أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة. الجزء الخامس نتناول: الشاعر ذياب كزار















المزيد.....



تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة. الجزء الخامس نتناول: الشاعر ذياب كزار


جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)


الحوار المتمدن-العدد: 3366 - 2011 / 5 / 15 - 04:00
المحور: الادب والفن
    


في هذا الجزء:
نتناول الشاعر الذي عالج فهم الذكاء الخاص، في فهم النص الفني، كالإدراك، والاستدلال، والإيماء في تحسين المعاني، بالمشترك المشبع وحيه المعافى بإبداعه الموزون بمهارة قادرة على بسط تنمية الخلق الدقيق، في سلوك الشخصية التي تحاكي خصائص الأداء الإنساني، وهي تقتطف الكلمات من سهل رَوْضات الذات الشاعرة، مبتعداً عن اللغة الشعبية المعقدة، مجدداً بمهارة وذكاء صحّية اللغة المدورة، التي إعتلى بها خاصية التنويع الشعري، إنه الشاعر ذياب كزار المكنى والمعروف بأبي سرحان.
الإيقاعات التي اشتغل عليها الشاعر جاءت تحتل الميّزة المختلفة التي أعلت من تناغم مجسات الحس المموسق، بفعالية تمتعت بحرفية عالية الدقة، بالمتقارب العاطفي المصوغ في خزينه الأدبي، الذي أطلق فنا مركباً، يشتمل على محاكاة الأنا الشاعرة، بناتج فني قل الوصول إلى ملامسته من شاعر شعبي آخر، فقد إخْتَزَلَ هذا اللون لوحده رغم قليله الشعري، وكأن ذات الشاعر هائمة تبوح عن ألمها المخدر بشاعريتها المطلقة، وحالته الإبداعية التي تحمل فكرة الاحتراف المتكاملة بصيغها، واختلاف نكهتها، وذكاء مفاتيح تأويل الكلام المصاحب، لإطلاق جمالية الصور الداخلية في النص، يقول ت.س. أليوت عن سبب كونه مقلاً في كتاباته الشعرية:
"أن هذه القصائد ينبغي أن تكون كاملة وفريدة من نوعها، بحيث تصبح كل واحدة منها حدثاً بحد ذاته".
وبما أن أبو سرحان مقل في شعره، فقد باح في قصيدته تكثيف التلازمات اللغوية منها والفنية، لكي تستعيض عن القلة بأدب محترف ومميز، ذي قيمة خالدة في النفوس، وهذا ما أصبح عليه الواقع اليوم، الذي يعترف بالشاعر اعترافا مبنياً على الحقيقة، وقد يتساوى في هذا مع اليوت بما يعوض عن القلة في كتابته الشعرية. حيث جاءت قصيدته مشتملة على مشاهد تصور ما تعانيه النفس من حزن أو فرح ألمّا بها، في مصب إبداعي يعبر عن واقعه المنظور الأحادي في النوع والقيمة. ومن جانب آخر يتمثل وعيه في المجال المعقول الذي يقيس أهلية الكتابة، بعد أن يشتمل الوحي الكتابي على الخيال، فيكون الشاعر جزءاً من هذا الوحي، أو يسير كالأعمى خلف زائر شيطاني مجنون اسمه الشعر، وهذا اجتماع وطباق بين البصر والبصيرة، كونه يعيش إنسجام الحالة الفنية الشعرية في تلك الأوقات، يجانسها ويعاشرها كما يتنسم الهواء، فاليقظة الشعرية هي حضور الخيال، والبصرية تدخل في أدق الأشياء تتحرر وتتعاشق معها.
مازال شاعرنا أبو سرحان مُطِلٌ على محبيه، وكأن لم تغتاله اليد الآثمة في 1982 أبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عاصمة لبنان، كان وكنا نحن عصارة الأدب العراقي هناك، هاربين من نظام فاسد إرهابي عقيم، وكان الشاعر يدق أبواب العاشقين الباحثين عن جودة ماهية وجمالية الشعر في القصيدة الشعبية العراقية، هذا إضافة إلى ثقافته المميزة العابرة إلى الكمال، في دقة وحصافة أساليبه الواردة في الموازين النظمية في قاموسه الأدبي.
وقد اختلفت قصيدة أبو سرحان عن كل أشعار مجايليه من الشعراء الشعبيين، فالميزة والأسلوب اللذان اشتغل عليهما الشاعر جعلته متفرداً بهذا اللون المتحد بإيقاعه الخفيف، والمعروف عنه لم يكن يميل إلى التأثر بالشعراء السلف منهم أو المعاصرين له، فإنه لا يؤمنُ أن يقع يوماً في المؤثرات الفنية عند الآخرين.
قال لي مرة: "أنا أحفظ الشعر الفصيح أكثر مما أحفظ الشعر الشعبي". كنت قد كتبت دراسة نقدية موسعة عنوانها: "الإيقاع والرشاقة الأسلوبية في القصيدة الشعبية العراقية" وتناولت فيها شعراء من اجيال مختلفة تنتهي بجيل السبعينات، وكان الشاعر ذياب كزار "أبو سرحان واحداً مما تشرفت به تلك الدراسة.
أما دراستي اليوم سأتناول الشاعر من جانب مختلف عما تناولته في الدراسة السابقة، وهو الجانب السياسي، والعاطفي، والأنوي، في القصيدة السرحانية. حيث أن لكل شاعر في جانبه السيكولوجي إتجاهات فكرية مؤدلجة، وعاطفية، وذاتية، وهذا ما سأتناوله في هذه الدراسة: ففي قصيدة: "يا بنادم" وما تحتفي به هذه الغنائية السارحة بألحان أنغامها وشدوها، من حيث القيمة الإبداعية كونها نتاج مشاعر آلمها الغدر العاطفي في قوله:

يا بنادم

داده إبهيده على بختك
لا تعت بيها
روحي انحلت
والشوك
يا بنادم ماذيها
ما جنها ذيج الروح
يا بنادم
ولا جنها كلها جروح
يا بنادم
والشوك ماذيها
شمالك تعت بيها

كان شعراء الستينات من الجنسين الفصيح والشعبي، شعراء يهتمون بالجانب الثقافي على أوسعه، لكي يؤسس كل واحد من هؤلاء رؤيته الثقافية الخاصة التي تساهم في رفد وإنجاح تجربته الشعرية، ولذا كانت القصيدة السرحانية محاطة بتنويعات غاية في الدقة والبلاغة الفنية واللغوية. ولو توقفنا أمام التركيب الذي عد له من قواعد مجازية في هذه القصيدة، لوجدنا إنه استخدم حالتين مهمتين، وهما: 1- استِعارَةَ المحسوس.
2-الانزياح التنويعي.
ف "بنادم" يمثل انزياح عنصر الذات غير المحسوسة إلى مستعار دلالي، والخطاب انحصر في رؤية الذات الشاعرة، في تحليلها لما تود أن تعبر عنه، بواسطة معالجة بسط الخطاب الداخلي الذي يشير إلى الأمن والطمأنينة، فهو بذلك يستدل على التشبيه المراد محادثته، أي الطرف الموجود في الخيال المعني بالعتاب، لذا نجد الصيّغ المركبة في داخل الجملة الشعرية، اتسمت بجماليةٍ قربت الأداء الفني في كل مسلماته، ولم يكن قط الشاعر ينوي ذلك الخطاب المباشر، بين أنا الشاعرة، وبين إنسان آخر مشار له ببنادم، فالمُخاطِب ههنا هو الإحساس، والمستعارُ هو بنادم الذي مَثّلَ الذات المحركة لدلالة أنا القائمة كوسيط بين العقل والانفعال، وبالتالي فالمستعار المنادى هو بنادم، والمستعار منه هو الذات الشاعرة، والجامع بينهما هو إنتاج ظهور الأثر التلاقحي على المعنى، فالطرفان عنصران حسيّان يجمعهما إرتباط مشاعر أحدهما بالآخر، ومن هذا تواصل قوله: " داده إبهيده على بختك" فالمُخاطَب ْالمعني بالنداء هو بنادم، والتمييز الدلالي جسد حالة الإنسان المسالمة، بمناشدة عبرت عن الشفافية والعفوية، وهو أن يكون المستعار الذي هو بنادم مطلاً على الذات الشاعرة التي أصبح مصيرها العاطفي بيد بنادم، وأن يكون لطيفاً ورؤوفاً، من خلال المعبر الدلالي: " إبهيده" وتعني في الفصيح: بهدوء أو على مهل. وهذا الطلب أو الرجاء جاء محققا للغة خفيفة الوضوح، مبنية على الأمل في تحقيق المرتجى الحنوني الميال إلى محاكاة الرضى، وإذا بلغ حصول الشيء مرتجاه أن يكون من اللطافة ما يليق، طلب أن: " لا تعت بيها" أي أن لا تتعبها وتؤذيها، وقد أعد الشاعر لهذه الجملة أن يكون استعمالها واضحا في الإظهار والإضمار، على جهة إختلاف أحوالها وبياناتها، صحيح أن الجملة أخذت صيغة فعل الأمر، إلا إنها خفيفة اللفظ والنداء في فعلها. ولذلك جاءت المعاني متناسقة في مجموع الجمل الشعرية، ومتوازنة الإيقاع و الصوت، ذو الذوق الرفيع، مدعمة بالقريحة المستقيمة بوزنها الرشيق، ففي قوله: "روحي إنحنت - والشوك - يبنادم ماذيها" وبهذا يكون الشاعر قد أشار إلى أن شكواه اتاحت للمعانى أن تكون مجساتها مفتوحة على كل الأحوال النغمية الشعرية، لأنها أي الجملة هنا اكتنزت الشكوى كلها، وهو أحسن مما اختص به المعنى المفرد، وكأن حال الجملة تتشابه، أو تتماثل وعمل القلب بخلل وانتظام دقاته، حين اصبحت تلك النبضات قائمة فيما تبثه إرهاصاتها النفسية المعذبة، وعلى اساس هذا النحو فإن الصوّر الذهنية ومكونات التخيل فيها نابعة من الوعي الظاهر في صياغة وصناعة الجملة الشعرية، لأنها هي الحكم، وهي الباعث الأساسي بتقييم نواحيها المكشوفة على الناقد أو القاري.
وفي غنائية أخرى نقرأ الرشيق في أحلى وأرق تجلياته، حيث أن غنائيات أبو سرحان تعتمد االلطافة والرقة في القصد والإشارة والحركة المطلة بأدائها، وأسلوبية بنائها الداخلي، على المعنى، فمن ذلك ما قاله:
ذبلن وعود العشق بشفافك
وماتن
وطيور حبنه أرحلن
وي طيفك وتاهن
وكل المهاجر أجه . وگلبك بعد ماحن
وشوگ الحمام أبهيد
وألوانه ترفه
يلرمشه بسته فرح ...
وعيونه تجليبه
يلطوله نايل عشگ
والشعر مدري به
مڇتول من صيد أمس
من كثر تعذيبه!

ولأبو سرحان أسلوبه الخاص، حيث لم نجده قد تأثر بأسلافه أو معاصريه من الشعراء سواء كان على مستوى الأجناس الشعرية الفصيحة منها أو المحكية، وقد تمتع هذا الشاعر بكفاءة السرعة العقلية في الخلق البديهي في منجزه الشعري، الذي يقوم على قانونه الإبداعي المرتبط بمقاييس الذكاء، وسرعة التعاطي بالضغط على أزرار الاستجابة للنداء المنطلق من الذات الشاعرة، والتحاكي معها على مستوى القدرة في الخلق الإبداعي، وكأنما وجود عامل مشترك بينهما، وهذا مؤشر جمالي يؤثر في عملية التوازن اللغوي والفني في أداء المهام الحركية في البناء، الذي يعتمد على المعالجة الأولية التي تقيس قدرة العناصر والأدوات المحركة للنص الشعري، كونها تقدم أساساً عضوياً للفروق بين هذا البناء وذاك، ولو أخذنا هذه الفروض في المعالجة والكشف عن مؤهلاتها اللغوية والصيّغ الفنية المحكمة بصورها المتلاقحة بتقنية عالية في دقة ميزانها في قوله:
" ذبلن وعود العشك بشفافك - وماتن "
الموت كما هو معروف خاتمة المكون الحياتي للإنسان وباقي المخلوقات، والمقارنة هنا جاءت قاطعة، تمثلت بالوعود التي حطت بمحطتها الأخيرة وهو الموت البياني للحالة الحبية التي كانت قائمة بينهما، والمعنى الذي يوصلنا إليه الشاعر هو الفشل في هذه العلاقة المتمثلة بالعشق، أما الذي وضع حد للعلاقة أو موتها فهو أحد الطرفين، كون الشاعر خاطب الحبيب بالمذكر، ولم يؤنث حتى يكون معلوماً للقارىء من الذي أدى بهذا الحب إلى نهايته.
أما الذكاء الحاصل هناك في صيغة الخطاب تجلى في العتاب المر، الذي ألم بأحد طرفيّ العشق، فجاءت الصيغ الشعرية محملة بالملل من كثرة الوعود التي لا تتحمل مسؤولية تطبيقها، فكانت النتيجة الأسى والألم من عدم جدوى البقاء على خطى مسيرة هذا العشق. وهكذا فإن هذه المعالجات الإيحائية الصادقة قائمة على فرض مؤداه الوزن الكمي في صدق العلاقة بين الحبيبين، وأبعادها المعرفية العاطفية، ومستوى التباين الفكري الإجتماعي بينهما، ومنها:
1- فهم اللغة العاطفية وتحديد قياساتها المعنوية والحسية، ومستوى المفحوص الذاتي الشعوري في كل جزء يحاوره ويوضحه هذا العشق، من البوح المخزون في عميق العاطفة.
2- العامل الاجتماعي المرتبط وعيه: إما بالتخلف العنيف وهو جمعي، المرتكز على أصول العادات والتقاليد، والقيّم الشكلية القائمة على أسس زمن الرجع، واساليبها المنحطة، وإما الاختلاف الفكري الثقافي بينهما، وهو فردي، فتكون العاطفة رغبة ذات أساس بيولوجي في المقام الأول، وهنا يتحدد الاختلاف، ليخل في التوازن العاطفي، مبتعداً عن الالتحام الروحي.
3- بنية التفكير الإنساني المتصل بشكل مباشر بالسلوك المجتمعي، وانعكاس وعيه على الآخر، المتأثر أو غير المتأثر بمعطيات ونتائج المحيط الفاعل على وعي وثقافة الإنسان، كما قدمها كارل ماركس، المحددة بمعترك التوازن بين البيئة والإنسان، والعاطفة في هذا الجانب تكون زئبقية غير مركزة على قيمة النواة العاشقة، إنما هي مجرد مقياس يخضع له الفرد من الجو المحيط به.
ولذا نجد الموت العاطفي هو النتيجة الحتمية لمثل هكذا علاقات، لأن المشاعر لم تتصل في ديمومة المدى العاطفي الملامس لأدق إحساسات العشق. كما يقول ابن عربي: "كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه." ومع هذا يبقى الأمل عند الشاعر أن يعيش محباً عاشقاً تداعيات حبه، فيثير لوعتها في نفسه في الذكرى والتمني، على أن يسترجع عبر خيالاته المحفوظة في الذاكرة، لحظات الحب التي كانت تسعده، وتأخذه إلى أرق وأجمل ما تخزنه ذكرياته عن الحبيب، في قوله:
" يلرمشه بستة فرح - وعيونه تجليبه - يلطوله نايل عشك - والشعر مدري بهّ"
لو نظرنا في البناء اللغوي في هذه الصوّر، لوجدنا حرفية عالية ودقة تفيض في اللاحدود الرومانسي، مشتقة من الملامح الروحية وندائها لعودة الارتباط العشقي من جديد، والشاعرية في هذا المصب الإبداعي تحاورها إيقاعية راقصة في ملامسة فنية خفيفة على السمع واللسان، جمل ذكية تقوم على مكونات لغوية تحاكي خصائص الفعل الذي حقق الشيوع الكافي عاطفياً، وفي الوقت ذاته عكس إمكانية وثقافة الشاعر بنسب متحركة القدرة والإبداع، فالمزاوجة الحاصلة بين "الرمش" و "بستة فرح" نابعة من أخيلة الشاعر وتلاقحها بما يدلو به الخيال وما تناسب مع الوعي الذي يحرك هذه المزاوجات الفنية، من حيث مطلق موسوعة درايته في كل ما تحمله سلة الموروث الشعبي، فهو يدلنا إلى أن الرمش هو زمن الإضاءة الراقص كأهزوجة الفرح في " الأعراس، وولائم الحج، وولائم الختان، وغيرها" وجعل منهما أي الرمش وبستة الفرح ناتج تناءٍ عاطفي، ومثلها في صورة: "وعيونه تجليبه" والموروث الشعبي الغنائي في العراق مازج مابين المكان والزمان بأرقى وأحلى متقابلات الصور الشعرية، التي قل نظيرها في الدول العربية باستثناء لبنان وشعراء البادية، ومن الموروث الغنائي الشعبي العراقي نقرأ هذه الأغنية: "أجلبنك يا ليلي ثنعش تجليبه" إنظر إلى استفادة الشاعر من مفردة "تجليبه"، فبدل الليل كانت العيون، وهذا مقروء إيحائي لأن التشبيه الجمالي حاكى مفردات الطبيعة ولاقحها بالفسيولوجي العلمي، فجعل من المفردة العلمية طيّعة سهلة اللفظ لقانونه الفني، وقوله: " يلطوله نايل عشك" وهذه اسقاطة أخرى أنعشت العلاقة الانسيابية بين طول الإنسان وصبابة عشقه، والتشبيه هنا سلس يرتقي بجماليته إلى سمو حبات المطر حال على حال، تتعانق بعفوية مباحة لتكون سيلاً خال من التشويه التعقيد والمكننة.
تمتع الشاعر ابو سرحان بالسرعة االبنائية الذكية التي تحتل المفاصل الإبداعية في مكان ما في العقل الإيحائي، وكأنها صوّرٌ كوصف مرسوم يؤدي إلى إستجابة رغباته الشعرية، وبهذا تجد الحالة الإبداعية عنده تتزايد مع اختيار الجديد الحداثوي، بهدف تحقيق خصوصية المثير الحسي الشعري، الذي يقوم على إطلاق العرض الزمكاني الفاحص لتحديد نوعية بلاغة العمل الإبداعي. ومن الشعراء الشعبيين الذين تمتعوا بهذه الخاصية: مظفر النواب، وعزيز السماوي، وعريان السيد خلف، وكاظم اسماعيل كاطع، وزامل سعيد فتاح، وكامل الركابي. ولا أخفي سراً إذا قلت أن الشعر الشعبي العراقي الحديث بمطلق تنوع جمالياته الفنية، والذي ولد أبان الخمسينيات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، توزع بين هؤلاء كلاً حسب قيمته الفنية، فالمطابقة اليقظة تناولت عرض نواة التداعي الأسلوبي المهيمن على حركية الشغف الشعري، ذلك لما تآلف وتسامى بين طيف المعنى والذات الشاعرة، هو الجزء الأحادي الذي حقق السعي إلى منبرية تفعيل إتحاد اللفظ الموجز من سهولة وحلاوة الكلمة، والمعاني التي حددتها هذه اللفظة أو تيك، في هذا الاتجاه أو ذاك، حقق سياق تلازم وحدة الكتابة وإطلاق وجودها، التي أدت إلى تفعيل هذه المظاهر الحساسة من ترجيح ودع المعانى وإطلاق معالجاتها البنيوية، وإحاطة الجزء الآخر منه بالمهارة الدالة عن العمق الإنساني، لأن الملموس الأخلاقي ضروري، كون الإلهام يولد من المشاعر الحساسة بالنبل الصادق مع الذات، وعلى أساس هذا الإيقاع الروحي تبدأ الخطوة الأولى في استنزال صيد الإيماءات والإشارات التي تدلل وتشير إلى بوح كل نبظة ترهص من شغب جوانيتها. وكأن الشاعر أراد السعي لتحقيق المتوازي الفني في التشكيل الداخلي للأنسيابية المعنوية.
الصورة العقلية:
يؤدي الخيال إلى إبعاد صاحبه عن وجوده الشخصي بين مجتمعه، يلازمه وهو يعيش مع مؤثرات العقل بكل ما يوحي له من معرفة، يقول أينشتين: "أن أحد أقوى الدوافع التي تقود الناس نحو الفن والعلم هو دافع التحليق بعيداً عن الحياة اليومية." فالنواة العقلية تتحول إلى خيال جامح ذات مجسات حسية غاية في الدقة، تأخذ الشاعر أن ينعزل بشخصه مع مكونه العاطفي التخيلي بوجوده لزمن خاص، والوحي الزائر، كل منهما يحاكي الآخر، فتكون العاطفة هي النواة التي تحوم وتتعانق حولها الكلمات، هكذا فإن من خلال ذلك الدافع الحلمي، تشكل دافع إيجابي هو الإبداع، يتلاقح به فعل المهارة الشاعرة، وعناصر الرهص التي تشكل البناء، وهذه المطابقة تلزم نواجع محاكاة اليقظة الشعرية، التي تنشر البوح المضمن في الكلمة المنتقاة، لكي تضفي على الآخر تصورات وخيالات ما تلاقحت به الرؤى، وما تنتاب هذه الأفكار من توحيد يلم هذه الصوّر من واقع إنتقاءات، ناجت هذا البوح لذيذه في الصورة الشعرية. لأن جمال الأشياء لا يكون إلا في عقل من يمعن النظر فيها. كما عبر عنها ديفيد هيوم. فالشاعر عودنا منذ بداياته على لطائف الأشعار وأرقها.


فالوصف يتناهى إلى القاريء من حيث لذته المركزة في جمالية لغته، مع إضفاء عامل المهارة الفنية في لمساته، من نقطة تبدأ بهدف قياس سرعة التسجيل الحسي، وإطلاق المثير في ما تحتوي هذه الكلمة أو تلك من خيال، لا من حيث التسطير الكلامي المباشر، فالمجرى الأول الذي اعتمده الشاعر هو ملازمة الواقع المباشر بالخيالي العاطفي، في حقيقة دالة على ما وصلت إليه المشاعر المناجية للفعل الغرامي، مع حاصل الفروق في القدرة بين المقاييس الإبداعية، وحتى تطرقها لموضوعات حياتية مباشرة، وإدخالها إلى معمله الخاص والبدء بالنحت على الكلام والصور لتكون عملاً ناجحاً ذا قيمة مؤثرة عند المتلقي.
يعتبر الإبداع أحد أهم التكوينات الكتابية المسؤولة عن إنتاج الفروق الفردية، في كمية الذكاء الحاصلة لتمييز هذا الكاتب أو ذاك، ولذلك فالقصيدة الناجحة ناجعة لأنها تمثل شاعرها، والعكس صحيح أيضاً ولكن بنسب متفاوتة، وأنا أدافع عن قولي: "لا يوجد شاعر عظيم بل توجد قصيدة عظيمة" لأنه إذا كان هناك شاعرٌ عظيمٌ، هذا يعني أن كل كتاباته عظيمة، وهذا لم يحدث في التاريخ، حتى الفلاسفة عندهم كتابات مهمة وعظيمة، وفي الوقت ذاته عندهم كتابات فاشلة، وهذه ملاحظة قديمة أهتم بها التراث السيكولوجي، أشار لها الفيلسوف كانط في كثير من كتاباته، ويمكن القول بوجود فارقين أساسين في العلاقة بين الشاعر والقصيدة:
الأول: يقوم على حاسة البصر، في أثر الزمن وطبيعة المكان، والفطرة التي تولد من رحم البصرية الحسية، تلامسها ملاحظات الشاعر عبر المرونة الانتباهية، بالتقاط صورة الحدث، من جهة. ومن جهة أخرى سرعة حساسية عواطفه وتفاعلها، مع المقدار والكم وسعة طاقته التوصيلية، في جمع مقاييس الحدث وتحديده وتجميعه وتكثيفه في معان تصوغ نصاً يعتمد الاختلاف ويتبناه.
ثانياً: يقوم على حاسة السمع عند بناء القصيدة عبر المنبئات الحسية بسريان المعاني في تلازم الألفاظ، حتى يكون البناء محكماً، خاصة إذا كان الشاعر يمتلك الحس السمعي الذي يقيس جمالية الإيقاع ويوزن تلاقحه، وفي الوقت ذاته يتحسس رداءة الصياغة عند مراجعة النص، فتكون القصيدة قد أكبرت من جلالية ومكانة الشاعر بين الحركة الأدبية عموماً، خاصة إذا ولدت هذه القصيدة من رحم عوامل حساسة، وبأدواتٍ تفيض ألقا في الحصافة والرقة، فهي تمثل الشاعر.
وعلى أساس هذا الرقي الإبداعي الذي ميز شاعرنا ابو سرحان، يستمر في مساءلاته الشعرية الأكثر قرباً في رؤيته الحداثوية بين معاصريه من الشعراء، تلك القصيدة كانت ومازالت تثير البهجة عند قارئها وملحنها، الذي يقوم فيها البيت الشعري مُؤْذِناً للقابلية الشعرية سرعة وسعة الخيال فيها، وبلوغ حساسية مجس وعي الانتباه من حيث تلاقح جملها الشعرية، وبلاغة حساسية السمع في الأذن الموسيقية. وفي هذه القصيدة سوف نجد أن قدرات الشاعر مرتفعة بكفاءة بكل ما يحيط بالإبداع الشعري من كل جوانيه الفنية واللغوية، لنستمع إلى ما توالف بين السلاسة الفنية، وبين الحركة الرشيقة المنسابة كالريح الناعمة بين ضلوع الألفاظ:

مَرَة مَرْني الطيف نسمَة عْلّه الجِنِحْ

وْبَلَلْ عْيوني بْدَمِعْتـينْ الـصِـبِحْ

سولَفْ بْهيدَة عْلَى روحي الغافْـيَة

سْوالِفْ عِرسْ

جانَتْ الگِذْلَة ذهبْ

چانَت الدِنْـيَا كِرسْتال وشَمِسْ.

* * *

مَرَة مَرْني الطيفْ وبْثوبي الجِديدْ

خَضّرْ بْروحي گُمَرْ وهلال عيدْ

وآنـَا وَصيتَه وْ وَعَدْني ، وگالْ

نِرْجَعْلِچْ سِوَه

چانَتْ الگِذْلَة ذَهَبْ

چانَتْ الدِنْـيَا كِرستالْ وْضِوَه

* * *

مَرَة مَرْني الطيفْ مُهرَة مْزَلِفَه

وذَبْ رَجِفْتَه الباردَة گليبي وْغُفَه

وطَرَزِتْ للجايْ وردَة من الفرحْ

چانَتْ الگِذْلَة ذَهبْ
چانَتْ الدِنـيَا كِرِستالْ وقَزَحْ .


الفحص هو أول الخطأ، إذا لم يكن الناقد متمكناً من مجسات أدواته، ومن وضوح إضاءتة البصرية وقدرتها على كشف المراد من المعنى، واحياء دقة الملامسة الزئبقية السمعية في تحديد مواقع الخلل، أو النجاح. وهذه العناصر هي التي تعمل على قانون تفكيك وفحص النص تحت مجهر يحتمل الدقة والوثوق في النتيجة، ولذا وجب درس النص من حيث قيمته وشيوع فروقه الكيفية في ضبط النواحي البنائية، ومدى فرض كفاءتها المحتملة على كسب وعي المتلقي، وعلى أساس هذا المعتقد قيل في التراث المعرفي عن الفوارق الإيجابية منها والسلبية بين جوانب البنية "Structure" بالقيمة والمقدار، في عملية القذف الشهواني للفظة التي تكتنز بالفيض الشعري، ومدى سعة أثر حلاوتها على القارىء. يقول كافكا في إحدى تعليماته الفلسفية: "إبدأ بما هو صحيح، وليس بما هو مقبول." وتقدير هذا أن أسلوب أبو سرحان مختلف عن سائر الأساليب الواقعة في التجديد شكلاً ومضموناً، لأنه أي الشاعر كان واثقاً بقدرته على إنتاج جديد مميز ومقبول. وقوله:
" مَرَة مَرْني الطيف نسمَة عْلّه الجِنِح - وبلل عيوني بدمعتين الصبحْ"
نقطة الارتكاز تكمن في: "مره مرني الطيف نسمه عله الجنح". والتلاقي هو تحليل ما تشعر به النفس، وتتلمسه، وتحسه في: "بلل عيوني بدمعتين الصبح." وبهذه الكفاءة أكمل الشاعر تشكيله الفني الأجمل إيقاعاً وصوتاً، فكان الشعر موزوناً بعيداَ عن النثر، وفيه من الحلاوة الموسيقية ما يؤنس القارىء ويطربه. وفيه يأخذنا الشاعر أن نقرأ الوعي التأملي الاستبطاني بين: "العيون" و"الصبح". وأفضلية التوزيع الفني المؤدية إلى أدق جوانب الوعي العاطفي، المشيرة إلى ميكانيزمات ما توحي به الشعرية، فالعلاقة بين العيون والصبح أدت إلى نجاح تلاقح الإضاءة الميتافيزيقية على واقع الحدث المؤدي بالرمزين لمعنى واحد، هذه السابقة الفنية تشير إلى تميز مهارات الوعي لدى الشاعر.
وفيها يستمر الطرق على مناص التصاعد على إيقاع السلم الموسيقى، متعدد الاشارات والملامح المستقرة على نغمية واحدة، تؤدي الغرض في ضبط التلازم الداخلي في وحدة تداعياتها بقوله:
"مَرّه مَرْني الطيفْ وبثوبي الجديد - خَضّر بْروحي كُمَرْ وهلال عيدْ."
الرشاقة التي تمتاز بها هذه الجمل الشعرية، أعتمدت المزاوجة اللحنية في أداء التسامي المتاح له ضبط نبض المعاني في سلة واحدة أسمها القصيدة، أجمعت عن قبول مؤداها السلس في أخيلة تعاطت مع نصوصه. ولي أن أقول أن أغلب الأدباء الذين تناولوا أبو سرحان بالتحليل والإطراء، حققوا الكثير عما عبروا عن كشف التسامي الأدبي في ما قدمه، من قيم إبداعية لم يتوصل لها الشعر الشعبي العربي في عصره، باستثناء الشاعر مظفر النواب. فقد قدموا الشاعر أبو سرحان على أنه شاعر لم يخرج من تحت عباءة النواب، أو أي شاعر آخر.
إنما التحليل الدقيق لما أراد الشاعر توصيله هو: " خضر بروحي كمر وهلال عيد" إستَطاعَ الشاعر أن يضعنا أمام معادلة فسيولوجية فنية، بمقولةٍ عن جسد الإنسان: "إذا تداعى عضو تداعت له كافة أعضاء الجسد بالمثل" وفيها أبدع الشاعر بالكمال والتمام، من حيث أسلوبية الكلمة ومطلق معناها مع متداعيات الصورة المشاعة بتلاقحها الفلسفي الظريف، التي مازجت مطلق المدارك الحسية بين: حاصل بركات الأرض، وبين الضوء المطل من القمر، والمعني الكوكب الخالي من الحياة، لكن الصورة الشعرية أمدت به الحياة، عندما جعله مُخْضَراً كالروح، تتشادي على المجاز والاّتساع نجواها عاطفياً، خاصة عندما رفدها بقوله: "وهلال عيد" وهنا أكمل صورة التمني بمفردة الفرح. وأَبو سرحان جعل من التسامي التصويري محملاً بالمذاق الفريد بخاصية اعتمدت النقش اللغوي بالفني على صفحته، وأحيا فية لغة الموسقة بالغة الدقة، ليكون الشعر أرقٌ وأسهلٌ على القارىء.
وإذا كانت صورة: "جانت الكذله ذهب - جانت الدنيا كرستال وشمس" وصفية، إلا إنه جعل من خصلة الشعر عند الحبيبة ذهباً، تلك المتدلية على الوجه: "الكذله"، وهذا هو أسمها باللهجة المحكية اليومية في الشارع العراقي خصوصاً، فكانت القيمة المادية للذهب، جعلته يذهب إلى آخر مدى معطيات التغني بالوصف بخفيف ورقة الكلمات، ثم أحال الجمل في صيغها لكثرة محاسنها وبدائعها، أن تتلازم مدركاتها الحسية ببعضها البعض، لأنه يمنح الصورة الشعرية روحاً نابضة كما يفكر بها هو، وليس كما يراها، وهذا ليس بالغريب على أبو سرحان أن يحاسن لطائف الكلام، ويضعها في مواضعها المناسبة، ليمنح النص انكشاف مظامينه على بعضها البعض.
وعليَّ أن أقول أن الشعراء المجايلين لأبو سرحان لم يتمكنوا كما فعل هو، من تأسيس قصيدة الأغنية الأكثر حداثة، كما تشكلت البنية المختصة في خلق، وتكوينه المختلف المقبول لدى الملحنين، فقد طور من مفرداتها اللحنية المآتية بالإنسيابية الرشيقة للكلمة الواحدة، فكانت قصيدة، وفي الوقت ذاته أغنية، لما تتحلى به هذه القصائد بقرب المأتى من المعاني، ومحاسن ألفاظها، والميل بها إلى أن تكون جماهيرية بكل ثقة. فكان المتلقي مقبلاً بقوة، يأخذ بشعره يصف جودة معانيه، ويكشف عن محاسن بلاغته. وبهذه الخصال الجيدة المرضية لنفسه، يكون الشاعر قد حقق لشعره هويته الخاصة، ذات الأثر الباقي في النفوس والأمزجة بفعالية، أشاعت نجاحاً واسعَ الانتشار، فالشاعر مثقفاً، يعرف جيداً، مدى أهمية أوجه التداخل التناغمي بين الشاعر وإنتاجه، وبين القارىء ومزاجه، لأن هذه الخاصة تحدد شكل الذكاء كمنتج إبداعي من حيث أداء هذين العاملين:
أولاً: العامل الثقافي الذي يحسن من قدرات نسب الوعي، وينشط مقدار القيمة النوعية في أدبه، ويحتسب سرعة الانتباه.
ثانياً: طبيعة ولون وأداء العامل الإنتاجي، وقوة أثره على الآخر، سواء كان هذا الآخر قارئاً، أو ناقداً أو شاعراً.
الجانب الحسي:
يدخل الوعي الحسي ضمن مؤدى المستوى الإبداعي، وهكذا يمكن لنا أن نتبين لما يكشف لنا قيمة تقدم العمل المنتج، المعبر عن قفزة زمنية مجنونة بالشعر، مأخوذة بودع الشاعر، ولمسات عشقة المعبرة عن سحره المبتلى بآيةٍ شكلتها العبقرية السرحانية، حين أطاعت لها المعاني بقوله:

"وذَبْ رَجِفْتَه الباردَة گليبي وْغُفَه

وطَرَزِتْ للجايْ وردَة من الفرحْ"
دَبْ: بمعنى الدبيب، وتسكين الباء هنا حتى تكون المفردة شعبية، أما الإضافة الإبداعية جاءت من بوابة المزاوجة بين القلب = العاطفة، وبين الدبيب الفسيلوجي، كالرجفة العاشقة، وهي دبيب الرعشة التي تسري في الجسد حباً، وقد تسري باتجاه آخر معبرة عن حزن معين، والخطاب موجه للقلب أن يغفو على دبيب الرجفة الباردة، فنجد الجملة الشعرية أتاحت تناسق كلماتها، تحت سلم موسيقي شفاف كالنسيم المنساب بهدوء، وألحقها بجملة شعرية تناغمت ألحانها ومعانيها المركبة، إذعاناً للرجفة أن تطرز للقادم وردة الفرح، وكما هو معروف في التراث الشعبي، أن الوردة هي المفتاح المرمز لشادية الحب، وهي في الوقت ذاته المعبر الحقيقي عن المشاعر التي تصمت أما خجلا أو مراعاة للحبيب، ولهذا قد لا تبوح علانية حبها، فكانت الوردة ومازالت هدية القلب الصادقة، التي تجمع مشاعر الطرفين العاشقين، أما المطارحة الفنية بين الجملتين الشعريتين، جاءت غاية في سمو طوفان المعاني أحلاها وأرقها تآلفاً، مع تلاقي الألفاظ بإيقاع واحد غاية في الإنسجام، فالجمل الشعرية خفيفة على النفس، بمعان قريبة للتلقي والحفظ والقبول.
وفي قصيدة أخرى، تلك التي كانت منذ كتابتها الأولى ومازالت مقبولة، يحفظ كلماتها ملايين العراقييين، واستطيع القول أن قصائد أبو سرحان أكثرها محفوظة عند المتلقي برغبة وحب، وهذه القصيدة التي سوف أختم دراستي بها، مثلت قامة بصرية أدبية بقيت خالدة في النفس العاشقة للمتميز الشعري، وهي قصيدة: "الكنطرة" التي غناها المطرب المعروف سعدون جابر. مع أن كل القصائد التي تناولتها بالشرح والتحليل في هذه الدراسة هي مغناة أيضاً.

حدر التراجي برد
والكنطره بعيده
أمشي وكول وصلت
والكنطره بعيده
حلمانه ب مَرَه مرني الطيف مُهرَه مْزَلِفه
يا دفو جمل دفو
ياكمر ضويلي
ياذهب خيط الشمس
طوكين سويلي
لايكلي طوك الذهب
والدغش ماريده
أمشي وكول أوصَلِتْ
والكنطره بعيده
لا لا يابرد الصبح
ما تحمل جفوفي
زغيره وجواني العشك
وتوسد زلوفي
هيمه وجحيل الوكت
وما لمني نفنوفي
لوذي اعلى باجي البعد
يا روحي حدر إيده
أمشي وكول وصلت
والكنطره بعيده
= = =

هل يوجد فعلا مكان معين يختص به البرد في جسم الإنسان دون غيره؟ كقوله: "حدر التراجي برد؟" التراجي في اللغة الدارجة العراقية تعني "الحلقات، أو الاقراط" التي تعلق في الأذن، فالبرد عندما يلامس جسم الإنسان، لا يحدد له موضع دون غيره. إنما أراد الشاعر اللعب على صياغة البناء، وتشكيل موسقة الجملة الشعرية، فالسحر المنظوم هنا من الكلام المسموع المادي، معانيه تلامس الخيال العاطفي وتطربه، فالشاعر يقدم صورة شعرية دقيقة الإيقاع والخفة، تنفذ عميقا إلى الوعي الموصول بين زمنين، زمن هبوب البرد في الصباح، وزمن الحبيبة غير المعلوم، والشاعر كان على طريق الهروب فجراً من البصرة إلى الكويت، وهو المكان الذي أحتضن زمن كتابة القصيدة، فالملاقحة بين زمنين هو الخيال الافتراضي غير المحسوس، تجسد باجتياز الذات العاطفية، وما كان لشاعر أن يأتي بمصاحبة زمنين بآن واحد، كما هو الحال مع شاعرنا، فالذات الشاعرة تكون تارة الحبيب، وتارة أخرى تكون الحبيبة، وكأن الحبيبين يصطحبان الطريق سوية، ويتبادلان الحس الشعري سوية، فيكون مشتركاً بينهما وهذا مؤشر في قوله: " حلمانه ب مَرَه مرني الطيف مُهرَه مْزَلِفه
يا دفو جمل دفو
ياكمر ضويلي
ياذهب خيط الشمس
طوكين سويلي".
فالمطلق الحسي عبر عنه عاطفياً في صيغه اللغوية، مع ما يحيط الشاعر من خوف التجاوز على القانون، كونه سلك طريقاً بعيداً عن عيون الشرطة الحدودية، فكان الرمز "الكنطرة" هو المحصل الإنقاذي للشاعر، و"الكنطرة" تعني الجسر الصغير، ودلالته العبور إلى الطرف الثاني من "الكنطره" الحدود البرية، أي المكان الآمن، وهذا ما يشتكي منه الشاعر ببعد الأمان المشار له ب: "الكنطره بعيده". فإذا أردنا أن نعرف ما الذي يهدأ نفس الشاعر ويبعد عنه الخوف نقرأ هذا: " طوكين سويلي" أي الأمان ووجود الحبيبة بجانبه، وإن كانت افتراضية، والطوقين صنعا من خيوط الشمس، واستخدامه للشمس اراد بها الدلالة: الحرية، الضوء الذي ينير الطريق بالامان، الرؤية الواسعة في مداها المنظور، وذكاء الشاعر تركز في هذه القصيدة إلى أنها أجمعت خواصاً عديدة منها ما تشابه في أن القصيدة بمثابة نقد لاذع للسلطة البعثية الحاكمة في العراق عام 1963. وفي الوقت ذاته فهي عاطفية حين أذاعت خيالاتها الحسية النابعة من الذات الحبية، ابتغاء الإلهام والمناجاة، فنحن نقرأ في هذا النص الشعري انسجام الذات الشاعرة بتأويل خفي:
1- على أن لا يكون النص كله سياسي.
2- أو كله عاطفي.
3- أو كله أنسي: Humanists ، نسبة إلى إيمان الشاعر المادي.
مع أني ضد من يذهب بتحليلاته على أن الإنسيين مشبعون بالشعور الحيواني، غير آبهين بالتركيز على احترام الذات الإلهية، أي إنهم يلغون الإلهي ويحافظون على الإنساني فيهم. ولأن هذه القصيدة لا يحتكم قيامها على جدل داخلي تناقضي، بل تقوم على انعطاف خواصها الثلاث المشار إليها أعلاه على بعضها البعض، ومدلول الشاعر الإنساني لازم وحدة المعنى، وأيقظ فيها الصحوة المشاعرية في مخاطبته المكان، المتمثل بالكنطرة، والزمان المتمثل بالصباح، وعقدة الخوف أن لا يقع أسيراً بيد شرطة الحدود، وبهذا التعدد المشاعري في كل ما يدور حوله، ومزاوجته بالاحساس، تداولت العناصر مهماتها، وتلاقت بفنية أحكمت اللغة برشاقة أدواتها، حيث لا تغيير في المحتوى، مع ثبات وحدة النص، وطبيعة فهم المضمون الداخلي، وفي هذا نقرأ:

لا لا يابرد الصبح
ما تحمل جفوفي
زغيره وجواني العشك
وتوسد زلوفي
هيمه وجحيل الوكت
وما لمني نفنوفي

الحديث للذات الشاعرة، بلسان طابق الحس الداخلي بالوعي الموصول بلغة أراد لها الشاعر أن تنطق بلسان الحبيبة، فالشاعر يؤدي جملاً شعرية وكانه يرسم لوحة باتجاهات عديدة، يتنقل بالبصيرة واداء فعلها الحسي من مكان عاطفي إلى آخر، وهو يصور التلازم العاطفي وانتقالاته بدون خلل فني، والحوار هنا مع المكان، تارة تجده معاتباً، وأخرى مصالحاً لأنه مفروض عليه، وبرد الصبح أصبح محسوسا عاطفياً، بفعل ملاقحته بالعشق الروحي المخزون في الروح المتيمة، فالمناجاة تطالب الزمان الموسوم ب "الصباح" أن لا يستطيل الطريق بل يستقصره، لالا يابرد الصبح ما تحمل جفوفي، كانتا الكفان مبتردتان، فالوقت "جحيل" وتعني" الجماد، والصحراء بردها أكثر قسوةً من المدينة، لأنها مفتوحة، يلعب بها النسيم البارد كما يشاء، وترجمة هذا كون البرد أتى على الكفين قسوة، فأشتكت الحبيبة بشفافية عذبة، والصورة الأكثر إثارة وجاذبية كون الفتاة صغيرة السن، لا تتحمل قسوة الصحراء الباردة، في مناشدة الخلاص من الكَرَبْ، تتوق إلى دفْ حرارة تريح اللكفين من البرودة، ربما الدفْ الذي تنشده هو حضن الحبيب، فهي بالتالي تخفف من لاعِجِ المصيبة، فقد بني المعنى على محور تدور علية المعاني، وتجتمع في الفاظه المعبرة عن لواعج النفس، في: "هيمه وجحيل الوكت وما لمني نفنوفي" "النفنوف" أو "الدشداشة" أو الفستان، فالبرد قاس يخترق "النفنوف" والخطاب مازال عن الصباح البارد، "والكنطره بعيده" فساعة الفرج ما زالت لم تحن، وكما قلت فأن هذا البيت هو النواة التي تسبح في فضائها وحولها المعاني، لتشكل قوة وحسن ابتداءات الجمل الشعرية في هذه القصيدة، وقد برع بهذا الأسلوب الغني بجمع مؤديات الألفاظ الرشيقة، والتجوال بمعانيها على عدة وجوه، مؤسساً لنصٍ أتَبَعَهُ الشعراء المجايلين له واكثروا، لكن لم يتوصلوا إلى هذه الفنية بتوظيف اللغة بأجمل صورها.



#جعفر_كمال (هاشتاغ)       تôôèô‏_ؤôéôم#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصائد ليس لها عنوان
- أشتهي
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة4
- طيف الرضوان
- حوارية.. النرجسة والشاعر
- إبنة موسى
- الفن الكلامي ونوازع الانفعال والميول
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة الجزء الثالث
- ليلة الميلاد
- رائحة الشرطي
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة
- مناي
- الرواية الشابة بين مدركات الحس والتأويل
- سحر الحيرة والحب في تجليات العيون
- ورود
- ألهذا جئت
- خلف السدة الثنائية التلازمية في التطور والتغيير
- زمن الواحدة
- المقاييس والأحكام اللغوية والفنية في القصة القصيرة العربية ا ...
- التنومة


المزيد.....




- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة. الجزء الخامس نتناول: الشاعر ذياب كزار