أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - إنهيار النظام الرأسمالي حقيقة لا تحتمل الشك















المزيد.....


إنهيار النظام الرأسمالي حقيقة لا تحتمل الشك


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 3924 - 2012 / 11 / 27 - 18:47
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


إنهيار النظام الرأسمالي حقيقة لا تحتمل الشك

منذ أكثر من عشرين عاماً وأنا أصرخ بأعلى صوت مؤكداً انهيار النظام الرأسمالي، لكن أحداً من أنصاف الماركسيين والمحللين السياسيين والاقتصاديين البورجوازيين لا يرى ما أرى ويصرّ على ضلالته باعتبار أن النظام الرأسمالي ما زال قائماً ولم ينهر، وهو بذلك يسمم المناخ الفكري العام بمعتقدات سخيفة بالية. ماذا أقول كي يدرك هؤلاء القوم الضّالون أن النظام الرأسمالي كان قد انهار قبل أربعين عاماً ؟ ماذا أقول بعد أن قدمت عشرات الظواهر والأدلة التي تؤكد انهياره ؟ وفي النهاية يبرز أحدهم ليدعي بأن الذين يقولون بانهيار النظام الرأسمالي إنما هم خياليون يتحدثون الحديث الرغبوي. قول كهذا يشكل طعنة قاتلة لماركسي يعتبر البطل الأسطوري " أخيل " مثاله في النضال، إذاما ارتفعت قدماه عن الأرض فقد كل قوته ـ ليس هناك من يدّعي الواقعية أمام ماركس. وبعيداً عن هذا فلو خُيِّر الماركسي المكين بين النظام الرأسمالي والنظام الحالي القائم في الأرض وهو ما يسمى مجازاً الإقتصاد الإستهلاكي (Consumerism) المعاكس تماماً للاقتصاد الرأسمالي لاختار دون تردد الرأسمالي وذلك لأنه الأم الوحيدة التي تحمل بالشيوعية بعكس الإستهلاكي الذي يدمر كل مدخل للشيوعية ويسد طريق تقدم الإنسانية بل ويعيدها إلى أصولها الحيوانية الأولى. لكن لأسفي البالغ ولسوء حظ البشرية جمعاء فقد لفظت هذه الأم الخصيبة أنفاسها قبل أربعة عقود أو أكثر ومات جنين الشيوعية في رحمها قبل أن يولد فلم تعد الحياة الشيوعية هي الصفحة التالية في سجل التاريخ ـ فهل تفلح الإنسانية في استنساخ الشيوعية من الجنين الميت في رحم النظام الرأسمالي المتوفى ؟

تواجه الإنسانية خلال العقود الثلاثة الأخيرة مأزقاً حديّاً وفاصلاً في مسألة إدراك الحدود النهائية للنظام الرأسمالي، مسألة فارزة ما بين التقدمي والرجعي. فالسياسة وهي أدب الصراع الطبقي (Literature of Class Struggle) لا تكون إلا أدباً مثالياً معزولاً وفاسداً عندما لا تكون هي البناء الفوقي للبنية التحتية. جحافل اليساريين وأنصاف الماركسيين يدبجون خطاباتهم في مقاومة الرأسمالية والإمبريالية بعد أن لم يكن هناك لا رأسمالية ولا إمبريالية. وحين لا يكون هناك لا رأسمالية ولا إمبريالية لا يكون هناك بالمقابل مشاعر ومشاريع وطنية وهي التي اتسمت في البلدان العربية بصورة خاصة بالحركة القومية وما رافقها باسم الفكر القومي، ولا يكون الشيوعيون الذين تحولوا إلى وطنيين بسبب إفلاسهم الفكري وكذلك الوطنيون والقوميون بالتالي إلا كمن يقبض الريح. ليس مثل هؤلاء الذين ما زالوا يخطبون اليوم خطابات وطنية سوى النسخة المكررة لدونكيشوت الذي امتطى حصانه وحمل رمحة ليعمل عمل الفرسان بعد أن انقضى عهد الفروسية ولم يعد الناس بحاجة لها، فما كان منه غير مقاتلة طواحين الهواء، أو مثل طفل رضيع يبكي بشدة رافضاً الفطام. لذلك لن أتوقف عن الصراخ عالياً منبهاً شيوعيي الأطراف بشكل خاص والقوميين والوطنيين خلفهم إلى أنه لم يعد هناك في العالم نظام رأسمالي لا بشكله الإمبريالي ولا بشكله ما قبل الامبريالي. أنبه هؤلاء الأقوام إلى أنهم لا يضيّعون جهودهم فيما لا نفع فيه فقط ، بل انهم أيضاً يقومون بتضليل شعوبهم وأخذها إلى أماكن أخرى هي التيه بعينه، فيما هم يظنون أنهم يخدمون شعوبهم ويدافعون عنها. أما لماذا لم ينهر البناء الفوقي حال انهيار النظام الرأسمالي فما ذلك إلا بسبب تخلف وسائل الانتاج في البلدان الأطراف من جهة، وانهيار طبقة البورجوازية الدينامية ومشروعها التنموي من جهة ثانية وقد أدّي كلاهما إلى تخلف الخطاب السياسي؛ وهناك من جهة ثالثة حقيقة أخرى تقحّمت التاريخ من خارجه ولعبت دوراً هاماً في تخلف الخطاب السياسي ألا وهي تبوء البورجوازية الوضيعة للسلطة الأمر الذي هو مخالف لمنطق التاريخ، فالسلطة هي دائماً من حق أرباب الإنتاج والبورجوازية الوضيعة ليست من هؤلاء على الإطلاق. أن يبرز نقيض للطبقات المنتجة من خارج عملية الإنتاج من شأنه أن يعكس بناءً فوقياً مشوها كما هو خطاب اليوم في عامة البلدان العربية. لقد تشوَّهَ هيكل المجتمع بارتقاء البورجوازية الوضيعة سدة السلطة فانحرف لذلك البناء الفوقي الرأسمالي إلى التشوّه عوضاً عن استبداله. النظام الماثل اليوم في العالم ليس نظاما اجتماعياً مستقراً ولذلك ما زال العالم يحمل اليوم البنية الفوقية الرأسمالية وقد تشوهت. كل ذلك يجب ألا ينسينا حقيقة ظلت قائمة دون انقطاع وهي أن توالي البنى الفوقية لا يتزامن تماماً مع توالي أنظمة الإنتاج عبر التاريخ حيث يموت البناء التحتي بينما بناؤه الفوقي يظل يجرجر أذيال الهزيمة لفترة أطول وهذه البنية المتخلفة دائماً هي ذخر الرجعيين وسلاحهم وهي دون شك كانت السبب في الرجوع عن الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي. وفي أزمة العالم الماثلة اليوم يظل البناء الفوقي الرأسمالي يراوح مكانه حيث أن العالم لم ينتقل إلى نظام إنتاج جديد مستقر قابل للحياة بل إلى نظام استهلاك غير مستقر وغير قابل للحياة وهو لذلك لا يمتلك بناء فوقيا متكاملاً على الإطلاق.

لما كانت السياسة هي أدب الصراع الطبقي فلن تكون إلا قبض الريح حينما لا تعنَى وتتموضع في الصراع الطبقي في المجتمع المعني. في البلدان الأطراف لمراكز الرأسمالية الإمبريالية كانت الطبقات الاجتماعية المختلفة، البورجوازية الدينامية والعمال والبورجوازية الوضيعة ومنها الفلاحون، تتراص في حلف واحد من أجل الاستقلال وفك ارتباط البلد الطرف بالمركز الامبريالي. لقد ساهمت حركة التحرر الوطني العالمية 1946 ـ 1972 مساهمة رئيسية وفعالة بتفكيك النظام الرأسمالي العالمي بالإعتماد دائماً على الثورة الاشتراكية العالمية ومركزها موسكو. الرأسمالية العالمية أسلمت الروح في سبعينيات القرن الماضي. الحركة الآلية التي يقتضيها تفكيك الرأسمالية الإمبريالية واندثارها هو تفكك التحالف الطبقي في البلدان الأطراف المستقلة في التو، وهو ما يقتضي بدوره تغييراً كليّاً للخطاب السياسي لمختلف طبقات التحالف الوطني ليكون لكل طبقة خطابها الخاص بها المعبّر عن مصالحها المناقضة لمصالح الطبقات الأخرى. مثل هذا التفكيك لم يحدث آلياً ولم يحدث حتى بعد انقضاء أربعين عاماً. السبب الرئيسي وربما الوحيد في ذلك هو تخلف وسائل الإنتاج لا سيما بعد انهيار الطبقة البورجوازية الدينامية التي ما كانت لتتطور بالطبع إلا اعتماداً على المعسكر الاشتراكي الذي كان قد بدأ بالتراجع والتفكك مع وصول خروشتشوف إلى مركز القيادة. قد يتبادر إلى الأذهان أن التأخير في تفكك التحالف الطبقي في البلدان الطرفية المستقلة لآربعة عقود إنما هو بسبب الأهوال التي تحملتها حركة التحرر الوطني في مواجهتها للإمبريالية، لكن ذلك ليس صحيحاً حيث أنها لم تعان كثيراً في معاركها باستثناء فيتنام التي واجهت منفردة حصن الامبريالية الأخير، الولايات المتحدة، وألحقت به هزيمة ساحقة. قامت ثورة التحرر الوطني استكمالاً للثورة الاشتراكية وكلتاهما استهدفت تفكيك الرأسمالية الإمبريالية وهو ما نجحتا فيه أيما نجاح.

يشاغلنا الاقتصاديون البورجوازيون ومعهم الذين استنكفوا من العمل الشيوعي، يشاغلوننا بأن النظام الرأسالي عمل على تطوير أدوات الإنتاج باستخدام التقنيات الرفيعة واستغنى بذلك عن معظم قوى العمل البشري فانخفضت كلفة الأجور وزاد الانتاج بالمقابل فكانت النتيجة تلاشي التناقض الرئيس في النظام الرأسمالي بين قوى الانتاج وعلاقات الإنتاج وهو التناقض الذي احتسبه كارل ماركس العامل الأول في انهيار النظام الرأسمالي خاصة وأن الإستغناء عن الكثير من قوى العمل سمح بزيادة أجور العمال إلى حدودها القصوى وتحسين شروط العمل.
المؤسف حقاً أنه ما زال لدينا مثل هؤلاء الإقتصاديين البورجوازيين الذين يفتقرون لأوليّات علم الإقتصاد. فهذا الذي يسندون إليه تعافي النظام الرأسمالي من تناقضاته ويطيل في عمره هو بالتحديد ما عزا إليه كارل ماركس انهيار النظام الرأسمالي إذا ما عبر إلى الشيخوخة. زيادة الإنتاج من جهة وتقليص الحجم الكلي للأجور بسبب الإعتماد على التقنية من جهة ثانية من شأنهما أن يزيدا في فائض الإنتاج الأمر الذي يقتضي توسيع الأسواق وتعميقها. لكننا رأينا خلافاً لذلك محيطات مراكز الرأسمالية فيما بعد الحرب العالمية الثانية تنفك مستقلة 1946 ـ 1972 لتعلن الشروع ببناء اقتصاد وطني مستقل لا يقبل استقبال فائض الإنتاج من أي مركز رأسمالي. زيادة الإنتاج بسبب التقنية الرفيعة في أدوات الإنتاج من جهة، وهبوط القدرة الشرائية للشعب في المركز المتروبول بعد الاستغناء عن معظم العمال بسبب التقنية الرفيعة أيضاً من جهة ثانية، وفقدان الأسواق الخارجية بسبب حركة التحرر الوطني من جهة ثالثة، كل ذلك أدى إلى اختناق النظام الرأسمالي وانهياره مع بداية سبعينيات القرن الماضي. أزمة النظام الرأسمالي الدورية التي عزا إليها ماركس انهيار النظام يجسدها كليّاً فائض الانتاج الناجم أصلاً عن الفرق بين المجموع الكلي للأجور والمجموع الكلي لقيمة إنتاج العمال. وهكذا فإن حكاية التقنية الرفيعة التي احتسبها الإقتصاديون البورجوازيون الدواء الشافي لأزمة النظام الرأسمالي هي في الحقيقة عكس ما احتسبها هؤلاء البورجوازيون حيث أنها فاقمت من أزمة النظام واستعجلت انهياره. ثم كيف يتوافق الزعم بزيادة الانتاج بواسطة التقنية الرفيعة مع الحقيقة الماثلة في مراكز الرأسمالية الكلاسيكية وهي أن نظام الإنتاج فيها يقصر عن تلبية احتياجات الشعب مما يضطرها إلى الاستيراد الكثيف والاستدانة ؟ كيف لبلد ينتج كثيرا ويستدين كثيراً ؟

ومن غريب القول أيضاً لدى الإقتصاديين البورجوازيين والمستنكفين من العمل الشيوعي كذلك هو ادعاؤهم الفجّ بأن العولمة أضافت للرأسمالية عمراً جديداً !! لكن لماذا بحثت الرأسمالية عن عمر جديد في الأطراف دون المركز ؟ هل كان ذلك بسبب إنتهاء عمرها في مواطنها الأصلية كما هو في الواقع ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا انتهى عمرها هناك ؟ هل لدى هؤلاء العولميين المبهورين بالنظام الرأسمالي أجوبة على هذه الأسئلة تبريراً لادعائهم شديد الفجاجة ؟
ثم كيف يبرر هؤلاء العولميون نزوح الشركات الرأسمالية من مراكزها إلى الأطراف طالما أنهم لا يعترفون بانتهاء عمرها في المراكز ؟ لضرب من ضروب فجاجة دعواهم يزعمون أن سبب النزوح من المراكز إلى الأطراف هو أجور العمال الرخيصة !! لكن أجور العمال في الأطراف كانت أكثر رخصاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ومع ذلك لم تأتِ الشركات الرأسمالية لاستغلالهم إلا في السبعينيات والثمانينيات !؟ وبافتراض أن مثل هذه المزاعم لها نصيب من الصحة فكيف ستتخلص متل هذه الشركات من فائض الإنتاج المتحقق في الأطراف بعد أن تضاعف بسبب الأجور الرخيصة من جهة والقدرة الشرائية الضعيفة أصلاً لدى الشعب هناك ؟ هل يجوز أن نفترض الصين مركزاً رأسمالياً والولايات المتحدة طرفاً يمتص فائض الإنتاج الصيني ؟ ورغم أن هذا الإفتراض ينطوي على موافقة على انهيار النظام الرأسمالي في قلعته الأولى والرئيسة في العالم إلا أننا نتجاوز ذلك لنسأل كيف تستطيع الولايات المتحدة أن تشتري فائض الإنتاج الصيني (400 مليار دولاراً) بعد أن رحلت منها الشركات الرأسمالية وبات أكثر من 60% من عمال الولايات المتحدة بلا عمل !؟
قد يجيب البعض على هذا السؤال بالقول أن عمال أميركا لم يقعدوا بلا عمل بعد رحيل الشركات الرأسمالية من بلادهم بل تحولوا من إنتاج السلع إلى إنتاج الخدمات. مثل هذا البعض يدلل على فقر مدقع في علوم الاقتصاد. فالخدمات بجميع أشكالها تستهلك القيمة ولا تنتجها. الجيوش الأميركية وعديدها مئات ألوف الرجال تنفق سنوياً مئات المليارات من الدولارات، فماذا تنتج في نهاية العام ؟ لا شيء، لاشيء على الإطلاق، بل تقوم بإبادة قيم ماثلة تتجاوز كل تقييم إذاما نشطت خارج الحدود. الطائرة التي تنقل المسافرين من القاهرة إلى نيويورك مثلاً وتستهلك عشرات ألوف الدولارات من وقود وساعات عمل ، فأية قيمة أضافت الرحلة للمسافر بعد وصوله ؟ لاشيء، لاشيء على الإطلاق. الطبيب الجراح الذي يجري عملية جراحية للمريض خلال ساعتين ويتقاضى مقابل ذلك آلاف الدولارات، فأية قيمة أضافها للمريض ؟ لاشيء، لاشيء على الإطلاق، ولذلك يتم إدراجها في باب الأعمال الإنسانية، خليك عن أن 50% من الخدمات الطبية تقتصر على إطالة عمر المتقاعدين وهو ما يثقل على مجمل الإنتاج القومي دون مقابل. الإقتصاد الرأسمالي المزدهر كان يحد من إنتاج الخدمات إلى حدوده الدنيا لأن كل زيادة في إنتاج الخدمات تثقل على دورة الإنتاج الرأسمالي في السوق فالمتسوق يبغي البضاعة التي تختزن كامل القيمة الاستعمالية ولا يريد الخدمات المحملة عليها، يدفع ثمنها ولا يستعملها على الإطلاق. ما يتوجب الوقوف عنده بتفكر فطين هو أن الخدمة لا يتم إنتاجها إلا بعد استهلاكها التام وهي لذلك لا تصل السوق ولا تمتلك أية قيمة تبادلية. الخدمات بكل أشكالها ليست منتوجاً رأسمالياً ولا تخلق قيمة أو أية ثروة. وما يجدر إضافته في هذا السياق هو أن كل توسع في إنتاج الخدمات بما هو ليس ضرورياً لعملية الإنتاج إنما يتم لحساب زيادة رفاهية الطبقة العليا على حساب الطبقة العاملة وبأشكال متعددة.

قبل أكثر من عشرين عاماً كان مجمل الإنتاج القومي للولايات المتحدة يندرج في الأبواب الثلاث التالية .. 80% خدمات، 17.5% صناعة و 2.5% زراعة. اليوم لا بد أن تكون حصة الخدمات تزيد على 80%. هذا يعني بصورة آلية أن قيمة الدولار الحقيقية هي 20 سنتاً فقط وأن قيمة البضائع الأميركية هي في الحقيقة خمس قيمتها التبادلية المعلنة، وأن ثمانية دولارات من كل عشر دولارات من أجور العامل عديمة القدرة الشرائية. مثل هذه الصورة الإجمالية للإقتصاد الأميركي لا تسمح لكل من لديه علم بأوّليات علم الإقتصاد أن يتعرّف على الاقتصاد الأميركي بأنه اقتصاد رأسمالي. الجداول الدولية تعلن أن مجمل الإنتاج القومي السنوي للولايات المتحدة هو 13 ترليون دولاراً. لعل الدلالة الصحيحة في هذا المبلغ هي أن قوى العمل في أميركا تبذل طاقة كلفة إنتاجها تبلغ 13 ترليوناً دولاراً لكن 80% من هذه الطاقة تبذل في إنتاج الخدمات دون أن تنتج دولاراً واحداً وبذلك يكون مجمل الإنتاج القومي السنوي للولايات المتحدة حقيقة هو 2.6 ترليون فقط وليس 13 كما في الإعلان . وهذا فقط ما يفسر ديون أميركا الخارجية الفلكية وقد بلغت حتى اليوم 17.5 ترليون دولاراً والعجز السنوي في ميزان المدفوعات وهو يناهز الترليون دولاراً، ناهيك عن الديون الداخلية التي تكون عادة ضعف الديون الخارجية.

الإقتصاد الرأسمالي يقوم أساساً على الإتجار بقوى العمل (Labour Power). يشتري الرأسمالي العمل بقيمة معينة ويبيعها مختزتة في سلعة ذات قيمة استعمالية بقيمة تزيد على قيمة الشراء ويحقق بذلك القيمة الزائدة (Surplus Value) التي تمثل ربح الرأسمالي وتمكنه بالتالي من مراكمة النقود التي هي الهدف الأخير للرأسمالي ولنظام الإنتاج الرأسمالي. أما عندما يتحقق الرأسمالي من أن النقود قد غدت نقوداً زائفة لا غطاء لها، كما هي اليوم، فما الذي يستدعيه لأن يستمر في الاتجار بقوى العمل !؟ لماذا يستمر راكضاً وراء نقود زائفة !؟ بانتفاء الهدف ينتفي العمل.
في خمسينيات القرن الماضي كان موضوع المتاجرة للرأسماليين في الولايات المتحدة هو قوى عمل 75 مليون عاملاً. اليوم هناك فقط 32 مليوناً وهو ما يعني أن 60% من الإنتاج الرأسمالي قد تلاشى؛ يضاف إلى ذلك تدني فائض القيمة نتيجة لارتفاع مستوى المعيشة العام وزيادة استهلاك الخدمات حيث الأرباح التي تجنى من 32 مليون عامل حالياً لا تعادل أكثر من الأرباح التي كانت تجنى من 16 مليوناً أو نحو ذلك في خمسينيات القرن الماضي؛ زد على ذلك ميل معدل الربح إلى الهبوط بسبب تطور وتحديث أدوات الإنتاج. كل هذا شروط مستجدة حالت دون الاستمرار في الإنتاج بالأسلوب الرأسمالي؛ فكان أن تحولت معظم قوى العمل إلى إنتاج الخدمات اللارأسمالي حيث أنه إنتاج فردي بورجوازي يستهلك الثروة ولا ينتجها؛ يتحقق وتتم مبادلته خارج السوق وهو لا يدور دورة الإنتاج الرأسمالي (نقد ـ بضاعة ـ نقد)، وإنتاج الخدمات لا يبدأ بالنقد مثل الإنتاج الرأسمالي إذ يتم إنتاج الخدمة بدون نقد، بدون أدوات إنتاج بصورة عامة وبدون مواد خام. وطالما أن قوى العمل المبذولة في إنتاج الخدمات لا تُختزن في جسم مستقل ذي قيمة استعمالية، فالمتاجرة بقوى عمل منتجي الخدمات تغدو مستحيلة إذاك وهي بالتالي لا تحقق فائض قيمة. إنتاج الخدمات لا يقع داخل دائرة الإنتاج الرأسمالي؛ فإذا كان الثاني يسبب الإغتناء فإن الأول يسبب الإفقار. ولذلك نرى اليوم مراكز الرأسمالية الغنية سابقا قد باتت هي الأسرع فقراً والأعلى مديونية بعد أن تحولت إلى إنتاح الخدمات.

في تقسيم العمل الإجتماعي يعود إنتاج الخدمات إلى الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازية الوضيعة. الفراغ الذي تركه انهيار النظام الرأسمالي مع بداية السبعينيات لم يجد من يملؤه غير طبقة البورجوازية الوضيعة علماً بأن ذلك مخالف لمنطق التاريخ حيث أن طبقة البورجوازية الوضيعة لا تزود المجتمع إلا بالفقر، وهي طبقة اجتماعية تواجدت منذ فجر التاريخ لكن لم يحدث أنها قفزت إلى رأس السلطة، غير أن الإنقلاب ضد الاشتراكية الذي قام به العسكر بالتعاون مع المنحرف خروشتشوف في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي سمح بمعاكسة التاريخ وتولي البورجوازية الوضيعة سنام الدولة إن في الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي وإن في الدول الرأسمالية. دولة البورجوازية الوضيعة التي حلت محل الدولة الرأسمالية هي دولة الرفاه (Welfare State). دستور هذه الدولة، دولة البورجوازية الوضيعة، هو الديموقراطية وحقوق الإنسان والرفاهية. لكن البورجوازية الوضيعة لا تقدم للمجتمع سوى الخدمات التي لا تحقق أي شرط من شروط دستورها. إنتاج العمال الرأسمالي فقط هو ما يميل إلى تحقيق مثل هذه الشروط، وعليه بدأت حكومات الرفاه تفرض ضرائب باهظة وأتاوات تعسفية على الشركات الرأسمالية مما يساعدها على تحقيق ظلالاً لدستورها. في ظل دولة الرفاه تنعدم كل شروط الإنتاج الرأسمالي وتنشط شروط "الإقتصاد" الاستهلاكي. تحت هذه الشروط، شروط دولة البورجوازية الوضيعة دولة الرفاه، تنعدم سبل البقاء أمام الشركات الرأسمالية في مراكز الرأسمالية سوى الرحيل والنزوح إلى الأطراف. وهكذا تشكلت ظاهرة العولمة على كره من البورجوازية الوضيعة التي ترغب في بقاء الشركات الرأسمالية تعمل حيث، في مراكزها الكلاسيكية، هي فقط التي تزود موازنات دولة الرفاه المتعاظمة بالأموال، وعلى كرهٍ أيضاً من الاشتراكيين الذين يرغبون بالطبع أن تموت الشركات الرأسمالية على أرضها في مراكزها.

وأخيراً، فإن الذين ما زالوا يؤمنون بأن النظام الرأسمالي ما زال قائماً في العالم يترتب عليهم إثبات النقاط التالية ....
1) أن الإقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاستهلاكي يمكن لهما أن يتعايشا جنباً إلى جنب.
2) أن الخدمات هي أيضاً منتوج رأسمالي وذات قيمة تبادلية.
3) أن الرأسمالي يقبل أن يتحقق هدفه في مراكمة النقود بنقود زائفة قيمتها الفعلية أقل من نصف قيمتها الإسمية.
4) أن النقد ثابت القيمة ولا يخضع لشروط السوق كما قضى قرار رامبوييه يمكن أن يدور دورة الانتاج الرأسمالي (نقد ـ بضاعة ـ نقد).
5) أن الأطراف يمكن أن تنقلب إلى مراكز رأسمالية حال انتقال الشركات الرأسمالية إليها.
6) أن فائض الإنتاج المتعاظم في الأطراف تمتصه مراكز الرأسمالية التي انقلبت إلى أطراف تستورد فوائض الإنتاج دون توقف.
7) وأخيراً وليس آخراً أن ثمة نظاماً رأسمالياً لا ينتج كفاية شعبه فيقع تحت طائلة المديونية المتفاقمة التي تهدده بالإفلاس والانهيار.

من لا يستطيع أن يثبت بندين أو ثلاثة بنود من هذه البنود السبعة عليه أن يلوذ بالصمت بعدئذٍ ولا يعود يكتب بالاستناد إلى نظام رأسمالي لم يعد موجودا في العالم كله.

www.fuadnimri.yolasite.com



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل (9)
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل (8)
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل (7)
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل (6)
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل (5)
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل (4)
- حقيقة الوضع في سوريا
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل (3)
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل (2)
- الممر المحكم الإغلاق إلى المستقبل
- أنصاف الماركسيين ومتثاقفو البورجوازية الوضيعة .. !
- الصهيونية نبتة جذورها الخيانة
- بطلان العمل السياسي
- عَالَمية الثورة الإشتراكية وعِلم الثورة
- لا حرية مع العمل المأجور - بشرى الحرية لنساء العالم -
- الشيوعيون المرتدون
- ونستون تشيرتشل يفضح مجندي البورجوازية الوضيعة
- الأميّة في السياسة
- المتغيرات في تركيبة الطبقة العاملة ودورها
- ماذا علّمنا ستالين ؟


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - إنهيار النظام الرأسمالي حقيقة لا تحتمل الشك