|
|
لقاء البهجة والتوتر - قصة قصيرة
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3640 - 2012 / 2 / 16 - 09:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ــــــــــــــــــــــ قال له رئيس التحرير (( أهلا بك فى بلدنا وفى مجلتنا . اعتبر نفسك قد استلمت العمل . ولكن عليك الذهاب لمقابلة المسئول المصرى عن النشر فى صحفنا ومجلاتنا ، وتحصل على موافقتـــــه للعمل فى مجلتنا )) . مشى الكاتب المسرحى فى شوارع مدينة لايعرفها ولاتعرفه . فى يده ورقة بها عنوان المسئـــول المصرى عن النشر فى وطن ليس وطنه . دخل السكرتير مكتب رئيسه وأعلنه بالزائر القادم مـــــــن مصر . فتح له السكرتير باب مكتب رئيسه وانصرف . الجالس وراء مكتبه يتحدث فى التليفون . تسمّـــر الكاتب المسرحى فى مكانه . الصوت الذى يسمعه والوجه الذى يراه ، أعاداه إلى سنوات المعتقــــل . هاهو صوت العرسة ووجه الفأر أمامه . مشى عدة أمتار حتى وصل إلى أقرب كرسى وجلس . أنهى رئيس المكتب مكالمته . نظر فى جواز السفر ثم نظر فى وجه الضيف . غادر مكتبه وهـــو يصيح (( بالأحضان )) بعد الأحضان والقبل التى فرضها رئيس المكتب قال (( تصور أنّ اسمـــــــك الرباعى أربكنى ، وجعلنى أستبعد أنْ تكون أنت زميل المعتقل )) . رنّ جرس التليفون فجرى إليه . دوّن الكاتب المسرحى فى رأسه (( علينا أنْ نفكّر فى الافتراض المعكوس : كيف كان سيتصرّف لولا واقعة اسمى الرباعى ؟ هل كان سيستقبلنى ، أم ينكر وجــوده ؟ هل هو اسمى الرباعى فقط الذى التبس عليه ، أم هى الخمر التى غشتنى رائحتها وهو يُقبّلنى ؟ أف . لماذا ينقبض صدرى ؟ ولماذا التوتر منذ رأيتُ وجه الفأر ؟ انتبه على صوت العرسة . سمعه يقول (( حاضر يا أفندم .. حاضر يا أفندم )) طوال المكالمة لــم يفتح عليه قاموسه الأمنى إلاّ بهذه الكلمات . قالت له مخيلته الساخرة (( يبدو أنها المفردات الوحــــيدة فى ذلك القاموس . يرتلها المؤمنون بها من أدناهم إلى أعلاهم )) سحبته ذاكرته إلى سنوات المعتقـل . تذكّر أنّ وصف وجه الفأر وصوت العرسة ، كان بإجماع كل المعتقلين . أصغى إلى نفسه وهى تعود به إلى تلك المحطة من حياته (( أطلقنا هذا الوصف عليه قبل أنْ نكتشف أنه مدسوس علينا . وقبل أنْ نتأكّد من أنه ينقل أخبارنا إلى مندوب المباحث بالمعتقل )) ابتسم ونفسه تذكّره ب(الوجبة المعتبرة) التى قدّمناها له . وهى خليط من الضرب على القفا إلى كسر سنتيه البارزتين واللتين أكسبتاه وصــف الفأر بجدارة )) كادت الابتسامة تتحول إلى ضحكة متفجرة وهو يتذكّر الفنان التشكيلى الساخر الــذى كان أول من أطلق عليه وصف الفأر . فبعد ثلاثة أيام من وصول الفأر إلى المعتقل ، قال الفنـــــــــان التشكيلى لنا (( موش عارف يا جماعة ، ليه كل ما أبص فى وش الجدع دا ، أشوف وش فــــار ؟ )) يومها ضحكنا لعدة ساعات . فى يوم ( الوجبة المعتبرة ) انفعل أحد الزملاء وأحدث به بعــــــــــــض الجروح . تولى زملاؤنا الأطباء علاجه . كان علاجه ورباط الشاش على وجهه هديتنا إليه ، قبل أنْ تنقله إدارة المباحث إلى معتقل آخر )) ابتسم وتبخّر توتره . أخذ نفسًا عميقًا وأيقن أنه كلما توغّل فى ذكريات المعتقل ، كلّما انتعشت روحه . ورغم طاقتـــــه الإبداعية فى السخرية من كل شىء حتى من نفسه ، وأنّ لاشىء يثير دهشته ، اندهش من طـــــــــول المكالمة ، ومن الكلمات التى لاتتغير (( حاضر يا أفندم .. حاضر يا أفندم )) تنهّد عندما وضع رئيـس المكتب سماعة التليفون . ثم رفع السماعة من جديد وطلب فنجانىْ قهوة . أشعل سيجارة وفتح ملفًــــــا وقال (( دقايق وأتفرغ لك )) تظاهر بقراءة بعض الأوراق ، فى حين أنه كان ينصت إلى صــــــوت أعماقه (( أية رياح عاصفة . وأى تيار ماء نتن قذفه إلى شاطىء أمنى وأحلامى ؟ ماذا يريد منى هـذا المأفون ؟ هذا المغرور الذى يعتبر نفسه أرستو فان وموليير عصره ؟ مسرحياتى تلقى القبول أكثـــر من مسرحياته العبثية . ماذا سيقول عنى فى سهراته الداعرة مع أصدقائه ؟ نعم أنا أخدم نظام الحكم . ولكن من أجل خدمة الشعب . ماذا فعلوا هم ؟ يتصوّرون أنّ الماركسية ملكٌ لهم وحدهم . أنا فهمـــــى للماركسية أنضج من فهمهم . ما الذى جاء به إلى قلعتى وإلى حصنى الآمن ؟ هل جاء يطلب وظيفــة فى مجلة ما فى هذا البلد الكريم ؟ أم جاء ليقول لى ها أنا أضبطك متلبسًا وأنت تمارس الرقابة علـــى المبدعين ؟ مثلما كنت تمارس التجسس على المعتقلين ؟ فى المعتقل قلتم أنّ لى وجه فأر ، وها أنــــت تجلس أمامى وتبتسم بوجه خنزير . ولسان حالك يقول حسنة يا سيدى كأى متسول ، مثل من سبقــوك من المصريين . عندما إشتدّ الحصار عليكم هربتم إلى هذا البلد المضياف . ماذا أفعل مع هذا الخنزير الذى شارك فى ضربى فى المعتقل ؟ هل أوافق على تعيينه فى إحدى المجلات ؟ فيكون تحـــــــــــت رحمتى ، أم آمر بطرده ؟ كانا يشربان القهوة فى صمت . ومانعُ الحوار استمرار رئيس المكتب فى التظاهر بقراءة بعـــض الأوراق . وكان يُشعل سيجارة من عقب أختها ، وهو يُفكّر أى قرار يتخذ ؟ بينما الكاتب المسرحــــى قرّر أن يطول المشهد ، ويترك لزمن المقابلة تحديد نهايتها . وابتسم عندما تذكر أنّ الزملاء فى كـــل المعتقلات اكتشفوا أمره . وأنّ أسياده أبعدوه عنهم ، بعد أن أصبح ( كارتًا محروقًا ) تتغير الابتسامــة ليحل محلّها شرود . حدّثته نفسه بمرارة (( ولكن هذا الكارت المحروق فى عهد عبدالناصر ، اذا بـــه ينبض بالحياة بعد عهدين متتاليين ، ويكون هو المتحكّم فى أمر تعيين الكتاب المصريين فى وطــــــن ليس وطنه ؟! )) . استقرّ رأى رئيس المكتب على تعيينه . وقال لنفسه (( سيكون تحت رحمتى . سأتّفق مع رئيــــس التحرير أنْ تكون مقالاته الأولى ، تأييدًا وثناءً على نظام الحكم فى البلدين )) ولأول مرة – منــــذ أنْ دخل الآخر مكتبه – يشعر بالبهجة . وتمنى أنْ ينتهى هذا المشهد ، ليختلى بنفسه وبزجاجات خمره . وانتعشت روحه وهو يسمع أعماقه (( سأشاهده ويشاهده أصدقاؤه وقرّاؤه وهو يكتب ما نريد )) . قال لضيفه (( إنت طبعًا عاوز وظيفة فى أى مجلة ؟ )) ردّ الآخر (( أنا زيارتى ليك مــــــــوش علاشان الوظيفه )) اندهش رئيس المكتب فسأله (( طيب موش عاوز أى خدمه ؟ )) قال الآخر (( لأ موش عاوز منك أى خدمه )) سأله وقد تبخّرت بهجته تمامًا (( طيب ممكن أعرف .. أعـــــرف .. )) قاطعه الآخر (( عاوز تعرف سبب زيارتى . كل الحكايه لما عرفتْ إنْ إنت هنا ، قلت لنفسى أمـــــر عليك وأطمن على الجروح اللى فى وشك . وأشوف اذا كان لها أثر ولاّ ما لهاش )) فتح رئيــــــــس المكتب فمه ولم يتكلم . نهض الكاتب المسرحى والتقط جواز سفره . وبحث بعينيه فى الحجـــــــــرة الواسعة ، ذات الأبواب العديدة ، عن باب الخروج . *****
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عادل مطلوب للشهادة - قصة للأطفال
-
ثنائية الكمان والبيانو: قصة قصيرة
-
الحرية أو الموت : شعار الأحرار
-
روح الفراشة - قصة قصيرة
-
محمد على بين التأريخ العلمى والأيديولوجيا السياسية
-
تلك المرأة - قصة قصيرة
-
رحم الحياة - قصة قصيرة
-
امرأة البرد والظلام - قصة قصيرة
-
حالة تلبس - قصة قصيرة
-
تلك اللوحة - قصة قصيرة
-
رحلة إلى الواحات- قصة قصيرة
-
كول عناب - قصة قصيرة
-
شخصيات فى حياتى : عمى الحاج متولى
-
شخصيات فى حياتى : عم سعيد
-
شخصيات فى حياتى : الأستاذ أديب
-
الإبداع بأسلوب الحكاء الشعبى
-
العلاقة العضوية بين الكهنوت والعسكروت
-
العروبة والمخطط الصهيونى لاحتلال فلسطين
-
عندما فتح المبدع خزانة الكلام
-
يحيى الطاهرعبدالله وإعادة تشكيل الواقع إبداعيًا
المزيد.....
-
مستوطنون يحرقون مسجدا في دير استيا غرب سلفيت
-
-الأوقاف-: إحراق مسجد في محافظة سلفيت جريمة نكراء واعتداء صا
...
-
شبه صلعته -بطاقية اليهود-.. أسلوب رد وزير سوري على تدوينة سا
...
-
السودان.. لماذا عاد الإخوان للعب على وتر -استعداء الخارج-؟
-
الاحتلال الإسرائيلي يهدم منزلا جنوب المسجد الأقصى
-
من-فتيان- إلى -برابرة-.. الإرهاب اليهودي في الضفة يربك مؤسسة
...
-
مصر.. ضجة قراءة آيات قرآنية عن فرعون أمام المتحف الكبير وتلم
...
-
ادعاء -طلب السعودية دعم أمريكا ضد صدام حسين-.. جدال فقهي بين
...
-
المنتخب الايراني لكرة الصالات يتوج ببطولة دورة الالعاب الاسل
...
-
سيطبق على العرب دون اليهود.. الكنيست يقر القراءة الأولى لمشر
...
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|