أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - أمونه تخاوى الجان وتوظيف التراث















المزيد.....

أمونه تخاوى الجان وتوظيف التراث


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3642 - 2012 / 2 / 18 - 10:49
المحور: الادب والفن
    


تتميزالمجموعة القصصية (أمونة تخاوى الجان) للكاتب الجليل الراحل بيومى قنديل ( الذى طبعها على نفقته الخاصة ) بعدد من الملامح المُتميّزة فى كتابة القصة القصيرة منها (وحدة النسيج) إذْ أنّ القارىء سيكتشف أنّ العالم الذى تدور حوله أو (الفضاء القصصى كما يكتب بعض النقاد) هو عالم واحد . إنه قرية من قرى محافظة المنوفية . وللدقة فهما قريتان متجاورتان : متحابتان ، متعاديتان ، متقاربتان ، متنافرتان : سرس الليان وكفر سرس الليان .
هاتان القريتان كانتا ( مثل كل القرى المصرية ) نموذجًا نبيلا لروح التعاون ، عندما كان يمضمهما هدف قومى واحد : مقاومة المحتل . وهى المقاومة التى خاضها شعبنا المصرى وسجّلها التاريخ بحروف من نار ونور ، باسم أعظم ثورة فى المستعمرات البريطانية فى القرن العشرين . وهى الثورة التى أطلق عليها فلاحو مصر ثورة برمهات 19 ولأنّ الفلاحين خصوصًا كانوا ومازلوا يحفظون الشهور المصرية ، شهور الزراعة ، وبالكاد يعرفون الشهور الأفرنجية وبعض الشهور العربية ، فإنّ المؤلف كان حريصًا على أنْ يتوارى خلفهم ، وبالتالى كانت أسماء الأشياء ، وكان اللسان وكانت اللغة والأحاسيس تعبيرًا صادقًا عن شخصيات المجموعة : عقائدهم وأساطيرهم وحتى خراريفهم ، ولكن بطاقة الإبداع ولغة الفن .
ولأنّ المؤلف هو الراوى فى كل قصص المجموعة ، ولأنّ صلته بقريته سرس الليان لم تنقطع . ولأنه اختزن كل الوقائع والحكايات ( الواقعى منها والأسطورى ) فإنّ لحظة الكتابة لديه تبدأ من حدث واحد . هذا الحدث هو المفجّر الذى يُحرّك المخزون المستكن فى قاع الذاكرة .
تبدأ القصة الأولى ( شيلان قبة السما علا كفوف الرجلين ) بهجوم زاحف يشنه أهالى سرس الليان على أهالى كفر سرس الليان . والهجوم هدفه تأديب أهالى الكفر ، والسبب أنّ (كفراوى) ضرب (سرساوى) بالقلم ((علا طارة سدغه)) وشتمه شتيمة ((من منقى يا خيار)) .
هذا الحدث الصغير الذى يقع بعد يوليو 52 ، يُفجّر لدى الراوى مخزون الروايات التى سمعها عن ثورة برمهات 19 إذْ أثناء المعركة التى دارت بين القريتين ، تبرز شخصية (فرج النوحى) أحد أبطال ثورة 19 وهنا يبدأ دور المخزون فى التوفيق بين رصد الواقع الراهن الذى يشاهده ( العداء بين القريتين ) ومقابلته بالماضى (ثورة 19) التى وحّدت أهالى القريتيْن ضد المحتل .
فى رصده للحاضر وتقابله مع الماضى ، فإنّ الكاتب يتوقف أمام شخصية فرج النوحى فهو كلّما نظر إلى رأسه ، رأى أثر ثورة برمهات كوسام أو بريق ل اينطفىء . قال الراوى (( لولا الندبه اللى دماغ الخرزانه سابتها زى النقره فى قورة سيدنا فرج النوحى ، ما كان ش اللى حصل فضل حى بالشكل دا فى ذاكرتنا وكنا إحنا أهالى سرس الليان وجيرانها اللى حضرو ثورة برمهات19 . واللى سمعو بودانهم زيى م اللى عاشوها بدينا ننسا ونقول لبعض : يووه إنت لساع فاكر؟)) والكاتب هنا يثير قضية : من يحمى ذاكرة الأمة من الانقراض ؟ وكيف ؟ ولماذا حدث النقيض فى بناء الشخصية القومية ؟ من التعاون وسيادة روح المودة ،إلى البغضاء وسيادة وباء العداء ؟
ويكون الحدث (= المفجّر) فى القصة الثانية (عطر الجيب تولد جوزها دهشان) هو الموقف النبيل للعمدة الذى أجبر مأذون القرية على عقد قران (دهشان) على (نميسه) الغجرية التى أعطاها الفلاحون اسمًا من إبداعهم (عطر الجيب) لأنها كانت تُقدّم زهورها وورودها بالمجان للأطفال ولكل أهل القرية. ولو نِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِسيتْ (( وحطيتْ ورودها فى جيبك ، ريحتها تفضل تفحفح منه سنه حول . ودا السر ورا اسمها )) إنّ عقد قران دهشان على عطر الجيب هو الحجر الذى تسبّب فى الدوامات التى كشفت عن جانب من حياة الغجر الذين عاشوا فترة من حياتهم فى تلك القرية. فنتعرّف على شخصية (عندريس الحداد) الغجرى الذى إنضم إلى صفوف الفلاحين لمقاومة الإنجليز الذين شنقوه مع خمسة فلاحين. وبعد أنْ مات رفضتْ ابنته نميسه (عطر الجيب) الرحيل مع أهلها الغجر. وقرّرتْ البقاء فى القرية. تعتمد على نفسها وتمارس مهنة والدها (تبييض النحاس) كما أنها رفضت الزواج . لأنّ ((الغجرية تعنّس ولا تتجوزش برا دايرة الغجر)) إلى أنْ ساق لها (النيل) ابنًا وزوجًا )) .
كان النيل يحمل (ضمن أشياء كثيرة) جثث الصبايا ((اللى غلطت وعشقت ببطونهم المنفوخه)) ولأنّ عطر الجيب (رغم صغر سنها) اكتسبت فنون أهلها الغجر ، ومنها قدرتهم على توليد ((الحبله بعد ما تموت)) فإنها تلتقط جثة فتاة حامل . وتنجح فى إنقاذ الجنين الذى تحرص على حمايته ورعايته حتى يكبر ، فيكون هو زوجها دهشان .
أما الحدث / المفجر فى القصة الثالثة (أمونه تخاوى الجان) فهو أنّ (بهنسى الضوى) تقمّص شخصية (بشندى أبو شاهين) ليكون هو الملك السابع على عرش أمونه بنت عطر الجيب من زوجها دهشان . أمونه فى ليلة دخلتها تستعصى على زوجها (مسعود النوحى) ابن فرج النوحى . لأنّ الأسياد (( تبتو فى جتتها وفضلو محرّمينها على جوزها سنه حول )) حسب رأى الشيخ جعفر الشبراوى الذى تولى مهمة (تطليع) الأسياد من جسدها ، وأقسم بقدرته على هزيمة الأسياد . ولكن السنة تمتد إلى نهاية العمر. فلا يلمسها زوجها أبدًا. فالمسألة ليست فى الأسياد ، وإنما لأنّ أمونه لها (قرينة) والقرينة تختار (القرين) الذى تعشقه. وقد اختارتْ قرينتها سبعة ملوك جلسوا على عرشها. كان آخرهم بشندى أبو شاهين الذى احتال عليه بهنسى الضوى ليجلس على العرش بدلا منه. ولكنه (ما بين بداية القصة ونهايتها) ينهار. لأنّ خبرته عن شخصيتها الآسرة فى تلافيف مخه هزمت تهوره عندما قرّر تقمص شخص الملك السابع . بل إنّ بذرة الانهيار يزرعها المؤلف فى بداية القصة. وعندما يصل القارىء إلى النهاية تكون بذرة الانهيار قد أنبتتْ رعبًا حقيقيًا . فى البداية نقرأ (( فى اللحظه اللى صوت الأدان نبق فيها زى كدية ضى ورا العتمه الراسخه. بهنسى الضوى إتسمّر لكم مطرحه. إتلفّت حوالين نفسه. يمين فى شمال زى ما يكون إتورّط ودخل وادى متقدس : بص لقا نفسه لا قادر يرجع لورا ولا قادر يتقدم لقدام)) فإذا كان بهذا التوتر فى البداية ، فمن الطبيعى أنْ يكون كلّما همّ بالاقتراب منها ، أنْ يتعاظم الرعب داخله فيشعر أنّ ((نجم رهيب ح يطس فى نجمه أرهب منه)) فكانت النهاية المنطقية أنْ يفر هاربًا. وأمونه التى تستجيب دائمًا لنداء قرينتها ، أمونه فائقة الجمال ، صاحبة الإرادة الحرة ، ولأنها كانت مطمع الرجال ، فقد نالت حبهم وحقدهم ، الثناء عليها والتشهير بها. لذلك كان بهنسى متسقًا مع نفسه (( وهو يجمع داخله بين الرغبة فيها والرهبة منها )) ويراها (( إلاهه لبوه ح تهجم . موش جاريه غلبانه ح تتمنع)) وبالتالى فهو فى نهاية المشهد عند الانسحاب يراها ((الممكنه المستحيله. الفاجره العفيفه)) .
ويكون الحدث / المفجر فى القصة الرابعة ( الموت صومان ) هو جنازة فرج النوحى الذى قرّر أنْ يضع نهايته بنفسه بالامتناع عن الطعام والشراب. فرج النوحى هو أبو مسعود النوحى زوج أمونـه . وهو (متعوس النوحى) و(البقف) و(الترل) وهى الأسماء التى أطلقها عليه أهل القرية من بين 88 اسمًا. هذا ال (الترل) استجاب لرغبة أمونه وطلب من أبيه أنْ ينقل حجة الغيط والدار باسمه. وبعد أنْ استجاب الأب لرغبة ابنه ، إذا بالأب يجد نفسه كالغريب وسط الدار. إذْ عندما عاد من الغيط بعد العشا (( لقا الكانون مهدود وساعتها عز عليه ييجى يوم يكسر بتاوه عند حد م الجيران)) وقال الراوى إنّ فرج النوحى اللى كانت داره مفتوحة لكل أهالى القرية. واللى كان دايمًا يردد حكمة جدوده (( الحى اللى ما يقدرش يتحكم فى حنكه ما يقدرش يسيطر علا بقية بدنه)) وهى الحكمة التى طبّقها (بطيابه أو بخيابه) على زوجته (ستنا عزيزه) بعد وشاية زوجة ابنها أمونه من إنها (= ستنا عزيزه) كانت (( ماسكه بز البقره وبتحلب : تضرب شخب فى المترد وشخبين فى حنكها )) ونتيجة هذه الوشاية ، طلّق زوجته ستنا عزيزه التى رفضتْ أنْ تدافع عن نفسها ولو بكلمة واحدة. بعد كل هذا يجد فرج النوحى نفسه كالمنبوذ فى داره . ماذا يفعل وهو كان يردد دائمًا أمام أهالى القرية حكمته الثانية (( الأكل بيعفن الجوف وحب الأكل بيعفن الروح )) لذلك كان من الطبيعى كما قال الراوى ((إنْ الراجل العجوز بدا فى اللحظه دى صومانه حتا عن الكلام)) .
ويكون الحدث/ المفجر فى القصة الخامسة (شوق تنزف للشيطان) هو وصول ثرى عربى لشراء بنت أو أكثر من بنات القرية. نعم شراء تحت اسم (عقد زواج) إذْ أنّ العربى يعاين البنات كما يعاين المشترى أية بضاعة. تقف بنات القرية فى طابور طويل فى انتظار دورالمعاينة ، التى تتم فى غرفة خاصة وبحضور شخصية واحدة (سعدة أم سبيع) التى تقوم بدور السمسار أو القوادة. وتبدأ المعاينة بالشفاه والأسنان وتنتهى بخلع الملابس قطعة قطعة. وإذا جاء الدورعلى القطعة الأخيرة. وظهر التردد على وجه الفتاة. قالت لها القوادة فى لهجة تحذير((طيرك ح يخطفه غيرك)) وإذا استمر التردد قالت تُشجّع الفتاة (( إدى له ضهرك بس وإنتى بتقلعيه )) وبعد أنْ يعاين العربى كل شبر فى جسد الفتاة بأصابعه ، قد تُعجبه وقد لاتعجبه ، وفى هذه الحالة الأخيرة تقول المرأة السمسار للفتاة ((خراط البنات ما خرط كى ش)) وتكون قمة المأساة أنّ والد الفتاة أو عمتها (أثناء عملية المعاينة) ((بيصلو برا الأوده فى المندره ، ربها ياخد بيدها )) فإذا كان هذا هو موقف بعض الفلاحين ، فهل يُفوّت (الترل) مسعود النوحى الفرصة ؟ إنه يُقدّم ابنته شوق للمعاينة. ولكن شوق تم عقد قرانها منذ شهور على شبل ابن القرية. وهو الآن فى وحدته العسكرية فى السلوم . فإذا بالأب (متعوس النوحى) الذى أصبح اسمه الجديد ( الدكر) يطلب شبل فى التليفون ليحضر على وجه السرعة كى يرمى يمين الطلاق على ابنته ، خاصة وأنّ العربى صرف النظر عن كل فتيات القرية وتوقف أمام جمال شوق الأخاذ. ولكن أمونة ( أم شوق ) تصرخ ((بنتى ما تتجوزش برا بر مصر)) أما شوق التى (غوّطت) فى التعليم ، ولأنّ التعليم أقنعها بأنها (عورة) فقد ردّت على صرخة أمها (( الرأى رأى شبل )) فهل هذا الرد من شوق اعتراف صريح بأنها مسلوبة الإرادة ، أم أنها (بهذه الإجابة) تتمنى الزواج من العربى وتنتظر موقف شبل : هل سيطلق أم يتمسك بها ؟ ورغم أنّ شبل (زرجن) ورفض الحضور، فإنّ شوق سافرت مع العربى وعادت بعد خمسة شهور (( حافيه وبطنها منفوخه )) .
بعد هذا العرض الموجز لقصص المجموعة يتضح أنّ النسيج واحد (وحدة المكان. الشخصيات بذات أسمائها وخصائصها فى كل القصص . علاقتهم بالأحداث إلخ) وحيث أنّ القصص الخمس يُخيّم عليها روح الجماعة المصرية منذ ثورة19 وحتى نهاية القرن العشرين ، لذلك يستشعر القارىء أنه إزاء ملحمة من خمسة فصول أو إزاء قصيد سيمفونى من خمسة مقاطع .
التوظيف الدرامى للأسطورة
يتحكم فى سلوك الشخصيات تراث ضخم من الغيبيات . بعضها يرتفع إلى ذروة الأسطورة. وبعضها يهبط إلى حضيض الخرافة. ولعلّه (باتريس دى لاتور) الذى قال ((إن الشعوب التى لا أساطير لها محكوم عليها بالموت)) لذلك كان المبدع بيومى قنديل موفقًا عندما مزج الغيبيات بالواقع ، بحيث يصعب الفصل بينهما . بل بحيث يكونا كوجهيْن لعملة واحدة .
عن ثورة 19 يتذكّر كبار السن أنّ ((القضبان إتخلّعت والفلنكات إتقلّعت. واللى حكو قالو الجان نزلو. والأوليا طلعو. والميتين صحيو ساعدو فى اللى حصل بسدورهم)) بل إنّ الفلاحين يسمعون نداء الشجر. أما الطيور فهى مبروكة ((والكبارعننا كانو يأكّدو لنا إن الطيور دى أطفال زينا بس عليها أحكام . والسجر الغريب متقدس لا نقلعه ولا نجرحه)) أما جثث الصبايا ((اللى غلطت وعشقت ببطونها المنفوخه. كانت تفضل عايمه علا وش التيار لحد ما ربها يوقف لها ابن ولاّ بنت حلال ع الجسر. تنضرها بالعين . تنده عليها بالإيد والصوت : ع البر يا طالبه الدفنه)) بل إنّ الجثة ((تسمع الندهه وتشوف اللى بتنده – سبحانه ما أعظم شانه – تحود ع البر. وشىء إلاهى كانت تِجيب وياها للبر صحبة بشنين وطوق زرع خضرا)) وسيدنا على الطويل ينزعج من العداوة القائمة بين أهالى القريتين . فماذا يفعل ؟ ((شال قبة السما علا كفوف رجليه خوف لتقع علا البلدين)) ولكى يفعل ذلك فلابد أنْ يتجسّد فى شخص واحد من أهالى القرية (لإن القرين) يقدر ياخد رسم وكسم أى بنى آدم حى مننا. ولما سيدنا على يحب ياخد رسم وكسم حد مننا ، ح يلاقى مين زى الراجل اللى جنونة ثورة 19 إتلبّسته (أى فرج النوحى) وإذا كان الفلاحون يعتقدون أنّ سيدنا على الطويل ((شال قبة السما على كفوف رجليه)) فإنهم بذلك ( يُعصرنون) – دون وعى – أسطورة البقرة المقدسة حات / حور التى رفعت السماء بمساعدة ثمانية آلهة أرسلهم إليها الإله آمون كواحدة من أساطير الحضارة المصرية . وفرج النوحى عندما يُقرّر(الموت صومان) فإنّ المكان الذى سيشهد نهايته عبارة عن ((خص بوص نزل مجدول – كدا منه لوحده – م السما السابعه )) .
وأمونه وهى تختار العاشق الجديد ، فإنّ الفلاحين لهم تفسيرهم ((كل اللى حصل قرينتها إتوحمت علا قرينه فى دنيا الأرواح)) وإذا كان العلم يُفرّق بين الأسطورة والخرافة. وإذا كانت الأسطورة نتاج خيال خصب ، فإنّ الخرافة نتاج واقع مجدب. والخرافة (غالبًا) تكون لتبرير الاستغلال مثلما فعل الشيخ الشبراوى وهو يُبرر فشله فى التوفيق بين أمونه وزوجها فقال ((حسبتْ النجم بتاعهم ما لقيت هم ش موافقين بعض)) أما عن أسطرة الواقع ومزجه بالتراث الدينى ، فإنّ الكاتب يلتقط الوجدان الشعبى للفلاحين ومعتقداتهم عن صورة الجنة فى الآخرة. فيصفها فرج النوحى ((الجنه ح تكون إيه غير غيط واسع . كلنا نزرع ونقلع فيه . واللى يعوز يمد إيده)) وهى نفس الصورة التى وردت فى كتاب الخروج إلى النهار الشهير باسم (كتاب الموتى) عن حقول اليارو ( = الجنة) .
وإذا كانت رحلة فرج النوحى مع الحياة مليئة بكل ما هو غرائبى ، فإنّ مشهد رحيله إلى العالم الآخر يأخذ طابعًا أسطوريًا. إذْ أنّ الفلاحين الذين مشوا فى جنازته يؤمنون إيمانًا راسخًا أنّ أموات القرية خرجوا من قبورهم ومشوا معهم فى جنازته. أما فرج النوحى القابع جسده داخل نعشه. فإنّ روحه تُوقف مسيرة الجنازة و(يتسمّر) النعش أمام دار زوجته ستنا عزيزه التى طلّقها فى لحظة غضب. لماذا أصرّت الروح على التوقف أمام دارها ؟ تأتى الإجابة على لسان ستنا عزيزه التى أشارتْ إلى النعش وقالت ((روح مسامحاك)) وعندما ظلّ النعش واقفًا لا يتحرك ، عندئذ فهمتْ ستنا عزيزه أنّ الروح تطلب المزيد ، فصاحت تنادى على ابنتها ((تعا يا خضرا سامحى أبوكى)) .
اللغة المصرية الحديثة :
كتب الراحل الجليل بيومى قنديل مجموعته القصصية باللغة التى أطلق عليها اللغة المصرية الحديثة فى كتابه (حاضر الثقافة فى مصر) وأنّ هذه اللغة ليست عامية العربية. نتيجة دراسته للغة المصرية القديمة . وما وجده من علاقات بينها وبين لغة المصريين الحديثة. وأثبت الكاتب أنّ هذه اللغة لها بلاغتها وجمالياتها. فهو إذْ يصف دهشة الفلاحين فى موقف ما ، يكتب على لسانهم ((الزهول شلنا أدرعه وألسنه)) وإذا وصف شخصًا يختبىء فى الظلام يكتب ((جسم شربان من سواد الليل وكحله)) وإذا كان الشيخ الشبراوى يبالغ فى التعاويذ التى يتلوها ولايريد أنْ ينتهى يكتب ((يخلّص لك من رقوه يلضم فى اللى وراها زى ما يكون حاططهم فى سبحه مخفيه فى دماغه)) وإذا كان أطفال القرية قد تلصّصوا على (الدايه) وهى تفض بكارة أمونه ، فإنّ أحدهم عندما يتذكّر المشهد ((ما إفتكرش غير كعبين مفشوخين واحد بحرى والتانى قبلى ومتسمرين فى الهوا)) وشباب القرية عندما شاهدوا أمونه تنزل الترعة لتستحم ، فإنّ الكاتب يصف المشهد وفق خيالهم ولغتهم وبيئتهم ((شافوها لكم واقفه تحت سما الربيع الطرى . وشمس برمهات أشعتها البيضا الحليب نازله ترخ عليها. وهىّ واقفه حافيه وشعرها محلول علا حرف جسر الترعه اللى كانت مليانه للطمامه والنسيم لازق فستانها فى جسمها لاغى الفستان ومخلى الجسم موجة نور)) وعندما تعدّدتْ مغامرات أمونه مع عشاقها ، فإنّ شباب القرية تجمّعوا على زوجها (البقف) : ((إتكاترو عليه وطحنو عضمه بالشوم وسط الغيطان بعد ما غلب حمارهم وياه. يلمّحو له يطنش. يتنأوزو عليه يصهين. يقولو له بصريح العباره يهزكتافه ويقول : دى غيرة معايش. ويومها أغما عليه ولما رشو علا وشه مايه وبربش ، كان أول كلمه يقولها لهم : أعزنى عبيط ع شان أطلّقها لكم)) والراوى (إذْ يُدرك شيئًا من خبايا القرية بعد أنْ كبر) فإنه لا يلجأ إلى التعبير التقليدى المباشر، وإنما يكتب ((ما عرفت هوش غير فين لما هدوم أبويا اللى كانت شالحه علىّ وبقت تيجى علا قدى )) .
إنّ مجموعة (أمونه تخاوى الجان) علامة بارزة فى تاريخ القصة القصيرة. بوحدة النسيج فى القصص الخمس . بالإبداع فى معالجة سيطرة الأسطورة على العقل والوجدان الشعبى فى الريف المصرى . والمزج بين الأسطورة والواقع . ببلاغة اللغة المصرية. وقدرتها على خلق جمالياتها الخاصة . بالوعى بالتراث الشفاهى فى حكمة الجدود ((نقبل الدنيّه ليه ؟ وكدية جوع ضاع (نبات الجعضيض) شيطانى بتملا البطن)) فى التغيير الذى حدث فى الشخصية المصرية. فبعد أنْ كان المثل الشعبى يقول ((لو كان دراعك عسكرى إقطعه)) إذا بالفلاحات تغنى الآن فى الأفراح (( إوعا يا واد إوعا لها. دا الظابط يبقا خالها )) . فى رحلة شعبنا مع الخرافات وانتقالهم من ((خراريف قديمه إلى خراريف أجدد)) . من الشموخ القومى المتجسد فى روح ثورة 19 إلى انهيار الشخصية القومية المتجسد فى ( بيع ) بنات القرية لشيوخ العرب . مع التأكيد على أنّ كل التفاعلات صاغها الكاتب بلغة الفن . فحقق إبداعًا متميزًا : المزج بين تجسيد الأسطورة وتجريد الواقع .
*****



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبد العزيز جمال الدين واللغة المصرية
- لقاء البهجة والتوتر - قصة قصيرة
- عادل مطلوب للشهادة - قصة للأطفال
- ثنائية الكمان والبيانو: قصة قصيرة
- الحرية أو الموت : شعار الأحرار
- روح الفراشة - قصة قصيرة
- محمد على بين التأريخ العلمى والأيديولوجيا السياسية
- تلك المرأة - قصة قصيرة
- رحم الحياة - قصة قصيرة
- امرأة البرد والظلام - قصة قصيرة
- حالة تلبس - قصة قصيرة
- تلك اللوحة - قصة قصيرة
- رحلة إلى الواحات- قصة قصيرة
- كول عناب - قصة قصيرة
- شخصيات فى حياتى : عمى الحاج متولى
- شخصيات فى حياتى : عم سعيد
- شخصيات فى حياتى : الأستاذ أديب
- الإبداع بأسلوب الحكاء الشعبى
- العلاقة العضوية بين الكهنوت والعسكروت
- العروبة والمخطط الصهيونى لاحتلال فلسطين


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - أمونه تخاوى الجان وتوظيف التراث