغاربة والمكانة التي تحظى بها في هذا المجال...» (ص21). إن الأبعاد الكونية لحقوق الإنسان، ما كانت لتكون شاملة لو لم تكن قائمة على حقوق طبيعية غير مفرتبطة بالدين، أي: أنها غير موهوبة. فالإنسان ولد حرا ووهب عقلا وضميرا[الفعل مبني للمجهول]. ولقد أثارت صياغة المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعض الجدل. ويعنينا أن حقوق الإنسان صناعة كما كانت الشريعة الإسلامية صناعة.«ولما كان لكل صناعة مبادئها وجب على الناظر في تلك الصناعة أن يتسلم بتلك المبادئ» كما قال بن رشد. فالمرجعيتان مختلفتان، إحداهما تقوم على القانون الوضعي، والثانية تقوم على القانون الإلهي. وإن مبادئ هذه الصناعة تختلف عن مبادئ تلك.
ومن جانب آخر، لما تنزل الشريعة الإسلامية الميدان، فطالما تتكيف والثقافة غير العالمة، ولا مجال لنخوض في هذا الموضوع، فكل ما هنالك ثقافة الدفن مكونة من عدة روافد، وأن «دراسة حول حالة مقابر المسلمين بالمغرب» ترتبط، فضلا عن بعدها السوسيولوجي بالحقوق الثقافية والهوية الثقافية. ولقد أورد ذلك الأستاذ جمال بامي في السياق، وخصوصا ما يتعلق بالهوية الثقافية. ذلك أن التمييز بين قبور المسلمين وقبور غير المسلمين، واختلاف مستوى التقدير بينهما، وهو الاختلاف الذي أبرزه الكاتب لما قارن بين قبور جنوب المغرب من جهة، وقبور وسطه وشماله من جهة أخرى. فالاختلاف في التقدير غير مؤسس على العقيدة بل على الثقافة، إذ لا وجود في الإسلام، وقد فصل الكاتب القول في ذلك، غير احترام الموتى وتقديرهم. وقبل ذلك، فالثقافة المغربية منتظمة في أنساق ثقافية متعددة حسب تعدد الوحدات السوسيوثقافية المتجانسة، المكونة، وبدرجات متفاوتة، من روافد يهودية ومسيحية وأمازيغية، وأفريقية، إلى جانب رافد الإسلام الذي يستغرق الطرقية. ومرد انتهاك حرمة القبور في الوسط الحضري إلى انهيار الأنساق الثقافية التقليدية. فلما يختفي الزي التقليدي لدى النساء، ولم يعد الوشم بارزا في وجوههن، ولم يعد لطقوس الأعراس ذكر، فما بال ثقافة الدفن؟ وهل يمكن الحديث عن وجودها؟ إنها موجودة، ولكن لم يحضر فيها تقدير الموتى والأخروي ما دام الدنيوي هو الذي يشغل البال في الغالب.
وفي الوسط القروي، تصمد ثقافة الدفن المتجانسة والنسق الثقافي، وقد تطفو على السطح الطقوس القديمة كلما ابتعدنا عن نطاق الثقافة غير العالمة بمحيط الحواضر والطرق التجارية القديمة مثل سجلماسة/ فاس، حيث يمر علماء الدين والمتصوفة. والغريب أن مدافن الغرباء الذين قتلوا في الطريق التجارية سجلماسة/ فاس قرب فج تيزي نتلغمت محترمة للآن، ونفس الشيء يسري على مقابر اليهود، إن سلمت من الشعوذة، ومقابر المسيحين جنود الاحتلال الفرنسي. وبعيدا عن الطريق التجارية سجلماسة فاس يحضر التبرك بالماء والشجر، وكل ما له ارتباط بثقافة الدفن لدى المغاربة القدماء. وحسبنا أن مدافن التومولي (Tumuli) التي تسمى بالأمازيغية أوتمولي، أو تيمارشين، وتسمى بالدارجة المغربية لارجام لا تزال في الميدان حاضرة في المغرب والجزائر. ولما كانت دراسة الأستاذ جمال بامي مرتبطة بحقوق الإنسان، فمن المفيد استحضار الحقوق الثقافية، والاعتناء، ولو بالإشارة، بمدافن أخرى، ومن المفيد استحضار التعدد الثقافي بما هو حقيقة لا تقبل الجدل.
إن النظر إلى البعد الديني في التعاطي وشأن الدفن، بما هو ثقافي، يُسَهل وضوح الرؤية، وتحقيق المقارنة. ذلك أن عقلنة الدفن بتوفير سجلات الدفن، والعمل بنظام الحراسة ببساط الدفن، ومعلمة القبور، يروم صيانة هوية الأشخاص. والحق في الهوية أوسع من الحق في الكرامة، التي تعد لصيقة، في كل جوانبها، بالأحياء، إذا فهمنا أنها تقدير الذات، والاعتزاز بالنفس، وعدم قبول الإهانة.
يجد القارئ نفسه وهو يتصفح «دراسة حول مقابر المسلمين بالمغرب» أن ثقافة الدفن قائمة على المرجعية الإسلامية، وحدها، التي انطلقت من عصر الدعوة الإسلامية بالمدينة، وشاعت في المناطق التي غشيها الفتح الإسلامي، فنشأت مدنا بسبب قبر ما، (كربلاء والنجف...)، والشأن مماثل في المغرب (وزان، شفشاون، أبي الجعد...)، ولا شيء آخر في الميدان غير مدافن أهل الكتاب، المشار إليها لما يستوجب الكلام المقارنة بين المدافن، فتستقر الملاحظة في أن مدافن اليهود والمسيحيين أكثر احتراما وتقديرا. إن مجال الممارسة الذي حدده الأستاذ جمال بامي لدراسته، وإن كان مغلفا ثقافيا باللباس الإسلامي، لأن المغرب بلد مسلم سني، مدعو ليسع التنوع الثقافي في الدفن والتعدد الرأي حول تدبير المقابر. فإلى جانب التجمعات العمرانية التي نشأت بسبب القبر/المزار التي استشهد بها الكاتب، وكذا التي لم يذكرها، كمركز مولاي بوعزة بإقليم خنيفرة، نسبة إلى أبي يعزة يلنور، والتجمع القروي سيدي امحمد أو يوسف بأعلى واد غريس، نضيف أن التجمعات التي نشأت بسبب الزوايا مثل زاوية الشيخ، وزاوية إسحاق، وزاوية أحنصال، كانت ذات شأن في هذا المجال. والملفت للانتباه أن بعض المزارات البشرية تستمد قوتها من العناصر الطبيعية، فالصخر قوة المزار مولاي علي بن عمرو الرمزية، والكهف قوة سيدي شمهروش، وسيدي بوكيل... والحامات لمولاي يعقوب، والعين لسيدي حرازم (حري إزم)، أي: يسوق الأسد بالأمازيغية. وهناك مدافن تتبرك بالماء والشجر، كما سلفت إليه الإشارة.
إن ثقافة الدفن قائمة، أيضا، على أسس ثقافية ذات صلة بالوثني، والإثنوغرافي، والقرابة الدموية، والقرابة بين الإنسان والأرض، أي: إنها تؤسس للأخروي، بما هو سائد في الدنيوي. فكلما سادت ثقافة التحصين والانغلاق تلامس في بساط الدفن قبورا محصنة تحتل درعا صخريا صلبا قليل انحداره، في الغالب، درعا يضاهي مواضع الدور المنتقاة في الميدان. وإن من الأقليات العرقية التي لا يعنيها شأن تحصين المقابر، لا لشيء سوى أنها تبتغي تقديم رموز الحياة على رموز الموت، بما هي فال شؤم. ولا ريب فغريزة البقاء مقدمة كيفما كان وقع المعتقد في النفس.
رأى الأستاذ جمال بامي «أننا في مغرب اليوم في أمس الحاجة لإضفاء طابع الرمزية على مقابر الشهداء والمناضلين الوطنيين، ومن ضحوا بأرواحهم من أجل إرساء مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان...» (ص16). ويظهر أنها حاجة يجب أن تعمم أيضا على مقابر اليهود. فمن هؤلاء اليهود المغاربة من يستحق قبره العناية والتقدير لأنه ضحى من أجل خدمة الوطن. وقبل ذلك ألم يستحق الفيلسوف القديس أوغسطين قبرا رمزيا جزاء له بما قدمه من مساهمة مغاربية للفكر البشري؟ وعن الحاجة المطلوبة لدى الأستاذ جمال باهي وجبت الإشارة إلى أن قبور الشهداء حظيت ببعض العناية. وحسبنا أن البعض من الذين قتلوا في معركة تزگارت التي وقعت بعد احتلال بوذنيب سنة 1908 ممعلمة بشكل بارز في الكثير من القرى. وكلنا يعلم أن ضريح سيدي أحماد المغني بأسيف ملول، بمنطقة إملشيل، مزار ذو شأن لصلة الشخص بمقاومة الغزو البرتغالي للسواحل المغربية في القرن 16. لذلك وجب تعميم هذه القيمة في الأوساط التي تحتضن المقابر التاريخية، بما هي قيمة مستوحاة من أسلوب الدفن في عهد الدعوة الإسلامية.
والملفت للانتباه أن هناك بساط الدفن بمدغرة الغربية بإقليم الرشيدية يسمى البقيع قياسا على مقبرة البقيع بالمدينة. وفي هذه المقبرة يدفن جل سكان مدغرة موتاهم. ولا مجال للوقوف عند البقيع المدغري وكيف نشأت هذه المقبرة، لكن وجبت الإشارة إلى أن للقبور الرمزية مكانتها. فالمتجول في بساط الدفن يلفى القبر الرمزي لعبد القادر الجيلاني، وسبعة رجال وغيرهم. ولقد اهتدى المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى بناء القبر الرمزي للضحية الهالك العربي أيت زايد بمقبرة الغرباء بتنغير يوم 4 من شهر يناير 2013، قياسا على الثقافة المغربية بالجنوب الشرقي التي تلجأ إلى بناء المقابر الرمزية اعتبارا للأشخاص وتقديرا لهم.
كل هذه الملاحظات لا تنقص من قيمة دراسة الأستاذ جمال بامي حول المقابر المغربية في شيء، وإني أحبذ أن تصدر بالعنوان التالي: «دراسة حول المقابر المغربية، ومقترحات عملية من أجل إصلاحها- مقابر المسلمين نموذجا». هنالك سينطلق التحليل من الكل إلى الجزء. فثقافة الدفن، والاعتقاد المرتبط بالدفن حاضر لدى المغاربة قبل الإسلام. فالمغرب لم يعرف جاهلية لتأثره بالحضارتين الإغريقية والرومانية ولاحتضانه الديانة اليهودية والمسيحية وتأثره بهما في الدفن. ولقد حضر وقع المدافن العميقة في عصر الاضطهاد المسيحي لدى بعض العشائر التي يحب تعميق قبور الجدات والأمهات. وهناك تأثير التصوف الطرقي البارز في التبرك بالمزارات البشرية إلى جانب المزارات الطبيعية.



#لحسن_ايت_الفقيه (هاشتاغ)       Ait_-elfakih_Lahcen#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ورزازات:أي بعد للتخطيط الإستراتيجي التشاركي للجماعات الترابي ...
- الأرض والإنسان في الجنوب الشرقي المغربي في مرأة الصحافة المك ...
- ندوة افتتاح مشروع (من أجل تعبئة منظمات المجتمع المدني لإدماج ...
- ورزازات: أي موقع للمجتمع المدني في تفعيل الجهوية الموسعة وإر ...
- الرأي العام الفرنسي وصناعة ذاكرة الثورة الجزائرية ما بين 195 ...
- ما يجب التركيز عليه في ندوة « سؤال المواطنة بين المسؤولية وا ...
- أفاق المشاركة الفعلية للنساء في تدبير الشأن المحلي والجهوي ف ...
- التاريخ والأرشيف وحفظ الذاكرة في التجربة المغربية للعدالة ال ...
- حرب الذاكرة ومستقبل العلاقة بين فرنسا والجزائر
- متى يأتي الاكتشاف الرابع لجبال الأطلس الكبير الشرقي المصاحب ...
- ورزازات: اللجنة الجهوية للمجلس الوطني لحقوق الإنسان لجهة الر ...
- اللقاء الوطني حول: «الحكامة الترابية والجهوية بالمغرب، أي مق ...
- ورزازات: الإعلام البديل بين حرية التعبير وأخلاقيات المهنة با ...
- ميدلت: الديموقراطية التشاركية تؤسس للمشاركة الفعلية للنساء ب ...
- الذاكرة الجزائرية بين الرغبة في تمجيد الاستعمار والدعوة إلى ...
- الثورة التحريرية الجزائرية ودروس الذاكرة
- الصحافة وحقوق الإنسان بالجنوب الشرقي المغربي
- الصحافة وحقوق الإنسان موضوع اهتمام في المغرب
- ورزازات: لقاء دراسي لأجل أبواب منبلقة بجبال الأطلس لضمان الو ...
- العلاقات الفرنسية المغربية مكسب تاريخي


المزيد.....




- الصومال يطلب إنهاء عمل بعثة سياسية للأمم المتحدة
- منظمة العفو الدولية: الحكومات التي تمد إسرائيل بالسلاح تنتهك ...
- رابطة العالم الإسلامي تدين الاعتداء على مقر الأونروا في القد ...
- الاحتلال ينفّذ حملة اقتحامات واعتقالات بالضفة ويخلف إصابات
- الأونروا: 80 ألف شخص فروا من رفح خلال 3 أيام
- هيومن رايتس ووتش تتهم قوات الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية ...
- الأمم المتحدة: 80 ألف شخص فروا من رفح منذ كثفت إسرائيل عمليا ...
- بعد إعلان إسرائيل إعادة فتح معبر كرم أبو سالم.. الأمم المتحد ...
- الأونروا: لن نتمكن من إيصال المواد الغذائية لأهل غزة غدا بسب ...
- ماسك: انتخابات 2024 قد تكون الأخيرة بالنسبة للأمريكيين بسبب ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - لحسن ايت الفقيه - دراسة حول المقابر المغربية، ومقترحات عملية من أجل إصلاحها- حالة مقابر المسلمين نموذجا