أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - يُعيدُ الشّارعَ إلى وَعْيِهِ















المزيد.....

يُعيدُ الشّارعَ إلى وَعْيِهِ


خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 3713 - 2012 / 4 / 30 - 02:14
المحور: الادب والفن
    


في الفجرِ، على ركبتيهِ يواجهُ ولادةَ الشّمسِ، وبرودةُ الصُّبحِ الزرقاءُ تُمَسِّدُ جلدَ وجهِهِ، ويُخزِّنُ الذكرياتِ في قلبِهِ لا في رأسِهِ، فكلُّ ذاكرةٍ لديهِ نبضةٌ وليست خيالَ صورةٍ أو صوتٍ أو رائحةْ، كان يتعمَّدُ إغماضَ عينيه والتنفُّسَ من فمه، كي لا يختلطَ داخلَهُ بخارجِه.

كان يمشي ليتعلَّمَ، تتسرَّبُ إليهِ الخبرةُ مثلَ قِطَّةٍ صغيرةٍ تتعرَّفُ بإحساسِها على ما يحيطُ بها، يمشي إلى أن تنتهي الأمكنة، كم تعلَّمَ عن الدوائرَ كي يفهمَ العالمَ، أحسَّ منذُ طفولتِهِ أنَّ لا شيءَ في العالمِ مستقيمٌ، بل منحنٍ، الكونُ مركَّبٌ من دوائرَ وأنصافِ دوائر وأقواسٍ وخطوطٍ منحنية، هندسةُ الدنيا تقومُ على الدائرةْ، هكذا فكَّرَ وهكذا عاشْ.

على حائطِ البيتِ الفقير، رتَّبَ كتبَهُ بطريقةٍ واحدةٍ كلَّ الوقت، ما قرأه، وما لم يقرأه بعد، ويبرزُ من بينها دائماً كتابُ مسخ الكائنات للعبقريّ أوفيد، وبرسومات بيكاسو، فكّرَ في هذا الكتابِ دائماً، هو ما سيأخذه ويهرب إذا شبَّ حريقٌ في البيت، ولم يقف يوماً ليسأل نفسه لماذا، ولكنّهُ يمرُّ على الكتبِ بيدِهِ بعدَ صلاتِهِ الفجريّة، كطقسٍ يعقبُ الصلاةَ بالضرورة، يلمسُ كلَّ كتابٍ بيدٍ ما زالَ الماءُ يرطِّبُ أصابعَها، وحينَ ينتهي يكونُ يومُهُ قد بدأ.

لا شيء يمكنُه أن يثيرَ جنونَه، لا الشوارعُ ولا المارَّةُ ولا الأرصفةُ المحطّمة، ولا القططُ المتّسخةُ ببقايا الليلْ، لا أصواتُ الباعةِ ولا رائحةُ المأكولاتِ التي تُعدُّ للصغارِ على عجلٍ قبلَ مدارسِهِم، كلُّ بيتٍ له رائحة، وكل رائحةٍ لها فلسفة، وكل فلسفة لها طبقتها، يمضي حافظاً كلَّ جملةٍ قالَها أو سيقولُها جارٌ لِزوْجَتِهِ في الرّضا وفي الغضب، فجيرانُهُ نمطيّونَ إلى حدِّ أنّهُ كانَ يمكِنُهُ أن يكتبَ ما سيفعلونَهُ كلَّ يومٍ من أيامِ الأسبوع، أو الشهر، أو السنة، خصوصاً تلك الأيامِ التي تتميّزُ بقبضِ راتبٍ أو بعطلةٍ، وكانَ يرى طموحاتِ الصِّغارِ تسيرُ أمامَهم في الطريقِ إلى المدرسة، بعض الأطفالِ كانت أحلامُهمْ تركضُ أو تطير، وولدٌ وحيدٌ بينهم كان يقولُ حلمَهُ بصوتٍ مسموعٍ وبلحنِ أغنيةٍ شعبيَّةٍ معروفة، رغمَ أنَّهُ أقصرُ الأولادِ قامةً، لكنّهُ كانَ أسرَعَهُمْ خطوةً، وأوَّلَهُم في الوصولِ إلى الفصلْ.

بخطوتِهِ الْمُرتَجَلةِ كانَ يعيدُ الشارعَ إلى وعيِهِ بعدَ غيابِهِ في النُّعاسِ والعتمةِ، تعرفُهُ أرضُ الطَّريقِ كما تعرفُ أعمدةَ الكهرباءِ والجدرانِ الموضوعةِ على عجلٍ منذ وقتٍ لم يعد يذكُرُهُ أحدْ، لم يَسِرْ يوماً دونَ أن يفكِّرَ بعُمقٍ في شيءٍ ما، قالَ لنفسِهِ مرَّةً مثلاً: يقولونَ إن المبنى يجاورُ الشارعَ، بينما لا يفكِّرونَ أنّهُ لولا المبنى لما كانَ الشارعُ، الأبنيةُ حينَ تتركُ فضاءً أمامَها لتتمكّنَ من التثاؤبِ صباحاً، يصبحُ التثاؤبُ مع الوقتِ شارعاً، يُخرِجُ دفترهُ الصغير وقلَمَهُ ويكتُب: الشوارعُ تثاؤبُ الأبنية، لكنَّهُ حينَ وضعَها في مقالِهِ في اليومِ التالي، شطبَها رئيسُ التحريرِ، فالمجلَّةُ يقرؤها بسطاءٌ ولا يحتملونَ كلاماً غيرَ مفهوم، وحينَ سألَه: كيفَ عرفتَ أنهم لن يفهموه، قال الرئيسُ بثقةٍ: إذا لم أفهمه أنا، فكيفَ تتوقَّع أن يفهموهُ؟، يومَها فَهِمَ منطِقَ الرئيسِ في الحكمِ على الشعبْ.

كانت له زوجةٌ يوماً، كباقي الزوجاتِ في باقي الحارات، جميلة، تجلسُ في البيتِ تعدُّ الطعامَ، وتعدُّ الساعاتِ إلى موعدِ رجوعِهِ، وفي أوقاتِ فراغِها، تقرأُ ـ إن قرأت ـ مجلَّةً عن آخر الطرقِ لعمل المكرونة، أو تجلب إحدى الجارات وتتعلَّم منها كيفَ تحافظ على السجادةِ نظيفةً، ومع الوقتِ تعلّمَتْ قراءةَ الكفِّ وقراءةِ الفنجانِ وصنعَ الأحجبة، طلَّقَها يومَ اكتشفَ حجاباً تحتَ وسادتِهِ، لأنّهُ حينَ فَضَّهُ، أذهلتُهُ الدرجةُ التي وصلت إليها زوجتُه، قضى أياماً بعدَها لم يتعرَّف إليها، أصبحتْ غريبةً إلى حدِّ أنها سلَّمَتْ جسدَها لأحدِ الدجّالينَ ليعيدَ إليها زوجَها الذي لم يعد يحبّها، اكتشفَ ذلك لأنّها كانت تتكلّم أثناءَ نومِها، وحينَ واجَهها بما قالت، انهارت، طلَّقَها بهدوءٍ، وبعدَ أسبوعٍ واحدٍ أصبحتْ كأنّها ذاكرة قادمة من زمن آشور، وكأنّها حكاية قرأها يوما في كتاب، ولم يتزوجها ولم يتنفس رائحة جلدها في يومٍ من الأيام.

لم يكنْ مخذولاً من أي شيءٍ حدث، أو سيحدث له، كلّ ما في العالمِ بالنسبةِ له مجرّدُ أشياءٍ تحدثُ، وأيُّ شيءٍ يمكنُهُ أن يحدثَ أو لا يحدث، أن تنهارَ بنايةٌ أو تبقى واقفة، فهذان احتمالان كلّ منهما قابلٌ لأن يحدثَ، لم تؤرِّقهُ الأشياءُ الخارجةُ عنهُ، داخلُهُ فقط ما كانَ يعنيه، إذا أحسَّ برغبةٍ في شيءٍ ذهبَ إليه، لم ينتظر يوماً أن تأتيه الأشياء، بل حتى تلك التي أتتهُ لم يعرف هل يتوجب عليه أن يحبّها أم لا، وحينَ خرجَ رقمُ هاتفهِ يوماً على شاشة التلفزيون، وأعلنوا أن صاحبَ هذا الرقمِ قد فاز برحلةٍ إلى أوروبا لالتزامه بدفع الفاتورة لخمس سنوات دون تأخير، اعتبرَ أن هذا شيئاً عادياً، بهرتهُ أوروبا ليومٍ واحدٍ بصيفِها الغريب، وفي اليوم الثاني كان يسير في شوارع أمستردام كأنه يعرفها منذ وُلد، هكذا كان، يمتصُّ دهشةَ الأشياء دفعةً واحدة كمن يغطس في بحرٍ باردٍ فجأة، ثم تتحوَّلُ إلى العادية فوراً.

فَسِّرَ الثَّلجَ بأنَّهُ حُسنُ نيَّةِ الفصولِ تجاهَ الأرضِ، وعشقَ بياضَهُ وبرودَتَهُ، صنعَ منهُ أشكالاً لا تُحَدُّ، وحينَ رسَمَ منذُ كانَ طفلاً، كانتْ أوراقُهُ سوداءَ برسوماتٍ بيضاء، كلُّ أبيضٍ يذكِّرُهُ بالثَّلجِ، لذا لم يترك صديقاً مريضاً في مستشفى إلا زارَهُ كلَّ يومٍ إلى أن يشفى، يحتفظُ بأكياسِ قطنٍ هائلة في الثلاجةِ، وكثيراً ما كانَ يرفعُ الأثاثَ من غرفة نومِهِ فارشاً أرضَها بالقطنِ الباردِ، متمدداً وهو عارٍ، مغمضاً عينيه تاركاً لملمس القطنِ الناعم أن يتسربَ إلى روحِهِ نغمةً نغمةً، وكانَ الجميعُ حولَهُ يجهلُ هذا السِّرَّ، لكنّهم جميعاً يعرفون أنّهُ لم يرَ ندفةَ ثلجٍ واحدة في حياتِهِ.

أحبَّ كلَّ شيءْ، ولكن بسلّمِ أولوياتْ، الشجرُ يأتي أولاً، فلا يمرُّ بشارعٍ دونَ شجرٍ حتى لو كان ذلك يعني أن يسير ثلاثة كيلومترات زيادةً عن الطريق المختصر العاري من الشجر، أحبَّ القططَ وأطعمَ كلَّ قطةٍ رآها في الشارعِ، أحبَّ النملَ وراقَبَهُ بشغفِ الأطفالِ، أحبَّ الأطفالَ الذاهبين إلى مدارسِهِهم بعيونٍ يلعقُها قطُّ النعاسِ وتخربشُها أقلامُ الدفء في ذاكرتهم الصّغيرة، أحبّ كلَّ شيء، وكانَ يكتبُ: لا شيءَ في العالمِ لا يستحقّ الحبَّ، وحينَ سألَهُ رئيسُ التحرير عن المجرمين هازئاً من مقولته، رد: لو وجدوا من يحبُّهم لما أجرموا.

في نهايةِ يومِهِ، دائماً، هناكَ عملٌ ناقصٌ لم يتمّ، هكذا كان يظنُّ، رغمَ أنّهُ لم يعرف يوماً ما هو العملُ الذي لم يكمله، قادَهُ إحساسهُ هذا إلى أن يفعل كل شيء ببذخ، بذخ في الخطوةِ، بذخٌ في الوقتِ، بذخٌ في العاطفة... إلخ، وآخر فعلٍ قبلَ أن ينامْ، كان يجهِّزُ الفجرَ على الطاولة جوارَ فِراشِهِ، كي لا يصحو متأخراً فلا يجدُ الفجرَ في انتظاره.


التاسع والعشرون من نيسان 2012



#خالد_جمعة (هاشتاغ)       Khaled_Juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السُّقُوْطُ كقِطْعَةِ لَيْلْ
- امرأةُ اللاشيء، امرأةُ كلِّ شيء
- يوماً، ستعودُ المدينةُ إلى وردِها
- ما قالَهُ ابنُ عمروٍ* لحِصانِهِ جوارَ النَّهرِ
- وبي حزنٌ قديمْ
- وَرَأَيْتُهَا
- مقام سيدي يوسف البتّيري قصة قصيرة
- ما لا يعرفه أطفال غزة
- توقفوا عن إلصاق تهمة البطولة بهذه المدينة
- يوقظُني حلمُكِ من نومي
- إعتذار شخصي لهناء شلبي
- كانت المرأة سيدة العالم، لذا وجبت إزاحتها
- من ذا يمكنه أن يعدَّ الحنين؟
- خضر عدنان، رجل مقابل دولة
- ما زلتُ على عتبةِ البيتِ
- رؤيا مجدليّة أو خيالاتها آخر الفجرِ قبل الصليب
- كان ياما كان، بلد جوات دكان
- [ريتّا] وزجاجةُ الفَرَحْ قصة للأطفال
- قال لي
- قطعةُ حلوى في آخرِ الحكايةِ


المزيد.....




- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - يُعيدُ الشّارعَ إلى وَعْيِهِ