أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود عبد الغفار غيضان - صاصا .. آخرُ بوحِ المصاطب














المزيد.....

صاصا .. آخرُ بوحِ المصاطب


محمود عبد الغفار غيضان

الحوار المتمدن-العدد: 3995 - 2013 / 2 / 6 - 19:50
المحور: الادب والفن
    


صاصا .. آخرُ بوحِ المصاطب

يعودُ أبي من صلاة الفجر... بكوبٍ من الشاي وكسرة خبز ملدنٍ مما يحب... تفتحُ له أمي أبواب النهار... يحدثها في كل شيءٍ دون انتقاء.. فيدخل صوته كل غرف البيت كي يضع الأغطية حيث ينبغي أنْ تكون على جسده بعدد بناته والأولاد... فنستمر نائمين باطمئنان بدا سَاعَتَها أبديًّا... يغفو أبي بانتظار مرور الصباح أمام دكانه... ثم يوقظه "صاصا" مناديًا من الصالة بأصوات غير واضحة المعاني... يرد أبي مرحبًا فيدخل إليه... وبعد قبلات وتدليل أدمنهما الأحفاد... يخرجان معًا لإحضار الحلوى ثم يصحبه أبي إلى بيتِ أختي... وقبيل أنْ يذهب من هناك... يعطيه نقود الصباح الاعتيادية... غدا ذلك طقسًا يوميًّا في سنوات أبي الأخيرة... يتأخر "صاصا" في الحضور، فيخرج أبي مبكرًا بعد أنْ يخبر أمي بذهابه إليه... وعلى هذه الشاكلة الطفولية الحلوة ... تمضي كل صباحاتهما التي اختذلت الزمن في هيئتين بينهما قرابة سبعة عقودٍ.
يفترشُ المرضُ سرير أبي... يتمدد فوق جسده المُتعب بسماجةِ ضيفٍ ثقيلٍ يمنعكُ شيءٌ قدري فوق طاقتك مِن طرده... دونما تفسير أو كلام... يكتفي صاصا بنقود الصباح... ثم يذهب وحده لشراء الحلوى... كان أبي يعشق معه تواصلاً خاصًّا لا يحتاج إلى الكلام... يسمع صاصا أنَّ جده بالمستشفى... دون أنْ يعرف تمامًا ماذا تعني الكلمة... كما كان لا يعرف أيضًا أنَّ حلوى الصباح التي أحبَّها على وشك أن تتلقفتها يدُ الغياب... يعود أبي لأيامٍ قبل الرحيل الأخير... يدخل صاصا حجرته... يكتفي بصوتِ جده الخافت طالبًا الاقتراب... يقف قرابة السرير بحياء من خرج لتوه من خطبةٍ مؤثرة عن أدب عيادة المريض... تناوله أمي النقود... ودونما إزعاج... يغادر المكان وكأنه يفهمُ كل شيء... يغيبُ أبي... يأتي صاصا في الصباح التالي... يردد اسمه... يدخل حجرته... يقف أمام سريره البارد... تسكتُ الجدران حد الخرس... تتلعثم أمي ثم تتقمصُ على الفور شخصيتها المفضلة التي تجيدُ بإتقانٍ التظاهر بكل خيرٍ... تأخذ ذراعيه المشاكستين... تضمه إلى صدرها... تقبِّل جبهته ويديه.. ثم تعطيه نقود الصباح... يأخذها صاصا مكررًا السؤال عن جدِّه... فتطلب منه أمي أن يعود سريعًا إلى بيته حتى لا يقلقهم تأخره... لم يكن "مصطفى" بعد قد تعلم الكلمات التي تعبر عن الغضب والاشتياق والحزن.. لكن الغياب كان قد لقنه أول دروس العجز... يكتفي بصمت المغادرة الذي تقطعه تمتماتٌ أحستها أمي بعضَ لومٍ للراحلِ دون وداعٍ.
كان الصباح ضيفًا أسطوريًّا بملامح جده وابتسامته وصوته... لكنه الآن لم يعد حميمًا كما درج... مع ذلك احتفظ صاصا بحقه كاملاً في مقابلته مع الأيام التالية بحثًا عن غائبٍ لم يقل أحد عنه متى سيعود ... يترك بيت أمه... يترك إخوته... تشد أصواته عودها الطيب ويعرف الكلام... يسأل أكثر وأكثر... يحكي ويتذكر صاحبه ... تنطق عيناه بكل الضجر من صمت لا يأتي إلا على صدى اسم واحد لا يبحث عن سواه... ودون استئذان... يضع رأسه كل ليلة على وسادة جدِّه... تحكي له أمي بعض الحكايات... تضع كل دموعها في خزينة من زمن أبي بعيدة عن رأسه... تحضنه حتى الصباح... ثم يوقظها مبكرًا كما كان يفعل جدُّه... ودون كلامٍ تعرف أنه يريد كوب الشاي وكسرة الخبز التي كان يتناولها ذلك الغائب... تترك أمي البوتاجاز... تحضر "الباجور" إلى الغرفة... فيستحضر صوته العالي أُنسَ العهد القريب... أمي... صاصا... الباجور... الشاي وكسرات الخبز... تستحضر كلها بمهارة ساحرٍ فذٍّ كل طقوس أبي وملامحه... فيعود الميتٌ وكأنه قد رجعَ حيًّا... وتعاود الحجرة سيرتها الأولى... لكن الصباح لم يقف عند الدكان... وذلك الصوت المحبب لم يدلل نومنا مع برد الاستيقاظ... كان الاستثناء الوحيد... هذه المساحة الخالية على سرير أبي... التي دفأها صاصا ببدنه الصغير.

محمود عبد الغفار غيضان
مجموعة "زمن المصاطب"
6 فبراير 2013م



#محمود_عبد_الغفار_غيضان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كُتَّاب الشيخ عبد الواحد
- المتلصص 4
- رجلٌ بألف ...
- أوبرا المصاطب
- المُتَلصَّص-3
- -أُسُودَه... أُسُودَه-
- لوحاتٌ ورجلٌ من زمن المصاطب
- صد رد 2- (دهاليز عالم ثالث)
- المتلصص-2 (دهاليز عالم ثالث)
- المُتَلَصَّص: -دهاليز عالم ثالث-
- صدّ ردّ (دهاليز عالم ثالث)
- غيبوبة صراحة
- جوابات الشيخ -برهيم-
- زمنُ المصاطب
- صداقة بالتبغ!
- سلة مهملات
- -أبو فرحان-
- -تَوبة-
- حقيبة أمي
- غُرزَة المعلم -منظور-


المزيد.....




- تردد قناة بطوط كيدز الجديد 2024 على نايل سات أفلام وأغاني لل ...
- مصر.. نسرين طافش تصالح بـ-4 ملايين جنيه-
- الفنان عبد الجليل الرازم يسكن القدس وتسكنه
- أسعدى وضحكي أطفالك على القط والفار..تردد قناة توم وجيري 2024 ...
- منصة إلكترونية أردنية لدحض الرواية الإسرائيلية في الغرب.. تع ...
- “نزلها الان” تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 2024 لمشاه ...
- مشاهير الموضة والموسيقى والسينما.. في مهرجان ميت غالا حمل عن ...
- متحف -للنساء فقط- يتحول إلى مرحاض لـ-إبعاد الرجال-
- إيران تقيم مهرجان -أسبوع اللغة الروسية-
- مِنَ الخَاصِرَة -


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود عبد الغفار غيضان - صاصا .. آخرُ بوحِ المصاطب