أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - التشكيل الجمالي في لغة د.هناء القاضي المجموعة الشعرية -أيلول وضوء القمر-















المزيد.....


التشكيل الجمالي في لغة د.هناء القاضي المجموعة الشعرية -أيلول وضوء القمر-


جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)


الحوار المتمدن-العدد: 3627 - 2012 / 2 / 3 - 16:35
المحور: الادب والفن
    


ارتبط مفهوم التجديد اللغوي بالتغيرات التي صاحبت مسيرة الشعر العربي الحديث، حيث غابت عنه الكثير من المفردات المبهمة والمعقدة، والمصطلحات التغيبية التي لا يحتاج لها علم الإعجاز بالإضافة، فيما تتحمله اللفظة من تحرير في مضمون المعنى، ومن هذا المبدأ نحا الشعر إلى دعم وتثبيت شخصية جديدة حرة تتمتع بمفردة ذات عافية سهلة التوصيل في تشكيلها النحوي، منزاحة إلى التبسيط حتى في إملائها خاصة في قصيدة النثر سواء احرزت تلك الحداثة مكسباً لغوياً، أو مكسبا نظرياً، فإنها أي قصيدة النثر تناقح فنيتها بكيفية معالجة جمالية الصورة الشعرية، لتؤدي تلك المنعطفات التجديدية إلى طعم مستحب بنكهته. وكل ذلك نَما في عمق وشكل حداثية تنوعت فافرزت مصبات سهلة الفهم، سواء كانت في اللغة، أو في محمولاتها الفنية. مع استمرارية الحفاظ على تراث المدراس القديمة كالمدرسة النحوية البصرية، أو ما اصطلح على تسميته بالمذاهب. المذهب الفراهيدي، مذهب سيبوية، ومذهب الأخفش. وفي الكوفة مذهب الكسائي، ومذهب تلميذه الفرَّاء. كما شارك في الصناعة النحوية البصرية أبو الأسود الدؤلي حين أخذها من الأمام علي خاصة في تنقيط القرآن، حيث يروى أن الأمام علي هو أول من وضع علم النحو في تقسيم الكلمة، وأبواب: إن وأخواتها، والإضافة، والإمالة، والتعجب، والاستفهام، وقال لأبي الأسود الدؤلي أنح هذا النحو.
بدأت الذات الشاعرة البحث عن الهوية عبر محاولات متنوعة في صناعة الجديد، تعددت بأساليب وطرائق لكسب القارىء العربي غير المثقف، المحب لقراءة الشعر، الذي يستهوي استجابات التجديد ويستحسنها، خاصة إذا كانت تلك اللفظة تصاحب المعنى إلى دلالاته البينة، وقد بدأ هذا التنوع من استجابة الشاعر - الشاعرة بالاحتكاك الثقافي بأدب الغرب المعاصر، فذابت الفوارق المتشنجة العصبية من حيث تلقي الأديب لغة مختلفة في مصراعها وتفننها ومناغاتها التحولية، في مصاهرة التنوع والتجديد اللغوي في الجسد الشعري، الذي أزيح عنه القالب الجامد منه إلى نحو بنية توصيلية سهلة الفهم والتحليل.
ولكي لا تكون ماهية الهوية متشبثة بافكار قديمة تحت شعار الحفاظ على هوية اللغة، تنادينا نحن المجددين، في منهجية البنية اللغوية بدلاً من التعقيد والإبهام، إلى لغة سلسة غير خشبية، لكنني لا الغي أو اخطىء أصحاب المدرسة القديمة ببقائهم تحت لواء ذلك المداد، مقابل من اعتلوا منبر التجديد والتوصيل السهل غير المعقد في اللغة والأسلوب والمطايعة وملاينة اللفظة.
انبثقت من مفهوم هذه الفكرة التجديدية في بعض الثيّم اللغوية، نظرة جديدة في محاسنة ومقاربة سهولة اللفظ والكتابة بآن، فقد قدم مجموعة من المشتغلين في اللغة معاينة جديدة في بعض المفردات التي يمكن أن نتجاوز تعقيدات كتابتها، إلى جامعة دمشق عام 1986 وتلك المفردات كثيرة ومنها:
"رؤوف – رؤف
داوود – داود
مأذنة – مئذنة
إشرأب – اشرئب"
إذن – إذاً = وكلنا يعرف إنهما حرفا جواب وجزاء يعملان على اختلاف موقع فعل المضارع، إذا نصب فيكتب بالنون "إذن" وإن لم ينصب بالألف يكتب: "إذاً. حيث كانت فكرة المتقدمين وهم: د.عبدالكريم اليافي، د.عبدالكيم الاشتر، د.المرحوم نعيم اليافي. وذلك بتوحيد تلك الحروف إلى حرف واحد لكل منها، إما: إذن، أو إذاً، وهكذا. لكن النتيجة جاءت مخيبة للآمال، فبقيت تلك الثيّم كما هي تحت مظلة المدرسة القديمة، ولكن الكثير من الكتاب ومنهم أنا، التزم بفكرة تلك المجموعة من الباحثين ممن صادقوا على تلك المبادرة ومنهم: بلند الحيدري، والشاعر صادق الصايغ، والشاعر عباس بيضون، والروائي الطاهر وطار وآخرون.
وصلتني المجموعة الشعرية "أيلول وضوء القمر" للشاعرة د.هناء القاضي، الصادرة عن مؤسسة المثقف العربي، باخراج يتمتع بحرفية ومهارة وثقة، قالت في إهدائها لي: "أهديك باقة من ورودي" واعتبرت هذه الجملة قصيدة تجيد الإفراد والتركيب المهذب بالتكثيف المشبه باللون والفائدة. نعم هو ذاك حيث ضمت هذه المجموعة قصائد تمتعت بالبراءة، يُنظرُ لها من جهة جزالتها أنها سالمة من التعقيد، مع ما تتضمنه من الأنواع المجازية في أرقى مراتبها، وحال شاعريتها يبرهن على إنها تنطق بالسليقة وهي ملكة في أفكارها تأخذ من الإلهام ما يلقي عليها من إبداع.
أحتوت هذه المجموعة على ثلاث وعشرون قصيدة. هي عصارة إبداع تنوع بين موازنة الخفيف الاستمراري، وبين الإيقاع المتقارب في صفوته وتجانسه. على وزن تلك المصهارة العضوية بين الفنية واللغة، وجدت القاضي قريبة من صفوة النقد والتحدي، فالشاعرة التي تعددت رحلاتها كانت الأمكنة لها قصيدة يافعة، تحتار رشاقتها في غنجها ولغة عينيها، لا ملامح من لمس وغمز من الآخر، فالصنف الأصيل واضح في قراءته. حيث لا إساءة، ولا مستكره، بل الأجود كما أتت به الشاعرات المميزات من جيلها بصفاء الموهبة المكيفة مثل: رنا جعفر ياسين، لينا شدود، شادية حامد، بديعة كشغري، أشجان هندي، ميادة زعزوع، ندى أنسي الحاج، علوية صبح.
يقول الشاعر أبو نواس في جماليات التركيب من بلاغة اختص بها:
"وإن جرَت الألفاظ يوْماً بمِدْحةٍ = لِغَيرِكَ إنساناً فأنتَ الذي نَعني."
فإنك تلمس في هذا البيت الأنيق تتويج الخيال، ونبوغ التدفق العاطفي البديع من مخاض دوائر إحساسها المنقاة بالرفعة، وبما أني صاحبت وعاشرت جمالية هذا البيت المتمتع بالفصاحة مع باقة ورود القاضي، هذا لأني أجد عندها الألق الحسي الداخلي يصاحب الإصالة اللسانية، وأحكام الحساب في صناعة الألفاظ المتباينة أقيستها، كذلك إحرازها على آلية التأويل الموضوعة لها، كما هو الحال في القصيدة الحرة في بدايتها، مع الفارق في الشكل والاتجاه في الثقافة الفنية المتفقة مع بناء المكانة المعنوية، اي أن تعويل الفرائض المستقلة في الصورة الشعرية تستأثر اجتراء خَصَل المعاني الدقيقة، ومن أجل هذا قرأت الكثير من شعرها الوجداني فلم أعثر على ما يخدش الذوق المتفق مع الشاعرية الحسية في أرق مراتبها. بل أجدها في صعود تناغمي أنيق، يوضح اسلوبها التجديدي المحاط بميزة اطلقته الشاعرة نحو امتداد فيه تنويع واسع للمعاني، كونها تدنو بلغتها المرموقة من لغتنا اليومية المألوفة، حيث تجعلنا نقرؤها بقبول وشغف.
ومن أجل مبدأ اغتنى بالفصاحة والهيبة في شخصية هذه الباقة الشعرية، الذي تنوع إحساسها بميزة أحكام أجزائها الموصلة بادق المقاييس من حيث استقراء اللفظة والفكرة، وكأنما انطبعت آثارها على صفحة نوعيتها الناجحة التي تشيد العلاقة بين الأشكال والمضمون. ومن أجل هذا الإبداع المميز جئت روضها اقتطف بعض جمال أثر صفاتها، على أكثر من قصيدة منشورة على موقع "المثقف" للشاعرة القاضي، أحكمت رأيي وبسطته معلقاً ومحاوراً بعض تلك النصوص، وقد دخلت محللاً لبعض زلات فنية خفيفة، ولم أجد انزعاجاً أو ضيقاً معيناً من الشاعرة، بل العكس من ذلك كانت متجاوبة ومسرورة، وهذا يعني سعة ثقافتها وقوة حكمتها الهادئة، من حيث بلوغ هذا الكرم وجدتني أنوب من خلالها إعجابي بقصيدتها، وهذا ما شجعني أكثر على الولوج المرن بالتبصر، والاستدلال، والخلق، أحاور من ما تجلت به مجموعتها الشعرية الصادرة حديثاً بكل اطمئنان وحرية، ومن أجل هذا الاعجاب العنيف في قصيدتها أضع أولى بصماتي على هذه القصيدة المشبعة بالتصادم الفني النوعي:
عرافة الشوق
يا إلهي كم أشتاق إليك
تتوق رئتي لهواء تأتيني به مسافاتك
تهديني ريحاً "تلفح وجهي"
تخصصت الشاعرة القاضي بحساسية تحرز قدراً كبيراً مكنتها من الخوض في تفعيل بيان اللفظة محققة محاصلة المعنى في الذوات الجامحة، وعادلتها بالواقعية العاطفية في اختلافاتها الدلالية، لكي تخلق صورة شعرية تخص العامة، على اعتبار أن العاطفة صاحبت بداية الخلق الحيواني، حيث توعز اللغة الحركية إلى المتشابه في تنزيل بيان الاشارة في تحقيق المعنى للآخر، سواء كان التوصيل بواسطة لمعة العينين، أو اليدين، أو حتى الحبو إلى مقصد معين، ويحدث هذا عند الإنسان قبل النطق بالحروف، حتى تدرجت اللغة في نوعها وحساسيتها مع مسيرة العمر، ولهذا تدرجت اللفظة بحساسية اختلفت بوضوحها ذات الدفق العذري للمعنى، التي تعني بتزود طيف الشغف الرومانسي توتراً عاطفياً، عبر مصبات أكثرها قيمة بتوليد الألفاظ، من تلك الألفاظ المستخدمة في المعاهد والجامعات، إذ نجد الشاعرة تمارس شعائرها التخيلية في فضاء يدور بها حيث يشتهي، وهي متمتعة بهذا التوليف الانصياعي، أي إنها منحازة له بوعي كامل في شعرها الذي يضم بين دفتيه مهتديات تنويرية احتوتها لنفسها وعملها، حيث نجدها منزاحة بكل مشاعرها إلى الرومانسية التي لا تلتزم بالقواعد التقليدية، كون التجاوز يعمل على التجديد في السياق العام، وهذا نسميه بالتغلغل الفصيح في نص عاينته البلاغة بما قررته قدرتها على تنزيل دقائق الحالة الروحية، كما حدث عند السياب في قصيدة "هل كان حباً" وعند بلند الحيدري في "خفقة الطين"، بعبارة مماثلة نقرأ القاضي أكثر الشاعرات العربيات ميلاً للوضوح، ومقصدها التقرب من القارىء، لا لكي تبتعد عن المناورة اللغوية، بقدر ما تنوي ملامسة وجدان المتلقي، قد يسمي البعض هذا الأسلوب بالمباشر أو التقريري، لكنني اراه طيفاً مختلفاً محيطاً بأسراره، يمثل صدعا للبنى والمقاصد الالزامية التي ينأى بها البعض المتطرف من دعاة المدرسة القديمة، بينما نجد القاضي تميل إلى المدرسة اللغوية الأكثر معاصرة، كون اللغة عندها تخرج عن دائرتها باستقلالية تخصها هي، تغربل الكلام باحثة عن لفظة تعتني بمزاجية المعاني المُحَوّلة إلى وجدانية القارىء، إلى حيث معنى أكثر توليداً وجاذبية في قول عنوان قصيدتها: "عرافة الشوق" التي بنيت على محصلة تدفقاته المتعددة في نبض المضمون ، لما سيأتي بحصيلة علائق تثويرية لدفق أكثر متعة، لأن التبصير في رؤية الشاعرة العرافة هو مجاز يقتضي: أن كل حقيقة ما أريد لها غير ما وضع لها لا ترد على أي اعتراض وقد تجدها في مجازين أو أكثر، تراها العرافة مرسومة على فضاء تخيلي معين تحاورها هي وحدها، ببصيرة تقرأ الخطوط والاتجاهات والميول إلى أين تؤدي، حيث نجد العرافة تحتفل وحدها بطقوسية خاصة تخرج عن المـألوف المسرحي بالقراءة إلى توضيح معين، في قولها:" تتوق رئتي لهواء تأتيني به مسافاتك" فهي لم تخصص المسافة ولا تحددها، بل أزاحتها إلى فضاء مفتوح على عريّه، والمسلك هذا تبغيه هواءً، هو طباق وتلاقي بين اللفظتين لمؤديات المعنى، حيث تستكمل مشتقاتها العضوية الأخرى في معنى يستكمل وعي خصوبته، يلوح بالتوصيل الشفيف إلى حيث يتسع به الفضاء الملاقي والمرحب بحضوره.
مع أن الصورة الشعرية التي متعتها القاضي بكل هذه الحرية المقصودة في محاكاة القارىء بكل اطيافه، إلا أننا يجب أن نعترف، أن هذا الأسلوب لم يكن مألوفاً في الصفحات الشعرية إلا ما ندر، مثلاً في قولها: "يا إلهي كم اشتقت إليك" هي تشتاق لحبيب، لكنها تمتهن بدعواها للحكمة الإلهية، أو للقدر الذي رماه الإله بطريقها، والقدر هنا هو الحبيب، مع أن الجملة معتادة الشغف النوعي في المناداة العامة، هذا لأنها ضمنت الإله بفحوى صدق الدعوة الروحانية في خلوة مناجاتها، أو إنها مبهورة بلقاء تقلب به وجه الحبيب باصابعها وحال لسانها يقول: "يا إلهي كم أشتقت إليك" ولكن هذا التحليل يتلائم مع القيمة لا البنية الفنية في عروق النص، لماذا؟ لأنها ربطت معنى الشوق بما تلاه من معنى تكميلي من مضمون الجملة التي جاءتنا سياقاتها بالتوق أي التمني المعني بالامكنة التي تطويها المسافات، لا على تحديد معين، بل بالاهداء المجازي المختص بالرديف الجميل أن ذلك الحبيب "يهديها ريحاً" وبهذا أبقت هذا المعنى مفتوحاً على فضاءات تعاين التأويل إلى محققات عدة.
لطيفك
شمس ضاحكة
هاربة
من بلاد سئمت الحزن
تعج بالغرباء
لا تمشي على ضوء نهار
المراد بهذا التكوين الصورة المرئية، التي تعمل على طباق التعويض الفلسفي بعنوان الإيماء الشعري، الذي لا تطرق أبوابه الشاعرة، لأنها ترمي إلى السهولة بعنوان اللفظة المستساغة، وإن كانت هناك إيماءات مصدرية لكنها لا تعني الفلسفة التشكيلية في ملاقاة المعاني ببعضها، وقولها "لطيفك شمس ضاحكة" الصورة مخصبة بالفلسفة التحويلية، أو الإزاحية للمعنى، فنقول مثلاً: ليلاً تشرق الشمس في عينيكِ. لو قلنا تشرق في النهار لكانت الجملة خالية من البلاغة، إذن الشمس متحولة في مجازها في ضحكة الطيف، بمعنى أن الشاعرة وصفت الطيف شمساً ضاحكةً، كونها مزاوجة تعليلية أتفقت في السياق التوليفي العام في المضمون، واختلفت في الشكل، لأنها تلازمت بصيغة الشمس، وانحالت لطيف آخر يتابع المعنى رقصاته التناسلية، لكنه لا يتفق في التوزيع الطباقي، في قولها: "هاربة من بلاد سئمت الحزن" الشمس كانت ضحكة الطيف، لكنها وفي الوقت ذاته غير مشرقة في بلاد تفتقر لإضاءة الشمس كالدول الأوروبية، وما تبقى من طيوف تعددت احوالها تلك التي صبت في سريان المعنى ذاته. خاصة وأن الشمس لها من الدلالات ما يغني وما يُعشق فهي: إله في الأسطورة، وهي شمس الحب، شمس الحرية، شمس الخير، شمس اللغة، ومعان أخرى كثيرة للشمس تحتمل مؤديات غاية في البلاغة الإشارية والإيمائية. وفي هذا المقطع المطرز بالمحاسنة نقرأ:
يا أنت
كل معضلتي
أن عرافتي
ما كتبت أحجية تنفيني
من بلاد الثلج
ومنك
إذن الاستنتاج العام الذي من المفترض أن تكون حلوله جاهزة عند العرافة قد بسطت حقائقه المعنية عن معرفة حقيقة المحب لها، أو حتى ما يعني ببقائها أو إبعادها عن تلك الأرض التي تقيم فيها، جاء مخيبا للأمل الذي كانت ترجوه الشاعرة، أو تلك التي تتحدث عنه الشاعرة، لأن الحبيب ما زال هو المعضلة التي لم تحل، حيث بدأت العرافة بطرح صور متعددة للرومانسية، عبر وحدات صوتية تظاهرية في الشكل لا في المضمون، لأن الأصوات التي جاءت عمودية وليست أفقية تروم الحل ولا تطوله، مع أن الأثر العاطفي موجود في فضاء ما، عبرت عنه العرافة ضمن الأطر الدلالية المستنتجة من الرؤيا الخاصة المعنية بالمستمعة للعرافة، أو ما نسميها البصارة أو قارئة الفنجان أو الكف أو الطالع الخ، من القراءات أسمتها الشاعرة ب " أحجية " تنفي المكان إلى مسمى آخر.
وفي قصيدة أخرى عنوانها "هي" تقول:
هي
على موعد مع الأزل
تنتظرُ ولم تزل
تعجن الحناء
ترسم خطوط يديها
وفي مكان آخر تستكمل التداعي بقولها:
ربما
يكون خيال غائب
قادم من بعيد
يقول الزمخشري*: "التهذيب في الشعر يرجع إلى اللفظ، والتحقيق يرجع إلى المعاني" إذن فالشاعرة حققت هذا الإعجاز من بيان ماهيته ومنزلته، من حيث ترتيب المقاصد الفنية بوحدتها الإيقاعية اللائقة، فالفحص في الخصائص الجمالية سواء كان في الاحكام وخلائقها، أو في تمام البديع وخواصِّه، يستكمل ويحقق الإتقان في سياقها العام بالوحدة الحاصرة المحصنة ببيان المعاني، والحكمة تقول: "إنَّ من البيان لسحرا" من هذا المنطلق تلمسنا الإيقاع الدخلي عند القاضي محصل موهبة لا تأليف، لأنه محصن بماهيَّات تضبطه وتسهل ملاقحاته، كونها أي الشاعرة اعتنت بالفصاحة الجارية في غايتها، لا غاية غيرها، لأنه شيؤها ومقصدها يدانيها ويماثلها، وحالها ترسم الألفاظ على صفحة بيانها فتفيد تقريب الصواب في التصرف الصحيح إلى مجمعها الفني بقولها: " هي - على موعد مع الأزل - تنتظر - ولم تزل" التقطيع الفني مهم جدا في قصيدة النثر لأنه ينعش دخول القارىء إلى المعنى دون عناء التفصيل. إذن نقول إن الشاعرة حققت الغاية من دلائل الألفاظ الجارية على قياسها الأنيق بتصويب موفق، حين جعلت من علم الإعجار مصب كونيّتها و"هي" تنتظر موعد من الأزل، حين حطت بمعناها مشخصة تأويلها، حيث لا ضياع ولا انفلات في جوهر الغاية، على أعتبار ما حققته من تشخيص في جهة الإكمال بكيل غير منفلت بمعنى "ولم تزل" أي أنها لم تزل على الموعد الذي خصصته "بالازل" والأزل في ميزان ثابت الإحكام متعدد المعاني على حساب نوعه، وهي لفظة لها فرائدها وسياقتها التي تحتمل المقصد بشرط تعدد غاياته، سواء في قيمة الحدود الزمنية الحاصرة، أو التعريفية التي تشير إلى مصاهرة حقيقة ما، على سبيل المثال نقول:
إذا استطعنا أن نحدد قيمة وفحوى المقصد من "الموعد" نكون قد وفقنا أن نجلس على بساط غاية الشاعرة من هذا التوليف الذكي، حين ربطت معنى الموعد بالنظّار من البديع مع ما يبتغيه ويقرره الأزل، لأنها وضعت الحل بيده والقرار له، على اساس المعنى المرادف لماهية الطلب التي عنته "هي"، ولها فيه تصرفان:
أولاً: العاطفة المرهونة لقرار الأزل، لأنه المعني، بينما الشاعرة مستجيبة لبقائها تحت رحمة الموعد، وهو قياس مفتوح على التلعاب والترداد للقاء ما، على اعتبارها محصلة بليغة كونها جعلتنا نحن القراء نتجول منشدين النتيجة المركبة في كَلِمها، كون المقصد هو حاصل أنتظار غير محدد، والمعنى لمن يدري، لا من لا يدري، ومصباته التوليفية صحيحة الغاية ودلالاتها محترفة في تسويقها القيمي لغة وفناً.
ثانياً: إيراد الوضوح التأملي الواحد بنوية الوضوح الدلالي البديع بطرق مختلفة كالاستعارة والكناية والتشبيه. فالأزل: استعارة. والموعد: كناية. والانتظار تشبيه. قد يكون وقد لا يكون، في مثل هكذا قرار، خاصة وإن الأزل هو صاحب هذه المحصلة، والجمالية هنا أن النص تمايز في مضمونه.
وقولها: "ولم تزل" "المفترض أن تكون الجملة الشعرية مستقلةً في التقطيع، لا في التلاقح".
لا يجري هذا المعنى على المعنى الذي ما قبله وحسب، بل ربط المعنى الذي بعده، فحقق لها علم التناسج، وعلم التناسق، لأن صيغة "لم تزل" مفتوحة على مديات تعددت جمالياتها على: الطلب، الأمانة، الأخلاص، القول، الحكمة، النبل، الوعي، الموضوعية، الاستقلالية. ولأنها هكذا فهي لم تزل تعجن الحناء وترسمها على خطوط يديها، والمعنى أن تلك الخطوط المعبرة عن بلاغات معينة، تنتظر ذلك الأزل الذي قررته الشاعرة لحتميتها القاهرة، والحال إنه لا يمكن تحصيل شيءٍ من أحوالهِ إلاَّ إذا تحققت الغاية فيه. والنتيجة أيضاً ربما يكون هذا الإعجاز في التمني والمشاغفة ومحاسنة النية ومطالبها هو خيال قد يأتي من بعيد أو لا يأتي، مع أن الشاعرة تلقفت المهارة من أولها وبنيت النص على أساس الرجِع الفني، وهذا ما نسميه بوحدة النص.

أدعو القارىء الكريم محباً إلى قراءة د. هناء القاضي، وهي بين افضل عشرة شاعرات عربيات معاصرات امتهن قصيدة النثر، لما لها من تجديد البديع، وهو إدخال صورها الشعرية التمثيلية إلى دوائر فنية أكثر حداثة تتمتع بتنويع النبوغ البلاغي، وهي تحاسن الألفاظ بدلالاتها، وتبسط لتبوح متعة غاياتها في معانيها المفتوحة على فضاءات مختلفة.



#جعفر_كمال (هاشتاغ)       تôôèô‏_ؤôéôم#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع
- صباح الخير
- صاحب الكرسي، والمشاكس
- الشعر النسائي العربي بين التسفيط الكلامي وجمالية الاحتراف ال ...
- متى
- الشعر النسائي العربي بين التسفيط الكلامي وجمالية الاحتراف نت ...
- الشعر النسائي العربي بين -التسفيط- الكلامي وجمالية الاحتراف ...
- الشعر النسائي العربي بين -التسفيط- الكلامي وجمالية الاحتراف
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة. الجزء الخام ...
- قصائد ليس لها عنوان
- أشتهي
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة4
- طيف الرضوان
- حوارية.. النرجسة والشاعر
- إبنة موسى
- الفن الكلامي ونوازع الانفعال والميول
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة الجزء الثالث
- ليلة الميلاد
- رائحة الشرطي
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - التشكيل الجمالي في لغة د.هناء القاضي المجموعة الشعرية -أيلول وضوء القمر-