جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3533 - 2011 / 11 / 1 - 16:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أتذكر إنني حينما وصفت الوضع العراقي الحالي بأنه حالة هدنة وليس حالة سلام دائم عاتبني أحد الإخوة مؤكدا على إنني إنني أتغافل عن رؤية التحسن الذي طرأ على الأوضاع السياسية مقارنة بأعوام الخطف وقطع الرؤوس والتهجير ومسلسل السيارات المفخخة , ثم إذا به يعرج على ذكر المحروسة الديمقراطية بنت طيبة الذكر العملية السياسية التي قضت على الدكتاتورية ليستنج بأن العراق قد بات حتما على أبواب نهضة آتية ولا ريب فيها.
كان الأمر الذي عرضه ناتج عن مقارنة رياضية بحتة تتعلق بتناقص عمليات القتل والخطف والتفجير عما كانت عليه في عام 2006والعام الذي تلاه, ولأن مقارنات من هذا النوع قد تكون خادعة وذات علاقة بمرحلة ذات ظروف خاصة بها, فقد دعوته إلى استقراء ظروف المرحلة الجديدة التي نحن فيها مع قراءة ولو بسيطة لما تحت سطح ذلك الاستقرار الذي قد يكون عابرا إن لم يكن كاذبا..
كان رأي حينها قد تأسس على حقيقة أن تحسن الوضع آنذاك كان نتج بشكل رئيسي عن هزيمة القاعدة.
والقاعدة بطبيعتها هي إنتاج غير عراقي, ولأنها كانت ذا عصف شديد, فلقد أتيح لها آنذاك أن تنحي عوامل الصراع العراقية الخاصة. وكان متوقعا بعدها أن تبدأ مرحلة عراقية خالصة تقوم على تناقضات أجبرت على التنحي بفعل العصف الشديد للقاعدة, حتى إذا ما هدأ العصف فإن عودة تلك التناقضات وتجمعها على السطح تهيئة لانفجار جديد ستصبح متوقعة.
في المناطق الشيعية مثلا أدت الطبيعة الإجرامية للقاعدة وتوجهاتها الطائفية التكفيرية ذات الطبيعة المعادية للشيعة إلى تمترس هؤلاء مع الأحزاب الشيعية التي بدت في تلك المرحلة وكأنها ملاذهم الآمن . ففي أيام الصراع تلك لم يكن متوقعا لعوامل من غير عوامل الدفاع عن البقاء والهوية أن يؤثر على خيارات الأغلبية من الشيعة, فاستطاع هذا الشكل من المواجهة أن يعمي وعلى امتداد سنوات قوة الإبصار الشيعي جاعلا إياه يرتكز على عامل واحد لا غير وهو عامل الخطر الطائفي المباشر.
في المناطق السنية, ضيعت القاعدة على "السنة" العراقيين فرص تصريف هويتهم وحقوقهم الوطنية, وكانت طبيعة وشكل المواجهات التي رسمتها وقاتل تحت رايتها "السنة" المتحالفون معها لم تكن تخدم مصالحهم الوطنية وإنما مصالحها هي بالذات, حتى إذا ما انتهت تلك المرحلة بهزيمة القاعدة فإن "السنة" صاروا في مواجهة حقيقة أنهم لم يكسبوا من تلك المرحلة شيئا أساسيا على عكس الأحزاب الشيعية التي استطاعت أن ترتب السلطة الجديدة, بدستورها ومناهجها وآلياتها وأشخاصها وسط غياب نسبي للسنة عن المشاركة في صنع القرار بشكل وطني يدخل أساسا من باب المساواة بين الطوائف والقوميات.
معنى ذلك, أن شيعة السلطة خرجوا من المعركة ضد القاعدة منتصرين بينما خرج السنة من تلك المعركة بنصر على القاعدة لكن بخسارة أمام شيعة السلطة, فلقد انتهت الدولة لأن تكون تحت هيمنة الأغلبية بمنطقها المذهبي مما يجعل "السنة" سياسيا يحتلون مقاعد ليس منها في الصف الأول سوى نسبة قليلة بما جعلهم قوة ثانوية التأثير والحقوق. وأيضا فإن مناهج هذه الدولة التقسيمية المذهبية معززة بدستورها وخطابها الدينوسياسي صار يمنح السنة دورا ثانويا إلى ما لا نهاية. ولم يعد ذلك مرتبطا بمرحلة يمكن رؤية نهايتها, فحينما أذنت الانتخابات الأخيرة لفرصة تحقيق معنى آخر للديمقراطية غير معناها الطائفي, وذلك بعد فوز العراقية بأغلبية بسيطة, فإن قوى الإسلام السياسي الشيعي أسرعت للإجهاز على هذه النتيجة غير المحسوبة وذلك بتجاوز خلافات عميقة كانت قد نشأت بين صفوفه وكان في مقدمتها حوار الدم الذي نشأ بين التيار الصدري وبين سلطة رئيس الوزراء المدعومة كاملا من حزب الدعوة على إثر معارك فرض الأمن التي جرت في مدينتي البصرة والثورة. وكان تشكيل الوزارة الذي تم بتأثير أساسي من طهران وبمستويات ألغت كل كثيرا من معاني السيادة والكرامة الوطنية قد جاء أيضا لكي يؤكد "للسنة" أن دورهم الثانوي في دولة الطوائف قد بات قدريا, وأن جميع الخطابات التي يتم فيها الإعلان عن هوية غير طائفية لهذه الدولة تتهاوى أمام حقائق سرعان ما تفرض نفسها حال ظهور تداعيات تنال من البنى الطائفية الأساسية لهذه الدولة.
لقد فقدت الدولة العراقية فرصة أن تتطور خارج المعادلة والخطاب الطائفي حينما لم يتحقق التآلف بين العراقية ودولة القانون الذي كان بإمكانه أن يخلق ما أسميته آنذاك بالدلتا العراقية التي خلقها وطنيو الشيعة من جهة بانتخابهم لدولة القانون ووطنيو السنة بانتخابهم للعراقية. وكانت القائمتان قد شهدتا نزوحا من المذهبين بإتجاه الأخرى مما عكس بداية لتوحيد الرؤية الوطنية العراقية على مستوى شعبي الأمر الذي استفز قوى الخطاب الطائفي وجعلها تنسى حتى حوار الدم الذي كان بينها والذي لم يكن قد جف بعد, وجعل سنة العراق يؤمنون على الجهة الأخرى بان دورهم الثانوي قد بات قدريا في دولة ذات نهج وخطاب طائفي.
واليوم فإن تحرك المناطق السنية بإتجاه الفدراليات قد جاء انعكاسا لهذه الحقيقة التي تم اختبارها على أرض الواقع. وبالعودة إلى بضع سنين خلت يمكن معرفة أن المناطق السنية كانت من أشد أعداء الحلول الفدرالية كون هذه الحلول وخاصة بشكلها السياسي وبجغرافيتها المذهبية هي تقسيمية بطبيعتها وليست ذات منحى أداري فحسب. وقد عرف عن سنة العراق ميولهم القومية بما يجعلهم أعداء حقيقيين لكل حلول قد تجزأ من خارطة العراق الوطنية لأن من شأن ذلك أن يهمش دورهم السياسي ويجعلهم بالنتيجة أقلية اجتماعية.
ولهذا فإن الواقع العراقي حينما يشهد هذا الانقلاب الحقيقي في الخطابات والتوجهات السياسية, بين "سنة" كانوا ضد الفدرالية قبل بضعة سنوات, وبين "شيعة" كانوا معها خلال نفس الفترة, فلا بد وإن يكون مقدرا لقراءة الوضع السياسي العراقي أن لا تمر دون الإقرار بحقيقة أن ذلك الانقلاب, الذي نال من مبدئية الإصطفافات, قد جاء بضغط من الحقائق التي جعلت "السنة" يفقدون الأمل تماما بإمكان قيام دولة من خارج المعادلات التي تجعلهم مواطنين بحقوق سياسية متساوية تماما مع الآخرين.
هدنة.. وليست سلاما دائما, هذا ما قلته قبل سنوات وبعد أن وضعت الحرب ضد القاعدة أوزارها وبانت هزيمتها بشكل واضح.. نعم هذه هي الحقيقة, لكن ثمة من لا يريد أن يقرأ الحقائق إلا من خلال الزاوية التي تعجبه, وباتجاه يحقق مصالحه الذاتية وليس الوطنية.
ومن خلال قراءة كهذه لا يستطيع البعض أن يقرأ المرحلة الجديدة إلا بنفس العيون التي قرأت له معطيات المرحلة السابقة.
إن بإمكان سياسي بسيط أن يجيب على سؤال من نوع لماذا تحول سياسيو السنة من موقع الأشد عداوة للفدرالية إلى موقع الأشد نصرة لها, بينما بدى سياسيو الشيعة في مظهر هو غير مظهرهم السابق.
نعم هدنة .. ولكن بالإمكان تحويلها إلى سلام دائم حينما يغادر العراق دولته القومومذهبية إلى دولته الوطنية.
بدون ذلك لا أرى حلا قادما على الطريق.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟