صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1041 - 2004 / 12 / 8 - 08:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في شتاء سنة 2002, كانت الضغوط تشتد في بلجيكا, على محاكمة شارون عن دوره في مذبحة صبرا وشاتيلا. كان في بلجيكا في ذلك الوقت قانون يسمح بمحاكمة المتهمين بجرائم ضد الانسانية حتى وان ارتكبت خارج بلجيكا. القانون تم الغاؤه فيما بعد, بعد نجاح مجرمي الانسانية في ضغوطهم على تلك البلاد الصغيرة. كانت الصحافة ووسائل الاعلام تتابع الموضوع اولا باول وباهتمام شديد بهذه الظاهرة الفريدة من نوعها: ان يتجرأ العالم على محاكمة رئيس وزراء اسرائيلي.
كان ايلي حبيقة, يستعد للادلاء بشهادته امام وفد برلماني بلجيكي. الا ان هذا الشاهد الاهم في القضية, لقي مصرعه في حادث اغتيال فريد من نوعه بعبوة ناسفة شديدة الانفجار, وضعت في سيارة مفخخة, انفجرت عند مرور السيارة التي تقله قربها. لم ينفع التدريع الشديد لسيارة حبيقة في منع الموت عنه, فطار اشلاءً مبعثرة.
اسرائيل من جهتها, باعلامها المعروف بالوقاحة والابداع, حاولت اقناع العالم ان سوريا نفسها وراء الحادث!! الاعلام الهولندي التزم الصمت الشديد, ربما لانه اقل وقاحة بقليل من زميله الاسرائيلي, فلم اجد ذكرا للحادث في اية نشرة اخبار استمعت اليها في ذلك الوقت وانا متشوق الى الطريقة التي سينقلون بها الخبر. الصحف بدورها شاركت الصمت بشكل مثير! فلم اجد الا مقالة واحدة في كل ما نشر من مقالات الصحف على الانترنيت, وهي كثيرة. وعلى حد علمي فأن صحيفة واحدة اخرى نشرت الخبر في مكان صغير في صفحة داخلية.
اما المقالة اليتيمة, وكانت لواحدة من اهم الصحف اليومية الهولندية, فكانت ممتعة للغاية! لقد كانت درسا مكثفا للدجل الاعلامي في كل كلمة فيها. وقتها كتبت عن تلك المقالة مقالة,( لم اتمكن من نشرها في اي مكان بالطبع). ورغم ان حوالي ثلاث سنين قد مضت منذ ذلك الحين, الا ان الدرس الاعلامي ما زال برأيي يستحق القراءة.
درس من " ان ار سي هاندلسبلاد"
صائب خليل
نشرت صحيفة " ان ارسي هاندلسبلاد" اليومية في 26 كانون ثاني 2002, مقالة عن مقتل ايلي حبيقة. :
http://www.nrc.nl/nieuws/buitenland/1012024205703.html
وانا اعتبر المقالة مثالا ممتعا للطريقة التي تتعامل بها الصحافة الهولندية مع الاخبار المتعلقة بالصراع الفلسطيني العربي – الاسرائيلي.
1) بالرغم من ان خبر مقتل حبيقة يعتبر من الاخبار الهامة جدا – لانه يتعلق بجريمة قتل اهم شاهد ضد شارون – فان الصحافة الهولندية عاملته باهمال شديد. ولم تنشر الصحيفة اعلاه مقالتها الا بعد خمسة ايام على الجريمة. وعدا هذه المقالة لم اجد ذكرا للموضوع الا في اشارة قصيرة في احدى الصفحات الداخلية لصحيفة "فولكسكرانت". استطيع المراهنة انه لو ان الامر كان متعلقا بشاهد ضد عرفات او حتى شخص اقل اهمية, لخصصت صفحات كاملة للتعليقات والتحليلات وعلى الفور. لقد كان موضوعا مثيرا وهاما بالنسبة للقراء, لكن الصحافة الهولندية لها على ما يبدوا اولويات اخرى.
2) تبدأ المقالة بالجملة التالية: " لقد تسبب الانفجار الذي كلف قائد الميليشيا السابق ايلي حبيقة حياته الخميس الماضي, تسبب في اثارة مخاوف الكثير من اللبنانيين". هذه الجملة توحي بان الحادث ليس مهما, فالتركيز كان على "الخوف" الذي سببته لللبنانيين. تستمر المقالة بعد ذلك بتركيز الضوء على الحرب الاهلية اللبنانية.
3) تستمر المقالة بطريقة ربما لاتستطيع اسرائيل نفسها ان تجد خيرا منها. فتشير باحتقار الى السياسيين اللبنانيين بالقول: "وقبل حتى ان يتعرفوا على جثة حبيقة, اشار السياسيون اللبنانيون باصابع الاتهام : اسرائيل!"
4) ثم تستمر المقالة, مغيرة مركز اهتمامها الى رأي امرأة بالحادث, ومشكلة الضرر الذي تسبب به لسيارة رجل اخر كانت تقف في مكان قريب في الشارع, حيث انه لن يحصل على سنت واحد من شركة التأمين...الخ, الخ.
5) وفقط في النصف الثاني من المقالة, حيث يتوقع ان معظم القراء كانوا قد فقدوا اهتمامهم بسبب التفاصيل المملة الكثيرة, فتوقفوا عن القراءة او فقدوا تركيزهم, يأتي اسم شارون لاول مرة في الموضوع, رغم ان كل المطلعين يعلمون ان اسم حبيقة مرتبط باسم شارون منذ عام 1982, دع عنك ما كان قد صرح حبيقة به عن شارون, قبل يومين فقط من مقتله. هناك يضع الكاتب اهم جملة في المقالة حيث يقول: " وكان حبيقة قبل بضعة ايام من موته (!) قد اعلن عن استعداده للشهادة ضد رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون بسبب علاقته ب صبرا وشاتيلا" . لاحظوا ايضا ان كلمة "بضعة ايام" اقل قوة وتحديدا, وبالتالي تأثيرا, من الحقيقة "يومين".
6) وتستمر المقالة: "ورغم ان موت (!) حبيقة يصب في صالح شارون, يشكك المراقبون (!) في بيروت بأن اسرائيل فعلا وراء حادث القتل." هذه الجملة توحي بان استفادة شارون من الحادث كان "مصادفة". كذلك لم يتعب الكاتب نفسه باعلامنا من هم اؤلئك ال "مراقبون".
7) ثم يأتي الكاتب بحجة في غاية الغرابة "لاثبات" ان اسرائيل بريئة من الحادث, فيقول: " المشكلة ان الناس هنا لديهم فكرة عن الاسرائيليين بانهم متأمرون لهم قرون في روؤسهم, ويستطيعون عمل اي شيء, كما يقول دبلوماسي في بيروت" (لم يذكر كاتب المقال من هو ذلك الدبلوماسي). ويستمر "لكن كما ثبت من الهجوم السابق على خالد مشعل (..) فأن الموساد يرتكب الاخطاء تلو الاخطاء." يريد كاتب المقال اقناعنا هنا بانه بما ان اسرائيل فشلت مرة او اثنتين, فانها اصبحت عاجزة عن الوصول الى اهدافها.
8) ثم يضيف الكاتب: " وفوق ذلك فأن شارون لن يستطيع تحمل مثل تلك المجازفة السياسية". بالطبع ليس خافيا ان الامر هنا اخطر على شارون من مجرد مخاطرة سياسية, فنتيجة التحقيق لاتهدد مستقبل شارون السياسي فقط, ولكن مسيرة حياته كلها, فلم لا يتحمل المخاطرة؟ واذا كان مثل هذا هو نوع رد فعل الصحافة الغربية على الحادث, فليس هناك اية مخاطرة على شارون!
9) ثم تحاول الصحيفة مد اصبع الاتهام الى سوريا: " واذا كان هناك علاقة للحادث بالتحقيق الجاري في بلجيكا, فان المراقبين (!) يشيرون بالاحرى الى سوريا بالاتهام" انها اهانة للقراء بمحاولة اقناعهم بان سوريا اغتالت هذا الرجل بعد يومين من اعلانه امتلاكه ادلة اثبات ضد شارون.
10) تعود المقالة بعد ذلك مرة ثانية الى الرجل صاحب السيارة المتضررة, وخسارته ل 120 الف دولار خلال ربع ساعة! تلك كانت الفقرة الاخيرة من المقالة, والتي كما يعرف الاعلاميون جيدا, هي التي ستبقى في ذهن القاريء اطول فترة.
11) في النهاية الفت انتباهكم الى عنوان المقالة المظلل هو الاخر: " في لبنان, كأنها الحرب الاهلية تعود ثانية".
لقد كان درسا جميلا...فشكرا لصحيفة "ان ار سي هاندلسبلاد!"
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟