أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود عبد الغفار غيضان - محروس أبو فريد... طبيب الأحذية














المزيد.....

محروس أبو فريد... طبيب الأحذية


محمود عبد الغفار غيضان

الحوار المتمدن-العدد: 4036 - 2013 / 3 / 19 - 15:47
المحور: الادب والفن
    


محروس أبو فريد... طبيب الأحذية

الجو هنا خالٍ من الغبار تقريبًا... الشوارع ممهدة... الأرصفة تجد مكانها في الطرقات... اللون الأخضر يجالسك ويسير معك أينما وليت وجهك... المواصلات منظمة ومنتظمة ولذا فالأحذية هنا مرفهة... قد يمسح المرء حذاءه مرة في العام وقد ينسى فلا يفعل... وإن حدث وتعرض حذاءٌ ما لوعكة مفاجئة فهناك الكثير من أكشاك إصلاحها بالشوارع يطلق عليها "مستشفيات الأحذية"...نعم ... "مستشفيات الأحذية"... من المنطقي إذن ... أن يكون الجالسون للعمل داخل تلك الأكشاك "أطباء الأحذية"! أليس كذلك؟!... ذكرني هذا ببؤس الأحذية في مصر ومعاناتها وألمها... وكيف يستبيح التراب والغبار والدخان والضجيج والعشوائية كرامتها البادية بفتارين المحلات قبل أنْ تعرف المعنى الحقيقي للحياة خلف زجاج كالح يتم تنظيفه على مضضٍ كل يوم... تذكرتُ كذلك الأسطى محروس... أو لنقل من الآن مع الكوريين: "محروس.. طبيب الأحذية" في قريتي.
الدروس الوحيدة التي تعلمها محروس بإتقان من جلوسه بآخر مقاعد الفصل هي الوحدة... وأنَّ هذا المكان باتساعه حول أجساد التلاميذ الصغيرة آنذاك لم يكن على
مقاسه قط... كان يتلقى عقابًا يوميًّا لتدني مستواه التعليمي... أما العقاب الإضافي فقد جاءه دون جريمة أو ذنب... كغيره ممن ينتمون لتلك الأقلية في القرية... أما الحقيقة الأخرى التي أدركها غيره من التلاميذ سريعًا؛ فهي أنَّه لن يمكث هنا طويلا... ورث محروس دموعًا لا تكف عن النزف دون بكاء حتى خلنا أنه لن يرى عند بلوغه العشرين... كان واضحًا أنَّ الفقر والقهر وأشياء أخرى قد شرعت بالفعل في تنفيذ مخطط خبيث لسرقة نور عينيه... يترك محروس الفصل... يهجر المدرسة... يترك الإهانات هناك بمقعد لم يكن حريصًا أن يرثه آخرون غيره... فلم يدفعه الفضول للحضور ولو مرةٍ إليه ولم يسأل قط عمن أخذه من بعده... تستريح أذناه من صدى متكرر اعتاد صفعها بعنف كل درس... وبسعادةٍ لم تفلح في تبريد دموعه الهادرة راح يستمتع بعبارة جديدة رددتها كل القرية، حتى ذلك المعلم المتغطرس رددها مُجبرًا: "تسلم إيدك يا أسطى محروس"!

ورث محروس صنعة أبيه؛ الخواجة فريد... وبرضى مدهش أقنعت أشعة عينيه الواهنتين لصي الزمن والوجع أن يضبطا إيقاعاتهما للسطو عليها بسرعة أبطأ سلاحف الكون... ثم لضم بكل فراغات ظلالها خيوطًا متينةً مررها بكل أحذية القرية... دون مبالغة... لمست أصابعه كل نعلٍ فيها... لضمت عيناه كل مسافة بين خطين غير مستقيمين تمامًا من خيوطها... وبكل أدب الكنائس وصبر المسيح الفريد... أجاد محروس الابتسام دون أن تميز عينيه وجوه الناس وملامحهم... لم يتعلم محروس النظر إلى الوجوه مباشرة... ولم يكن يعرف الكثير عن القرية وأهلها... بل لم يهتم أبدًا بما يحدث في العالم من حوله... لم يكن يشغله سوى العناية بأمه... ترويض فقره... إتقان عمله... ولم يقبل قرشًا واحدًا يزيد عما اتفق عليه مع زبائه ولو من باب الإكرامية... مَن قال إن كرامة الفقراء هشة؟! من ذلك الذي لم يقرأ جيدًا { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}... ومن ذلك الذي لم يتسع وقته ليقرأ بعناية ما نقشه محروس على جبينه بحبر الإنسانية السري : ((قدموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة* وفي المعرفة تعففا وفي التعفف صبرا وفي الصبر تقوى * وفي التقوى مودة أخوية وفي المودة الأخوية محبة)).. دير محروس الطيب امتلاُ بزوار بعدد القرية... وأجراسه تعلمت النطق بأصواتهم... ومواقيت صلاة الشكر التي أحبها أكثر من أي شيء في هذه الحياة كانت تأتيه كلما قيل له بصدق :" تسلم إيدك يا أسطى محروس"... يمر الزمن... يكبر محروس وتتبدل ملامحه... يصير انحناء ظهره واضحًا... يضيق النور بين عينيه الوادعتين... يكبر الفقر كذلك دونما وهن الشيخوخة... وتظل تزحف تلك السلحفاة دون توقف... بينما لا يكف أهل القرية عن شكر محروس.... أما محروس... فدائمًا سعيد... لأن سره الأزلي الذي لم يبح به أبدًا كان أن شخصًا ما... ذات لحظةٍ ما... علمه بصدق... أنَّ كنف الرب... هو الرضى... وأن الرب ليس في الكنيسة فحسب... بل هو في مكان أكبر وأوسع من ذلك بكثير... مكان لا يغادرك إلا بالموت... إنه... القلب...

محمود عبد الغفار غيضان
مجموعة "زمن المصاطب"
19 مارس 2013م



#محمود_عبد_الغفار_غيضان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وهيبة... تسالي المصاطب
- العم -توفيق-... خواجة من زمن المصاطب.
- أبو رجل لم تكن مسلوخة
- تلصصُ الوداع
- بورتريهات الدهاليز 1- - أبانا الذي في منيل الروضة-
- تلصص على حين غرة
- تلصص ٌخاص...
- صاصا .. آخرُ بوحِ المصاطب
- كُتَّاب الشيخ عبد الواحد
- المتلصص 4
- رجلٌ بألف ...
- أوبرا المصاطب
- المُتَلصَّص-3
- -أُسُودَه... أُسُودَه-
- لوحاتٌ ورجلٌ من زمن المصاطب
- صد رد 2- (دهاليز عالم ثالث)
- المتلصص-2 (دهاليز عالم ثالث)
- المُتَلَصَّص: -دهاليز عالم ثالث-
- صدّ ردّ (دهاليز عالم ثالث)
- غيبوبة صراحة


المزيد.....




- ملتقى عالمي للغة العربية في معرض إسطنبول للكتاب على ضفاف الب ...
- لأول مرة في الشرق الأوسط: مهرجان -موسكو سيزونز- يصل إلى الكو ...
- شاهين تتسلم أوراق اعتماد رئيسة الممثلية الألمانية الجديدة لد ...
- الموسيقى.. ذراع المقاومة الإريترية وحنجرة الثورة
- فنانون يتضامنون مع حياة الفهد في أزمتها الصحية برسائل مؤثرة ...
- طبول الـ-ستيل بان-.. موسيقى برميل الزيت التي أدهشت البريطاني ...
- بين الذاكرة وما لم يروَ عن الثورة والانقسامات المجتمعية.. أي ...
- كيف نجح فيلم -فانتاستيك فور- في إعادة عالم -مارفل- إلى سكة ا ...
- مهرجان تورونتو يتراجع عن استبعاد فيلم إسرائيلي حول هجوم 7 أك ...
- بين رواندا وكمبوديا وغزة.. 4 أفلام عالمية وثقت المجاعة والحص ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود عبد الغفار غيضان - محروس أبو فريد... طبيب الأحذية