أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - التيه بين عشق الوطن وحوار المنفى















المزيد.....


التيه بين عشق الوطن وحوار المنفى


جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)


الحوار المتمدن-العدد: 3756 - 2012 / 6 / 12 - 03:06
المحور: الادب والفن
    


قراءة في "التيه بين تنهيدتين"
المجموعة الشعرية الأولى
للشاعرة فاطمة الفلاحي
الفلاحي، شاعرة تباينت فنيتها من زاوية مفهومها للرؤية البصرية العميقة، التي لامست مسامات النبض الداخلي في قصيدة النثر، من واعز طراز مركب باللفظ المشترك والمغذي لسلطنة تمام الإيقاع، الذي يتناص مع الإيقاع السمعي في القصيدة الحرة، بمعالجات فنية جديدة أعتمدت النِسَبْ التوليدية، أنه الانسجام في تحديث فكرة العبارة المحصلة وورودها من مقدار النسبة العضوية، وما ينمو فيها بحساب التفاعل الحسي التكاثري، من تواترية إنتاجية تتجذر في المخيال المعنوي، من ايحاء يلقن الذاكرة من مشكاتها الروحية، التي تضئ وحدة لونية مغايرة في ظنون أحكامها، المجسدة لحيرتها بين "أنا الشاعرة"، "إنتاج العائلة المثقفة" ومحيط أجناس أغراب قادمين بالموت، فنجد الضحية "العرق الأصيل" لا يعرف يلوم من؟ غير مواساة مأساوية النفس للنفس، التي أصبحت تصطخب في ديدان مناشدات عاجزة عن حل، وإن جاء النداء مؤلماً، يمكن أن يرمز له بعلياء البلاء الذي لا تغضبه حمية. والشاعرة تتلمس عذابات محيطها فتشتكي منه بالتداعي، وهي العارفة بأنها تمتلك أدوات الحوار الإنساني، ومع هذا نجدها توقع الحوار بالتشبيه التفسيري، لعلها تحتكم إلى ثنائية علاقة الفرد النوعي، بالمركب الدموي الدخيل الذي لا يجمعه رأي يجعله يؤمن بالآخر. والشاعرة تجمع رأيها بين التمني المسالم، وبين الحريق التراجيدي، وإن أشرت عليه الشاعرة بالتوظيف الذي يخدع، كما لو أن ماهية الكلام تنظر في صيّغ المعانى كيف تختلف في وعيها ودلالاتها.
الذي يدهشني فعلا في شاعرية الفلاحي إنها عالجت مقتضيين:
أولا: أحالت العامل السياسي من وروده، وناسجته بالعامل العاطفي معنى بمعنى.
ثانياً: ساقت المعنى الأول إلى ميل المعنى الثاني وخصبته بالملاقحة على جهة التمعن الروحي.
ومن جهة مغايرة زقت فائض القيمة الروحية في مكسب المعادل السياسي، فصارت تخاطب الأب والعم والخال والأخ الذين ضاعوا في غمرة تلك الأحداث قتلى أو عاجزين عن أداء مقضياتهم اليومية، كأنهم عشاق أنهوا فترة العشق تلك ورحلوا، وتركوها تثل وحيدة في ميزان مفتوح على مدى ثقيل، وهي تعلم حق العلم أنه ظلم. فخلقَ هذا الواقعُ ردة فعل معرفي في الذات الحسية عند الشاعرة، لأن مقدار وعيها يتسع لمصبات أختلاف تلك العناصر، التي وجدناها تؤسسس لإبتكارٍ الإيضاح ذات الطراز المختلف مع البنى الإبداعية المعاصرة. ومن أجل هذا الإبتكار المختلف بنوعيته، بأمكاننا أن نتحسس ونتلمس ونشعر بهذا التجانس المجازي العفوي بين الرؤى التجديدية من منظورها الجمالي، وبين المحال الثقيل في الواقعية المعاشة وحالاتها الوضعية الجديدة، الظاهرات منها ومساحة الاختلاف فيها، من منظور أللا تفاعلي المجتمعي، وهذا واضح في مجاز المصطلحات العلمية الفنية من جهة، واللغة في تحريها للدقة في الأسلوب الذي أتخذت منه الشاعرة تحريراً أوسعَ يبحث في الماورائي الميتافيزيقي، ذلك النداء الذي يلامس استقلالية الوعي المنبعث من التسامي المحايد وأفقه الخاص، ولهذا نجد الملمس الحسي يبسط رؤاه الانفعالية على الشكل، من وضوح الملامسات التي نتبينها في توليفاتها، ومن مبعثها الإيحائي نقرأ:
"ترنيمة على شفة الفجر"
في غيمةٍ
تستقي من ثغر السماء
آخر نداءات الارتواء
تستغيث من جدائلها المفعمة
بوحشة الانتظارات.
هذه العواطف الحسية الناطقة يليق بها محتواها من فيها، ومن مبدأ هذه المعالجة ننظر في تأويلها ومنطقها، وأبعادها بصفتها مُثلاً لمفاهيم وأفكار تتحرك في دلالاتها الخاصة. وقد تحددت هذه الصياغة من واعز النداء الداخلي للفظة التي يتعدى نداؤها إلى أكثر من ميل ومقصد، مثلا رأي الشاعرة يقول: "الغيمة تستقي من ثغر السماء" "وثغر السماء" مجاز. لأن الواقع العلمي ينفي وجود سماء، ويقر بوجود فضاء غازي. وهذا تحديث إشكالي قد يفجر نشاطاً نقدياً جدلياً جديد بين النقاد، كالنشاط الذي فجره السياب ونازك في تحريكهما للصدر والعجز في القصيدة العمودية قديمها وحديثها إلى السطر، سواء في النظرية العلمية أو في البنية الفنية، والأخذ به إلى حداثوية أهتمت بميزان حرية المتن. أي أن الفلاحي خلقت أسلوب صراع المفرد بالمركب، وهذا تحصيل يتساوى مع الشمولية الثقافية الإبداعية بكل ما تعنيه معرفتها من تجلٍ في وعيها الفكري الجدلي، الذي يعني تراتيبية المجد الجمعي في الصورة الشعرية، وهي مهارة تصب ذروتها القيمية من لدن جوهرها التعليلي في قواها المجردة، عبر مهارات الوعي في نسب كل على حدة ، وهذا ما يمتاز به الفكر الأسلوبي من تطويع سياق المهارات الخاصة إلى علومها البيانية.
وجدتني وأنا أبحث في التناص الزمني من ظاهر فلسفته المادية التأريخية، وفق بيان توليفي تشاكلت وتوازنت انبعاثاته الإيقاعية والفكرية عند الفلاحي، أجد أن الشاعرية الروحية لأسطورة الألياذة تضرب جذورها في لغة الفلاحي الشعرية، ربما الشاعرة لا تقصد، لكن الوعي الناتج في الوحي الانزياحي ساهم إلى حد بعيد في نضوج بيان التناص، فجعلها تصاحب الموروث التراجيدي البعيد، وتطابقه مع ما حدث في العراق بعد 2003 وقد نسمي هذا تزاوج ثقافات القديم بكل ابعادها ومخيالها النوعي، مع حركية المعاصرة في مفهومها الذاتي الذي ينصب على تحكيم وعي مبهر الدقة، في البحث عن معالجات آتية من أحضان التاريخ، لا يخضع إلى مفهوم التقليد والاستسقاء من الآخر، فقد قلت عن الفلاحي في دراسة سابقة بما يعني إنها "شاعرة تحرك للملمس البصري سريته*" وما زلت أبحث في مقصدي مجدداً: أن الفلاحي شاعرة تتوسع في معجمها الأدبي والمعرفي وهي تسلط الضوء أكثر وأكثر على طريقتها التي تتوسع وتنتشر بإيجابية محكمة، فهي قد عملت على تخصيب الدلالة بمزاجية مرهفة الإيقاع والملمس، وحددت الإبانة الموسيقية المتدفقة من روح السطر الشعري، فأوصلت إنتشار البليغ إلى مكانه الخصيب، الذي يعمل على أحادية الزحاف المؤمل إبداعه من الوظيفية إلى نقاء الموهبة، وبهذا الاسقاط الذي بَنى الآمال على تجديد أكثر إصالة نجده قد ميز الأصل في نوعه، ولذا وجب علينا تسليط الضوء على مجموعتها الشعرية الأولى الصادرة من دار "إبداع" في مصر. "التيه بين تنهيدتين" لأهميتها الفكرية والفنية، كونها تبحث في بنية المادة، بتفريغ معرفي من البدايات الكبرى وحتى نهاياتها المفتوحة على مقصدية تتمتع وحداتها بالجدية والتنويع والإخصاب.
ملاحظاتي ستكون بينة وواضحة، عند قراءتي قصائد هذا الديوان المكتنز بالإضاءة على موضوعاته، وغايتي ملامسة إعادة قراءة تتحكم بالعمق التموجي التشكيلي في صلاحية المعاني ودلالاتها، وبهذا سوف استقصي ملامح عذابات اللفظة وأنسها، وأخذُ توليفها من نائلها، واحرص على أن أتذوق مقدار ما أرتوي بمحاسن طعم تلك النصوص، ولكي لا ينصب تفكيري على التصفيق فقط، وجب أن أظفر في حوار مستقل مع الكلمة، أبتداءً من الحرف وحتى المعنى، بإزاء ما بينته من مواقف سابقة مع سائر النصوص لشاعرات وشعراء، ممن أتخذوا الميل إلى الجدية أو الحدة، ميلاً لا يصنع الشاعرية الأنيقة والشفافة، مع أن أولئك حققوا للقيمة الأدبية عيناَ فاحصة في تألق عالميتها، وهذا هو ديدني أن أكون يقظاً عادلاً عندما أرفع ميزاني النقدي إلى معاقله، فالنقد لا يكون إلا هكذا خالياً من الضغينة والهجو والمديح، وهذا يميل بالناقد إلى الشرف الأعلى، بدءاً من مهابة النفس بالنظر إلى النص بعين محايدة، حتى يكون الناقد محط ثقة الآخر.
إذن وجدت الشاعرة الفلاحي تقدم القارىء إلى مدخلها التنويري، من فيه كل نص يؤرخ لغتها، وجميعها تتضمن ماهية إنسانية وفكرية، فالقارئ أمام شاعرة تعتني بأفق أدواتها التعبيرية كطفل بحضنها. وكقارئ وجدتني أتناولها من حواسها اللفظية، وافحص النصوص قراءة تلو قراءة، من منتج ملامح التوازن الإبداعي في الكم الايجابي في الطبقات الفنية المختلفة، على أعتبار أن الخلق هنا ولادة ذاتية قائمة على أفق له وعيه الخالص، وأستشعر من قراءتي لهذه النصوص أنني أقيم الحجة على جمالية ما تستغيث به اللفظة من شذى يجانس عطرها، ومن فيها، ومن دواخلها، ومن حولها تجدني أستقي الدلالات من مبانيها، وأدري أنني عادل فيما أبين وأحتكم إلى معنى اللفظة ذاتها، أن لا يعاديني ظن اللفظة لأنني أكشف عن أسرار حلمها، من مراكز ثورتها الحسية، وإناقة خطوتها، فليعذرني الإيحاء إذن. لستُ أنوي أن أقول أن الفلاحي أعظم شاعرة، لأن الشعراء تتباين علومهم ومذاهبهم وإنسانياتهم، بل لأني وجدت من الأحق أن أتناول شعرها من وروده، وما تروم سلطة المعاني منه إلى: أهيَ مولّدة تعتني بحسن بدائع اختراق ميزان السبك وعلومه إلى سبك متناسق بوعيه ونظمه؟ أم سطحية لا نبض فيها ولا وجه بذا رونق؟ ومن أجل أن نقف على المحاسنة في سهولة الكلام وقريبه، تعالوا معي نتبين الفلاحي من خلال هذه الأبواب التي بسطتها أمامكم وهي ونحن نعتني بما نستطيع تقديمه وقولها في قصيدة:
"بسملة عصية على النسيان"
أيها الراسخ
في ذاكرة الحكايا وأسرارها
كعطر محرم
قَلمَ بعض شوقي
وقبساً من نور
يطل في أعماقي
ارتسمتك ضوءا
بريقه يصفع عتمتي
وكبسملة وجدٍ
إليك اهتدي
هذه القصيدة الأولى التي تستهل المجموعة الشعرية، تشكل فاتحة مسَاق يستوفي تلازم مواضع القصائد الأخرى، تعمقت بها الرتبة الجمالية اللغوية التي تنزل من النفس إلى النفس، وكما قلت في المقدمة عملت الشاعرة على أن تجعل من نسيج قصيدة النثر في منجزها، قريباً من متن القصيدة الحرة من منجز نشاطها العضوي كجودة النظم، وحسن السِّياق، وكأن وحدة خلاياها تستنشق هواءً نقياً، حيث لم نجد في شعرها أعضاء مبعثرة لا قيمة فنية فيها، بل نشاط يدب من بدء النص وحتى الخاتمة، وهذا ينم عن شاعرة مقتدرة من أدواتها التعبيرية والفكرية، وقد بان هذا النبض الذي يسري في روح القصيدة على الإيقاع التالي: الجملة الأولى "أيها الراسخ في ذاكرة الحكايا وأسرارها" قال الكسائي عن أَيّ اسم منادى*، والهاء تنبيه، فنقول أيها الرجل أو أيها الرجال، فالرجل صفة، ونقول للمرأة أيتها المرأة. فجاء الاستهلال بالمناداة الواقعة على فعل النداء الروحي وتثبيت رسوخه في العقل، لخلوده في الذاكرة المحصنة بتجليه هناك، بينما نجد في "أيها" الخطابية ثيمة لا تمتلك الصفة الشعرية، ومتى أذعن الشعر لمقتضيات الخطابة يصبح كالحليب الفاسد، فإذا كان المُنادى لهُ راسخاً في الحكايا، والتصور، والمعايشة، إذن لماذا لا نحرر الجملة الشعرية من خطابها العازف عن الشعر، فنقول شعراً نفس المعنى: "آتيكَ ذاكرةً تَشكُو رحيلك - كنتَ خزينها - وكنتَ ناديها" بهذا نكون قد تخلصنا من الخطابة، فادخلنا الصورة المنادية رقة المشاعر والصبوات.
في حين نجد في الصورة اللاحقة قد ذهبت الشاعرة بالحبيب إلى الرحيل المبكر "تعجلك"، فيها يتصل المعنى ولم يفترق: " ذات غفوة - استبحت قدسيتك بقلبي - في تعجلك الرحيل". لكنها ما زالت تتواصل بأسرارها عبر ذاكرة الزمن، الذي يجول بالشاعرة من مكان غير مستقر إلى آخر تود أن تحتمي به، في قولها: "وقبساً من نور - يطل في أعماقي" النور الذي يطل من السماء حررهُ العرب بقولهم الصباح يطل بالنور، ولأن هذه اللفظة تتحمل الكثير من المخارج المتميزة بمعانيها، نجد ذكر النور في التوراة والأنجيل والقرآن، كما ذكر على لسان الشعراء قديمهم وحديثهم، وقول على بن أبي طالب: "نائرات الأحكام*" والنائرات - الواضحات، البينات. وقول أبي حنيفة النعمان: "انقلبت الواو ياء للكسرة ما قبلها: نور - نيران. ونِيْرَةٌ ونِيارٌ*". وقول العرب في الجاهلية: "يَخْلِطْنَ بالتأنّسِ لِنوارا *" أما تركيب الجملة الشعرية فقد ارادت الشاعرة من لفظتها التي ابتدأت السطر: قبسا والمعروف عن القبس يعني "شعلة النار"، تصاحب النور، فإذا حصل في الجملة الشعرية معنيان متلازمان يقبح المبنى الفني واللغوي في ترتيب السياق العام، لكن الشاعرة أحالت القبس إلى معناه العِلْم، والعِلْم نور تعددت مصباته الفكرية والإبداعية، وهكذا يصح القول والمعنى المركب قد تحلى بالخصوبة. خاصة وأن العبارة التي تليها تتم الفصاحة في قول: "يطل في أعماقي"، وهذه العناية حققت مساهمة ناجعة في جمالية الهندام التعبيري، بمحاسنة البديع بوحدة الجناس المعنوي، فهو يطل في. وليس من أعماقها. وهذه ولادة مثمرة حققت مخترق بلاغي في تحويل المطابقة في حرفي الجر "في ، من" بديباجة ذكية لا تكليف فيها، حيث نجد المعنى يتجاوز الصورة الشعرية التقليدية، وهنا حط إختلاف مبين بين التشبيه والمجاز والكناية، لماذا؟ لأنها جعلت الاطلالة تشرق في الأعماق، وليس من الظاهر التقليدي المعروف بالشكل، خاصة ونحن نعبر عن القبس أي العلم والمعرفة. ومن الأعماق أيضاً تسمع الجواب في "البسملة" التي تهتدي إليها، أي التطبيق الروتيني في إحادية المنطق الفقهي، وهي مشاركة روحية بين العاطفة والبيانات الفقهية، والتي أغلبها بيانات كاذبة غير واقعية، المطلوب من نشرها تخويف الناس أن يتبعوا مرددها ومنظرها، لكن الشاعرة أحاطتها بالمثالية التحويلية، فحيدت البسملة من فقهيتها إلى معنى مختلف أكثر حيادية في إنسانيتها.
ليس من شك أن القارئ العربي ما زال يبحث عن نص نضير ورشيق القد، مليح النظر، عليم الوجد، وهذا أصبح من الصعب العثور عليه أمام نص مبعثر إستطعم النشر بالزينة، واستأنس التصفيط والتقليد والخداع، وتلك هجمة بلغت الربى، فأخلت بالشعر وخلعته من مضمونه، وأضاعت ملامحه وقيمه، ثم أمرضته حتى بدا لا يبصر مثل كومة من كلمات ليس بها روح، ولكن هناك بصيص أمل من شاعرات غاية في الأهمية ومنهن الشاعرة فاطمة الفلاحي، وصورها الشعرية الصادقة المتدفقة بالحيوية والشارة. نقرأ الشاعرة في قصيدة أخرى وهي تعتلي قامة الحب من أوسعه، لكنها لم تتعرف عليه إلا بعد فراق حبيب لها، يقول اراغون: "لم تعلمني الحياة إلا الحب*". إذن نأخذ ما نستطيع أن نأخذه من هذه الغنائية السامية:
"تأسرني"
مملوكة الهوى دهراً
وقدراً يسكن عمري
تأسرني
* *
لوعة تستبدني أوصابا
وقلباً يفيض بالهموم
مدرارا
فأيا منك وجعي
السؤال الذي تختتم به المقطع الثاني "فأيا منك وجعي"، سؤال يجمع النائحات يصرخن في رأس نابجة، والمعنى يسرح ليؤشر إلى نضوح الحقائق في معنى "تأسرني"، وبهذا حققت إنجاز الوحدة الفنية من زوايا عدة، أهمها:
أولاَ: الترتيب بسبب البناء الداخلي، وما توافق فيه من شمائل نضج فيها الودع، والكلام المستعذب، وتكاثر فيها النبوغ النفسي بالعاطفي.
ثانياً: جمع الحقائق بسبب الأسلوب وهي المملوكية للهوى، والقدر يصاحب الحياة، والأوصاب ولادة تدوم بالألم، والقلب يعاشر مدرار الهموم.
ثالثاً: سهولة العبارات، وهذا يعتمد على بلاغة الشاعرة وقدرتها على حياكة الألفاظ بفصاحة معانيها.
وهنا نميل على التغذية العقلية للعنوان "تأسرني"، وما تعكس الحسِيّات من شدة التأثر في المعنويات التي يحكمها الوعي التحولي، وما يستطيع هذا العنوان أن يحمل لنا من أفكار تنويرية معبرة، تمثل مظهراً من مظاهر الجمال الآسر، أو كأنه يعبر عن تأشير يكشف عن القوى الداخلية التي تتمثلها النوازع النفسية كالذكرى، والشوق، والدلال، تتمثلها تداعيات تتحد فيها تصورات أحداث تصطدم بقدرية الشاعرة بالمعاينة والإظهار، وإن أختلف الزمان والمكان، لكن عامل المتخيل الحسي يقوم بدوره التعويضي، حيث يبدأ الوعي وبمهارة البصيرة يستدعي أحداثاً كانت الذاكرة قد خزنتها.
ولي أن أقول أن في شعر الفلاحي يستحدث علم المطابقة، مع إنها من شاعرات قصيدة النثر، ويبدو لي إنها لم تكتب الشعر العمودي أو التفعيلة، فقد بحثت في أعمالها فلم أجد تلك الأجناس الشعرية، لكنني تبينت المختلف من شعرها عن الشعر النسوي المعاصر، أن عبارتها خفيفة الإيقاع، ملزمة المعنى، جزلة المبنى، تتفجر موسيقاها من أعماقها، في جوانية حكم الطباق التي تومض في جملتها الشعرية يغذيها الفيض المعنوي، أي أن الشاعرة تتحكم بقدسية الطباق بين المعنوي واللفظ، فالقارئ يكون سميعاً لشجواه، أي القارئ الذي يصنف الشعر بمسماه، لا يصعب عليه التحليل مهما تعمق الشعر أو تسطح، وللمطابقة دلالات وأحكام نافعة للشعر والقارئ معاً، لأنها تنتسب إلى المعنوي في مسعى فيض لا يتوقف حتى بعد الأنتهاء من القراءة، وهذا نسميه أيضا فكر المطابقة بين الشاعر والقارئ المحترف. بمعنى تبقى القصيدة ماثلة في ذاكرة القارئ إلى ما نهاية، ولكي نثبت رأينا نقرأ هذه القصيدة:
"ذاكرة من غياب"
تمخر الريح
عباب الذاكرة
حيث حافة الروح
وصمت الشجر
وفي محطات الغياب
أنتظر حرائق المطر
على نوافذ المحطات
الصورة الحسية طراز تكويني تخصبه الإبداعية الشمولية، لتأدية معالجة فن البلاغة التي تشتمل على قوانين التشبيه والمجاز وأصول البناء والوصف، تقدم المعاني وحدة متماسكة على أكمل وجه، تكون خالية من إفاضة ضالة أو نقصان، فهي تؤسس الثبوت الذي يحقق للصورة الشعرية الألق النفسي، فإذا قلنا: تمخر الريح عباب الذاكرة. بأمكاننا أن نبنيها هكذا، وبأمكاننا أن نبنيها بنية الشاعرة، "تمخر الريح - عباب الذاكرة" وهذا نسميه فن التقطيع. لكن أين نعالج الوحدة المركبة؟ نقول نعالجها من تركيبة بوحها الداخلي، لأن الأيعاز عامل زخ بلاغي في ذاتية المعاني، لا في ضياعها، لأنها حازت على قيمة الطباق بين الريح والعباب، فلو قالت الشاعرة غير ذلك لفسدت الاحكام الشعرية بأكملها، لماذا؟ لأنها قالت: عباب الذاكرة، وهذا مجاز توليدي حذق، فهي تقول شئاً وتعني قياس الأبعاد من فيهِ. وهكذا يستمر النسيج الفني واللغوي يتصاعد بالتلاقي، كون عباب الذاكرة أحاط الروح، والروح تطابق فسيولوجي بين التنفس والنبض. وما حولها تتسع فائدة إيراد مقاصد الألفاظ، فتكون الأنا سقاءة توليدية للمعاني، تخرج من دائرتها الخاصة "البيُولوجيا"، إلى البيئة تتحول فيها المفاهيم الإنسانية إلى ماهية تنشد الإبصار وملتقى الحوار، وذاك نسيج تكميلي ينشط المجاز بعضهُ ببعضهِ فتقول الشاعرة "وصمت الشجر" ما الذي جعل الشجر يصمت؟ ألأَن المعنى خرج عن المألوف التقليدي، فأصبح مختلفاً بنسقه المجازي عن الواقعي، لما أبانت الاختلاف الفني عن المنظوم النثري الممل، الذي لا يتمتع بالسليقة البلاغية، ربما أرادته الشاعرة أن يصمت خاشعاً ومستمعا لخلجات ندائها الروحي المقدس، مع أن للشجر حركة ذاتية تدور في محيطها الضيق، لا تتوقف كما هو الحال مع بقية النباتات، وهذا مقتضى الحياة المادية في الحركية الذاتية للمخلوقات، ويكون ذلك بالحس والبصيرة، وهو توليف تكتمل به الصورة المجانس فصيحها لحكمتها، فجعلت للمطر حرائق. تلك بلاغة إذا أردنا أن نمسكها من حيث تأويلها نقلل من قيمتها، فنقول للفلسفة بلاغات في التحصيل التنويري غير محصورة في التأويل الشكلي، بل في سحر التوليف وعجائبه وإبانته على منوال متقدم في كل إعجازاته. وحين جعلت للمطر حرائق إنما قلبت المألوف المتعارف عليه، المعروف عن المطر "الماء" يطفئ الحرائق. ولكن حرائق الروح تختلف في المعنى والبلاغة والأعجاز عن الواقع المعروف عن ثيمة "الحرائق". إذن ما هي هذه الحرائق التي تنتظرها الشاعرة على نوافذ المحطات؟ يأخذنا هذا التفسير إلى أوليات الحدث لكي نجيب على سؤالنا، فالمنجز التجديدي إستَنْبَطَ في كل ثيمةٍ المساق الذي نسميه تفريع المعنى، ومقصدهُ تنبيه جهة التتميم على جهة استماهة الشطر، فلو قلنا، أن وحدات الماء تتماسك وتتحد فيما بينها لتؤدي إلى تفريع أو انشطار استمراري في مسارها التنويعي. إنما نقصد الوحدة العضوية أي حياة النص. والحرائق المقصود فيها بما تعنيه الشاعرة العواطف والنزعات الروحية التي تتضاد فيها الرغبات والنوايا والنوازع والاحتمالات والقيم والمصائر والجنوح، فالمطر هو سلطة الخير، وهو التدفق الايجابي للعاطفة فنقول تتدفق المشاعر التي تثور في النفس كالمطر، فتؤدي إلى حريق مختلف إمَّا أن تنزل حباً في النفس، وإمَّا عذاباً، ومن أجل هذا كله تقودنا هذه المصانعة الذكية إلى هذه المعادلة، على النحو التالي:
العاطفة = وحدة تراجيديا المشاعر الإنسانية.
المضمون = تراكيب في القيمة القصوى في وحدة المعاني.
العلوم الفنية = إتحاد نوعي حقق المنجز البلاغي إلى غاياته التي تدور حول النواة.
الشكل = إنبهار يطل منه خصر رشيق وأنيق ونسميه الممشوق.
اللغة = تراكيب حققت في منجزها الإبداعي التحديثي، إلى ما بلغت إليه الفصاحة من لعب على أسلوبية الإشراق.
بيان الاستعارة = ثقافة الشاعرة.
وقد اشتملت هذه المجموعة على باقات إبداعية تعددت أصنافها وعطورها، وأبانت قراءة ناعمة لذيذة محصنة تماماً من الخطأ، أتمنى من الشاعرة أن تجعل من ديوانها الشعري هذا في متناول يد القارئ، أي عليها أن توصله إلى كل المكتبات العربية المهمة سواء كانت في المنطقة العربية أو في المكتبات العربية في أوروبا.

هامش:
1 كتاب الشعر النسوي العربي - الفصل الرابع. الجزء الأول. تأليف جعفر كمال
2 اقرأ كتاب - إحياء علوم الدين، المجلد الخامس، للغزالي
3 اقرأ كتاب - الأمام علي بن أبي طالب، الجزء الرابع، تأليف عبدالفتاح عبد المقصود.
4 اقرأ كتاب إحياء علوم الدين - للغزالي.
5 اقرأ كتاب الطراز - الجزء الرابع - ليحيى بن حمزة.
6 اقرأ كتاب - المذهب الجدلي، والمذهب الوضعي، تأليف الياس مرقص.



#جعفر_كمال (هاشتاغ)       تôôèô‏_ؤôéôم#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع 5
- التشكيل الجمالي في لغة د.هناء القاضي المجموعة الشعرية -أيلول ...
- الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع
- صباح الخير
- صاحب الكرسي، والمشاكس
- الشعر النسائي العربي بين التسفيط الكلامي وجمالية الاحتراف ال ...
- متى
- الشعر النسائي العربي بين التسفيط الكلامي وجمالية الاحتراف نت ...
- الشعر النسائي العربي بين -التسفيط- الكلامي وجمالية الاحتراف ...
- الشعر النسائي العربي بين -التسفيط- الكلامي وجمالية الاحتراف
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة. الجزء الخام ...
- قصائد ليس لها عنوان
- أشتهي
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة4
- طيف الرضوان
- حوارية.. النرجسة والشاعر
- إبنة موسى
- الفن الكلامي ونوازع الانفعال والميول
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة الجزء الثالث
- ليلة الميلاد


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - التيه بين عشق الوطن وحوار المنفى