أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - نهاية إقتصاد السوق















المزيد.....


نهاية إقتصاد السوق


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 3573 - 2011 / 12 / 11 - 19:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


أحد الأخصائيين في علم الإقتصاد عرّف " اقتصاد السوق " بعدة مبادئ أهمها الثلاثة التالية ..
1) يشتري الناس ما يحتاجونه عندما يكونون قادرين على دفع ثمنه.
2) الفلوس شرط أوليٌ للحياة.
3) الناس مرغمون لعمل أي شيء وبيع أي شيء ليحصلوا على الفلوس.
المعلوم من تاريخ الإنسان يبدأ رحلته التغريبية مفارقاً مملكة الحيوان هو أن الإنتاج شكّل الفرصة الوحيدة أمام الحيوان الإنسان ليتجاوز خطر الإنقراض. وهكذا بدأت رحلة الحيوان الإنسان على طريق الأنسنة تتحقق من خلال التقدم في الإنتاج، فعُرف الإنسان بأنه الحيوان الوحيد الذي ينتج حياته. ما كان للإنتاج أن يتقدم إلا من خلال التوسع في تقسيم العمل الذي يرافقه بحكم الضرورة تبادل المنتوجات بين أطراف المنتجين وهو ما يتحقق فقط في السوق. ولما كانت السوق عاملاّ رئيسياً من عوامل تقدم الإنتاج فهي لذلك أيضاً عامل رئيسي في تقدم وتطور إنسانية الإنسان. ولما غدا النقد عاملاً رئيسياً في تقدم السوق وتطورها فهو أيضاً من عوامل تقدم فعل الأنسنة. عاش الحيوان الشبيه بالإنسان ملايين السنين لا ينتج حياته مثله مثل سائر الحيوانات الأخرى، أما عندما بدأ ينتج حياته ويتأنسن عرف تقسيم العمل وتبادل المنتوجات وبالتبادل بدأت تتخلّق السوق من خلال تبادل القيَم الاستعمالية بعينها قبل ظهور النقد كعامل مسهّل للتبادل. منذ بدء التاريخ لم يعرف الإنسان الإنتاج بغير تقسيم العمل، أي أن ينتج الإنسان سلعة بعينها، فكانت سوق تبادل السلع بين الأفراد والجماعات هي الوسيلة الوحيدة لتجاوز علة تقسيم العمل فتسمح للفرد أو الجماعة المنتجة الحصول على مختلف الاحتياجات الأخرى. ولما كان عبر التاريخ لا إنتاجاً بغير تقسيم للعمل، ولا تقسيماً للعمل بغير تبادل في السوق فذلك يعني أن لا اقتصاداً بغير سوق. وبناءّ عليه، أن يُعرّف الإقتصاد بالسوق فيقال " اقتصاد السوق " فذلك لا يضيف شيئاً كأن يُعرّفَ الماءُ بالماءِ، طالما أن السوق هو تبادل المنتوجات قبل أن تكون المبادلة بالنقد.

الهمجية التي تناهت للإنسان من أصوله الحيوانية السحيقة تتجسّد قبل كل شيء آخر اليوم فيما يسميه بعض الاًخصائيين اعتباطاً "إقتصاد السوق". إنه ضرب من أسوأ ضروب الهمجية ومع ذلك عَبَر التاريخ وتجسّد بصورة صارخة في النظام الرأسمالي. ما زال له أنصار حتى بعد انهيار النظام الرأسمالي من قبل أبناء البورجوازية الوضيعة وليس فقط من الرأسماليين أنفسهم ــ هذا ودون أن ننسى أن خروشتشوف، خليفة لينين وستالين في قيادة الثورة الاشتراكية العالمية (!!)، كان هو أيضاً قد نادى باقتصاد السوق في العام 1961 حين فوجئَ بأن تحريفاته الغبية أدّت إلى تعطيل ميكانزمات الإقتصاد الإشتراكي والتراجع الكمي والنوعي في الإنتاج الوطني. إقتصاد السوق، كما في تعريف الأخصائي أعلاه، يصادر حق الإنسان في الحياة فيمنعه عمّن لا يمتلك الفلوس، إذ يشترط على كل إنسان أن يفعل أي شيء لينتج أي شيئ قابلاً للمبادلة بالنقد في السوق لكي يكتسب الحق في الحياة. أليس هذا شرطاً همجياً خضع له الإنسان المتوحش قبل عشرات ألوف السنين كي يتحاشى الإنقراض؟ لماذا ما زال هذا الشرط سيفاً مصلتاً على رقاب بني البشر رغم انقضاء حقب وعصور على تقدم الإنسان على طريق الأنسنة ؟ فكل إنسان على وجه الأرض إن لم يمد أصبعه إلى السوق فلن يكون له نصيب في الحياة. تلك هي الهمجية التي مازال المتخلفون من بني البشر يقبلون بها ويطبقونها خلافاً للمادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تؤكد لكل إنسان حقه في الحياة، إمتلك فلوساً أم لم يمتلك !! اليوم ومختلف منظمات حقوق الإنسان تنادي بقوة برفض الحكم بالإعدام حتى على أبشع المجرمين، يحكم مناصرو اقتصاد السوق بإعدام كل من لا يملك الفلوس ولو كان من أطهر بني البشر!! تلك هي قمة الهمجية خاصة ونحن نعلم أن النظام الرأسمالي وبحكم بنيته يحافظ على نسبة 4% من طبقة العمال بالحدود الدنيا لا تعمل كآلية للتحكم بمستوى الأجور.

في أواسط القرن التاسع عشر وبعد أن بدأ نظام الإنتاج الرأسمالي يأخذ شكله النهائي برز كارل ماركس يقول للعالم .. صحيح أن الإنتاج هو عربة الإنسان على طريق الأنسنة لكن شروط الإنتاج المعروفة شاخت وأخذت تثقل على عملية الانتاج بعد أن تقدم الإنسان أشواطاً طويلة على طريق الأنسنة وتضاعفت فعاليته الإنتاجية ورافقها بالتوازي التطور الهائل في أدوات الإنتاج. تقسيم العمل والسوق والنقد التي ظلت لآلاف السنين عوامل قوة في الاقتصاد أخذت تشكل اليوم عوامل ضعف وإعاقة يلزم التخلص منها اليوم قبل الغد. الشروط التي كان على الإنسان أن يخضع لها إبّان حياته الهمجية يتوجب التحرر منها في الحياة الحضرية الحديثة. مفاعيل الإنتاج التي كانت عبر التاريخ تدفع بالإنسان على طريق التقدم والأنسنة أخذت في ظل النظام الرأسمالي واستنزافه الوحشي لإنسانية الإنسان تعيده إلى عهود الهمجية.

حسناً، لئن كان لا بدّ من أن يستجدي الإنسان حقه في الحياة من السوق فعليه قبلئذٍ أن يعرف السوق وأن يتعلم ميكانزماتها وقوانينها الحاكمة كي يستجدي حقه في الحياة كما يتوجب أن يستجدي، أو لربما ينجح في تأمين حقه في الحياة دون استجداء.
في فجر التاريخ الذي امتد ربما آلاف السنين كانت تتم مبادلة المنتوجات عينياً وبالمصادفة، كأن يلتقي مربي أغنام مع حداد في غير مكان مثلاً ويتبادلان خروفاً مقابل فأس حديدية، والفيصل في هذه المبادلة هو القيمة الإستعمالية للشيء وليس القيمة الرأسمالية. لكن بعد أن تنامت حاجات الإنسان وتعددت مع تقدمه الحضاري، حين لم يعد متاحاً له أن ينتج بنفسه جميع احتياجاته، ترتب عليه مبادلة إنتاجه مع العديد من المنتجين الآخرين الذين ينتجون احتياجاته العديدة، فغدا لازماً تعيين مكان يلتقي فيه أصحاب الحاجات يتبادلون منتوجاتهم؛ فغدا السوق هو المكان الذي يلتقي فيه الناس ليتبادلوا منتوجاتهم. وكيلا يضيّع المنتج وقتاً طويلاً في السوق دون أن يجد من يبادله منتوجه صار إلى إقامة معارض (دكاكين) دائمة في السوق حيث تعرض مختلف المنتوجات بقصد المبادلة حين يتسوقها أصحاب الاحتياجات. بدأت المبادلة عينياً وبصورة تعسفية، بغير الاحتكام لغير القيمة الاستعمالية مثل مبادلة الخروف بالفأس الحديدية، لكن بعد اتساع المبادلات كمّاً ونوعاً صار إلى التعرّف شيئاً فشيئاً على مادة بعينها ذات قيمة عامة قابلة للمبادلة في كل زمان ومكان (General Form of Value) وإلى إيجاد معيار ثابت للقيمة الرأسمالية للبضاعة المعروضة. يذكر في السياق قصة المجوس يحملون هديتهم للطفل يسوع في المغارة من الذهب واللبان والمرّ، وهذه كانت في الأزمنة الغابرة تمثل الشكل العام للقيمة وتقوم مقام النقد نظراً لنفاستها جرّاء صعوبة استخراجها واتساع الطلب عليها. بقي الذهب حتى يومنا هذا هو المعاير الوحيد للقيمة كونه المعدن الذي يختزن الكمية الأعلى من الشغل بعد أن حلّ محل اللبان والمر عطور سهلة التواجد ورخيصة. ومن باب الحرص على الذهب وبسبب ندرته التي لا تغطي المبادلات التجارية التي اتسعت بصورة هائلة في العصور الحديثة صار إلى سك النقود المعدنية والورقية لتدل على كمية الذهب موضوع التداول بضمانة السلطات المعنية. إلى هنا والسوق عيانياً هي المكان حيث تعرض المنتوجات البضاعية ويرتاده الناس لشراء حاجياتهم بما يحملون من نقود كوسيلة للمبادلة طالما هي الشكل الوحيد العام والثابت للقيمة. أهم ما يتوجب معرفته عن السوق ودورها في " وهب " الحياة للناس هو عمل عناصرها العيانية (المكان والمتسوقون، والبضاعة والنقود) وتداخلها مع بعضها البعض من أجل أن تؤدي عملها الوظيفي. تعمل عناصر السوق وفق قانون دقيق وصارم هو قانون القيمة الرأسمالية. قيمة البضاعة الرأسمالية في النظام الرأسمالي وما قبل الرأسمالي هي قيمة العمل البشري بالمتوسط الذي تطلبه إنتاج تلك البضاعة، العمل المتوسط محسوباً بوحدة الزمن. تدخل البضاعة السوق بهذه القيمة الرأسمالية التي يطرأ عليها أحياناً بعض الزيادة أو النقصان بفعل آلية العرض والطلب لتتحدد قيمتها التبادلية. تلك هي السوق التي يستجدى منها الإنسان حقه في الحياة، كما هو الحال حتى اليوم. ما يلزم اعتباره في هذا السياق هو أن شروط السوق التي تطرقنا إليها إنما هي شروط مثالية لم تتوافر جميعها معاً لتقيم سوقاً أنموذحية لا تخضع لظروف توافر الشروط.

يوصف الإنسان بأنه حيوان اجتماعي وذلك لأنه لا يستطيع بنفسه إنتاج جميع متطلبات حياته، وهو ما استدعى منه إقامة علاقات مع سائر المنتجين الآخرين للحصول على احتياجاته المعاشية. وعلاقات الانتاج هذه لا تكتمل دون أن تمر في السوق جيئة وذهابا. في السوق تتقابل السلعة الصنم للمنتج (أ) مع السلعة الصنم للمنتج (ب) وتتبادلان المواقع عبر معادلة القيمة التبادلية وبذلك تنجز علاقات الانتاج وظيفتها الاجتماعية وتربط المجتمع بعضه إلى بعض في كتلة متراصة غير قابلة للقسمة. كتلة تتشكل من طبقات متصارعة لكنها ومن أجل أن تنتج أسباب حياتها لا تستطيع أن تفضّ اشتباكها وتنفصل عن بعضها البعض بصورة نهائية. بناءً عليه، نعود إلى تعريف الأخصائي في الإقتصاد لاقتصاد السوق كما في البداية لنرى فيه تعريفاً ناقصاً طالما أنه اقتصر على تعريف آليات السوق وليس السوق ذاتها. التعريف الكامل لاقتصاد السوق هو .. " الإنتاج الكلّي المتحقق من خلال الصراع الطبقي ". ينقسم العمل في المجتمع إلى ثلاثة أقسام، لكل طبقة اجتماعية قسمها الخاص بها : الطبقة الدنيا وهي البروليتاريا في النظام الرأسمالي وتختص في إنتاج وإعادة إنتاج قوى العمل التي وحدها تتحول إلى ثروة إضافية للمجتمع، والطبقة العليا وهي الرأسماليون في النظام الرأسمالي وتختص بالإتجار بقوى العمل وتحويلها إلى ثروة حقيقية عن طريق أدوات الإنتاج العائدة إليها بحكم قانون الملكية، والطبقة الوسطى وهي البورجوازية الوضيعة في النظام الرأسمالي وتختص هذه الطبقة بإنتاج الخدمات المساعدة ((facilitator في اشتباك الطبقتين العليا مع الدنيا. تتشابك هذه الطبقات في السوق فكل طبقة ترسل إنتاجها للسوق ليواجه إنتاج الطبقتين الأخريين وتتبادل بموجب قانون القيمة الإجتماعي، أي قانون القيمة الرأسمالية التي يحددها مستوى الحياة في المجتمع المعني. كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث تحافظ على بقائها من خلال دخولها السوق وخروجها منها بما حصّله صراعها من قيم معايَرَة ومستبدلة بالفلوس، ومن هنا قيل أن الفلوس هي شريان الحياة. وعليه يمكن القول أيضاً أن السوق هي ساحة المعركة التي تحسم مردود كل طبقة من مساهمتها في الإنتاج. لذلك فإن اقتصاد السوق ليس دمغة خاصة تميّز اقتصاداً بعينه عن اقتصاد آخر، فالاقتصاد في جميع المجتمعات الطبقية هو اقتصاد سوق، يبدأ من السوق وينتهي بدورة كاملة في السوق، باستثناء بالطبع اقتصاد المجتمع الاشتراكي حيث تنعدم السوق ليتقرر نصيب كل طبقة من الثروة بقرار فوقي من دولة دكتاتورية البروليتاريا.

إذاً السوق في الجوهر هي ساحة الصراع الطبقي حيث تجهد كل طبقة لأن تجعل إنتاجها هو العامل الحدي في معايرة القيمة ويعظم بالتالي المردود العائد إليها. وبذلك فإن الإقتصاد الناجم عن السوق يختلف باختلاف مفاعيل السوق سواء من حيث الطبقات المتصارعة أو موضوع صراعها وهو منتوجاتها وحتى ساحة الصراع، وصولاً إلى أدوات الانتاج ومستوى تطورها واتساع تقسيم العمل وإلى المعايرة المترتبة على قانون القيمة المرتكز أخيراً على متوسط المعدل العام للإستهلاك. قوى الإنتاج في عهود العبودية تختلف تماماً عنها في عهود الإقطاع ولهذا تغيرت مختلف عناصر السوق في العهدين. وحتى قانون القيمة الرأسمالية وهو المفترض أن يبقى ثابتاً اختلفت معايرته إذ ارتفعت قيمة ساعة الشغل فبعد أن لم يكن للعبد أية أجور للعمل غدا للقن أجر معلوم هو عشر إنتاجه من المحاصيل. والاختلاف النوعي الأشمل كان بظهور السوق الرأسمالية فبالإضافة إلى ظهور طبقات متصارعة جديدة، الرأسماليين والعمال والبورجوازية الوضيعة، واتساع هائل في تقسيم العمل وفي البضائع المعروضة، كما في ارتفاع معايرة قانون القيمة، ظهرت سوق جديدة لم تكن من قبل وهي سوق العمل وفيها يدخل العمال في مواجهة مباشرة مع الرأسماليين يبيعونهم قوة العمل. شروط هذه السوق والنتائج التي تنتهي إليها هي ما يحكم سوق البضائع الأخرى. تلك هي السوق الرأسمالية المختلفة تماماً عن الأسواق السالفة. وما هو جديد أيضاً في السوق الرأسمالية هو الاحتواء الإمبريالي حيث يتحكم المركز الرأسمالي بآلية العرض والطلب في المحيط التابع له، كما أن تنظيم الكارتل والتروست يلعبان ذات الدور.

ما يلزم التوقف عنده طويلاً هو أن كتاب السياسة يعلمون جميعهم تماماً أن حركة التحرر الوطني التي كانت من تداعيات نتائج الحرب العالمية الثانية انطلقت في السنة التالية لانتهاء الحرب 1946 وانتهت في العام 1972 حين أعلنت الأمم المتحدة في بيان رسمي انتهاء الاستعمار في العالم أو حتى في العام 74 حين ألحق الشعب الفيتنامي هزيمة كبرى بجيوش الامبريالية الأميركية. حركة التحرر الوطني لا تعني أقل من فك الإرتباط مع المركز الرأسمالي، فك الروابط بين الدول المستعمرة والتابعة من جهة ومراكز الرأسمالية من جهة أخرى. ما يثير الاستغراب حقاً هو أن كتاب السياسة بأجمعهم يجهلون أو يتجاهلون تداعيات هذا الانفكاك وشروع سائر الدول المستقلة ببناء اقتصاد وطني مستقل منفصل تماماً عن اقتصاد المراكز الرأسمالية. الاقتصاد الرأسمالي في مرحلته الامبريالية يدور دورته الأولية المعروفة ( نقد ــ بضاعة ــ نقد ) بداية من المركز مروراً إلى المحيط ثم العودة إلى المركز غالباً بشكل مواد خام. خاصية نظام الانتاج الرأسمالي وهي الإنتاج الكثيف (Mass Production) تضطره إلى توسيع دورته حيث يستحيل أن يبدل كل إنتاجه الكثيف بنقد في السوق المحلية فيفيض إنتاجه الفائض إلى المحيط. بنية النظام الرأسمالي هي بنية خلوية فيها المركز وحوله المحيط وأي تهديم لتلك البنية يعني بالضرورة انهدام النظام الرأسمالي وهو ما تفعله العولمة اليوم فلا يعود المركز مركزاً ولا المحيط محيطاً. قبل مائة عام كتبت روزا لكسمبورغ تقول .. تنهار الرأسمالية عندما لا تعود قادرة على التمدد (جغرافياً)، فما بالك وقد حرمت مع بداية السبعينيات من كل امتداد كانت قد امتدته سابقاً !؟ انهيار الرأسمالية غدا حكماً قاضياً في السبعينيات لا رجعة عنه.

التصدعات في بنيان الثورة الاشتراكية التي أخذت تتسع وتتفاقم في الستينيات والسبعينيات سمحت بانهيار نظام الإنتاج الرأسمالي في السبعينيات إلى جهة إنتاج الخدمات بدل إنتاج السلع خاصة وأن الخدمات لا حدود لاستهلاكها محلياً من مثل الخدمات التعليمية والصحية والأمنية وغيرها فتستهلك جميعها محلياً ولا تحتاج إلى تصدير فلا يعود المركز بحاجة إلى محيط. استسلم الرأسماليون لطبقة البورجوازية الوضيعة، المنتج الحصري للخدمات، وهو ما شكّل ضربة قاصمة للبروليتاريا إذ خسرت أكثر من نصف أعدادها بتحوله إلى الطبقة الوسطى وإنتاج الخدمات، وتراجعت شروط العمل وصار إلى تعطيل ما يزيد على 10% من البروليتاريا في بطالة كلية. وبعد أن كان للبروليتاريا أثر فاعل في توجيه العالم وتقرير العلاقات الاجتماعية والدولية فيما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة تعاني اليوم من تهميش مريع وفقدان كل أثر في تقرير حياة المجتمع. في العام 1847 رأى ماركس وإنجلز شبح الشيوعية يحوم في سماء أوروبا واليوم وبعد 164 عاماً يغيب هذا الشبح نهائياً من كل سموات العالم ومن كل آفاقه !!

بعيداً عن الكلام السياسي وإدانة أقزام البورجوازية الذين قادوا العمل الشيوعي منذ الخمسينيات حين كانت الثورة الاشتراكية تدق بقوة أبواب مراكز الرأسمالية وحتى انهيارها في العام 91، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن السوق الرأسمالية أخذت تتغير تغيراً نوعياً منذ سبعينيات القرن الماضي. ففي معرض تحول الإنتاج الرأسمالي إلى إنتاج خدمي غير رأسمالي بحكم تقسيم العمل فيه بالإضافة إلى الخصائص الأخرى، أخذ الإنتاج الرأسمالي ينكمش ويقصر عن إشباع السوق المحلية في مراكز الرأسمالية الكلاسيكية ذاتها، فصار إلى تعويض ذلك باستيراد البضاعة الرخيصة من شرق آسيا ــ شرق آسيا الذي كانت الولايات المتحدة الرأسمالية قد بنته لتسد فيه كوريدورات الرياح الشيوعية العاصفة في الخمسينيات ، اليابان وكوريا وتايوان وتايلاند وماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا ــ الهلع الزائد الذي استولى على الولايات المتحدة في مواجهة الشيوعية جعلها تستنفذ ذاتها لصالح هذه الدول حتى باتت أخيراً شبه مستعمرة للصين. مختلف مقومات السوق، عداك عن السوق الرأسمالية، لم تعد موجودة على الإطلاق، لا المكان، ولا البضاعة، ولا النقد، ولا قانون القيمة الناظم لكل مفاعيل السوق. الخدمات، وقد غدت الأكثر رواجاً واتساعاً في المبادلات، لا تكتسب حالة الصنمية ولا تصل السوق، فيباع معظمها خارج السوق، وما يصل السوق منها، وهو القليل، يصل محمولاً في باطن السلع حيث تمتنع معايرته. كل الخدمات بشتى أصنافها لا تتصنم ولا تتحدد قيمتها الرأسمالية، وتجري مبادلتها بصورة اعتباطية وتعسفية وهو ما قوّض كل أساس للسوق فباتت أثراً بعد عين خاصة وأن الحياة الحديثة اتسع استهلاك الخدمات فيها حتى قاربت نسبتها إلى 70% من مجمل الاستهلاك العام. يجري تبادل الخدمات اليوم دون ضوابط ودون محددات وغالباً ما تصل قيمتها إلى أضعاف أضعاف كلفة إنتاجها إذ تصل في أحايين كثيرة إلى مائة ضعف بل وألف ضعف. وتبريراً لذلك برز عدد من اقتصاديي البورجوازية الوضيعة يدعون بأن المعرفة قد غدت العامل الحدي في القيمة الرأسمالية. يدعون بمثل هذا الإدعاء الوقح وكأن الإنتاج الرأسمالي وما قبل الرأسمالي كان يتم دون أن يملك الإنسان أية معارف، رغم أن أكثر المنتوجات تعقيداً واختزاناً للمعارف تحققت في تلك الأثناء مثل إنتاج الكهرباء والمحرك الكهربائي والتلفون والسيارة والطيارة والإذاعة والتلفزيون وحتى الصواريخ وغزو الفضاء. تحقق كل ذلك دون أن يجروء أي اقتصادي ليدعي في أن المعرفة قد أصبحت العامل الحدي في القيمة الرأسمالية. يدّعون بالقيمة الحديّة للمعرفة وعندما تسألهم عن حدود تلك القيمة لا يعرفون إذ يُتعذّر معرفة أية حدود لقيمة المعرفة مهما كان جنسها ومقدارها، والمعرفة هي أساساً بنية تاريخية مشاع حيث تستعير مادة بنيتها من مخزون البشرية المعرفي.

السوق الدولية اليوم تتثمل بصورة رئيسية بالأسواق المحلية في الدول الرأسمالية سابقاً في الغرب والتي تتعامل مع زهاء 70% من إنتاج العالم. لكن ما عساها تكون مقومات هذه الأسواق !؟ 60 ــ 70% من البضائع المتداولة في هذه الأسواق هي من البضائع الرخيصة المستوردة من جتوب شرق آسيا وأكثر من 90% من الخدمات المنتجة محلياً والنقد المتداول في جميع هذه البلدان هو بالمجمل نقد زائف ومسروق، مفرغ من دلالة القيمة. مثل هذه السوق هي بالطبع سوق زائفة وأي اقتصاد ينسب لسوق زائفة هو بالتأكيد إقتصاد زائف لا وجود حقيقياً له. امتناع الدول الرأسمالية عن الانتقال إلى الإشتراكية بعد أن فقدت محيطاتها، وتحولها بدلاً عن ذلك إلى الإنتاج الخدمي في السبعينيات تطلب منها لتعويض الشح المتفاقم في السلع في أسواقها المحلية استيراد كميات متزايدة منها من جنوب شرق آسيا خاصة وأنها انتقلت من الاقتصاد الرأسمالي إلى ما يسمى بالاقتصاد الاستهلاكي. تضاعف استهلاك شعوب هذه الدول من السلع ومن الخدمات وهو ما تطلب معادلاً نقدياً موازياً بتضخم مضطرد زاد من وتيرته الإرتفاع غير المبرر لقيمة الخدمات بهدف تعميق هزيمة البروليتاريا. ما فات الهاربين من الحل الاشتراكي هو التضخم النقدي. المراكز الرأسمالية الكلاسيكية لم تعد قادرة على خلق ثروات إضافية بعد تحولها عن الإنتاج المادي واستبدالة بإنتاج الخدمات التي لا تضيف أي ثروة للمجتمع بل على العكس، تستهلك الثروة ولا تنتجها. النقد الإضافي الذي يتوجب أن يغطي الخدمات هو نقد مفرغ من كل قيمة ومثله النقد الذي يغطي استيراد السلع. الهاربون من الحل الاشتراكي انتهوا إلى طريق مسدودة بعد أن تورطوا في ديون فلكية وراحوا يطبعون النقود اعتماداً على ما يحصلون من الدولارات المزيفة ــ كان عليهم أن يتعلموا من المرتدين عن الاشتراكية السوفيتية مثل خروشتشوف وخلفائه الذين استهلكوا الثروات الهائلة للمعسكر الاشتراكي قبل أن ينتهوا إلى الانهيار في مزبلة التاريخ.
اليوم ليس هناك سوق حقيقية حتى يكون لها اقتصاد حقيقي.

www.fuadnimri.yolasite.com



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رفيقنا الشيوعي الأميز علي الأسدي
- ليست الأخطاء هي التي أفشلت الاشتراكية
- العمل الشيوعي في عالم خارج التاريخ
- في نقد الإشتراكية السوفياتية
- من الديموقراطية إلى الشيوعية
- خيانة الاشتراكية وانهيار الإتحاد السوفياتي
- دور النقد في انهيار الرأسمالية
- المثقفون وسقوط التاريخ
- اللغو البغو تلغيه وقائع التاريخ
- نذر الكارثة الإقتصادية تقرع طبولها
- الإفساد بالأدلجة
- نقد فظ لشيوعي ناعم
- ماذا عن وحدة اليسار
- الإشتراكية والديموقراطية
- لن تكون رأسمالية في روسيا
- إنتهت الرأسمالية إلى الإنحلال وليس إلى الثورة !!
- حاجة العالم للينين مرة أخرى
- ماركسيون بلا ماركس
- لماذا الأول من أيار !؟
- المتلفعون باليسار واليسارويّة


المزيد.....




- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - نهاية إقتصاد السوق