غسان صابور
الحوار المتمدن-العدد: 4059 - 2013 / 4 / 11 - 00:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بــيــت الــقــصــيــد
مساء الثلاثاء 9 نيسان 2013 تابعت على قناة الميادين اللبنانية, وبعد أن تعبت من مناظر التفجيرات والقتل والتقتيل على الأرض السورية.. تابعت برنامجا يدعى : بيت القصيد.. أعيد بثه هذا اليوم الأربعاء الساعة الواحدة بعد الظهر 10 نيسان 2013 بتوقيت فرنسا, مع الفنان السوري الكبير رفيق السبيعي. أعدت مشاهدته الثلاثاء والأربعاء, بالرغم من أنني لست مغرما إطلاقا بالمسلسلات العربية... ولكن لما سمعت بعضا مما يقوله في البداية هذا الفنان الكبير بأنه لن يغادر دمشق أبدا, مهما تغيرت الأحوال أو تفاقمت تطوراتها وخطورتها.. لأن دمشق بيته وحياته... وعمر هذا الإنسان الرائع الواعي ثمانون عاما أو أكثر... كلماته ودموع عينيه الخاطفة, أثارت بقلبي كل مشاعر الأسى على بلدي وعليه, ممزوجة بأقصى مشاعر الاحترام للناس العاديين الصامدين القابعين في هذا البلد, بلا بندقية, بلا كهرباء, بلا ماء, بلا انترنيت.. وخاصة بلا أبسط الضروريات المعيشية اليومية.. وٍســـوريــا بأجمعها بحالة حرب دامية غبية.. حــرب لا أجد لها أية من النعوت الصحيحة.. ســوى التي تنطلق من كلمات غباء, تعصب, قتل, تفجير, تهديم, موت, موات... وآلاف الكلمات الأخرى والغير كافية لتصوير حقيقي لهذه المأســاة الإنسانية والتي ابتدأت بمطالب حرية مشروعة, وديمقراطية مفقودة. ســرعان ما تحولت إلى استغلال واستعمال جميع اسـاليب القتل والموت الغير مشروعة إنسانيا, لإزالة كل مظاهر الحياة الإنسانية في هذه البقعة القديمة التاريخية من العالم...وهل يمكن أن يتصور إنسان أمريكي أو أوروبي أو أسيوي, أو ألواقالواقي.. أو من أية بقعة في العالم, أن وطنه سوف يمحى من الخارطة.. أن مدينته أو قريته سوف تتفجر ويقتل سكانها أجمعين.. أنه لا يستطيع الذهاب من بيته إلى أرضه الزراعية, دون أن يتعرض للموت العاجل الغشيم والغاشم.. لا لسبب, سوى أن أرضه تحتوي على شيء أو كنز مجهول, يـبـغـيـه أحد الأسياد الأقوياء في المنطقة... أو أن يطلب منه أن يهاجر فورا, تاركا بيته إلى عالم غريب مجهول.. بلا أي أمل.. ولا أية جهة مسؤولة يشكو لها ما يصيبه من ظلم مع أولاده وعياله.. وما من أحد يسمع شكواه.. والعالم كله أصبح مـسـتـنـقـع بــتــرول.. أو وادي الــطــرشــــان!!!..............
*************
رفيق السبيعي بكى وأبكاني... ردد مشاعري وأحاسيسي وألمي... دخل إلى أعمق أعماق خواطري, رغم أنني غادرت سوريا نهائيا من زمن طويل لم أعد أقيسه... لأن السنين التي عشتها خارجها, ضعف ما عشت فـيـها. ولكنها تسيل في دمي. وكرامتي وعزتي السورية, تفوق كل ما تعلمته في فرنسا وعشته والثقافات المختلفة والمبادئ الإنسانية التي اكتسبتها.. وخاصة احترام الحريات التي تعلمتها ومارستها والتي كانت في بداية تعليمي وشبابي في بلدي ما افتقد إليه وأجهله وأبحث عنه. مما اضطرني للهجرة النهائية.
لكنني رغم غيابي الطويل عن سوريا, لم أنزع صورتها التي رسمت بخاطري. وكنت دائما أرسمها حسبما أريدها وأتخيلها وصورها حسب خطوط جميلة زرقاء وخضراء وحمراء... ولم أرها يوما باللون الأسود.. أو رايات ألله أكبر, تعلوها سيوف أو بنادق أو قنابل.. بل كنت دائما أرسمها وأكتب عنها, كأنها عشيقتي الأولى التي لا تعرف السنين المريرة السوداء أو التجاعيد... كنت أراها كأول حب في سن الثالثة عشر. لتبقى دائما العشيقة المعشوقة التي علمتني أولى دروس الحب والعشق والجنس والدفء... مبعدا كل سنين العتمة والظلم والمرارة التي هيمنت على بداية شبابي.
لذلك في هذه الأوقات العصيبة.. في هذه الظلمة التي تهيمن عليها, أحس أنني في حفرة العتمة معها. وكأنما كل هذه الآلاف من القتلى والمشردين, هم أهلي.. هم أنـا... بكل ما في الأنا من دم وعقل وحب وألم وأمل وسجن وموت.. وطريق مسدود من أمل ويأس.. وتمسك بالأمل.. وأن لكل شــيء بداية ونهاية... وحتى أنني في بعض الأحيان, لما أشاهد صور الجثث المقطعة أو المتفجرة, أتلمس جسدي.. أبحث عن آثار دماء.. ألمس رأسي.. كأنني أنا الجثة الميتة... أريد أن اصرخ.. فلا يخرج أي شـيء من حلقي... ولكن عقلي يتساءل : لماذا؟... لماذا انحدر هذا البلد من مدن وقرى وشوارع وآثار وبحر وجبال ونساء ورجال وجمال وسحر وتاريخ وحضارة... إلى صــور حزينة ممزقة.. في طرق كالمزابل أو المقابر المهجورة, يجتازها رجال غرباء ملتحون مغبرون, يتكلمون عشرات اللغات الغريبة والغير معروفة في بلدي... جاءوا مدججين بالسلاح, ويريدون تغيير كل ما نريد.. يريدون تعليمنا مبادئ الحرية كما يزعمون, عن طريق العودة إلى إلههم, وفرض ممنوعاتهم ومسموحاتهم... وضاعت جميع أفكار الثورة الحقيقية ما بين جبهة النصرة وعناصر القاعدة وجحافل الشيشان والكوسوفار والبرابرة والتتر والتونسيين والصوماليين والماليين (من مالي) واليمنيين والاردنيين واللبنانيين وعشرات جنسيات أخرى, غالبهم يظن أنه يسترجع الــقــدس, أو أنه يعبر أقصر طريق إلى الجنة... أشــكــال وألوان من المقاتلين, لم تعرفهم دمشق ولا سوريا, عبر كل غزوات العصور السابقة... ودمشق تبقى دمشق الصامدة... دمشق أم الدنيا والحياة... وحلمي أن أراك ضاحكة باسمة آمنة... كما عرفتك أيام كنت توزعين المعرفة والأصول والتهذيب والفن والحب على كل جيرانك.. أيام كنت فــخــر المشرق ورائدته وفكره وعقله وميزان حكمته. أيام كنت أتغنى بك في جريدة البناء... وكنت عروس شباب نزار قباني... حلمي وأملي, زيارتك آخر مرة... ولو صمتت بعدها بــقــلــبــي المتعب آخـر نبضات الحياة......
من يدري قد ألتقي بهذا الإنسان السوري الرائع الأستاذ رفيق السبيعي, وأزوره في بيته قرب الجامع الأموي... من يدري؟؟؟... من يدري؟؟؟...
يا دمشق... أحييك... وأحبك... لأنني أحب ســــوريــا....................
للقارئات والقراء الأحبة كل مودتي وصداقتي واحترامي.. وأطيب تحية مهذبة.. حــزيــنــة.
غـسـان صــابــور ــ ليون فــرنــســا
#غسان_صابور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟