أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد البشيتي - مِنَ -الكوزمولوجيا الدينية- إلى -الديانة الكوزمولوجية-!















المزيد.....



مِنَ -الكوزمولوجيا الدينية- إلى -الديانة الكوزمولوجية-!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 3600 - 2012 / 1 / 7 - 11:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إذا كنتَ مُؤْمِناً بالله، وجوداً وعملاً وصفات، وإذا ما تسبَّبت "صورة" الله في التوراة، أو الإنجيل، أو القرآن، بضعف، أو زعزعة، إيمانكَ هذا؛ لِكَوْنِكَ تَنْظُر إليها، وفيها، بعَيْن فيزياء القرنين العشرين والحادي والعشرين، فإنَّ عليكَ أنْ تقرأ، وتتمثَّل معاني، نظرية "الانفجار العظيم" Big Bang؛ لأنَّها تُزوِّدكَ أسلحةً وذخائر (فيزيائية وكوزمولوجية) تستطيع بها أنْ تَجْعَل إيمانكَ بالله أكثر رسوخاً وصلابةً، أو أنْ تُقوِّيه وتُعَزِّزه إذا ما اعتراه ضعف أو تَزَعْزُع؛ فـ "صورة" الله، في هذه النظرية الكوزمولوجية الكبرى، تَخْتَلِف كثيراً عن "صورته" في الدِّين، والتي ما عاد، بسببها، مُقْنِعاً، أو مُقْنِعاً كثيراً، للإنسان في مستهلِّ الألفية الثالثة؛ ولقد اشتدَّت الحاجة (لدى حُرَّاس وسَدَنة "الوعي الدِّيني" بشتَّى أشكاله وصُوَرِه، و"الوعي الفلسفي" المتصالِح، في الجوهر والأساس، مع "الوعي الديني") إلى ضَمِّ "الفيزياء" إلى "الميتافيزيقا" في صُنْع "صورة" الله.

الفيزياء أصابت من الدِّين مَقْتَلاً إذ أعلنت أنَّ "المادة لا تفنى ولا تُسْتَحْدَث.."؛ فما كان من مُعدِّي ومُقرِّري مَنْهَج الفيزياء في مدارسنا إلاَّ أنْ أضافوا عبارتين إلى هذا النَّص، فقالوا في النَّص المُعَدَّل تعديلاً دينياً إنَّ "المادة لا تفنى (إلاَّ بمشيئة الله) ولا تُسْتَحْدَث (على أيدي البشر)"!

الله، من حيث عمله، إنَّما هو الذي "خَلَقَ (أوْجَدَ، اسْتَحْدَث) المادة (Matter) من العَدَم (Nothingness)"، وهو الذي، من ثمَّ، يستطيع إفناءها؛ و"كان الله ولم يكن شيء غيره".

إنَّ "الخَلْق" مُثَلَّثٌ، أضلاعه هي: "الخالِق (وهو الله)"، و"المخلوق (وهو المادة)"، و"العَدَم (الذي منه خَلَق الله كل شيء)".

وجاءت نظرية "الانفجار العظيم" لتَجُبَّ قانون "المادة لا تفنى ولا تُخْلَق (من العَدَم)"، مؤسِّسةً لـ "إلهٍ جديد"، ميتافيزيقيِّ القَلْب، فيزيائي القالب؛ فهل نتجنَّى عليها؟

من ملاحَظَة لاحَظَها هابل جاءت هذه النظرية؛ فَلَقَد لاحَظَ أنَّ المجرَّات تتباعَد (في استمرار) وكأنَّها تتنافَر.

واستُنْتِجَ من هذه الملاحَظَة أنَّ المجرَّات كانت في ماضيها متقارِبة.

وهذا "التقارُب" ضُخِّم نظرياً، فافتَرَضَ "مُضَخِّموه" أنَّ الكون الوليد (والذي يَضُم كل المادة) كان في منتهى الصِّغَر (كان، في حجمه، أصغر من الإلكترون). وكانت "كثافته"، من ثمَّ، "شبه مُطْلَقَة"؛ فكل مادة الكون كانت (عند ولادته) مُركَّزة في حجم أصغر من حجم الإلكترون.

ثمَّ أطْلَقوا العنان لخيالهم؛ فألغوا حتى هذا "الحجم المتناهي في الصِّغَر"، قائلين بـ "شيء، عديم الحجم، مُطْلَق الكثافة"، منه وُلِدَ الكون؛ وكان "الانفجار العظيم" هو "المُولِّد للكون من ذاك الشيء (Singularity)".

وعَرَّفوا "الكون" على أنَّه "كل شيء (اكْتَشَفْنا، أو يمكن أنْ نَكْتَشِف، وجوده)".

لكنْ، دَعُونا أوَّلاً نَفْهَم "ملاحَظة هابل" فهماً سليماً.

أُنْظُر إلى السماء؛ فماذا تُلاحِظ، إنْ أمْعَنْتَ ودقَّقتَ النظر؟

تُلاحِظ أنَّ كل "زُمْرة (أو مجموعة) من المجرَّات" تُسْرِع مُرْتَدَّة عن سائر "الزُّمَر"؛ فهذا "التباعُد (أو التنافُر)"، والذي فيه يكمن معنى "تمدُّد الكون"، يَشْمَل "زُمَر المجرَّات"، ولا يشمل المجرَّات أو النجوم.

وفي "نِسْبِيَّة" المشهد، ترى أنَّ كل "زُمْرَة من المجرَّات" تُسْرِع مُرْتَدَّة عنكَ أنتَ، أي عن الكرة الأرضية، أيْ عن نظامنا الشمسي، أيْ عن مجرَّتنا "درب التبَّانة"، أيْ عن "زُمْرَة المجرَّات" التي إليها ننتمي؛ وكأنَّكَ تَقَع حيث يَقَع "مَرْكَز الكون".

وبَعْدَ بَحْثٍ واختبارٍ، تتوصَّل إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ "زُمْرَة المجرَّات" "الأبْعَد عنكَ"، هي "الأقدَم وجوداً"، هي "الأسرع في ارتدادها وابتعادها عنكَ".

مؤسِّسو ومُطوِّرو نظرية "الانفجار العظيم" اكتشفوا لكَ، أخيراً، أنَّ "زُمَر المجرَّات" ليست هي التي تتحرَّك؛ فـ "الفضاء (بينها)" هو الذي يتمدَّد (في استمرار، ويتسارَع تمدُّداً) فتبدو لكَ "زُمَر المجرَّات" تتحرَّك وتَنْتَقِل في الفضاء. إنَّها، أي "زُمَر المجرَّات"، وعلى ما يزعمون، لا تَنْتَقِل، ولا تتحرَّك، "في"، الفضاء، أو "عبره"؛ وإنَّما "معه"، و"به".

وإنَّ لكَ الحق، بَعْد هذه "الملاحَظَة"، أنْ تَسْتَنْتِج أنَّ الكون في ماضيه كان أصغر حجماً؛ لأنَّ "زُمَر المجرَّات" كانت متقاربة.

لكن، ينبغي لكَ ألاَّ تَنْتَقِل بهذا الاستنتاج من أرض الفيزياء إلى أرض الميتافيزيقا، فتَزْعُم أنَّ الكون قد وُلِدَ من ذلك "الشيء، عديم الحجم، مُطْلَق الكثافة"؛ ولقد تجرَّأوا، فَزَعموا هذا الزَّعْم!

وجاء في زَعْمِهِم هذا: كان ذلك "الشيء، الفَرْد، أي الذي لا مثيل، ولا نظير، له (Singularity)"، ولم يكن من وجودٍ لأيِّ شيء.

دَعُونا نسمِّي ذلك الشيء "البيضة الكونية"؛ فما هي ماهيتها؟ وما هي خواصها؟

عن هذين السؤالين، يجيبونك قائلين: لا تسأل عن ذلك، ولا تسأل مثل هذين السؤالين؛ فهما سؤالان ليسا من جنس أسئلة العِلْم (والفيزياء).

إنَّ لكَ الحق في أنْ تسأل عمَّا وُجِد، أو عَمَّا حَدَث، بعد رُبْع، أو ثُلْث، الثانية الأولى (من ولادة الكون، والذي عُمْرُه الآن 13.7 بليون سنة).

لكن، ليس لكَ الحق في أنْ تسأل عَمَّا وُجِدَ، أو عَمَّا حَدَث، "قَبْل" وقوع "الانفجار العظيم"؛ لأنَّ "قَبْل" هي "ظرف زمان"؛ و"الزمان" هو مخلوق من مخلوقات هذا "الانفجار"؛ لقد وُلِدَ "الزمان" على يديِّ "الانفجار العظيم"؛ وإنَّ "عُمْر الزمان" الآن هو 13.7 بليون سنة!

"البيضة الكونية"، وبحسب هذا التصوُّر، إنَّما هي "شيء عديم الزمن"؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "البيضة الكونية" هي "شيء لم تَقَع فيه أحداث، ولم يَعْرِف أيَّ تغيير"؛ فالزمن لا وجود له إذا لم تَحْدُث أحداث؛ و"الحادِث" إنَّما هو "التغيير"، الذي هو "زوالٌ ونشوءٌ متزامنان". ولولا وجود الزمن لَمَا كان في مقدوركَ أنْ تقول: "هذا الشيء كان..، فأصبح..".

كانت "البيضة"، ولم يكن من وجود لـ "الزمن"؛ فهل كان من وجودٍ لغيره؟

كلاَّ، لم يكن من وجودٍ لأيِّ شيء.

"الفضاء (أو المكان، بأبعاده الثلاثة)" هو، أيضاً، مخلوق من مخلوقات "الانفجار العظيم"؛ فـ "البيضة الكونية" لم تكن "ضِمْن فضاء"، ولم "تشتمل على فضاء"؛ لم يكن لها "حجم"؛ لأنْ ليس لها "طول"، أو "عَرْض"، أو "سُمْك"، فـ "المكان"، الذي لا وجود له إلاَّ وهو متَّحِدٌ اتِّحاداً لا انفصام فيه مع "الزمان"، لم يكن له من وجودٍ في تلك "البيضة".

لا تَقُلْ إنَّ "الجاذبية" كان لها وجود في "البيضة الكونية"؛ فـ "الجاذبية" هي "نتاج انحناء الزمان ـ المكان (أيْ "الزمكان" Spacetime)"؛ وليس ممكناً، من ثمَّ، أنْ تُوْجَد حيث لا وجود للزمان والمكان.

ولا تَقُلْ إنَّ هذه "البيضة" هي "مادة"، أو "من جنس المادة"، أو "تشبه المادة"؛ فَهُم الآن يَلْبَسون لبوس "الفيزياء الرصينة"، ويُخْبِرونكَ أنَّ المادة لا وجود لها إذا لم يُوْجَد الزمان والمكان.

وهذا إنَّما يعني أنَّ "البيضة الكونية"، التي منها وُلِدَ الكون، على يَدَيِّ "الانفجار العظيم"، لم تكن "مادة"؛ فماذا كانت من ثمَّ؟!

ولِنَفي "مادية" تلك "البيضة" يقولون إنَّ "الجسيمات الأوَّلية (الإلكترون، والكوارك، والفوتون، والنيوترينو)" هي "أصل" و"مبتدأ" الأشياء جميعاً؛ وهذه الجسيمات لا يمكن أنْ تكون موجودة في "البيضة الكونية"؛ وكيف لها أنْ تُوْجَد فيها والإلكترون، مثلاً، يفوق تلك "البيضة" حجماً، إذا ما كان لها حجم؟!

إنَّ المادة، في أصلها، هي تلك "الجسيمات (الأوَّلية)"؛ وإنَّ هذه الجسيمات قد خَلَقَها "الانفجار العظيم" نفسه؛ فـ "البيضة"، في قصارى قولهم، ليست "مادة".

وانتهى قولهم، تاركين لكَ "حُرِّية" الاستنتاج؛ فهل لكَ أنْ تَسْتَنْتِج غير الاستنتاج المزدوج الآتي: "البيضة" هي "العَدَم"، و"الانفجار" هو "الله"، أو "أُسْلوب الله" في خَلْق الكون من العَدَم!

هذا "الإله الفيزيائي" هو الذي خَلَقَ من هذا "العَدَم (أيْ "البيضة الكونية")" كل شيء (الجسيمات الأوَّلية والزمان والمكان والفضاء والجاذبية والقوى..).

إنَّها هي نفسها قصَّة الخلق التوراتية للكون وقد ألبسوها لبوس "الفيزياء"، لعلَّها تظل محتفظة بسلطانها على عقول البشر، زمناً أطول؛ فبئس نظرية تحوَّلت فيها "الفيزياء" إلى "طوق نجاة" لهذه القصَّة، المُتَرْجَمَة، لاحِقاً، بلغات دينية عدة، والتي تعود في أصولها إلى ثقافات ومعتقدات دينية لغير بني إسرائيل.

أمَّا فناء الكون (أو المادة) فيعود، أيضاً، إلى "الإله الفيزيائي" نفسه؛ فبحسب نظرية "الانسحاق العظيم" Big Crunch، ينهار الكون على نفسه، فيتلاشى كل شيء في "بيضة كونية" ثانية، أو أخرى؛ فَمِنَ "العَدَم" جاء، وإلى "العَدَم" يعود؛ ولا يبقى إلاَّ لاعِب "اللعبة الكونية"، لعبة "انفجار فانسحاق فانفجار.."!

الغالبية العظمى من البشر "يؤمنون" بوجود، وبوجوب وجود، الله، أو خالق الكون.. هذا الكون الذي اختلفت صورته في أذهان البشر باختلاف أزمنتهم العِلْميَّة. وهذا "الإيمان" لا نراه عند العامَّة من الناس فحسب، فجزء كبير، إنْ لم يكن الجزء الأكبر، من "الخاصَّة"، أيْ من أهل الفكر والثقافة والعِلْم والقلم، يقول بوجود "الخالِق"، ويَعْتَقِد بدين، أو بفكر ديني.

بعضٌ من "المؤمنين"، من العامَّة من الناس ومن ذوي الفكر والعِلْم، قد يُظْهِرون من القول والفعل ما يناقِض إيمانهم بوجود "الخالِق"، أو التزامهم الديني؛ لكنَّ وعيهم، في عمقه وغوره، يَحُول بينهم وبين التأثُّر بـ "الفكر الإلحادي" تأثُّرا يَعْدِل، لجهة قوَّته، الإيمان بوجود "الخالق"، فقِلَّةٌ من الملاحدة هُم الذين يملكون من صلابة الوعي الإلحادي ما يضاهي صلابة الإيمان بوجود الخالق.

وقد رأيتُ كثيراً من الملاحدة، أو ممَّن يدَّعون الإلحاد، في أحزاب شيوعية، أو ممَّن ينتمون إلى فكر إلحادي، في تناقض بيِّنٍ بَيْن ما يُظْهِرون وما يُبْطِنون من فكر ووعي ومُعْتَقَد. إنَّهم يُظْهِرون من "الوعي الباطني" ما يجعلهم غير مختلفين، في الجوهر والأساس، عن المتدينين، أو المؤمنين بوجود "الخالق".

وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدل على أنَّ الوعي الإنساني، في تطوُّره التاريخي، قد جعل عقول البشر ونفوسهم قوَّة جذب للإيمان الديني، بصوره ودرجاته ومستوياته المختلفة، وقوَّة طرد ونبذ للفكر الإلحادي، فالإيمان بوجود، وبوجوب وجود، "الخالق"، يظلُّ، مقارنةً بالإيمان المضاد، أو الفكر الإلحادي، الأقرب إلى عقول ونفوس البشر.

وهذا ما نراه واضحاً لدى المقارنة بين نتائج جهد الإقناع (بوجود "الخالق") ونتائج جهد الإقناع المضاد، فليس ثمَّة ما هو أسهل وأيسر من أن تُقْنِع إنسانا بوجود "الخالِق"، وليس ثمَّة ما هو أصعب وأشق من أن تُقْنِعه بما يضاد ويناقض ذلك.

وأحسب أنَّ "الحاجة الاجتماعية" إلى فكرة "الخالق الميتافيزيقي" قد وُلِدَت أوَّلاً، فالبشر، في نمط عيشهم البدائي، كانوا مضطَّرين إلى أن يركِّزوا جهدهم الذهني في أمر عيشهم المحفوف بالمخاطر (نقص الغذاء، والوحوش، و"عداء" الطبيعة).

بعضٌ من جهدهم الذهني هذا كان "واقعيا"، أي كان يُتَرْجَم بما يمكِّنهم من درء تلك المخاطر عنهم قدر المستطاع، فـ "الواقعية الفكرية (البدائية)" كانت بالنسبة إليهم شرط بقاء. وبعضٌ منه كان يُسْتَنْفَد في اختراع (في إنشاء وتطوير) كائنات وقوى من طبيعة ميتافيزيقية.

لقد شرعوا يخترعونها إذ أوهموا أنفسهم، أو ظَهَرَ من يوهمهم، أنَّ تلك الكائنات والقوى يمكن أن تكون (أو أن تصبح) لهم حليفا في صراعهم من أجل البقاء.. من أجل اتِّقاء شرَّ الموت جوعا، وشرَّ الطبيعة ووحوشها.

على أنَّ كلمة "اختراع" قد تُفْسِد وتُشوِّه المعنى الحقيقي للطريقة التي من خلالها توصَّلوا إلى الكائنات والقوى الميتافيزيقية، فَهُم سعوا أوَّلا إلى "التفسير الواقعي" لبعض الظواهر والوقائع والأمور؛ لكنَّ عجزهم عن التوصُّل إلى هذا التفسير، أو إلى إثباته وإقامة الدليل المُقْنِع على صدقه وصحَّته، شدَّد المَيْل لديهم إلى "الميتافيزيقا (البدائية)"، فرضيةً وتفسيراً وتعليلاً، فتاريخ الفكر الميتافيزيقي، بألوانه وصوره المختلفة، إنَّما يُثبِت ويُظْهِر ويؤكِّد حقيقة معرفية في منتهى الأهمية هي أنَّ العجز عن إجابة بعض الأسئلة والتساؤلات "المؤرِّقة" للذهن البشري، أو التي تَلِجُّ في إثارتها حاجات ومصالح إنسانية واقعية، يُفْضي إلى "فراغ معرفي"، لا بدَّ للإجابات الميتافيزيقية من أن تملأه، فـ "الروح" هي الجواب الذي فيه، وبه، نُحَوِّل كل جهل إلى "معرفة"، فيهدأ العقل ويطمئن.

وهذا الاعتقاد الميتافيزيقي سرعان ما قاموا بـ "تجسيمه"، و"تجسيده"، و"ترميزه".. وبإنشاء وتطوير ما استنسبوه له من شعائر وطقوس دينية، فالإيمان الديني يفقد منطقه وأهميته ودليل وجوده إذا لم يُرَ ويُسْمَع من خلال الشعائر والطقوس الدينية.

ولا شكَّ في أنَّ ذوي المصلحة في نشر وترسيخ وحماية المُعْتَقَد الميتافيزيقي (وبعضهم من المؤسِّسين له) هُم الذين حرصوا أكثر من غيرهم على إنشاء وتطوير ما يمكن أن يُرى ويُسْمَع من الإيمان الميتافيزيقي حتى يتأكَّدوا قوَّة أو ضعف تأثير هذا المُعْتَقَد في عقول ونفوس أتباعهم. وهذا ما يُفسِّر توافق الأديان جميعا على ضرورة "الإظهار" للإيمان الديني (الباطني) من خلال الشعائر والطقوس والعادات والأعمال الدينية.

إنَّ "البرغماتية" هي جوهر وأساس العلاقة التي أنشأها وطوَّرها البشر مع "السماء". وفي البدء، كانت "برغماتية أرضية خالصة"، فالبشر البدائيون أرادوا أوَّلا "آلهة" لا تنفعهم ولا تضرهم إلا في دنياهم، فـ "الحياة الآخرة" لم تكن "مُكْتَشَفَة" بَعْد، ولم يكن أمرها يعنيهم كثيرا، فـ "الحياة الدنيا" بخيرها وشرها هي وحدها التي كانت تَجْتَذب إليها جهدهم الذهني الميتافيزيقي ومنتجاته.

هذا العجز البشري الأوَّل والأهم، أي العجز عن أن يملكوا من المعرفة، ومن والوسائل والطرائق الواقعية، ما يمكِّنهم من أن يدرأوا عن أنفسهم شرور النقص الغذائي، وشرور الطبيعة ووحوشها، هو الذي منه وُلِدَت فكرة "الخلاص السماوي"، وَوُلِدَ الاعتقاد بالمعجزات، ففي السماء كائنات وقوى يمْكنها، إذا ما تمكَّنوا من استرضائها، أن تهيِّئ لهم الأسباب لغذاء يكفيهم شرَّ الموت جوعا، وأن تقيهم شرَّ الحر والبرد، وشر فيضان النهر، وأن تجعلهم بمنأى عن "نار السماء"، وأن تنصرهم على أعدائهم من بَشَرٍ آخرين، ومن الوحوش المفتَرِسة.

وإذا كان من قانون يكشفه لنا تطوُّر المعتقدات والعقائد الدينية عبر التاريخ فهذا القانون إنَّما هو الآتي: كلَّما اشتد العجز الإنساني (عن "التفسير" و"التغيير") والشعور بهذا العجز، ارتفع منسوب الاعتقاد بالمعجزات.

و"المعجزة" التي مال البشر البدائيون إلى الاعتقاد بها كانت من نمطٍ يشبه ويماثل نمط عجزهم؛ لأنَّها كانت "الجواب" عن "سؤال عجزهم". أمَّا "الآلهة" التي اخترعوها فكانت في خواص وصفات تشبه وتماثل خواص وصفات مجتمعهم، ونمط عيشهم وتفكيرهم، فـ "السماء" إنْ اختلفت وتغيَّرت فإنَّها لا تختلف ولا تتغيَّر إلا بما يعكس اختلاف وتغيُّر "الأرض"، أي المجتمع.

ويكفي أن تقول بـ "الإيمان" سبيلا إلى "الحقائق التي لا سبيل إليها بالعقل والتجربة" حتى يُنْبَذ "الواقع" بوصفه "دليل إثبات أو نفي" للأفكار والمعتقدات.

على أنَّ "الإيمان" وحده لا يكفي، فإيماني يمكن أن يناقِض إيمانكَ لجهة نتائجه. وعليه، كان لا بدَّ من "مَرْجِع" لهم في أمورهم الدينية. وهذا "المَرْجِع" كان قديما، أي قبل "الديانة المكتوبة"، الزعيم، أو القائد، الذي فيه تجتمع السلطتان الاجتماعية والروحية، والذي هو في منزلة "سفير السماء"، فما يقوله هو وحده دليل الإثبات أو النفي.

كل "عَجْز (عن "التفسير"، أو "التغيير")" كان مَصْدَر تغذية للاعتقاد بـ "المعجزات"، وللخضوع لِمَن "يأتي بها". لقد كان المرض لدى البشر القدماء من ألَدِّ الأعداء، فهو إنْ لَمْ يُقصِّر طريقهم إلى الموت، يصيبهم بالعجز عن العمل، الذي يكفي أن يعجزوا عنه حتى يتهدَّدهم خطر الموت جوعا. وكان يكفي أن يفهموا ويُفَسِّروا هذا الشر، أي المرض، على أنَّه من فِعْل قوى وكائنات ميتافيزيقية حتى يؤمنوا بالصراع ضده، وضد مسبِّبيه، بطرائق ووسائل وقوى ميتافيزيقية أيضاً.

"الجوع"، أي الرغبة في درء مخاطره عن البشر، ساهم هو أيضا مساهَمَةً كبرى في التأسيس للمعتقدات الميتافيزيقية، وفي حفظها وإدامتها. إنَّ "الإحساس" بالجوع هو أقوى وأهم الأحاسيس لدى البشر، فلولاه لَمَا كانت "حضارة"، ولَمَا نشأت لدى الإنسان، واشتدت، الحاجة إلى "التعلُّم" و"العمل"..

هذا العجز العِلْمي والعملي عن درء مخاطر قوى طبيعية (مثل الجفاف والقحط واحتباس المطر وفيضان النهر..) عن الأمن الغذائي للجماعة البشرية مدَّ المعتقدات الميتافيزيقية بمزيد من الغذاء، فاسترضاء السماء (صلاة الاستسقاء مثلا) التي من غضبها علينا تعاقبنا في لقمة عيشنا صار هو الحل الناجع للمشكلة.

وحتى لا يأتي الاختبار بما يدحض هذا المعتقد الميتافيزيقي، أو ينال من قوَّته، أضافوا إلى "غضب السماء وعقابها" الرغبة في الامتحان والاختبار، فالكائن الميتافيزيقي (السماوي) يُعرِّض الأمن الغذائي للبشر إلى الخطر عقابا لهم على ارتكابهم ما يغضبه، أو اختبارا لهم ولصلابة إيمانهم.

"الشرطة الأرضية"، وعلى أهمِّيتها في الحفاظ على المصالح الاقتصادية (وعلى ما يتفرَّع منها من مصالح أخرى) ودرء المخاطر عنها، لَمْ تكن بكافية، فاشتدت الحاجة إلى تعزيز عملها بـ "الشرطة السماوية"، التي أسَّست وأقامت "مخافر" لها في العُمْق من النفس البشرية، فالثروات المادية التي من نمط يَجْعَل الفقراء (وغير الفقراء من الباحثين عن الثراء في طريقة "غير مشروعة") يَسْتَسْهِلون "سرقتها" لا بدَّ من حمايتها بـ "الشرطة السماوية"، البصيرة، السميعة، العليمة، والتي تُسَجِّل في سجلاتها كل انتهاك للمبدأ الأخلاقي ـ الديني الأوَّل وهو مبدأ "لا تَسْرِق". واستناداً إلى هذه السجلات، التي لا ريب في صِدْقِها ونزاهتها وموضوعيتها، سيلقى "السارق"، في "يوم الحساب"، العقاب السماوي الذي يستحق. ومع أنَّ النفس البشرية "أمَّارة بالسوء (وبالسرقة من ثمَّ)" فإنَّ "الشرطة السماوية" نجحت، على وجه العموم، في إبقاء تلك الثروات المادية في الحفظ والصون.

"نظام الثواب والعقاب السماوي" نشأ وتطوَّر بوصفه مُكَمِّلاً لـ "نظام الثواب والعقاب الأرضي"؛ وقد اسْتُنْفِد في إنشائه وتطويره جهد إنساني ضخم، اختلفت دوافعه وغاياته باختلاف الأزمنة والأمكنة، وباختلاف مصالح وحاجات واقعية فئوية ضيِّقة، وإنْ خالطها، لأسباب موضوعية، شيء من المصالح والحاجات الواقعية العامة. وهذا الجهد كان محوره، على الدوام، "الحلال" و"الحرام"، فسلوك وتصرُّف وعمل الفرد نُظِّم وَوُجِّه بما يتَّفِق مع مبدأ "الحلال والحرام".

مِنْ شعور الإنسان (البدائي على وجه الخصوص) بالعجز عن تفسير كثير من الأشياء والظواهر، وعن التغيير العملي والواقعي لكثير من الأشياء التي يدركها بحواسِّه، نشأ وتطوَّر وتوسَّع الاعتقاد والإيمان بوجوب، وبضرورة وجوب، القوَّة، أو القوى، الميتافيزيقية الخالقة. ومع ترسُّخ وتَوَطُّد وانتشار هذا المعتَقَد الأوِّلي والأساسي صار ممكنا اتِّخاذه كـ "حصان طروادة"، يُدْخِلون فيه ويهرِّبون كثيرا من المفاهيم والقيم والمبادئ الاجتماعية والاقتصادية الصالحة لمصالحهم، فأُضيف "وجهٌ اجتماعي" إلى "الوجه الفلسفي" لـ "السماء". وبحسب النسخة السماوية من سياسة "الترهيب والترغيب" الأرضية، صار بعض العقاب والثواب أرضيا عاجلا، وبعضه سماويا آجلا، فإذا أنتَ سرقتَ، أو تطاولت على الحقِّ المقدَّس لغيركَ في تملُّك أرض أو مصنع، لن تنجو من عقاب السماء، الذي بعضه أرضي عاجل، وبعضه سماوي آجل، فأنتَ قد يصيبكَ مكروه (سماوي) في صحَّتِكَ، أو مالِكَ، أو أهلكَ؛ وهذا الضٌرِّ الذي مسَّكَ في الدنيا (مِنَ السماء) لن يُنجيكَ من العذاب الأشدُّ إيلاماً في "الآخرة". أمَّا إذا أنتَ عملت بما يتَّفِق مع شريعة "الحلال والحرام" فسوف يعود عليكَ عملكَ هذا بالنفع والفائدة، دنيا و"آخرة".

"الإله"، في المُعْتَقَد الديني القديم والبدائي، ما عاد اليوم بفكرة يمكنها أن تَجِد لها ملاذاً في العِلْم والعقل، وما عاد القائلون بها يستطيعون الدفاع عنها، وإلباسها لبوس العِلْم والعقل، إلا من خلال اقتلاع الفكرة من تربة "العقل"، وغرسها في تربة "الإيمان"، الذي صَوَّروه على أنَّه "العقل الآخر" للإنسان، والذي به فحسب، أو في المقام الأوَّل، يتوصَّل الإنسان إلى الله، أو من خلال تفسير "النص الديني" بما يَجْعَل له معنى لا يمتُّ بصلة إلى "معناه الحقيقي، القديم، المباشِر، التاريخي، الواقعي، الحرفي".

"الخَلْق"، في تصوُّره البدائي القديم، إنَّما كان خَلْقاً لـ "الجسم"، أو "الشيء"، أي كان خَلْقاً لـ "شيء بعينه"، كـ "خَلْق الشمس". وقد صُوِّر "الخالِق"، من ثمَّ، على أنَّه "خالِقٌ لأشياء (أو أجسام)"، يمكن تمييز بعضها من بعض (خَلْق "الشمس"، أو "القمر"، أو "النجوم"، أو "الأرض"، أو "الماء"، أو "الجبال"، أو هذا النوع من الحيوان أو ذاك). أمَّا "كيفية" الخَلْق لـ "الأشياء" فظلَّت مستغلقة على الفهم؛ ففي خَلْق الشمس، مثلاً، لم يُقَلْ في "نصِّ الخَلْق"، إنَّ الخالِق جاء أوَّلا بـ "سحابة من الهيدروجين"، ثمَّ كوَّن، أو خَلَق، منها "الشمس"؛ لكن قيل في خَلْق شيء آخر هو "الإنسان (الأوَّل)" إنَّ الخالِق لم يخلقه من "لا شيء"، فهو جاء أوَّلا بشيء آخر هو "الطين"، أو "الصلصال"، ثمَّ كوَّن منه، وخلق، "الإنسان"، أي جسد الإنسان فحسب؛ ذلك لأنَّ الخالق اسْتَكْمَل خَلْق الإنسان بـ "الروح" التي نقلها منه إليه.

وبعضٌ من "المخلوقات" لم يُفْهَم، عندما قالوا بخلقه، كما نفهمه اليوم، فـ "الشمس التي خُلِقت" لم تُفْهَم، ولم يُنْظَر إليها، على أنَّها هذا النجم الأكبر كثيرا من الأرض، والذي حَوْله تدور الأرض. لقد فُهِم، ونُظِر إليه، على أنَّه جسم أصغر كثيرا من الأرض، يزوِّدها "الحرارة"، مثلا، نهارا.

قانون "حِفْظ المادة" تحدَّى القائلين بوجود خالِق للكون، وبوجوب وجوده، أن يؤسِّسوا لـ "صُلْح جديد" بين الدين والفيزياء، فكان أوَّل شيء فعلوه توصُّلا إلى هذا الصُلح هو إضافة عبارة "على أيدي البشر" إلى نصِّ القانون، فأعادوا صياغة قانون "حِفْظ المادة" على النحو الآتي: المادة لا تُخْلَق ولا تُفنى على أيدي البشر فحسب، أي أنَّها يمكن ويجب أن تُخْلَق، وأن تُفنى، على يديِّ الخالق فحسب.

ثمَّ انتعش "الإيمان (الديني)"، وبفضل الفيزياء أيضا، أو بفضل بعض المفاهيم والنظريات (الفرضيات) الفيزيائية، فالفيزيائيون، أو قسم كبير منهم، إنْ لم يكن قسمهم الأعظم، أظْهروا مَيْلا، في فكرهم وبحثهم وجهدهم وتجربتهم، إلى فهم "المادة" على أنَّها شيء بعينه، أو أشياء بعينها.

لقد قالت الفيزياء منذ اكتشاف "الذرَّة" بـ "الجسيم الأوَّلي"، وبحثت عنه، وحاولت إثبات أنَّه "أوَّلي"، أي لا يتألَّف من جسيمات أصغر (منه). على أنَّ كل التجارب والاختبارات الفيزيائية انتهت إلى النتيجة الآتية: "الأوَّلي" من المادة ظلَّ "فرضية"؛ و"غير الأوَّلي" هو ما يتأكَّد، وجوداً، في استمرار؛ فإنَّ "الجسيم الأوَّلي" هو خرافة خالصة، ولو قال به فيزيائيون عباقرة.

وأخيراً، جاءت نظرية "الانفجار (الكوني) الكبير" Big Bang ونظريات كوزمولوجية أُخرى متفرعة منها أو مكمِّله لها لتحل "المشكلة" بما يُعزِّز حُجَج القائلين بـ "فكرة خَلْق المادة من العدم".

هل يمكن أن نفترض أنَّ البشر قد "اكتشفوا" وجود الله؟

إنَّ أيَّ إنسان، آتاهُ أم لم يأتِه نبي، يمكن أن يتساءل بما يقوده إلى افتراض وجود الله، أو ما يشبه الله، فثمَّة تساؤلات تُعْجِز إجاباتها عقل صاحبها، فتضطَّره، من ثمَّ، إلى افتراض وجود خالِق للكون؛ لكنَّ الإيمان بوجود الله، وبحسب الروايات الدينية، لم يأتِ من هذه الطريق، فثمَّة بشرٌ، هم الأنبياء والرُّسُل، جاؤوا إلى أقوامهم بما يشبه "الخبر". لقد أخبروهم أنَّ الله موجود، وأنَّه "اتَّصَل" بهم، وأمرهم بأن "يُخْبِروا" أقوامهم بـ "وجوده"، وبـ "وجوب وجوده"، وبـ "وجوب عبادته".

وبحسب الروايات الدينية نفسها، ما كان لهؤلاء "الأنبياء" أن يؤدُّوا "المهمَّة"، وأن ينجحوا في سعيهم، إلاَّ إذا أيَّدهم الله بـ "معجزات"، فـ "صِدْق الخبر" الذي يَحْمِلون لا بدَّ من يُقام عليه الدليل؛ وهذا "الدليل المُفْحِم المُقْنِع" كان على شكل "معجزة ما"، فـ "التصديق" لا يتحقَّق بقول من قبيل "البعرة تدلُّ على البعير، والأثر يدلُّ على المسير".

كان على "النبي" أن يأتي بما يَعْجَز عن الإتيان به البشر حتى يُصدِّق الناس أنَّ هذا الرجل (أي النبي) صادقاً في زعمه.

ثمَّ "رَضَع" اللاحقون الاعتقاد بصحة الرواية الدينية، أي صدَّقوا، بفضل "الرضاعة الفكرية (الدينية)"، كل ما جاء في "الرواية الدينية"، فأصبح دليلهم على وجود الله هو أنَّ نبيهم قد أتى بـ "معجزة"، فآمَن السابقون بنبوَّته، وبوجود الله، الذي أرسل إليهم ذلك النبي.

الله موجود؛ ولا ريب في وجوده؛ لكنَّ وجوده ليس كوجود الشمس، ولا كوجود "الثقب الأسود". إنَّه موجود كوجود "عروس البحر".

"عروس البحر" هي كائن نصفه رأس إنسان، ونصفه الآخر ذيل سمكة. إنَّها كائن لا وجود له في الواقع (الموضوعي) لكنَّ مكوِّناته (رأس إنسان وذيل سمكة) موجودة بالفعل.

بـ "الخيال" خَلَق البشر "عروس البحر"؛ لكنَّهم لم يخلقوها من "العدم"، أي من "لا شيء". لقد خلقوها من "عناصر" موجودة في الواقع (الموضوعي). و"الخيال" مهما قوي واتَّسع ليس في مقدوره أبداً أن يَخْلق أيَّ كائن في غير هذه الطريقة؛ لأنْ لا وجود في رأس الإنسان إلاَّ لـ "صُوَرٍ (ذهنية)"، لها "أصول"، أو "عناصر"، في الواقع (الموضوعي).

هذا الكائن، المسمَّى "عروس البحر"، موجود بالفعل؛ لأنَّه "جزء من الوعي (البشري)"؛ وهذا "الوعي" موجود بالفعل. في الواقع (الموضوعي) لا وجود لـ "عروس البحر"؛ لكنَّ "فكرتها" موجود بالفعل؛ و"مكان" وجودها هو "الوعي".

إنَّ السؤال الذي يستحق أن نبذل الجهد الذهني في إجابته ليس سؤال "هل الله موجود؟"؛ وإنَّما سؤال "كيف وُجِدَت فكرة الله في عقول البشر؟".

الله موجود؛ ولا ريب في وجوده؛ لكنَّه موجود على هيئة "فكرة"، موجودة فحسب في "رأس الإنسان"، أي في "ذهنه"؛ وإنَّ السؤال الذي يتحدَّانا أنْ نجيب، ونُحْسِن الإجابة عنه، ليس "هل الله موجود؟"؛ وإنَّما "كيف وُجِدت (كيف نشأت وتطوَّرت) فكرة وجود الله في رأس الإنسان؟".

واثنان من الناس ليسا بمؤهَّلَيْن لإجابة هذا السؤال: "المُؤْمِن (بوجود الله)" و"المُلْحِد" الذي يَعْرِفه مجتمعنا.

"المُؤْمِن" يقول "أنا مُؤْمِنٌ بوجود الله، أخشى عقابه، وأطمع بثوابه"؛ وهذا "المُلْحِد" يقول "أنا غير مُؤْمِنٍ بوجود الله، فلا أخشى عقابه، ولا أطمع بثوابه"؛ أمَّا "ثالثهما" فيقول "أنا مُؤْمِنٌ بوجود فكرة الله في ذهن الإنسان؛ ويعنيني، في المقام الأوَّل، أنْ أعْرِف كيف وُجِدَت (وتطوَّرت) في رأس الإنسان".

"الغول"، على ما نَعْلَم، هو "كائنٌ خرافي"؛ فما هو الفَرْق بين "المُؤْمِن" و"المُلْحِد"، في مثال "الغول"؟

"المُؤْمِن" يقول ويُؤْمِن بوجود الغول، ويخشاه ويخافه، من ثمَّ؛ أمَّا "المُلْحِد" فيقول "أنا أُنْكِر وجود الغول؛ وإنَّني، من ثمَّ، لا أخشاه ولا أخافه".

"الدِّين" هو الإيمان بوجود الله؛ و"الإلحاد" هو الإيمان بعدم وجوده؛ أمَّا "العِلْم"، في هذا الصَّدَد، فهو البحث في الأسباب الواقعية والتاريخية التي خَلَقَت وطوَّرت "فكرة الله" في أذهان البشر.

فكرة "الله"، خالِق الكون، وخالِق كل شيء، لا تأتي (إلى عقول البشر) من حُسْن التعليل والتفسير (للكون وظواهره) وإنَّما من العجز (النسبي والمؤقَّت) عن التعليل والتفسير.

حُسْن التعليل والتفسير يأتي بـ "العِلْم"؛ أمَّا العجز عنهما فيأتي بـ "فكرة" الله، وأشباهها ومشتقَّاتها.



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -إيران الشمشونية- قَيْد الصُّنْع!
- تسمية خادعة ل -استئناف المفاوضات-!
- -القصور الذاتي- في -فضاءٍ مُنْحَنٍ-
- الديمقراطية الطوباوية!
- الفضاء -الآخر- Hyperspace*
- معنى -النجاح- في مهمَّة -المراقبين العرب-!
- كيف نفهم -الكون-
- -معارِضون- يجب نبذهم!
- -الإصلاح- في الأردن.. طريق أخرى!
- -فلسطين- في -الربيع العربي-!
- اقرأوا هذا الكِتاب!
- -الموت- و-الحياة-!
- -ديمقراطية- أم -فسادقراطية-؟!
- -اللحظة الضائعة- في ثورة مصر!
- العقل المُثْخَن بجراح -التعصُّب-!
- -الدكتاتور المثالي- في -مرافعته الإعلامية-!
- الجريدة اليومية في عصر جديد!
- حضارة الجوع!
- -رودوس- التي تتحدَّى -الإسلام السياسي-!
- -الإسلاميون- و-الدولة المدنية-


المزيد.....




- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد البشيتي - مِنَ -الكوزمولوجيا الدينية- إلى -الديانة الكوزمولوجية-!