أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - رحلة إلى الواحات- قصة قصيرة















المزيد.....

رحلة إلى الواحات- قصة قصيرة


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3626 - 2012 / 2 / 2 - 10:27
المحور: الادب والفن
    




سألتنى عن موقف أتوبيس الواحات . قلت (( أنا ذاهب إلى هناك )) لاحظتُ أنها تتعثر فى خطواتها . تمشى بضع خطوات ثم تضع حقيبة السفر على الأرض لتستريح . عرضتُ عليها حمل حقيبتها فلم تمانع .
إنها المرة الأولى التى أقرر فيها الذهاب إلى الواحات . لا أحد ينتظرنى هناك . ولا أحد يرافقنى . ولا أعرف سببًا لرغبتى التى أملتْ علىّ الذهاب .
وصلنا إلى موقف الأتوبيس . لاحظتُ أنها لم تتقدم نحو شباك التذاكر مثلى ولم أهتم . علمتُ أنّ الأتوبيس سيتحرك بعد نصف ساعة . عرضتُ عليها الجلوس فى كافتيريا المحطة فلم تمانع .
عاتبنى أصدقائى كثيرًا على عادة متأصلة فى طبعى ، إذْ أنسى نفسى وأنا أنظر فى وجوه الآخرين . وقالوا إنها عادة مرذولة . ورغم اقتناعى بنصيحتهم ، أضبط نفسى أفعلها فى الطريق . فأنا مولع بتأمل الوجوه . ومغرم بقراءة جلد الوجه والعينين . وأُشبع رغبة لا أعرف لها سببًا .
وهذه السيدة التى تجلس أمامى ، والتى لم تمانع فى حمل حقيبتها ، ولم تمانع فى دعوتى للجلوس فى الكافتيريا ، ماذا وراءها ؟ هل هناك غير وجهها يفض غشاء صمتها ؟ تخلّصتُ من ترددى وصوّبتُ نظراتى إلى الوجه الجالس أمامى . شدّنى جلدٌ متغضن وبريقٌ لامع فى العينين . وعندما سألتها ماذا تشرب ، لم تسمعنى من المرة الأولى . فتأكّد شعورى بأنها غائبة عنى فى عالم لا أعرفه . عدتُ للجلد المتغضن ولبريق العينين. أقرأ بعمق . مطمئنٌ إلى أننى لن أُضبط متلبسًا بالتطفل . قالت قراءتى الأولى إنه صراع الشباب والشيخوخة . لم أطمئن لهذه القراءة . قالت قراءتى الثانية علّه امتزاج الشيخوخة بالشباب . أحسستُ بها قراءة قلقة ، فقالت قراءتى الثالثة ربما يكون تغضن الجلد مع بريق العينين هو تصالح شيخوخة الجسد مع روح الشباب ، قلت ربما وأنا أكاد أختنق بجهلى .
فوجئتُ بها تسألنى عن الساعة . قلت ((الثانية وعشر دقائق )) شكرتنى ونظرتْ فى ساعتها . استرختْ فى مقعدها ، فأرسلتُ إلى عينيها نظراتى . كانت غائبة فى عالمها . تخيّلتها كالموديل التى تجلس لاهية أمام الفنان ليفعل ما يشاء بوجهها . اكتشفتُ جمالا فى الوجه اللاهى عنى . ربما أخفاه التغضن فى نظرتى الأولى . جبهةٌ مشدودة ، تستدير فى انسيابية ونعومة على ذقن صغير وشفتين رقيقتين . أما شعرها الفضى القصير ، فقد تناغم مع بريق عينيها ، كأنما يعزفان لحن الجمال الذى لم أنتبه إليه من قبل . وانتقلتْ عيناى إلى الجاكت الخريفى بألوانه الزاهية ، فبدتْ لى كلوحة فنية بديعة.
اكتشفتُ أنها انتصبتْ فى جلستها وتخلّتْ عن الاسترخاء . وأنّ رقبتها تتحرك إلى اليمن وإلى اليسار وإلى مدخل المحطة . ولاتكف عن سؤالى عن الساعة ثم النظر فى ساعتها . تلبّسنى توترها . وتملّكنى حنق على نفسى لفشلى فى قراءة عينيها . وعندما اقتربتْ الساعة من الثانية والنصف قلت لها (( الأتوبيس على وشك التحرك )) نظرتْ فى ساعتها وقالت (( تفضل أنت قبل الأتوبيس ما يفوتك )) سألتها (( وأنت ؟ )) قالت (( تفضل أنت . لاتشغل بالك بى)) وضعتنى أمام الحد الفاصل بين قرارين : أنْ أركب أتوبيس الواحات أم أبقى معها ؟ دقائق تفصل بين الاختيار : أنْ أذهب فى رحلتى إلى مجهول لا أعرفه ، أم أبقى لهدف أجهله ؟ انتبهتُ على صوتها (( الأتوبيس يتحرك . إجر بسرعه كى تلحقه )) قلتُ وقد انحزتُ لرغباتى التى لا أعرف أسبابها (( أنا لن أسافر )) .
كان الصمت رفيقنا الثالث لعدة دقائق . أنا أفكر فى قرارى الأحمق . وينحفر فى صدرى سؤال كالسكين : هل هو قرار أحمق فعلا ؟ وسؤال الحمق يسحبنى إلى أسلوب حياتى . إلى يوم إجازتى الأسبوعية الذى أخصصه لسفر بلا هدف . وإلى كل أيام الإجازات . أقطع المسافات ذهابًا وعودة ، إلى الإسكندرية أو دمياط أو المنيا . فى كل مرة أشترى تذكرتىْ ذهاب وعودة على نفس القطار أو الأتوبيس . يلح أصدقائى فى ضرورة عرضى على طبيب نفسى . أقول لهم إنّ ما أفعله يُحقق لى بهجة لا أعرف مصدرها . ينصحوننى بالزواج وقد تخطيتُ الأربعين . وكلّما فكّرتُ بجدية فى نصيحتهم ، كلّما تملّكنى رعبٌ لا أعرف أسبابه . عادتان تملّكتانى : السفر بلا هدف وقراءة الوجوه . عادتان تُحققان بهجة أسعى إليها . أُدرك أنها غامضة ولكنها تُشعرنى بنبض الحياة . بعد رحلة العودة من سفر بلا هدف ، أشعر أننى التقيتُ معشوقتى وتبادلنا الحديث والغرام . وشخّصنا أوجاع النفس وأمراض المجتمع وأزمة الوجود ، فأنام كالعاشق على صدر معشوقته . أما متعة قراءة الوجوه فهى لصيقة بمتعة السفر بلا هدف . إذْ يتملّكنى يقين أننى كلّما تمكّنتُ من قراءة الوجوه ، فهذا يعنى أننى موجود . ولكن .. آه .. ها أنا أفشل فى قراءة الوجه الجالس أمامى . وكيف لم أكتشف أنّ بريق العينين اللامع يذوى وينطفىء مع مرور الدقائق وسؤالها الملح عن الساعة ؟
انتبهتُ على صوتها ((هل كنت تنتظر أحدًا ؟ )) .
تردّدتُ فى الإجابة . وبعد أنْ نظرتُ فى عينيها اللوزيتين وإلى شفتيها الورديتين ، فضّلتُ الكذب فقلت ((نعم)) سألتنى (( صديق أم صديقة ؟ )) تصوّرتُ أنّ الكذبة كلّما كانت كبيرة ، كلّما كان تأثيرها أعمق فقلت (( صديقة )) قالت (( أكيد أنت حزين لأنها لم تحضر؟ )) قلت : ((بالعكس . أنا سعيد لأنها لم تحضر)) قالت ((كيف تكون سعيدًا لإنها لم تحضر؟ هذا أغرب رد سمعته فى حياتى )) قلت وقد تصوّرتُ أنها تخاطب نفسها أكثر مما تخاطبنى ((من لايحترم الموعد ، لايستحق الزعل عليه )) انفعلتْ وانتفضتْ وعلا صوتها لأول مرة ((أنت تجلس هنا ولاتعرف ماذا حدث لها . ربما تعرّضتْ لحادثه ؟ أو..أو..)) .
فوجئتُ بسحابات تُضببْ عينيها . أيقنتُ أنّ حماقتى بلا حدود . وأنها تبكى حالها الذى أجهله . وتتحسّر على أتوبيس الواحات الذى تركها وحيدة فى صحراء بلا بشر. أحسستُ بالكلمات على لسانى مقيدة . والمعانى تتزاحم وتتصارع . هل أقول لها أننى كنتُ أكذب عليها ؟ وأننى إنسان عابث وأحمق ؟ هل أكتفى بالاعتذار لأننى فجّرتُ دموعها ؟ أنقذتنى من حيرتى عندما سألتنى عن الساعة . قلت (( الثالثة والنصف )) نظرتْ فى ساعتها وقالت (( أنا سأغادر المحطة. هل لديك أمل فى وصول صديقتك ؟ )) .
أدهشتنى براءتها المضادة لحماقتى . لم أجد سلاحًا غير سلاح الحماقة فسألتها ((هل كنتِ تنتظرين أحدًا ؟ )) كنتُ أخشى أنْ تنغلق على نفسها وترفض البوح . ولكننى فوجئتُ بها ترد بعفوية ((طبعًا )) قلت ((صديق . أليس كذلك ؟ )) قالت بنفس العفوية التى أدهشتنى كثيرًا لعدة سنوات : (( صديق ؟ وأى صديق ؟ إسمع يا أستاذ .. ليس من المهم أنْ أعرف اسمك . أرجوك أنْ تسأل عن صديقتك . يجب أنْ تطمئن عليها ولاتتخلى عنها. خذ نصيحتى وخبرتى . صديقى الذى لم يحضر، قابلته من أسبوعين بعد فراق عشرين سنه . قضينا أجمل أسبوعين فى حياتنا . قال لى إنه بنى بيتًا فى الواحات . عرض علىّ أنْ أعيش معه هناك . ونبدأ حياتنا من جديد )) .
تضاربتْ انطباعاتى وهى تتكلم . هل هى تغسل همومها وتتطهر وتسمو فوق معاناتها ؟ أم إنها تستسلم وتخبو كما خبا بريق عينيها وهى تنظر فى الساعة وفى كل الإتجاهات ؟ قلتُ أواسيها وقد تغلغلتْ روحها فى وجدانى (( أكيد فيه سبب خارج عن إرادته منعه من الحضور )) قالــــت (( كلامك صحيح . لكن كيف أعرف ؟ )) قلت مستنكرًا سؤالها (( تعرفى عندما تتصلى به وتسأليه )) قالت بنفس العفوية (( المشكله إنى لاأعرف له لاتليفون ولاعنوان)) .
لولا جلال الموقف لضحكتُ بعنف . أسعدنى أننى لستُ الأحمق الوحيد . كتمتُ رغبتى فى الضحك وقلـــــت ((هذا عبث )) .
فوجئتُ بها تسألنى عن وظيفتى ، أدهشنى سؤالها. قلت ((أستــــاذ فلسفة)) قالت (( أنا أيضًا أحب الفلسفة وإنْ كنتُ لاأفهمها . وغيرقادرة على فهم الحياة ، رغم حبى لها)) .
نظرتْ فى الساعة ولم تسألنى عنها كما اعتادتْ . ثم قالت ((أعتقد أنه لاجدوى من الانتظار)) تخبّط لسانى وارتبك وأنا أقول (( طبعًا )) .
كنتُ أود أنْ يطول البقاء وأنْ يستمرالحديث . كانت قد نهضتْ قبلى . انحنتْ تحمل حقيبة السفر . عرضتُ عليها حمل الحقيبة فلم تمانع . وغادرنا بوفيه المحطة .
******



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كول عناب - قصة قصيرة
- شخصيات فى حياتى : عمى الحاج متولى
- شخصيات فى حياتى : عم سعيد
- شخصيات فى حياتى : الأستاذ أديب
- الإبداع بأسلوب الحكاء الشعبى
- العلاقة العضوية بين الكهنوت والعسكروت
- العروبة والمخطط الصهيونى لاحتلال فلسطين
- عندما فتح المبدع خزانة الكلام
- يحيى الطاهرعبدالله وإعادة تشكيل الواقع إبداعيًا
- جمال البنا والتربص لكل مختلف مع الكهنوت
- مفهوم الوطن فى رواية بيوت بيضاء
- شهر زاد على بحيرة جنيف
- عبدالرحمن أبوعوف وثنائية الإبدع والقمع
- ثمن الحرية وحصاد عام من الدم
- جميل عطية إبراهيم والتأريخ بلغة فن الرواية
- العلاقة بين (المواطنة) و (القومية)
- النبل والبؤس فى طاحونة الحياة
- سناء المصرى : ضميرحى وعقل حر
- التنوير المصرى والجامعة الأهلية
- بورتريه لابن عمى المليونير م . م


المزيد.....




- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...
- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...
- -زرقاء اليمامة-... تحفة أوبرالية سعودية تنير سماء الفن العرب ...
- اصدار جديد لجميل السلحوت
- من الكوميديا إلى كوكب تحكمه القردة، قائمة بأفضل الأفلام التي ...
- انهيار فنانة مصرية على الهواء بسبب عالم أزهري
- الزنداني.. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان
- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - رحلة إلى الواحات- قصة قصيرة