أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - لينين باقٍ في التاريخ















المزيد.....


لينين باقٍ في التاريخ


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 3628 - 2012 / 2 / 4 - 18:17
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


لينين باقٍ في التاريخ

أستسمح نفسي علها تسمح لي، كما استسمح القراء راجياً أن يسمحوا لي أيضاً في الحديث إليهم من خارج دائرة الماركسية والشيوعية، ومن خارج دائرة البولشفية اللينينية الستالينية حيث أنا دائماً، كي أشير إلى حقيقة العصر التي لا سند لإنكارها من قبل أعداء الشيوعية قبل أنصارها وهي أن تاريخ القرن العشرين وصولا إلى حال العالم اليوم بمختلف بناه التحتية والفوقية وبشتى شروط الحياة فيه، السيء منها والطيب سواء بسواء، هو من صناعة لينين أو الأحرى من تداعيات المشروع اللينيني الذي ابتدأ تنفيذه بانتفاضة أكتوبر1917 وفقاً لموضوعات نيسان (April Theses) التي طرحها لينين على الحزب الشيوعي البولشقي قبل الانتفاضة بستة شهور. لذلك يجب ألا يُثار أي نقاش حول أهمية اللينينية والبحث في أثرها في تاريخ العالم حيث أن كل رفض لشروط الحياة السائدة حالياً أو كل انتصار لها والحفاظ عليها تمتد جذوره إلى اللينينية. وعليه فإن المرجفين في الحديث عن نهاية ثورة أكتوبر إلى الفشل التام إنما هم أعداء الشيوعية والبولشفية في الأصل، مثلما كان حزب الاشتراكيين الثوريين (النارودنيون) والمناشفة في روسيا ومثلهم أحزاب الأممية الثانية إبّان ثورة أكتوبر وما قبل أكتوبر وما بعده. واليوم يشن المرجفون إيّاهم حملة شعواء على لينين باعتباره مخرباً لسكة قاطرة التاريخ ويصل الأمر ببعض المتمركسين من طبقة البورجوازية الوضيعة للمطالبة بمحاكمة لينين كمخرب، كما البعض الآخر ينكر عليه الماركسية. البورجوازية الوضيعة القابضة اليوم على أزِمّة العالم من خارج التاريخ يتملكها الذعر الشديد من شبح لينين وتخشى أن يبعث حياً من جديد. صحيح أن البورجوازية الوضيعة السوفياتية استطاعت أن تقوّض مشروع لينين لكنه صحيح أيضاً أن يتملكها الذعر من لينين آخر طالما أن لينين باقٍ في التاريخ ــ فمن هو لينين، وما هي اللينينية ؟

ولد لينين لعائلة روسية مثقفة في أوليانوفسك (سيمبرسك سابقاً) على نهر الفولغا في العام 1870 وبعد أن أكمل تعليمه في مدارس البلدة التحق في العام 1887 بجامعة قازان لدراسة القانون وهناك تعرّف على "جماعة تحرير العمل" الماركسية التي كان قد شكلها بليخانوف في العام 1883 بعد أن ترك حزب الشعب النارودنيين. وفي الجامعة اشترك لينين في حلقة تقوم بدراسة مؤلفات ماركس فكان أن طردته الجامعة في العام 1889 بسبب نشاطاته الثورية وقيادة المظاهرات المناوئة للقيصرية؛ فانتقل إثر ذلك إلى بطرسبورغ والتحق بجامعتها وأجيز في القانون في العام 91 وتم ترخيصه لمزاولة مهنة المحاماة. لكن وعيه الماركسي المتميز ما كان ليتوقف عند تحقيق الحقوق الفردية البورجوازية التي تعلّمها في كليات الحقوق كمحامي، بل تجاوز الحقوق الفردية ليكرس حياته في تحقيق الحقوق الطبقية للبروليتاريا من خلال قيادة صراعها الطبقي على هدي الماركسية. لذلك عمل لينين على تشكيل "إتحاد نضال وتحرر الطبقة العاملة" في العام 1895ــ وكان هذا الإتحاد هو البذرة التي نبتت في الأرض الروسية لتشكل "حزب العمال الاشتراكي الديوقراطي في روسيا" في العام 1898. أعتقل لينين إثر ذلك وسجن لمدة عام ثم نفي إلى سيبريا لمدة ثلاث سنوات قضاها في دراسة حثيثة لأعمال ماركس. خرج بعدها من روسيا ليعود فقط للاشتراك في الثورة البورجوازية الأولى 1905 ثم ليخرج بعد سنتين مطارداً من قبل السلطات ولا يعود قبل 3 ابريل نيسان 1917 ومعه موضوعات نيسان الثورية المشار إليها أعلاه. قاد لينين انتفاضة أكتوبر1917 واستولى البلاشفة على السلطة، وفي مارس آذار 1919 خطا لينين خطوة عظمى بعد أن سحق البلاشفة ثورة البورجوازية والرجعية المضادة في الحرب الأهلية، فأعلن انتفاضة أكتوبر ثورة اشتراكية عالمية تقود صراع البروليتاريا في العالم نحو عبور الاشتراكية إلى الشيوعية وهو ما اقتضى تشكيل أحزاب شيوعية في جميع بلدان العالم.

في الحادي والعشرين من يناير كانون الثاني 1924 توقف قلب لينين عن الخفقان وتوقف عقله عن تطوير دولة دكتاتورية البروليتاريا في الجمهوريات السوفياتية وقيادة الثورة الاشتراكية العالمية. ووقف رفيقه وتلميذه الأمين يوسف ستالين فوق جثمانه يقسم بأن سيبقى لينين حيّاً في قلوب وعقول الكادحين في شتى أنحاء العالم، ولن يغطي وجهه التراب كي يتوافد إلى ضريحه مئات الملايين من العمال والكادحين يقتبسون من محيّاه روح الاخلاص والتفاني في خدمة البروليتاريا العالمية وتحريرها من ربقة العبودية الرأسمالية. أعود لأشير، ومن خارج دائرة الماركسية والشيوعية ودائرة البولشفية ودون أدنى انحياز إلى الظاهرة اللينينية الفريدة عبر التاريخ، إلى أن ما من مفكر آخر ترك وراءه إرثاً فكريا رفيعاً هائلاً بمقدار ما ترك لينين. لقد عبر عن أفكاره في مختلف حقول علوم الماركسية، الاقتصادية والسياسية والفلسفية، وفي تكتيك قيادة ثورة البروليتاريا الاشتراكية بما يناهز عشرة آلاف صفحة خلال أقل من ثلاثين عاماً وهو ما يعني أنه انقطع عن العالم كليّاً ليكتب طيلة حياته الفكرية صفحة كل يوم دون توقف أو انقطاع وهذا ما لم يأتِ به مفكر آخر بغض النظر عن مختلف المسائل المعقدة التي واجهها في مجرى الثورة. إذاً نحن أمام شخصية استثنائية لا نظير لها وجدت في الماركسية منارة تهدي البشرية كافة إلى التحرر من كافة القيود الموروثة من عهود التخلف والاستغلال بشتى ألوانه، شخصية كرست كل طاقاتها الفكرية الهائلة والحيوية يوماً بيوم وساعة بساعة من أجل تحرير البشرية كما تطرح علوم الماركسية على الأقل. لذلك يغدو الوقوف أمام لينين واللينينية محطة إنسانية لازمة لمختلف أساتذة التاريخ والباحثين في مصائر التطور الاجتماعي والسياسي الحالي والمستقبلي، كما لمختلف الكادحين والبروليتاريا على الأخص.

ظاهرة العبقرية اللينينية لا تعود فقط لشخص لينين منفصلاً عن الحياة العامة في روسيا. العبقرية التي أهلت لينين لقراءة ماركس قراءة عبقرية تتجاوز قراءة بليخانوف وكاوتسكي، كما أهلته لتجاوز دراسته للحقوق الفردية البورجوازية كمحامٍ ليتفرغ لتحقيق الحقوق الطبقية للبروليتاريا، كل هذه العبقرية اللينينية إنما هي بالتالي من إنتاج المجتمع الروسي وشروط تطوره خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر وأول عقدين من القرن العشرين. عبقرية لينين تمثلت في استيعاب تلك الشروط والاستجابة الثورية لها بكافة مقتضياتها. إن من ينتقدون لينين اليوم باعتباره مغامراً اصطنع ثورة اشتراكية في روسيا المتخلفة لم يتعظوا من نهايات الأممية الثانية بقيادة كاوتسكي وبليخانوف، التي اتهمت لينين بمثل هذا الإتهام الفج، حيث انتهت في العام 1916 إلى حل نفسها بنفسها بعد أن شاركت بتقتيل البروليتاريا في كافة البلدان المتحاربة في غرب أوروبا، البروليتاريا التي هي ذخر الثورة الاشتراكية الوحيد؛ ثم عادت فلولها تجتمع في باريس في العام 1922 لتقرر التخلي نهائياً عن الماركسية جملة وتفصيلا؛ وها هم يتمثلون اليوم فيما يسمى " الاشتراكية الدولية " (International Socialist) التي ليس لها أدنى علاقة بالاشتراكية. كما لم يتعظ هؤلاء المنتقدون من نهاية الثنائي روزا لكسبورغ ــ كارل ليبكنخت، الذي اتهم لينين بالخروج على الديموقراطية، إلى اغتيالهما وقيام متطوعي الحرس القومي الفاشي بتحطيم دولتهما السوفياتية الوليدة في بافارياـ ألمانيا 1919. ثمة مائة برهان وبرهان على أن قراءة لينين للماركسية هي القراءة الوحيدة الصحيحة بل العبقرية، ولذلك قال الناس "الماركسية اللينينية".

بدأ نظام العبودية بالانهيار مع سقوط روما في العام 476 م فكان أن بدأ يحل محله النظام الاقطاعي ليكتمل بناؤه في غرب أوروبا بعد بضعة قرون فقط دون أن يكتمل في روسيا القيصرية حتى العقد السابع من القرن التاسع عشر ومولد لينين، إذ في العام 1861 فقط ألغى القيصر أليكسندر الثاني نظام العبودية. لم يتكامل بناء النظام الاقطاعي في روسيا، وذلك بسبب سطوة القيصر أولاً وتمتعه بسلطة مطلقة لا حدود لها مثلما كانت سلطة السلاطين العثمانيين، بعكس سلطة الملك في فرنسا أو إنجلترا الخاضعة من جهة لسلطة بابا روما والمحدودة من جهة أخرى بسلطة مستقلة نسبياً للإقطاعيين؛ وثانيا بسبب تواجد نظام الكومونة الزراعية في قرى شرق روسيا منذ القدم.
النظام الإقطاعي غير المكتمل وغير المستقر هو ما تسبب في عدم استقرار الحياة الاجتماعية والسياسية في روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث وجد الروس فجأة أنهم بلا هوية اجتماعية محددة المعالم، وأن الغرب الأوروبي كان قد سبقهم بأشواط بعيدة بسبب نظامه الرأسمالي. إذاك لعب النارودنيون الشعبيون دوراً كبيراً في إذكاء الصراع السياسي والطبقي حتى وصل بهم الأمر إلى اغتيال القيصر أليكسندر الثاني 1881 وهو ما حدا بجيورجي بليخانوف (أبو الماركسية في روسيا) بالإنفصال عن النارودنيين ــ الذين تسموا فيما بعد "الاشتراكيين الثوريين" ــ ليؤسس في العام 83 " جماعة تحرير العمل " الماركسية إثر اتصاله بفردريك إنجلز. إنضم لينين إلى هذه الجماعة في العام 88، وفي العام 95 قام بتشكيل " اتحاد نضال وتحرر الطبقة العاملة " مستهدفاً دحض إدعاءات النارودنيين (الاشتراكيين الثوريين) حول استحالة التطور الرأسمالي في روسيا؛ وكان لينين قد تصدّى لمثل هذه الادعاءات حول استحالة قيام الانتاج السلعي والسوق كمخرج وحيد له في مؤلفه " حول مسألة السوق " 1893 مؤكداً أن الإنتاج السلعي كان قد بدأ بالظهور في الأرياف ناهيك عن المدن. وعاد في العام 1899 بعد تشكيل "حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا" إلى كتابة " تمدد الرأسمالية في روسيا ". منذ العام 1888 حين انضم لجماعة تحرير العمل بقيادة بليخانوف وحتى العام 1902 حين انعقد المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي بداية في بروكسل، كرس لينين كل نضاله لدحض مزاعم حزب الاشتراكيين الثوريين في أن روسيا، وخلافاً للغرب الرأسمالي، لا تجري عليها القوانين الماركسية.

في العقد الأخير من القرن التاسع عشر تنامى الإنتاج السلعي الرأسمالي بسرعة لافتة في روسيا فكان مؤلف لينين " تمدد الرأسمالية في روسيا " في العام 99 هو القول الفصل في مواجهة الاشتراكيين الثوريين ومحاولتهم عزل روسيا عن مسار التاريخ. لكن ما إن تراجعت الجبهة الفكرية للإشتراكيين الثوريين حتى ظهرت جبهة أخرى معادية أمضى سلاحاً وأقوى حصوناً، جبهة تتسلح بالماركسية وفق قراءاتها الخاصة. في المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديموقراكي في لندن 1903 وقع إنشقاق تاريخي وخطير في الحزب فوقف مارتوف وبليخانوف وتروتسكي ضد لينين حول طبيعة بنية الحزب فيما إذا كانت مفتوحة تضم كل من يتعاطف مع الاشتراكية كما رأى مارتوف ورفاقه مثلما هو اليوم في الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في ألمانيا وفرنسا، أو مغلقة تضم العاملين في تطبيق برنامجه والمنضويين إلى إحدى منظماته ويدفعون اشتراكات بانتظام حسب لينين. كما اختلف الطرفان حول الموقف من الفلاحين إذ رفض مارتوف ورفاقه فكرة تحالف البروليتاريا مح الفلاحين كما طالب لينين من أجل ضمان نجاح ثورة البروليتاريا. تعمّق الخلاف وانقسم الحزب إلى جناحين، جناح المناشفة (الأقلية) وهم الذين احتفظوا بمنهاج الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية، أحزاب الأممية الثانية في أوروبا، وجناح البلاشفة (الأغلبية) وهم الذين انتصروا لنهج لينين الثوري وانفصلوا في العام 1912 عن الأممية الثانية ليشكلوا فيما بعد الحزب الشيوعي (البولشفي).

لو لم يتميّز لينين عن سائر رفاقه في قيادة الأممية الثانية وبقي مجرد معجب بالبنيان الشاهق للماركسية ويقرؤه قراءة مدرسية كما قرأه كل من كاوتسكي وبليخانوف وتروتسكي لانتهى كما انتهى هؤلاء القوم دون أن يغيروا في تاريخ العالم ميل ظفر. المعارك التي خاضها لينين ضد النارودنيين والاشتراكيين الثوريين منذ 1888 وحتى 1902 كانت مجرد مناوشات صغيرة بالقياس إلى المعارك الكبرى التي خاضها ضد زعماء الأممية الثانية من بليخانوف وكاوتسكي وتروتسكي، منذ 1902 وحتى رحيله 1924. كل شروط الحياة الماثلة اليوم في العالم إنما هي من ثمار المعارك الصعبة التي خاضها لينين ضد الأممية الثانية وقادتها طيلة تلك الفترة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والفلسفية. لقد قرأ لينين الماركسية قراءة عبقرية لنظرية ثورية تتصل اتصالاً وثيقاً لا يتخلخل بتحرير البروليتاريا المتحقق فقط بإقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا، وليس قراءة مدرسية خالية من كل روح ثورية يقرؤها مثقفو البورجوازية الوضيعة. قراءتان متمايزتان فصلتا حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا إلى جناحين، قراءة مدرسية ميتة يقرؤها المناشفة بقيادة مارتوف وبليخانوف وتروتسكي وقراءة ثورية يقرؤها البلاشفة بقيادة لينين. القراءة الثورية اللينينية هي التي جعلت الأممية الثانية في مؤتمرها العام المنعقد في شتوتغارت/ألمانيا 1907 تتخذ قراراً يقضي بأن كافة الأحزاب المنضوية إلى الأممية ستجعل من أي حرب رأسمالية إمبريالية قادمة بين دول غرب أوروبا، ستجعل منها ثورة اشتراكية عالمية حيث تقوم البروليتاريا بالاستيلاء على السلطة في جميع البلدان على طرفي الحرب. كان ذلك القرار المتخذ بدفع مباشر من لينين هو القرار الثوري الوحيد تقريباً الذي اتخذته الأممية الثانية خلال عمرها القصير (25 سنة). إلا أن هذه الأممية التي يقرأ زعماؤها، كاوتسكي وبيرنشتاين ومارتوف وبليخانوف، الماركسية قراءة مدرسية عادت في مؤترها العام في بازل/سويسرا 1912 لتلغي قرارها الثوري الوحيد الذي كانت قد اتخذته في شتوتغارت بدفع من لينين، عادت وسمحت باشتراك أحزابها في الحرب بحجة الدفاع عن الوطن. المواجهات الفكرية والسياسية التي شغلت لينين فيما بين 1908 و 1912 استهدفت حماية الحزب من التيارات الانعزالية فيه التي كانت تطالب بعزل الحزب عن مخنلف مؤسسات الدولة بما في ذلك الدوما (لبرلمان)، وتيار التصفية الذي كان يطالب بتصفية منظمات الحزب السرية طالما كان هناك نشاطات علنية للحزب، وكشف لينين إذّاك الدور الخياني لتروتسكي في هذا الشأن فكتب في يناير 1911 مقالة بعنوان " حمرة الخجل على وجه يهوذا تروتسكي " مشبهاً تروتسكي بيهوذا الاسخريوطي مثال الخيانة في التاريخ.

قرار المؤتمر العام للأممية الثانية في العام 1912 الذي سمح لأحزابها الاشتراكية في الانخراط في الحرب الاستعمارية بدعوى الدفاع عن الوطن كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير حيث رأى لينين بأنه لم يعد هناك ما هو مشترك لحزبه مع هذه الأممية وأحزابها فانسحب البلاشفة من الأممية وأعلنوا انفصالهم التام عن المناشفة ليتسموا فيما بعد بالحزب الشيوعي (البولشفي). انشغل لينين خلال السنوات الخمس التالية بفضح مفاهيم البورجوازية الصغيرة والقراءة المدرسية للماركسية لدى أحزاب الأممية الثانية وعلى رأسها كاوتسكي وبليخانوف وعرّى الفهم البورجوازي المتذبذب لتروتسكي الذي جهد فكرياً وتنظيمياً لتعطيل التيار البولشفي بدعوى نصرة الوحدة في الحزب ليعود البلاشفة إلى وحدة متماسكة مع المناشفة وهو ما يعني تخلي البلاشفه عن مباددئهم واستبدالها بمبادئ المناشفة. كان تروتسكي خلال كل تلك الفترة يهاجم البلاشفة من داخل المناشفة وأحياناً من حوافهم ويدعوهم للعودة للوحدة لكنه لم يدعُ المناشفة أبداً للحاق بالبلاشفة. وأولى لينين اهتماماً كبيراً لعقد مؤتمر زمروالد/سويسرا في سبتمبر ايلول 1915 للمنظات والأحزاب الاشتراكية التي عارضت الحرب واشتراك أحزاب الأممية الثانية فيها. خلال الربع الأول من القرن العشرين كانت أوروبا الغربية مركز العالم وما كان أحد غير لينين قادراً على هزيمة التيار التصالحي في الحركة العمالية الأوروبية رغم أنه هو نفسه من شرق أوروبا المتخلف في التطور الرأسمالي. لينين بعبقريته الفذة وبتفانية في خدمة قضية البروليتاريا الأساسية استطاع أن يحافظ على المد الثوري المتعاظم في كل القارة الأوروبية. ما كان أحد آخر بغير حجم لينين أن يعزل قامات كبيرة كمثل كاوتسكي وبليخانوف عن الحركة العمالية الأوروبية بل والعالمية ويمهد الطريق للثورة الاشتراكية في مركز العالم، أوروبا.

إثر اغتيال أحد القوميين الصرب ولي عهد الامبراطورية المجرية النمساوية في يونيوه حزيران 1914 انفجرت الحرب العالمية الأولى باشتراك ست امبراطوريات استعمارية كولونيالية، المجرية ـ النمساوية والألمانية والعثمانية، مقابل روسيا وبريطانيا وفرنسا. امتدت الحرب أربع سنوات واستهلكت كل المقدرات الإمبراطورية لهذه الدول وهو ما انتهى إلى اضطرابات اجتماعية وتغيرات سياسية في جميع هذه الامبراطوريات. ففي روسيا حيث السوية الثورية والخسائر الحربية كانت الأعلى قامت الثورة البورجوازية في فبراير شباط 1917 وأطيح بالقيصر وما لبثت أن تحولت الثورة البورجوازية إلى ثورة اشتراكية في أكتوبر . وفي نوفمبر 1918 استولت مجالس السوفيتات على السلطة في بافاريا/ألمانيا وأطيح بها في العام التالي على يد الحرس القومي الفاشي بالتعاون مع الحزب الاشتراكي الألماني موئل الخيانة. وفي المجر استولت السوفيتات على السلطة في مايو أيار 1919 إلا أن مملكة رومانيا أعلنت الحرب عليها واحتلت المجر وأعملت فيها "الإرهاب الأبيض" ضد الشيوعيين. وفي تركيا قاد القوميون حملة سيادية بعد الهزيمة وألغوا السلطنة بالتالي. أما بريطانيا وفرنسا فقد تم تفكيك الأزمة فيهما على حساب ألمانيا والمستعمرات.
المشهد الإجمالي للقارة الأوروبية لدى نهاية الحرب كان يذكر بقرار الأممية في شتوتغارت 1907 بتحويل الحرب إلى ثورة اشتراكية عالمية. لكن لماذا لم يكن هناك ثورة اشتراكية عالمية؟ ولماذا انهزمت الثورة في ألمانيا وإيطاليا والمجر فذلك يعود إلى الروح التصالحية التي سادت بين أوساط أحزاب الأممية الثانية حتى مشاركتها في الحرب الاستعمارية. المرتد كاوتسكي هو من قاد الحزب الاشتراكي الألماني إلى خيانة الطبقة العاملة في ألمانيا وفي المشاركة في الإجهاز على الدولة السوفياتية الوليدة في ألمانيا. خيانة حزب كاوتسكي للثورة الاشتراكية في ألمانيا جرت تحت شعار الحؤول دون تكرار المشروع اللينيني في ألمانيا. وما يتوجب الإشارة إليه في هذا السياق هو أن أبرز قادة الثورة في ألمانيا وهما روزا لكسمبورغ وكارل لبيكنخت لم يمتلكا فهماً ماركسياً حقيقياً عن طبيعة دولة دكتاتورية البروليتاريا وقد شاب فهمهما بعض المفاهيم البورجوازية في مسألة الديموقراطية بصورة خاصة. ليس ثمة أدنى شك في أن أدولف هتلر هو الإبن الشرعي للخائن كاوتسكي خاصة وأن كليهما يصف نفسه بالاشتركي. الغزو النازي الهمجي للأراضي السوفياتية جرى تحت راية الاشتراكية القومية الهتلرية على أحد وجهيها والاشتراكية البورجوازية الكاوتسكية على الوجه الآخر. بقي أن نؤكد أن انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي كان من النتائج غير المباشرة للحرب التي لم تكلف فقط الدولة السوفياتية خسائر مادية وبشرية هائلة بل انعكست بما هو أسوأ وهو تضخم القوى العسكرية وامتلاكها أمجاد النصر السوفياتي في الحرب. الخسائر المدنية والانتصارات العسكرية عملت على نقل صناعة القرار الوطني بعد رحيل ستالين من قيادة الحزب إلى قيادة الجيش ولذلك انهار النظام الاشتراكي المعادي بطبيعته للعسكرة.

في العام 1922 أصيب لينين بشلل نصفي ولم يعد قادراً على القيام بوظائفه فأناب عنه أقرب الناس إلية وهو جوزيف ستالين والذي أُعجب به لينين وسماه منذ أول لقاء لهما في العام 1903 ب "القوقازي العجيب". وفي ذات العام وصف لينين حالة الاتحاد السوفياتي بعد أن خاض حروباً متواصلة لثمان سنوات إذ قال " الشعوب السوفياتية تبيت على الطوى " وقد انخفض الإنتاج القومي بنسبة تزيد على 50% الأمر الذي دفع لينين بالعودة إلى الانتاج الرأسمالي بقيادة دولة دكتاتورية البروليتاريا بموجب خطة (النيب) السياسة الاقتصادية الجديدة. وفي العام 1923 وقد أحس لينين بالموت قريباً منه، ومن باب القلق الكبير على مصير مشروعه مشروع الثورة الاشتراكية العالمية، كتب رسالته الشهيرة إلى المؤتمر الثاني عشر للحزب يوصي بألا يكون خليفة له إلا ستالين، وليس إلا من باب النقد الحازم الجازم قال فيما سمي بوصية لينين مخاطباً أعضاء القيادة .. عليكم أن تناضلوا من أجل إزاحة ستالين عن القيادة، وأن تبحثوا عن شخص يشبه ستالين بكل شيء ما عدا الفظاظة، فليس لائقاً أن يكون الأمين العام للحزب فظاً. لدى تشييع جثمان لينين وقف ستالين فوق الجثمان وأقسم بأن يظل لينين في قلوب وعقول الشيوعيين وأن لا يواري الثرى وجهه كي يظل قبساً ينير السبيل لتحرير البروليتاريا. في الاجتماع الأول لقيادة الحزب بعد رحيل لينين قرئت رسالة لينين "الوصية" وقدم ستالين استقالتة كنائب للأمين العام مصراً على ألا يكون إلا فظاً مع أعداء الثورة. إذاك انتخب أعضاء القيادة بالاجماع بمن في ذلك تروتسكي، انتخبوا ستالين لمنصب الأمين العام وقرروا الاحتفاظ بالرسالة في سرية تامة.

لم يخيب ستالين ظن لينين فيه وبر أيضاً بقسمه فظل لينين حياً في شخص ستالين على الأقل وظل وجه لينين ساطعاً تحت الأنوار في ضريحه لا ينقطع الصف الطويل للملايين من زواره. منذ العام 22 وحتى العام 26 عاد مجمل الانتاج في الاتحاد السوفياتي إلى ما كان علية في روسيا القيصرية في العام 1913 قبل الحرب؛ ولذك بُدئ بتفكيك النيب والتقدم في البناء الاشتراكي. في العام 28 تقدم الحزب بالخطة الخماسية الأولى فكانت أول تخطيط اقتصادي في التاريخ. وعلق ونستون تشيرتشل على أهداف الخطة بالقول .. " لو استطاع هذا الحالم في الكرملين تحقيق مثل هذه الأهداف خلال خمس سنوات لتحولت أنا نفسي إلى الشيوعية ". تحققت الخطة في أربع سنوات بدل خمسة لكن تشرتشل حنث بوعده وأوغل في العداء للشيوعية. وفي العام 1929 قرر الحزب تحويل الزراعات الفردية إلى زراعة جماعية وهي أعمق تحول إشتراكي استطاع الحزب أن ينجزه خلال سنتين فقط. في العام 1933 طاف الكاتبان البريطانيان الشهيران برنارد شو وهيربرت جورج ويلز في أنحاء روسيا ولدى انتهاء رحلتهما صرح الإثنان بالقول أن البشرية تطمح لبناء مجتمعات على شاكلة المجتمع السوفياتي. في العام 36 تحدثت الصحافة الأميركية عن رغد العيش السوفياتي فيما كان الأميركيون يصطفون في طوابير طويلة للحصول على صحن الشوربة. من المآثر الكبرى التي حققها السوفيات بقيادة ستالين هي قيام السوفيات بسحق الغزو الألماني واحتلال برلين وتطهير أوروبا والعالم من وحشية النازية والفاشية والحفاظ على حرية مختلف شعوب العالم، ثم إعادة إعمار الاتحاد السوفياتي إلى أفضل مما كان قبل الحرب خلال خمس سنوات فقط في حين أن ألمانيا وفرنسا وانجلترا لم تدرك ذلك خلال خمس عشرة سنه بالرغم من مساعدات أميركا بموجب مشروع مارشال والتي بلغت 12.5 مليار دولار بقيمتها الرأسمالية آنذاك.

مات ستالين في 5 مارس آذار 1953 فانطفأت شعلة لينين. انهار مشروع لينين بعد أن حوّل العالم إلى ما هو عليه اليوم بعيداً عن وحشية الفاشية والنازية ومتحررأ من استغلال النظام الرأسمالي الذي انهار بالتداعي لمشروع لينين الذي تطور بقيادة ستالين ليكون القوة العظمى التحررية في العالم. مات ستالين فانطفأت شعلة لينين إذ لم يتقدم وريث للينين للحفاظ عليها فآلت إلى العسكر والعسكر هم دائماً ضد التحرر والتقدم فأطفأوها. انهار مشروع لينين لكنه خلّف عالماً من صناعته أو من تداعياته، عالماً ينتظر لينين آخر. يبقى على قارئي لينين الفصحاء اليوم أن يجهدوا حثيثاً في إنقاذ العالم من الكارثة الكونية التي تدفعه إليها البورجوازية الوضيعة بطفيليتها الفظيعة، فلينين ما زال باقٍ في التاريخ.

www.fuadnimri.yolasite.com



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام كما القومية لا يمتلكان فكراً
- رسالة إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني
- شبح الشيوعية لم يعد يحوم في السماء
- عن أي يسار يكتب كتبة اليسار !؟
- مواجهة مع أحد المرتدين
- نهاية إقتصاد السوق
- رفيقنا الشيوعي الأميز علي الأسدي
- ليست الأخطاء هي التي أفشلت الاشتراكية
- العمل الشيوعي في عالم خارج التاريخ
- في نقد الإشتراكية السوفياتية
- من الديموقراطية إلى الشيوعية
- خيانة الاشتراكية وانهيار الإتحاد السوفياتي
- دور النقد في انهيار الرأسمالية
- المثقفون وسقوط التاريخ
- اللغو البغو تلغيه وقائع التاريخ
- نذر الكارثة الإقتصادية تقرع طبولها
- الإفساد بالأدلجة
- نقد فظ لشيوعي ناعم
- ماذا عن وحدة اليسار
- الإشتراكية والديموقراطية


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - لينين باقٍ في التاريخ