|
غموض الشعر بين الحداثة ونظرية ابن خلدون
نافذ الشاعر
الحوار المتمدن-العدد: 4011 - 2013 / 2 / 22 - 21:47
المحور:
الادب والفن
يسجل ابن خلدون في مقدمته تأملات طويلة لمعنى الشعر وطريقة نظمه وتحصيله، وهي جديرة بالتأمل والدراسة والنظر، فيقول: "اعلم أن فن الشعر كان شريفاً عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم، وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها. ثم يصف ابن خلدون الشعر عند العرب بقوله: والشعر فن من فنون الكلام، يوجد في سائر اللغات، ولكل لسان أحكام في البلاغة تخصه، لكنه في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفصل قطعاً قطعاً، متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة بيتاً، وتسمى جملة الكلام قصيدة، وينفرد كل بيت منه بإفادته معنى، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده. ثم يشير أبن خلدون إلى ضرورة الوزن في الشعر العربي قائلا: ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه، فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض. ويذكر ابن خلدون كيف ينمي الشاعر ملكته الشعرية بأن يكثر من الارتياض في أشعار العرب، ذلك لأن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج.. والصورة الذهنية المنطبقة، كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه، حتى تصبح هيئة ترسخ في النفس وتجري على اللسان من تتبع التراكيب في شعر العرب، حتى تستحكم صورتها، فيستفيد بها في النسج على مثالها والاحتذاء بها، حتى يتجرد في ذهنه قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البناء على القالب، والنساج على المنوال، ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً. وعلى هذا، فالشعر هو الكلام البليغ، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به، المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده. وقولنا: "الجاري على أساليب العرب المخصوصة به"، تمييز عما لم يجر منه على أساليب الشعر المعروفة لدى العرب، فإنه حينئذ لا يكون شعراً، إنما هو كلام منظوم، لأن الشعر له أساليب تخصه، لا تكون للمنثور. فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب، فلا يسمى شعراً. ويذكر ابن خلدون أن كثيرا من النقاد في زمانه كانوا لا يعتبرون كلام المتنبي والمعري شعرا، لخروجهما عن هذه القاعدة فيقول: "وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية، يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب المعروفة.. ويذكر ابن خلدون لمن يريد إتقان الشعر وإحكام صناعته بان هناك شروطا يجب عليه الأخذ بها، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها، ثم يتخير من المحفوظ الحر النقي الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أبي ربيعة، وكثير، وذي الرمة، وجرير، وأبي نواس، وحبيب، والبحتري، والرضي، وأبي فراس.. ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ، فمن قل حفظة لم يكن له شعر معتبر، إنما هو نظم ساقط، واجتناب الشعر بحق قليل الحفظ منه أولى. ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة يُقبل على النظم، ومع الإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله، يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري لعدم النسج على الأساليب العربية، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماء فوقنا. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه وليعاوده، فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتلاء ويجف بالترك والإهمال. وينوه ابن خلدون إلى أن الشاعر يجب أن يكون له حصيلة لغوية واسعة من الكلمات العربية الجزلة؛ لأن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، لأن المعاني تبع لها وهي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر، إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر من استعمالها وجريانها على لسانه، حتى تستقر له الملكة، ويتخلص من العجمة التي رُبيَّ عليها في جيله، لأن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تبلغ شأن الملكات الأخرى، والذي في اللسان إنما هو النطق والألفاظ، أما المعاني فهي في الضمائر، وموجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء، فلا تحتاج في تأليفها إلى تكلف صناعة. والجاهل بتأليف الكلام وأساليبه، على مقتضى ملكة اللسان، إذا حاول التعبير عن مقصوده، كان بمثابة المقعد، الذي يروم النهوض ولا يستطيعه، لفقدان القدرة عليه. ونظرية اللفظ والمعنى أول من أشار إليها الجاحظ المتوفي سنة 255هـ بقوله: (والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ والبدويُّ والقرَوي والمدنيّ، وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن وتخيُّر اللفظ ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وصحَّة الطبع، وجَودَة السَّبك، فإنما الشعر صناعةٌ وضَرْب من النَّسج وجنسٌ من التَّصوير)[1] ويشدد ابن خلدون على كثرة القراءة والحفظ من شعر الفحول بقوله: فلا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وكثرته وقلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع، تكون جودة الاستعمال من بعده. فبارتقاء المحفوظ من الكلام، ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو الملكة الشعرية بتغذيتها. وذلك أن النفس، وإن كانت في جبلتها واحدة، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، والملكة الأدبية تنشأ بحفظ الأسجاع والترسيل، والملكة العلمية تنشأ بمخالطة العلوم والأبحاث والأنظار، والملكة الفقهيه تنشأ بمخالطة الفقه، وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والملكة التصوفية تنشأ بالعبادات والأذكار، وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع، حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه، وينقلب ربانياً، وكذا قل في سائر الملكات[2]
تلك كانت مجمل نظرية ابن خلدون في الشعر، وهي على النقيض من نظرية الشعر في العصر الحديث. وإذا جئنا لتطبيق نظرية ابن خلدون في الشعر على مفهوم شعر الحداثة، فلا يمكن أن نعتبر شعر الحداثة فنا من فنون الشعر، إنما هو لون من ألوان الأدب الفلسفي والتهويم النفسي الذي لا ينقل إلينا تجربة شعورية واضحة ننفعل بها ونعيش في جوها، ونتفيأ ظلالها كقائلها تماماً، لأن شعر الحداثة أصبح من سمته الأساسية الغموض والإبهام والتناقض الذي يصيب الإنسان بالصداع والسوداوية، ولا يحس القارئ بثمة انفعال فيه أو حرارة، أو على حد قول برادبري: " إن شعر الحداثة نسف قواعد الفكر والتعبير وحطم ما بين الكلمات من علاقات مستبدلاً بها علاقات غريبة وغير منطقية، بالإضافة إلى هلوسة العقلاني، وتغريب الشائع المألوف، وعقلنة العواطف، وتحويل المكان إلى زمان والزمان إلى مكان، وتدمير ما يمت إلى الواقع بقرابة، ونفي المنطقية عنه وعن التاريخ"[3]
إن قصيدة الحداثة حالة من حالتين: الأولى إما أن تكون فكرة غير ناضجة في ذهن قائلها. والثانية، إما أن تكون فكرة زادت على حد النضوج والاكتمال. ففي الحالة الأولى تكون هذه الفكرة برقت في ذهن الشاعر كالبرق الخاطف من بعيد فسارع إلى تسطيرها على الورق قبل أن يروضها ويهذبها ويتركها تنضج في ذهنه وتستوي على سوقها.. في هذه الحالة سيكون الشاعر نفسه أبعد الناس فهماً لقصيدته قبل الآخرين، ويكون حاله فيه كحال أحد الأدباء في رسالته إلى (أمين الريحاني): " هذا وقد نشرت بزمالة أديب أثراً أدبياً؛ أسميناه السريال، كتبت حصتي منه بوحي اللاوعي، بحسب ما يقولون، وكنت بعد أن أثوب إلى واعيتي أتردد في فهمه، ولا أعلم هل هو من نتاجي أم لا؟"[4] أما في الحالة الثانية فإنها ستكون فكرة زادت على حد النضوج والاكتمال كالثمرة تماماً عندما تتجاوز حد النضج فإنها تفسد وتصبح غير صالحة للأكل أو للبيع والشراء.. ففي هذه الحالة فإن الأديب يدرك فكرته جيداً ثم يبدأ يجردها من ملابساتها الخاصة، ثم يجعل لها رموزاً خاصة به، ثم يبدأ يبحث عن العلاقة بين فكرته وبين أفكار أخرى قد تكون فلسفية أو دينية أو أسطورية.. إلخ. ويبدأ يمزج الأفكار المتناقضة بعضها ببعض إلى درجة تستغلق على الذهن وتستعصي على الفهم والاستيعاب، وتصبح القصيدة استعراض عضلات بحاجة إلى متخصصين من شتى التخصصات كي يبدأوا بفصل هذه الأفكار عن بعضها وإعادة تبسيطها وتحليلها، وهنا تكون لذة الاكتشاف للناقد الذي يختبر فيها قدراته ويصول ويجول. ثم تجده يستميت في الدفاع عنها لأنها أتاحت له هذه الفرصة التي جرب فيها علمه وثقافته وقدراته.. والشعر لم يكن هكذا يوما ما، وإنما الشعر يقابل السحر الذي ينساب إلى النفس ويدب إلى الروح بهدوء ورصانة واقتناع، فيقلقل النفس ويغير المفاهيم والأنساق ! ولنا أن ندرك سبب ترديد كفار العرب اتهامهم للنبي، صلى الله عليه وسلم، بأنه ساحر وأن ما يقوله من القرآن الكريم هو السحر! لأنه كان يفعل فعله الرهيب في الروح والنفس والسلوك.. فينقل الشخص من حالة إلى نقيضها. هذا، وقد تأثرت الرواية الحديثة بهذه اللوثة أيضاً تأثراً كبيراً فاقتربت من قصيدة النثر وأصبحت على شاكلتها، بل يمكننا أن نقول عنها إنها قصيدة نثر طويلة.. وإنها بهذا تكون قد خرجت من مسمى الرواية الحقيقي كما خرج الشعر قبلها من مسمى الشعر الحقيقي، والتقيا على حدود فن أدبي آخر غير الرواية والشعر هيأ له الزمن وظروفه مكاناً في خريطة الأجناس الأدبية.
ولعل ما قدمناه من الأسس المنهجية تتضح أكثر إذا أتبعناها بالأسباب التي أدت إلى ظهور هذا النوع من الشعر، وهي من وجهة نظرنا أسباب عديدة إلا أن أهمها ما يلي: أولاً: الهزائم العسكرية والقهر السياسي الذي فرضه الحكام على الشعوب؛ فالشاعر لخوفه من الرقيب يرمز للمعنى من بعيد ويجعله محتملاً لأكثر من وجه، كي يضمن له خط رجعة عند تعرضه للمساءلة والحساب. ونضرب مثلاً على ذلك بقصيدة حسن طلبة "نيل السبعينات": في الزمن النحس من السبعينات الأنحس ذيل يترأس يتسلل بين الوقتين ويسرق تاج الوجهين ويصعد نحو الكرسي ويجلس والنيل يسيل كما كان يسيل فلم ينقلب في مجراه ولم ينبس أطرق النيل طويلاً وكأنه لم يعد نيلاً فقد استغرق في شكوكه في السبعينات السوداء من الزمن الأسود مسخ يتسيد النيل اشتكى[5]
ثانياً: رقابة المجتمع وتقاليده التي لا تبيح للرجل أو للمرأة التصريح عن تجاربهم الجنسية، ونأخذ مثلاُ لذلك قصيدة (مباهج الوسوسة) لفاطمة محمود: عافية روحي لباب يتسلق سعف الشهوات أطفئ رغباتي تنفث الطريق لعابها تحت أحذية النساء السريعات والسيقان ذات الظلال الناعمة تلمع في الرذاذ يرتدي الرسام لهاثه ويلحق بهن هكذا في الغرفة المحاصرة بي أفتح المدى على مباهج الوسوسة[6]
ثالثاً: تداخل الفنون بعضها ببعض ومن هذا تأثر الشعر بفن الكاريكاتير الذي يضخم بعض جانب الصورة لإبرازه وتوضيحها من جانب ، ومن جانب آخر تؤدي إلى المفارقة مع الواقع؛ لأن المفارقة تؤدي إلى توتر الوعي وتنبيه الحس في بعض الأحيان فيلجأ إليها كثير من الشعراء، ومن هذا قصيدة نهاية العالم للشاعر "ريتشارد هولسنيك" : هذا ما آلت إليه الأشياء في هذا العالم تجلس الأبقار على أعمدة التلغراف تلعب الشطرنج والببغاء ذات العرف تحت تنورة الراقصة الأسبانية تنشد بحزن كحزن بوقي مقر القيادة والمدفعية وهو يندب طوال النهار ولا تستطيع إلا دائرة الإطفاء طرد الكابوس من غرفة الاستقبال لكن جميع خراطيم المياه ممزقة[7]
رابعاً: التجريد، وأقصد به الرغبة في الإبداع وخوض مجالات جديدة.. وعلى سبيل المثال كانت عبقرية الأشخاص قديماً تبدو في توضيح الغامض ورفع ما يلفه من ظل وضباب وغموض، وهذا تجلى بوضوح في تفسير القرآن الكريم ، وتفسير الأحلام.. أما في العصر الحديث فقد قلبت الصورة وأصبحت العبقرية في عرف الكثيرين هي القدرة على إبهام الواضح، وستر الجلي، أو بمعنى آخر كانوا قديماً يحيلون الرموز إلى حقيقة يصدقها العقل، أما الآن فإنهم يحيلون الحقيقة إلى رموز لا يكاد يصدقها العقل. ونضرب مثالاً بقصيدة "رفعت سلام" : نظرة أخيرة شمس تحتسي شاياً ورياح تنام في فراشي وغيمة تحت الوسادة نار تصعد الجدار أشياء صغير تومئ لي وعلبة السجائر خاوية فأمضي.. [8]
وإننا لو تناولنا إحدى كتب تفسير الأحلام لرأينا أحلاماً كثيرة عل شاكلة هذه القصيدة أتى أصحابها يقصونها على مفسرين كابن سيرين وغيره ليفسرها لهم فنجدها على هذه الشاكلة: " جاء رجل إلى ابن سيرين فقال له: رأيت الليلة أني أجلس مع الشمس ونحتسي شراباً سوياً؛ ولما ذهبت إلى النوم رأيت الرياح تنام في فراشي بدلاً مني، ورفعت وسادتي فرأيت تحتها غيماً كثيراُ، ثم أبصرت ناراً تصعد من أسفل الجدار إلى أعلاه..
وكذلك قول أدونيس في قصيدته "تحولات العاشق" : ورأيت موكباً من الأفراس البيض تمتطي السماء رأيت فيلاً يخرج من قرون الحلزون رأيت جمالاً راقصة في محارات بحجم الفراشة[9]
خامساً: الميل إلى السهولة وحب الراحة والدعة؛ لأن في الشعر الموزون المقفي تكمن الصعوبة ويحتاج إلى كد الذهن وقدح الفكر، وفي هذا الشعر يقول "تريستان تزارا" مؤسس الحركة الدادية إذا أردت أن تضع قصيدة دادية فخذ جريدة وخذ بعض المقصات واختر من الجريدة مقالاً يوازي طول القصيدة التي تريد كتابتها. اقطع المقال ثم قص كل الكلمات وضعها في كيس وخضها جيداً، ثم انقلها على الورق بالنظام الذي أخرجته واكتبها في جمل تنتهي قبل نهاية السطر؛ فيصبح لديك قصيدة! وقد قام "جان كوهين "باختيار عبارة من جريدة يومية وأعاد كتابتها على شكل قصيدة حداثية فكانت كالتالي: البارحة على الطريق الدولية رقم "7" انزلقت سيارة.. كانت تسير بسرعة مئة كيلو في الساعة.. في حقل من نبات الدلب.. وقتل ركابها الأربعة[10]
سادساً: التأثر بالحركة السيريالية وبنظريات فرويد في التحليل النفسي وخصوصاً ما أسماه بالتداعي الحر، والسيرياليون متفقون على استدراج الدوافع الحبيسة من اللاشعور إلى الشعور، ومن حجج السيرياليين في ذلك أن الكلمات المكتوبة إن هي إلا تعبير عن انفعالات مكبوتة، إذا عبر عنها الشاعر فقد أطلقها من أسرها واستراح من ضغطها... وهذه حيلة قديمة ليست وليدة اليوم، حيث كان يلجأ بعض الأشخاص إذا نزلت بساحتهم الهموم إلى تفريغ هذه الشحنات من خلال هذه الرياضة العنيفة، والحركات السريعة، وهذا ما يحدثنا عنه طرفة بن العبد عندما كانت تداهمه الهموم، وتلتبس في عينيه الخطوب... فإنه كان يمتطي ناقته (العوجاء المرقال) ويشرع يجوب الصحراء جيئة وذهاباً حتى يبدد قلقه ويسكن حيرة نفسه، فيقول: وإني لأمضي الهم عند احتضاره... بعوجاء مرقال تروح وتغتدي وهذا ما أطلق عليه النفسانيون "الأساليب الإنشائية" من رياضة عنيفة، أو لعبة مخيفة، أو ركوب دراجة، أو تسلق شجرة... وهكذا ندرك الشبه الكبير بين حيلة طرفة هذه وما يسمى اليوم بالشعر الحديث؛ حيث أن كليهما حركات عشواء لا تخضع لمنطق أو تستقيم لفكر، ولكنها هنا بالفكر واللسان وهناك كانت بالجسد والأبدان ! ..
سابعاً : دفاع كبار النقاد عن هذا الشعر واستنباط المعاني الشفيفة والإشارات اللطيفة، على حد زعمهم، من هذا الشعر. وهذا يتضح من تعليق الناقد عز الدين إسماعيل على قصيدة الشاعر عبد المعطي حجازي التي يقول فيها: وبعد صمت لم يطل.. الطائر الأخضر طار الغصن ما زال بسحره يميل، كأنه ما غادر الغصن ولا اختفى كأنني نجمة تدور كأني أحس رحلة العصير وهو يسير في شراييني كأني شجيرة من الشجر مرت بها الأمطار فصار في أعماقها حلم الثمر وانحلت الأسرار.. بعد طفولة طويلة بعد انتظار..
يقول عز الدين إسماعيل: الطائر الأخضر رسول محبوبته أفضى برسالته ثم طار. إنها رحلة الحياة في الجمود، ورحلة الدم في الجسم.. إنها حركة لا تراها العين، وإن كنا نحسها في ابتهاج.. حركة لا يمكن تصويرها في لوحة أو شريط سينمائي.. وما حاجتنا إلى هذا التصوير ونحن نحسها في صميمنا ؟ إننا نعرفها في نفوسنا وقد استكشفها لنا الشاعر عن طريق تفكيره الحسي بالطبيعة. إن الطبيعة كذلك تتضمن حركة وتتضمن أحاسيس تصحب هذه الحركة، وليست رحلة العصير في شرايين الزهر إلا باعثاً على الحركة والتفتح. إننا نرى الزهر وقد تفتح، ولكننا لا نفكر عادة في تلك الحركة غير المرئية التي انتهت بالزهر إلى التفتح، ولكن الشاعر ذا الأحاسيس الحادة هو الذي استطاع أن يحس بتلك الحركة[11] إذن عندما قامت الأعمال الأدبية الحداثية على أساس من اللعب باللغة؛ حدا بالناقد أن يتلقى العمل الأدبي بلعب مماثل من النقد، فنشأ نقد هو بحاجة إلى قراءة نقدية، فتساوى النص الكتابي مع النص النقدي، كما يقول كريستوفر بوتلر[12]
وهكذا نرى أنه من جراء تقريظ وشرح النقاد البارزين لهذا الشعر وأمثاله، قد أوقعوا في وهم بعض الشعراء أنه هكذا ينبغي أن تكون الكتابة: رموز وتلميحات وإشارات لا بد أن تفك ويبحث عن دلالتها في أعماق الشعور واللاشعور !
------------------------- الهوامش: [1] الحيوان: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ج3/131 [2] مقدمة ابن خلدون: مختصرا من ص 569-575 [3] الحداثة: مالكم برادبري، ترجمة مؤيد فوزي، جـ 1/23 [4] الشعر يكتب نفسه: محمد باروت، ص 8 [5] لا نيل إلا النيل: حسن طلبة، ص 44 [6] مجلة مواقف: عدد 16، ص96 [7] اللغة في الأدب الحديث: جاكوب كورك ، ص237 [8] ديوان إنها تومئ لي: رفعت سلام ، ص84 [9] الثابت والمتحول: أدونيس، جـ4/ص184 [10] قصيدة النثر: سوزان برنار ، ص200 [11] الشعر العربي المعاصر: عز الدين إسماعيل، ص 78 [12] المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك: عبد العزيز حمودة، ص31
#نافذ_الشاعر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهل الكتاب
-
السحر والعلم والشعر في سورة الشعراء
-
مفهوم الحسنة والسيئة في الإسلام
-
تأثر أحكامنا بالجمال
-
الدروز في القرآن
-
التشابه بين الثورات القديمة والمعاصرة (2)
-
التشابه بين الثورات القديمة والمعاصرة (1)
-
العلاقة بين الترجمة والتمثيل
-
مفهوم الميثاق في سورة المائدة
-
مفهوم الفتح في سورة الفتح
-
التعرّف لا التعارف
-
دوافع التطرف في العصر الحديث
-
البهائية ونشأت العقائد الدينية
-
كيف تنشأ العقائد الدينية (الشيعة نموذجا)
-
خلق لكم من أنفسكم أزواجا
-
في الجنة زواج لا نكاح
-
الفرق بين النكاح والزواج في القرآن
-
مثنى وثلاث ورباع..
-
التشات والمسنجر والفيسبوك
-
ميرزا غلام أحمد (1)
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|