|
الفرديةُ الحرةُ المفقودة
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 3890 - 2012 / 10 / 24 - 10:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نشوء الفكر الاشتراكي اعتمد على كونه الموضوعي الوحيد، لأنه يكشف أساس الوجود الاجتماعي المتناقض من خلال حياة طبقة لا مصلحة لها في تزييف الواقع وتغييب سببيات الوجود. وهو شيء عام صحيح في القرن التاسع عشر حين كان المثقف النقدي الريادي الحر يدرس بعمق الوجود، فالتاريخ بتناقضاته لم يكن يُفهم بشكل موضوعي. جاء هذا الفكر من أجل أن تزدهر الذاتية العقلانية المتجددة لا أن تتشيأ رأسمالياً وتذوب. وكانت الطبقة الرأسمالية ذاتها قد اعتمدت على أن الفردية هي بؤرة المجتمع، الفردية المتفتحة المزدهرة بالحياة والانتاج. لكن الأفراد صاروا غباراً في الأنظمة، والفلسفات في الغرب المعبرة عن حراك الطبقة الوسطى حاضنة الفردية ركزت على دعم الفردية وحصرها في أناها الأناني أو المنقطع عن الآخرين، منذ أن سخر مؤسس الوجودية كيريغارد من هيغل وعقلانيته الطاوسيية المعلقة في السماء وأساطير المطلق. الوجودية وتيارات الحياة ركزت على هذه الفردية المسحوقة حتى توارت هذه الفلسفات وظهرت الفلسفاتُ الوضعيةُ المركزة على الأفكار والدرس خارج الذات المحروقة. نمو الأنظمة الشمولية الكبرى في القرن العشرين حوّلَ البشر إلى فتاتٍ، إلى كائناتٍ مسحوقة، إلى مجردِ أدواتٍ للمصانع والدوائر وإلى طعامٍ للدول. الاشتراكية والرأسمالية في القرن العشرين هما مجتمعا الاستعمار الشرقي والغربي. في (الاشتراكية) الشرقية يتم إبقاء استعمار الشعوب التي تمت السيطرة عليها كما في مرحلة القيصرية الاستعمارية أو الصينية أو الصربية أو كما سيجري لاحقاً من انفكاكاتٍ مروعة ، وفي الغرب يتم استعمار بقية العالم. رأسماليات الشرق الشمولية في روسيا والصين وإيران وإسرائيل تعني السيطرة على الشعوب والأمم التابعة داخل سيطراتها القديمة. عالم القرن العشرين هو العالم الذي ساد فيه الاستعمار لكل خلية جغرافية، لم يبق مكانٌ خارجَ السيطرة. فلسفات الغرب حاولت أن تركز في حقبةٍ كبيرة من كيريغارد حتى سارتر بأن تخلق له مكانة حرة، أن تمنع السيطرات الخارجية الهائلة أن تصل لنفسه وروحه. لكن هذه الحريات كانت صغيرة في ظل آلة الرأسمالية الشاملة التي حسب شهيتها الهائلة للأسواق والرساميل كانت تنتجُ الحروبَ أكثر الظاهرات تدميراً للبشر وفتحاً للأسواق. الرجلُ الذي وجدَ نفسه خنفساء عند كافكا هو ثنائيةُ الوجود في عالم رأسمالي كابوسي. العالم الاشتراكي الوطني الذي هو رأسمالية شرقية شمولية سحقَ الشعوبَ بقسوة شديدة كذلك، آلات القوميات العتيقة الإقطاعية الملتهمة للقوميات الأخرى والأديان محت وجود الفرد المستقل. الاقتصادياتُ المرفوعةُ لمستوى المحارق المقدسةِ التهمتْ الملايين بدون أي نأمةٍ ذاتية بارزة، لم تتح لها حتى أن تكون خنفساء كافكاوية. ثورات التحرر الوطنية كان يمكن أن تشعلَ قناديل للفرديةٍ الخلاقة، لولا أن رأسماليات الدول التي هيمنت على الاقتصاديات واصلت تحويل الإنسان لحشرة، فحروبُ الصراعاتِ الطبقية ضد المختلفين حطمت الكثير من الشُعلِ الذاتية للأفراد فأما أن يزولوا وأما أن يظلوا أصفاراً. لا تريد الأنظمة الاستغلالية سوى البشر النسخ، البشر الذائبين في السلع، البراغي المستعدة للقتل والتحول لفراشاتٍ صفراء في النصوص الميتة، وبكسرِ آلات الحفر الفكرية، ونشر الأقنعة، والدمى والأساتذة المقطوعي اللسان. لم تصنع الاشتراكية الوطنية الدينية والدول القومية الكلية ذات الكائنات المحبوسة الملغاة من تواريخها ولغاتها وأحلامها، سوى أن تكون الأشكال الجماعية البوليسية سواءً عبر وعي أو دين كرنفالي احتفالي يتم فيه إعداد المواطنين للقتل، وللانصهار في رموز الدم، وليكونوا عيوناً تحدقُ في كلِ نأمةِ تغيير من فرد، وتُشهرُ بالمختلفِ الحر، وتعتقلُ الأرحامَ عن الولادات، وتحرق ما يشذ عن النسخ. القادمون الجدد لمعابد البضائع والرساميل المعبودة يحرقون البخور البشري لترضى بنوك الدم، ويتحول البشرُ لرمال، وذرات في أجهزة، ودخان في الزمن. القرن العشرون كان زمن توسع وظهور الرأسماليتين الكبريين الغربية والشرقية وحروبهما المتعددة الأشكال، ربما وصل القتلى لمائتي مليون قتيل، هذا كان غباراً بشرياً كلياً، أما اندماجهما وتحولهما لرأسماليةٍ كونية واحدة وفتح آخر قلاع رأسماليات الدول والجماعات الشمولية المغلقة في القرن الواحد والعشرين فأمامه حروب وأسلحة نووية وجرثومية فكم سوف يكون عدد القتلى والبشر مشغولون بالدفاع عن شبكاتها العنكبوتية التي تساقطوا فيها كالذباب؟ (كم وصل عددُ القتلى الآن في سوريا؟). تظل في الغرب مساحاتٌ كبيرةٌ للفرد لكون ثمة نضالات كبيرة وكثيرة خلال قرون موجهة من أجل الفرد المحدد العياني الملموس، لا الجموع المجردة فقط. لكن في الشرق الأمر مختلف، ثمة تاريخٌ هائل من نفي الأفراد وإزالة الفردية الخصبة وتوسيع الجموع القطعان. وهؤلاء من السهل أن يلغوا ذواتهم ويسحقوا الآخرين. إنهم مثل بطل المسرحي أبسن (برغونت) الذي يقشرُ بصلةً ولا يصلُ للبِ أبداً، وربما كان الأمر أسوأ في الإنسان المعاصر الذي كلما نزع قشراً انفجر في وجهه.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المحور الإيراني - السوري يطحن بعنف
-
الماوية وولاية الفقيهِ (2-2)
-
الماويةُ وولايةُ الفقيهِ (1-2)
-
قوى توحيديةٌ بين المعسكرين
-
تجاوزُ التطرفِ المحافظ
-
الأزماتُ والتحولاتُ
-
التوحيدُ والتطورُ السياسي (2- 2)
-
التوحيدُ والتطورُ السياسي
-
سذاجةٌ سياسيةٌ
-
البيروقراطية والديمقراطية
-
انتهى زمنُ العمالِ الآليين
-
كيف تلاشتْ النصوصُ الحكيمة؟
-
صراعٌ طائفيٌّ متخلفٌ
-
الإخوانُ والرأسمالية الحرة
-
الطائفية وتدهور الثقافة
-
صراعٌ طائفي إقليمي
-
التطورُ الاقتصادي السياسي في الخليج
-
الأجهزة والتجارة
-
العسكرُ والقومية
-
ولايةُ الفقيهِ والقاعدة (٢-٢)
المزيد.....
-
مرح ومحبوب.. قابلوا -داكي- أحد -أكثر البطاريق شعبية في العال
...
-
مطابخ غزة تحذر من نفاد الطعام خلال أيام بعد شهرين من الحصار
...
-
أكبر لوحة قماشية في العالم... فتى نيجيري مصاب بالتوحد يدخل م
...
-
معاناة الصحافيين في غزة: بين نيران الحرب وواجب نقل الحقيقة
-
تصنيف حزب البديل الألماني -يمينيًا متطرفا- - الأسباب والعواق
...
-
عناصر تزيد من دهون البطن مع التقدم في العمر .. ثلاث طرق للوق
...
-
مسؤول استخباراتي أمريكي سابق: إدارة بايدن أعطت كييف السلاح ل
...
-
إصابات جراء هجوم مسيرات أوكرانية على نوفوروسيسك جنوب روسيا
-
بوليانسكي: العلاقات التجارية الروسية الأمريكية تراجعت إلى مس
...
-
مقتل 6 أشخاص وإصابة العشرات بسبب التدافع في مهرجان ديني غرب
...
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|