أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - ليست الأخطاء هي التي أفشلت الاشتراكية















المزيد.....


ليست الأخطاء هي التي أفشلت الاشتراكية


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 3556 - 2011 / 11 / 24 - 17:17
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ما نقدره لرفيقنا الدكتور علي الأسدي هو إنكبابه الحثيث على البحث في أسباب انهيار التجربة الاشتراكية السوفياتية، فالشيوعي ليس شيوعياً حقيقياً طالما أنه لم يتوصل ويركن إلى الأسباب الحقيقية لانهيار الاتحاد السوفياتي. وما لا نقدره له، بل ونعيبه عليه هو البحث عن أسباب الانهيار لدى بعض الأساتذة الغربيين الذين لا علاقة لهم بالماركسية ولو من بعيد. كيف لأحدهم أن يبحث في أسباب انهيار مشروع قام أصلاً مستشرفاً ماركس وهو بذات الوقت لا علاقة له بالماركسية ؟ قد يعترض رفيقنا الأسدي ليقول أنه إنما يستعرض آراء أساتذة جامعيين في علم الإقتصاد دون أن يتبنى آراءهم، غير أن مثل هذا الإعتراض لن يعفيه من الملامة حتى وإن لم يتبنَّ أي رأي من الأراء المعروضة، وهو ما يشير إلى أنه إن لم يكن متفقاً مع بعض هذه الآراء فهو محايد على الأقل، وهذا لا يجوز أن يكون مقبولاً على ماركسي من مثل الدكتور على الأسدي. لماذا يبحث ماركسي عن أسباب فشل مشروع ماركسي لدى غير الماركسيين !؟ هذا بحث يقاربه غير الماركسيين وليس الماركسيين على الإطلاق.

ثنائية الخطأ في النظرية أم في التطبيق، الشائعة على لسان عامة المعلقين والكتاب، لا تدل على نضج في البحث أو في الباحث. فمن يقول بهذه الثنائية يفترِض سلفاً أن جميع الذين قادوا الحزب الشيوعي والدولة السوفياتية كانوا من طينة واحدة، من قادة البروليتاريا الأوفياء الذين يستشرفون ماركس ولينين في حماية ثورة البروليتاريا وتقدمها، ومنهم من يخطئ ومنهم من يصيب، وأن خروشتشوف من طينة ستالين وبريجينيف من طينة لينين. لكن الجميع يعلم أن الأمور كانت على العكس تماماً من هذه الصورة، فخروشتشوف قضى طيلة رئاسته للدولة يشتم ستالين باعتباره مجرماً وطاغية، وبريجينيف، وهو البورجوازي الوضيع، لا يمت بصلة إلى عالم لينين مؤسس البولشفية العريقة. ويفترض أيضاً مثل هذا الباحث أن الحزب الشيوعي، وهو رسمياً صاحب القرار الأخير في الدولة، كان كتلة صماء لا تتعارك مع الحياة بكل أنشطتها ومع كل القوى الفاعلة فيها فلا يتغير ولا يتطور، وهذا بالطبع غير صحيح حيث أن الأساس الوحيد لقيام الحزب الشيوعي هو قيادة صراع طبقة البروليتاريا ضد كل الطبقات الأخرى بهدف تصفيتها النهائية وإلغائها من الوجود، بعيداً عن كل المواريث الطبقية التي يرثها عادة كل الناس بدرجات متفاوتة وبمناح متباينة. كما أن ليس كل قادة المعارك ينجحون في معاركهم إذ مقابل كل قائد منتصر ثمة قائد مهزوم.

أن يُحكم على قرار ما بالخطأ فذلك يعني وجود معيار ثابت للصحة، جاهز دائماً لمعايرة مختلف القرارات. الأمر ليس كذلك فيما يخص الثورة الاشتراكية، إذ أن كل من له علاقة بالماركسية يعرف تماماً أن ماركس رفض أن يكتب حرفاً واحداً عن كيفية استكمال الثورة الاشتراكية وتطويرها باستثناء أن يتم ذلك في ظل دولة دكتاتورية البروليتاريا، وترك ذلك مفتوحا لتقرره الظروف السائدة في كل بلد على حدة. وعليه لا يجوز الإدعاء بأن هذا القرار أو تلك الإجراءات كانت خطأً تتعارض مع ما قال به ماركس باستثناء إلغاء خروشتشوف لدكتاتورية البروليتاريا في العام 1959. ماركس لم يكتب أن دولة دكتاتورية البروليتاريا بإمكانها أن تطبق الخطة الاقتصادية الجديدة (النيب) التي رسمها لينين عام 1922 لصالح البورجوازية. كما لم يوصِ بسياسة معارضة التسلح التي انتهجها ستالين في الثلاثينيات مما أغرى هتلر بمهاجمة الاتحاد السوفياتي مع بداية الأربعينيات، ولم ينهَ عن الأخذ بيد الفلاحين كما أخذ بوخارين في العشرينات وخروشتشوف في الخمسينيات بعد أن كان الحزب قد أخذ بخطته الخمسية 1952- 56 بسياسة محو طبقة الفلاحين. ومن الملاحظ بصورة عامة قبل كل هذا أن جميع الذين يقولون بالأخطاء في التطبيق في بناء الاشتراكية لا يعرفون جوهر الإشتراكية وليس لديهم النموذج الإشتراكي (Prototype) للقياس عليه كي يكون بإمكانهم القول بالخطأ في التطبيق ــ التطبيق نحو ماذا ؟ نحو اشتراكية لا يعرفونها وليست موجودة إلا مشوهة في مخيلاتهم البورجوازية فقط.

البروفيسور هاليدي، كما في استعراض رفيقنا الأسدي، يقول أن سباق التسلح لم يكن سبباً في انهيار الاتحاد السوفياتي، ويعارضه الاستاذ فرانك فبقول بل هو سبب رئيسي في انهياره، وفي الحقيقة أن كلا القَولين المتعارضين صحيحان بنفس الدرجة، والسبب في ذلك هو أن الطرفين لم يعرفا الدوافع الحقيقية لما وُصف خطأً بسباق التسلح؛ فليس من قيادة تتمتع بحس سليم وترى أن عمليةً ما تدفع بنظامها إلى الإنهيار ومع ذلك تستمر بالعمل بها مثلما استمرت السلطات السوفياتية في التسلح حتى الانهيار، إلا إذا كانت القيادة متآمرة على النظام، وهو ما كان حال قادة الكرملين فيما بعد ستالين. فرائدهم خروشتشوف مثلاً توعّد كبار الرأسماليين الأمريكان في عقر دارهم في واشنطن بأنه سيدفنهم قريباً مع أنه كان يعلم تماماً أن العسكر الذين جاءوا به إلى رأس السلطة يعملون على تهديم النظام الاشتراكي المستقوي به، كما اعترف في مذكراته. بل إن قادة الدولة في روسيا غير الاشتراكية اليوم ما زالوا منخرطين في حمّى التسلح رغم انتهاء الحرب الباردة والمصالحة الأميركية الروسية دون أن يعلل ذلك أحد من الباحثين ــ جيوشهم تنهزم في مواجهة قبائل التشيتشان ومع ذلك ينفقون معظم موازنتهم على تطوير أسلحة لا تستخدم في الداخل !! ــ ليس بغير هذا تتم محاربة الاشتراكية ــ كما أن هاليدي وفرانك لم يقتربا من الإشارة إلى السبب الرئيسي والوحيد في انهيار الاشتراكية. حوّما طويلاً حول الظواهر المرافقة للانهيار دون أن ينجحا في الهبوط على الأرضية التي أسست للانهيار. عدّدا أسباباً كثيرة دون أن يفلح أي منهما في الوصول إلى الصراع الطبقي الذي هو السبب الرئيسي والوحيد للإنهيار، الصراع الطبقي الذي ظل لينين وستالين بقيادة طبقة البروليتاريا يخوضانه بكل عنف وصرامة ضد كافة الطبقات الأخرى غير البروليتارية ــ معظم الباحثين يلومون اليوم لينين وستالين نظراً لحزمهما الصارم في قيادة الصراع الطبقي إلا أن التاريخ الذي كتبه البورجوازيون قفز عن جرائم البورجوازية والرجعية الوحشية التي استهدفت تصفية البلاشفة جسدياً منذ صبيحة انتفاضة أكتوبر1917، وهو ما كانت قد تنبأت به صحف موسكو في سبتمبر السابق لأكتوبر الثورة.

لنستعرض المحطات الكبرى في الصراع الطبقي الذي خاضته البروليتاريا بقياد لينين وستالين قبل بداية الانهيار. انتفض البلاشفة في أكتوبر1917 لإزاحة البورجوازية الروسية الهشّة عن السلطة بعد أن راحت تتآلف مع القوى الرجعية والقيصرية وتستمر في الحرب خلافاً لبرنامج ثورتها في فبراير قبل أشهر. بعد أربعة شهور فقط، أي في مارس1918، نهضت القوى البورجوازية بكل أطيافها متحالفة مع كبار الملاكين والرجعية القيصرية، نهضت تشنّ حرب إبادة على البلاشفة الذين لم يجدوا بدّاً من أن ينظموا كتائب مسلحة من العمال والجنود وفقراء الفلاحين حتى استطاعوا أن يسحقوا الجيوش الحرارة بقيادة جنرالات القيصر مدعومة بالمال والسلاح من قوى الرأسمالية العالمية خلال إثني عشر شهراً. لكن قبل أن تستسلم الجيوش الروسية البيضاء استدعت تسعة عشر جيشاً أجنبياً لمحاربة البلاشفة وإبادتهم على أرض الوطن، إلا أن البلاشفة بقيادة لينين الصارمة حققوا الإنتصار على كافة القوى المعادية في العام 1921. بعد ثمان سنوات من الحرب المتواصلة لم يبق في روسيا القارية سوى الجوع والدمار. إذاك رأى لينين أن يتراجع خطوتين في تطبيق الاقتصاد الاشتراكي والسماح بانتهاج الاقتصاد البورجوازي إلى حين، حمايةً للثورة ولمصلحة الفلاحين، فنادى بخطة اقتصادية جديدة (النيب) في العام 1922. وفي ذات العام تولى ستالين وظيفة لينين الذي أقعده المرض. حارب العمال والفلاحون بقيادة ستالين على الجبهة الإقتصادية، جبهة الإنتاج، بنفس العزم والحماس في حربهم على الجبهات العسكرية؛ ومبكراً في العام 1926 عاد مجمل الإنتاج القومي إلى ما كان عليه في العام 1913 قبل الحرب. إذاك بدأ ستالين بالتخلص من أحكام النيب كما أوصى لينين. في العام 1928 قرر الحزب أول خطة خماسية للتنمية ارتكزت على التصنيع الكثيف من أجل تقدم البلاد على طريق الاشتراكية وتوطيد دكتاتورية البروليتاريا. كانت الخطة طموحة لدرجة دفعت تشيرتشل وهو صاحب الشعار " لنخنق البلشفية في مهدها " في العام 1919، دفعته للقول .. " لو استطاع هذا الحالم في الكرملين تحقيق خطته لتحولت أنا نفسي إلى الشيوعية " !! اكتمل تحقيق الخطة في أربع سنوات فقط لكن تشيرتشل حنث بوعده وبدل أن يتحول إلى الشيوعية غدا أكثر عداء، فأخذت المخابرات الانجليزية تدعم عناصر التخريب التروتسكية في التسلل وتخريب المصانع وأعمال البناء، كما بلغ انحطاطها لأن تدعم هتلر في ألمانيا وترشي قيادات الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني كيلا يتحالفوا مع الشيوعيين ويسدوا الطريق أمام هتلر، عدو الشيوعية، للوصول إلى سدة السلطة، وهو ما كانت فعلته في إيطاليا وسلمت عميلها موسوليني رأس السلطة. كان لاغتيال سيرجي كيروف الرجل الثاني في الحزب عام 1934 وقع بالغ الأثر على ستالين وصرامة قيادته للصراع ضد البورجوازية وأعداء الاشتراكية خاصة وقد تبين في التحقيقات أن لعضوي المكتب السياسي للحزب ليف كامينيف وغريغوري زينوفييف دوراً في التحريض على الاغتيال ــ ظلت قضية اغتيال كيروف تحتل حيزاً كبيراً في أذهان الشيوعيين العرب حتى الخمسينيات.

في تلك السنوات الفاصلة رأى الرفيق ستالين أن أخطاراً جسيمة أخذت تتهدد سلامة المشروع اللينيني ومصائره وخاصةً بعد أن تمّ بناء المداميك الأولى منه بنجاح مدوٍ على مستوى العالم. أكبر تلك الأخطار كان وصول النازيين إلى رأس السلطة في ألمانيا لأن برنامجهم اقتصر على العداء للشيوعية واستئصالها بتعبير هتلر، واندغام أهداف النازية بأهداف التروتسكية وهي تدمير الدولة السوفياتية وقد تأكد ذلك في إعادة محاكمة كامينيف وزينوفييف في العام 36 المحكومين قبلئذٍ بالاشتراك في مؤامرة اغتيال سيرجي كيروف، كما تأكد مرة أخرى في محاكمة نيقولاي بوخارين في العام 37 . وكانت وظيفة تروتسكي آنذاك هي إرسال المخربين إلى داخل المؤسسات الصناعية السوفياتية ودون أن يستبقي عرق حياء أو خجل في تصريحاته لجريدة (سانت لويس بوست ديسباتش) يحرض فيها هتلر على غزو الاتحاد السوفياتي. ترافق ذلك مع إطلالة البورجوازية الوضيعة السوفياتية برأسها الرجعي المتكلس يتهدد مسار الاشتراكية فقبض على وزير أمن الدولة، نيقولاي يازوف، يتآمر على تصفية كبار الشيوعيين، كما قبض على ضباط هيئة أركان الجيش الأحمر بقيادة المارشال توخاتشيفسكي يعدون لإنقلاب عسكري على الدولة والحزب 1937. أمام كل تلك الأخطار التي هددت فعلاً مصائر الثورة الاشتراكية واستهدفت قدرات الدولة السوفياتية في المواجهة الشاملة مع ألمانيا النازية وقد بدت تلوح في الأفق، أمام كل تلك الأخطار الجدية استنهض ستالين، وهو القائد البروليتاري الذي إئتمنه لينين على مشروعه في الثورة الاشتراكية العالمية، استنهض قوى الحزب الطليعية المجربة وقوى الأمن الصارمة لتطهير صفوف الدولة والحزب من مختلف العناصر المترددة والمتخاذلة في مواجهة النازية، وهي ربيبة الإمبريالية الأنجلو فرنسية لأجل القضاء على الاتحاد السوفياتي، أول دولة للعمال في التاريخ. ليس أحقر من البورجوازية تندب مصائر عشرات أو مئات الأشخاص الذين نالهم التطهير خلال 1936 ـ 38 بعويل لا ينقطع دون أن تذرف دمعة واحدة على مصائر 27 مليون إنسان فقدهم الاتحاد السوفياتي بسبب الحرب ضد النازي. لنا هنا أن نذكر البورجوازية بنذالتها وحقارتها حيث ما كان الاتحاد السوفياتي ليكسب الحرب ويسحق النازية لولا ذلك التطهير لصفوف الجبهة السوفياتية كما أشار ستالين بحق، ولو انتصر النازي لكانت كل بورجوازية العالم ليست أكثر من عبيد وأقنان في امبراطورية الرايخ النازي لألف عام. .
في المؤتمر الثامن عشر للحزب، وبعد اكتمال أعمال التطهير، لاحظ ستالين وجود قاعدة أساسية في بناء الإشتراكية تقول كلما تقدم البناء الإشتراكي كلما احتدم أكثر الصراع الطبقي، تلك القاعدة التي لم يَعِها رفاق ستالين في القيادة خاصة وأنه ترتب على الحزب التوقف عن العمل بسياسة الصراع الطبقي من أجل الإستعداد لمواجهة النازية مواجهة وطنية تشارك فيها جميع طبقات الشعوب السوفياتية. برز تحالف الإمبريالية متجسدة ببريطانيا وفرنسا مع الفاشية متمثلة بألمانيا وإيطاليا في مؤتمر ميونخ في سبتمبر38 موجهاً ضد الاتحاد السوفياتي وقد عُمّد ذلك التحالف الشرير بمباركة فرنسا وبريطانيا لاحتلال هتلر للنمسا واقتطاع منطقة السوديت من تشيكوسلوفاكيا وضمها لألمانيا ومباركتهما لاحتلال موسوليني للحبشة وأريتريا والصومال. إذاك فاجأ ستالين العالم بضربة قاضية لذلك التحالف الشيطاني الشرير من خلال عقد اتفاقية عدم اعتداء مع هتلر في أغسطس39 بعد أن أعيته الحيلة في عقد تحالف مع بريطانيا وفرنسا ضد النازية. تلك الإتفاقية هي التي فككت الجبهة الإمبريالية الفاشية فكانت الحرب بداية بينهما مما منح الاتحاد السوفياتي مهلة عشرين شهراً للإستعداد للحرب، كان ستالين يقدر أنها ستكون 26 شهراً وهو الخطأ الجسيم الذي اقترفه ستالين طيلة حياته إذ جاء العدوان الهتلري في يونيو بينما كان ستالين يتوقعه في ديسمبر بعد ستة أشهر؛ ولعل الاتحاد السوفياتي انتهى إلى الانهيار بسبب ذلك الخطأ في التقدير، إذ لو أن الحرب لم تجهد الاتحاد السوفياتي كثيراً لما برز العسكر بهذه القوة وقبضوا على السلطة بعد رحيل ستالين وهو ما قاد إلى الإنهيار.

نتوقف طويلاً أمام التاريخ السوفياتي في الثلاثينيات من أجل تعيين المنطلق الوحيد الذي على كل باحث في أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي أن ينطلق منه وإلا كان كمن يخض الماء ليستخرج الزبد. المشروع اللينيني الذي تجسد بداية ببناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ظل محكوماً بتناقض تعذّر حلّه أو تجاوزه. الاشتراكية العلمية التي هي برزخ العبور إلى الشيوعية تقوم أساساً بالمفهوم الماركسي اللينيني على محو الطبقات وهو ما يقتضي بالطبيعة احتدام الصراع الطبقي وأن تشن البروليتاريا حرباً لا هوادة فيها على مختلف أطياف البورجوازية الوضيعة في المجتمع الاشتراكي. هذا في مواجهة الأعداء في الداخل؛ أما في مواجهة الأعداء في الخارج مثل مواجهة النازية فالأمر يقتضي بالطبع تحالفاً طبقياً في الداخل. استناداً إلى هذا التناقض ــ الصراع الطبقي والوحدة الطبقية بذات الوقت ــ الذي حكم تطور المشروع اللينيني يتوجب اعتبار العدوان الهتلري على الاتحاد السوفياتي رافعة قوية للطبقة البورجوازية الوضيعة فيه. صحيح أن التحالف الطبقي كان متيناً ليتغلب على ألمانيا الهتلرية لكنه صحيح أيضاً أن الإنتصار التاريخي في الحرب العظمى انعكست آثاره على العسكر وجنرالات الحرب وليس على الحزب وقياداته التي ضبطت الجبهة الداخلية صلبة متينة وقدمت خيرة الطلائعيين في الدفاع عن الوطن. الجنرالات الذين اجتاحوا ألمانيا النازية بقوة لا نظير لها في التاريخ لم يفقدوا هيبتهم وأثرهم الاجتماعي وحتى السياسي بعد عودتهم للوطن. لم يكن يعطل قوتهم وأثرهم في الدولة والمجتمع إلا ستالين الذي كان ذا حضور طاغً يتجاوز كل الحدود، كما وصفه تشيرتشل.

تعطيل الصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي منذ 1938 وحتى 1952، من أجل الحرب والاستعداد لها جبهةً متراصةً ثم من أجل إعادة الإعمار، عطّل دور الحزب في الصراع الطبقي فلم يعقد أي مؤتمر له طيلة كل تلك الفترة. بعد انتهاء إعادة الإعمار في العام 51 دعت قيادة الحزب إلى عقد المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الذي انعقد في نهاية أكتوبر1952. كانت الصيحة الأعلى لذلك المؤتمر هو استئناف عبور الإشتراكية عن طريق استئناف الصراع الطبقي ورفع وتيرته. ارتكزت قرارات ذلك المؤتمر المفصلي ــ وهو آخر مؤتمر للشيوعيين فجميع المؤتمرات التالية كانت لممثلي البورجوازية الوضيعة ــ ارتكزت على تطوير طبقة البروليتاريا وحزبها الشيوعي. فالخطة الخمسية التي أقرها المؤتمر هدفت إلى رفع مستوى حياة العمال حصراُ بصورة محسوسة وتضييق الخناق على طبقة الفلاحين من أجل محوها. كما تقرر تجديد قيادات الحزب الشائخة بقيادات شابة خلال عشر سنوات ومضاعفة عدد أعضاء المكتب السياسي صاحب السلطة العليا في الدولة، والتوسع في ممارسة مبدأ النقد والنقد الذاتي. ليس من شك في أن تلك القرارات أصابت أعضاء القيادة في عصب حساس خاصة وأن ستالين ركز في نقده للقيادة، وهو منهم، على سن الشيخوخة لجميع الأعضاء في المكتب السياسي.

مؤتمر الحزب التاسع عشر وضع حد السيف على رقبة البورجوازية الوضيعة وهو ما يستحضر السؤال المفصلي .. لماذا لم يعمر ستالين بعد المؤتمر سوى أربعة شهور حيث توفي في 5 مارس 53 !؟ .. ولماذا قررت قيادة الحزب في سبتمبر53 إلغاء كل ما صدر عن المؤتمر العام التاسع عشر للحزب خلافاً للأصول والقانون والنظام وكأن المؤتمر لم يكن !؟ وهل كانت قيادة الحزب لتجروء على إلغاء مقررات مؤتر عام للحزب لو بقي ستالين حيّاً ؟؟ هذا يعني بالضبط أن الحزب في سبتمبر 53 هو ضد الحزب في نوفمبر 52. هنا تحديداً ينتفي السؤال عن أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي حيث أن الإنهيار كان بالضبط بسبب أن الحزب الشيوعي السوفياتي في سبتمبر53 غدا ضد الحزب الشيوعي السوفياتي في نوفمبر52. شهد فياتشيسلاف مولوتوف وهو ابن الحزب الوفي والبار رفيق لينين ومؤسس البرافدا 1912 ورئيس مجلس الوزراء 1929ـ 41 ووزير الخارجية 41 ـ 52، شهد في مذكراته أن بيريا ومالنكوف وخروشتشوف تآمروا على حياة ستالين ودسوا له السم في الشراب أثناء عشائهم معه عشية الأول من مارس حين لم يستطع ستالين أن ينهض من سريره في الصباح التالي وحين تعمد بيريا باعترافه ألا يسعفه. شهادة مولوتوف زكتها لجنة من الخبراء الروس والأمريكان انتهت إلى القرار بأن ستالين مات مسموما بسم الجرذان (ورفرين). نحن نتوقف عند هذه التفاصيل التي يستهونها الكثيرون لكنها تشكل حقيقة مفصلاً تاريخياً ليس في حياة الشعوب السوفياتية بل وفي حياة شعوب العالم دون استثناء. الجواب الوحيد للتساؤل عن قرار قيادة الحزب بإلغاء كل ما صدر عن المؤتمر التاسع عشر خلافاً للقانون والنظام يدل حقيقة على أن قرارات المؤتمر لو تم تنفيذها بالكامل لاستحال الرجوع عن الاشتراكية أو لكان احتمال ذلك ضئيلاً جداً. وما عساها تكون أحوال العالم لو أن الاتحاد السوفياتي عَبَر الاشتراكية إلى الشيوعية !؟ ــ من المؤكد أنه سيكون عالماً مختلفاً كل الاختلاف في مختلف أقطاره وأمصاره.

نحن لن نعير أي اهتمام لدعاوى الخطأ في النظرية وذلك ليس لأن اللينينية المستوحاة من النظرية الماركسية استطاعت أن تحقق بقيادة ستالين ما بين 1917 و 1953 ما عجز عنه الآخرون بشهادة أساطين الرأسمالية، بل لأن كارل ماركس لم يكتب قط وصفة للإشتراكية ولم يوصِ بأي عمل من الأعمال التي جرى تطبيقها في الاتحاد السوفياتي. لكن لا يجوز لنا أن نتجاهل محاولات كتبة البورجوازية في تزييف عداء البورجوازية الوضيعة للبروليتاريا وحربها ضدها على أنها مجرد أخطاء في تطبيق الاشتراكية. كيف لمغفل أن يصدق بأن تسميم ستالين هو مجرد خطأ في تطبيق الاشتراكية !؟ وكيف له أن يعتبر إلغاء كل مقررات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي خلافاً للأنظمة والأصول من قبل المكتب السياسي في سبتمبر53 هو مجرد خطأ في التطبيق !؟ أو أن تقرير خروشتشوف الشخصي في هجوم مسعور على ستالين وهو أبو الاشتراكية السوفياتية مجرد خطأ في التطبيق !؟ ومن يمكنه اعتبار الانقلاب العسكري لإعادة خروشتشوف لرئاسة الدولة والحزب وطرد البلاشفة من المكتب السياسي بعد أن سحب الثقة من خروشتشوف على أنه مجرد خطأ في التطبيق !؟ وكيف يمكن اعتبار إلغاء دكتاتورية البروليتاريا بقرار من المؤتمر العام للحزب مجرد خطأ في التطبيق بالرغم من أن كارل ماركس قد أكد دكتاتورية البروليتاريا شرطاً للتطبيق الاشتراكي !؟ وهل كان الانقلاب العسكري في أكتوبر 64 للإطاحة بخروشتشوف مجرد خطأ في التطبيق !؟

بعد كل ما تقدم نستطيع أن نؤكد أن الأخطاء ليست هي التي أفشلت الاشتراكية السوفياتية، وليست هي منافسة الغرب في التكنولوجيا ــ التكنولوجيا السوفياتية المحصورة في صناعة الأسلحة متقدمة على التكنولوجيا الغربية ــ وليس هو سباق التسلح كا يوصف خطأً، وليس هو غزو أفغانستان، وليست هي المنافسة الإقتصادية، ما أفشل الاشتراكية السوفياتية ودفع بالمشروع اللينيني إلى الإنهيار هو فقط الصراع الطبقي حيث نهضت البورجوازية الوضيعة بقيادة العسكر في ثورة ضد البروليتاريا ومشروعها الإشتراكي وكان لها الغلبة أخيراً ليس بانهيار النظام السوفياتي في العام 91 بل بالإنقلاب العسكري الذي أطاح بخروشتشوف في أكتوبر1964 حين همَّ بالإفلات من قبضة العسكر. النظام السوفياتي بعد رحيل ستالين وتحديداً منذ الإنقلاب غير الشرعي وغير القانوني على الحزب في سبتمبر1953، والنظام في روسيا فيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى اليوم هو في القبضة الحديدية للعسكر الذين غدوا عدو البشرية رقم واحد. هم الذين دمروا مشروع لينين وسدوا الطريق نحو تحرير الإنسانية في عالم مشرق جديد، وهم الذين لن تفلت من قبضتهم الحديدية على الأرجح شعوب روسيا قبل أن يرموا بها وبالبشرية جمعاء في أتون كارثة كونية عظيمة الأهوال.

www.fuadnimri.yolasite.com



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العمل الشيوعي في عالم خارج التاريخ
- في نقد الإشتراكية السوفياتية
- من الديموقراطية إلى الشيوعية
- خيانة الاشتراكية وانهيار الإتحاد السوفياتي
- دور النقد في انهيار الرأسمالية
- المثقفون وسقوط التاريخ
- اللغو البغو تلغيه وقائع التاريخ
- نذر الكارثة الإقتصادية تقرع طبولها
- الإفساد بالأدلجة
- نقد فظ لشيوعي ناعم
- ماذا عن وحدة اليسار
- الإشتراكية والديموقراطية
- لن تكون رأسمالية في روسيا
- إنتهت الرأسمالية إلى الإنحلال وليس إلى الثورة !!
- حاجة العالم للينين مرة أخرى
- ماركسيون بلا ماركس
- لماذا الأول من أيار !؟
- المتلفعون باليسار واليسارويّة
- العقبة الكبرى أمام استئناف العمل الشيوعي
- الحرية ليست إلاّ شرطاً ظرفياً يستوجبه فقر أدوات الإنتاج


المزيد.....




- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - ليست الأخطاء هي التي أفشلت الاشتراكية