صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 957 - 2004 / 9 / 15 - 09:36
المحور:
اليسار والقوى العلمانية و الديمقراطية في العالم العربي - اسباب الضعف و التشتت
منطق سائق القطار
سقط الثلج كثيفا, واضطر القطار الى التوقف بانتظار الكاشطة, فنزل استاذ الشطرنج الكبير سامي ريشفسكي يتمشى. لاحظ سائق القطار وهو يجلس قبالة رقعة شطرنج فسأله ان يلعب معه. ترك ريشفسكي سائق القطار يغلبه مرتين, ثم قال له: " في الحقيقة...انا العب بشكل افضل بدون وزير, فهل تسمح لي ان ارفع وزيري؟"
حاول سائق القطار عبثا ان يقنعه ان "طريقته" غير معقولة وخاسرة, فقرر ان يبرهن له ذلك عمليا. رفع ريشفسكي وزيره ولعبا فكسب الاخير امام دهشة السائق. لعبا ثانية, فكسب ريشفسكي ثانية, ثم ثالثة! اخيرا, رفع سائق القطار قطع الشطرنج وهو مقتنع بان "طريقة" السيد الغريب هي الافضل!
لايحتاج احد ان يكون لاعب شطرنج ممتاز ليدرك حماقة سائق القطار, وخطأ اقتناعه بأن اللعب بلا وزير هي الطريقة الافضل, لكن لنؤجل الضحك عليه قليلا, ونتحدث عن قناعات اخرى.
قناعتي المتأخرة
يبدو ان قناعتي بالاشتراكية جاءت متأخرة, فمعظم الاخرين من يساريي العراق والعرب, بل والعالم, كانوا في طريق العودة منها, فكانوا مشغولين بمراجعة قناعتهم بها وتعديلها بشكل قاس احيانا, بل ان عددا لابأس به منهم اتخذ الطريق المعاكس ولم ير في قناعته السابقة بالاشتراكية الا حماقة طال انتظار تصحيحها, وصار عنده التخلي عن كل ما يرتبط بها مقياسا لل "شجاعة" الادبية, في مواجهة الحقائق.
كانت كتب جومسكي ومقالاته, اضافة الى كتابين رائعين هما "الاشتراكية لعصر شكاك" ل "رالف ميليباند", المتحمس للاشتراكية, و"مستقبل الرأسمالية ل"لستر ثورو", المتحمس للرأسمالية, اكثر ما اقنعني بوحشية الرأسمالية وخطرها, وبالاشتراكية حلا واملا للبشرية. كذلك تعرفت على حركة اليسار الغربي من بمتابعتي للنشاطات السياسية في اوروبا عموما, وهولندا التي اعيش بها خصوصا, والحزب الاشتراكي الهولندي, الذي ترجمت ادبيات مبادئه الى العربية, خلال السنوات الخمس الاخيرة التي تميزت بالغليان والتقلبات والحركات المفاجئة, ولكن اكثر من اي شيء اخر, بالكوارث والتهديدات العالمية. فالجشع الفردي المتوسع اليوم, لايصلح راية يتجمع حولها المجتمع لامد طويل, كما يقول لستر ثورو. "فعصر الحوار السياسي في نهايته, ويوشك ان يحل عصر الذين يستطيعون تعبئة قوى تشاركهم المصلحة الخاصة, بفعالية كبيرة. ان فيتو الاقلية يحل محل فيتو الاغلبية"
مراجعة للمنظومات السياسية
ان كان مبدأ "الجشع سيد الاخلاق" قد اوصل العالم الى هذه الهاوية, فعلينا باستبداله بمبدأ اكثر حضارية مثل "العدل والمشاركة" في كل شيء. فمثلما كانت الديمقراطية هي "مشاركة" السلطة السياسية, مقابل الدكتاتورية السياسية, فأن الاشتراكية هي المشاركة الاقتصادية مقابل الرأسمالية. ومقابل نداء الدكتاتورية والرأسمالية "كل شيء لي" يكون نداء الديمقراطية والاشتراكية: "كل شيء للجميع". الديمقراطية والاشتراكية تنسجم في مبدئهما مثلما تنسجم الرأسمالية والدكتاتورية في مبدئهما. الاولى تتميز بالانانية و بقصر نظر وراثي, يتمثل في الهدف الى الربح السريع, في حين تتميز الثاني بالاهتمام بالمجتمع والمستقبل والبناء له. لكن العالم سار في تجربة مقلوبة. اذ كان لدينا مشاركة في السياسة ودكتاتورية في المال من جهة (الرأسمالية الديمقراطية) ومشاركة في المال مع دكتاتورية في السياسة من جهة اخرى في الدول الاشتراكية. لقد استخدمت الرأسمالية هذه الحالة النشاز لكي توهمنا ان الديمقراطية مرادف منطقي لها, وبالتالي فأن البديل الوحيد لها هو الخيار المخيف: الدكتاتورية.
ان التناقض الداخلي لكل من هاتين المنظومتين: دكتاتورية السياسة مع اشتراكية المال في الدول الاشتراكية, ودكتاتورية المال مع اشتراكية السياسة في الرأسمالية الديمقراطية, يجعلهما غير مستقرتين, ومهددتين بالسقوط الى وضع منسجم ومستقر في الاسفل: الى الدكتاتورية الرأسمالية. لقد ادى قانون الجاذبية هذا الى سقوط المنظومة الاشتراكية الدكتاتورية الى شكل يقارب دكتاتورية المال والسلطة السياسية, وتتجه المنظومة الثانية الى نفس الاتجاه. فاضافة الى نشاط عسكري عالمي محموم, تستبدل بوتائر عالية, وبحجة محاربة الارهاب, القوانين الديمقراطية باخرى اقرب ما تكون الى قوانين الدولة البوليسية, وتنهض حملة عالمية لجمع كل المعلومات الممكنة عن الناس في كل بلد, والتجسس حتى على ما يقرأ الناس في المكتبات العامة, في دول عرفت بتأريخ طويل من الديمقراطية السياسية والحريات العامة.
السمكة الصينية المتلبطة
"نحن كسمكة كبيرة سحبت من الماء فشرعت تتقافز وتتلبط بعنف بحثا عن سبيل يعيدها اليه. في مثل هذه الظروف لن تتساءل السمكة الى اين ستؤدي بها اللبطة التالية. ما تدركه فقط هو ان وضعها الراهن لايطاق, ولابد من تجربة شيء اخر." :مثل صيني
كنت اتابع مؤخرا ما تبقى من نشاط اليسار العراقي بعد المذابح التي اصابت الحزب الشيوعي العراقي في السبعينات والثمانينات والتي اكملت مذابح الستينات, ثم الانهيار المعنوي الذي اصاب المنتمين اليه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي, ومشاركتهم اليساريين الاخرين في طريق "العودة" عن قناعاتهم اليسارية الحادة الى صيغ اكثر حيادية ومرونة. بشكل عام تراجع اليساريون العراقيون, و العرب, الى الوسط فعبروا اعتدال اليساريين الغربيين ووصلوا الى حالة من الاقرار بتفوق الليبرالية الجديدة والشعور بالنقص امامها. هكذا اضيفت "الاشتراكية" الى الكلمات عسرة الهضم, ان لم نقل المحرمة في الحوار السياسي, و استبدل الاشتراكيون اهدافهم الاشتراكية ب"رأسمالية اكثر انسانية."
لقد كان "التراجع" في بعض الاحيان منطقيا, وفي معظم الاحيان ليس الا ضرورة نفسية. ولانجاز ذلك التراجع الثاني, توجب التساهل مع الرأسمالية واللجوء الى تبريرات لنواتجها تسهل قبول ذلك التراجع. لذلك كان من الضروري للذاكرة ان تنسى الكثير من الحقائق المشاغبة التي تقف في طريق الاختيار المريح. "فالتذكر عملية سياسية" كما يعبر كاتب العمود الصحفي جيمس كارول, في " بوستن كلوب"
ذاكرة مشاغبة
فمن اجل القناعات الجديدة كان لابد من نسيان مساحات حالكة السواد من التأريخ. فمثلا يتوجب على العراقيين ان يذكروا ان اميركا ازالت صدام, لكن ان ينسوا انها جاءت به وعصابته الى الحكم وساندته في الثمانينات, عندما كان يرتكب جرائمه الكبرى. اما العالم فيجب ان ينسى المسؤولية التامة للرأسمالية عن حربين عالميتين مدمرتين من اجل المال والسلطة, واختراع اسلحة الدمار الشامل واستعمالها ضد مدن بأكملها حتى عندما لايكون لذلك مبرر غير الارهاب والرغبة بتجربتها على البشر. مسؤول عن القضاء على احلام دول العالم الثالث بالحياة الديمقراطية بالتدخل العسكري المباشر او باستخدام جنرالاتها واشقيائها. يجب ان ننسى, من اجل تلك القناعة الجديدة, الرخص الشديد للحياة الانسانية بالنسبة للرأسمالية واهدافها, فاميركا قامت على اكثر من سبعين مليون من جثث الهنود الحمر, وملك بلجيكا ليوبولد قتل عشرة ملايين انسان في الكونغو, واطال كيسنجر حرب فيتنام سنتين اضافيتين قاتلا مئات الالاف من الفيتناميين والافا من الامريكان ليس الا من اجل زيادة فرص فوز نيكسون بالانتخابات التالية, وحصل رغم ذلك, او ربما بفضل ذلك,على جائزة نوبل للسلام. نشر نيكروبونتي (سفير اميركا الحالي في العراق) في الثمانينات, الارهابيين في اميركا الوسطى انطلاقا من سفارته في الهندوراس لضرب اي محاولة لشعوب تلك المنطقة البدء بحياة كريمة مستقلة, وخاصة نيكاراغوا حيث اغتيلت اول حكومة ديمقراطية فيها, كما اغتيلت قبل ذلك حكومات الليندي في شيلي 1970 ومصدق في ايران 1953 من قبل المخابرات المركزية الامريكية, واباد العسكر باسناد الولايات المتحدة نصف مليون اندونيسي بتهمة الشيوعية, وانتقمت بريطانيا لمقتل جنرال لها بقتل 10 الاف مواطن سوداني, وقتلت فرنسا ما يزيد على المليون جزائري, ودمر التجار الغربيون الحياة لعشرات الملايين من العبيد من افريقيا وغيرها كثير كثير.
وحتى عندما يتعلق الامر بمكاسب مادية مباشرة ولشركات محددة, فان الرأسمالية العاملة على مبدأ "الجشع اسمى الاخلاق الانسانية" لم تتردد في ارتكاب ابشع الجرائم. فهاهي بريطانيا تجبر الصين بقوة السلاح,على السماح بدخول المخدرات الى اسواقها, وتعجز معظم الحكومات اليوم عن اغلاق اسواقها بوجه السكائر الامريكية المسببة للسرطان وامراض كثيرة, بل وتعجز حتى عن منع او عرقلة اعلاناتها. وتعجز حتى الديمقراطيات القوية في الدول القوية عن ايقاف نتاج مثل الاسبست الذي ناضل الهولنديين مثلا ثلاثين عاما منذ اكتشاف اثره القاتل قبل ان يتمكنوا من منع استعماله في بلادهم. اما في العالم الثالث فهاهي شركة تاليسمان الكندية للطاقة تطلب قبل بضع سنوات من الحكومة السودانية تصفية عرقية للسكان في جنوب البلاد لاخلاء مناطق استخراج النفط, وتحتال الحكومة الامريكية لعرقلة اتفاقية كيوتو التي تهدف الى انقاذ الارض من كارثة الاحتباس الحراري لان استمرار تلويث البيئة هو الطريقة الاقل كلفة والاكثر ربحا لشركاتها.
واخيرا هاهو النظام الرأسمالي ينتج لنا قوة غاشمة تهدد العالم وتبتزه بقوة عسكرية لم ير التأريخ مثلها, ففي الوقت الذي تمتلك جيشا يزيد عن مجموع الجيوش العشرين التالية في العالم, وينتشر في ما يقدر بين 800 الى 1200 قاعدة عسكرية في اكثر من 140 دولة, فانها تصرف سنويا مبلغا متزايدا ربا على 400 مليار دولار, وهو مايزيد على مجموع ما تنفقه كل دول العالم على جيوشها.
على الرأسمالية ان تبذل جهدا كبيرا لتنسي العالم كل ذلك.
سؤال صديقي الى العالم
قبل حوالي 25 سنة كان لدي صديق يدرس الطب في جامعة الموصل اسمه طه الجنابي, وكانت افكارنا السياسية متقاربة. وفي مساء احد الايام اثار طه قلقي الشديد باعلانه لي قراره الانتماء الى الحزب الشيوعي. اقنعته بالعدول عن القرار في ذلك الوقت الخطير بعد ساعات طويلة من النقاش. في اليوم التالي, جاءني طه متسائلا:قل لي, كيف اقتنعتُ؟ كان طول اليوم يحاول ان يفهم كيف اقتنع بترك فكرته فلم يستطع تذكر اي سبب منطقي لذلك غير الخوف, وانه لايقبل ان يكون الخوف حائلا بينه وبين ما يؤمن به. عبثا حاولت ان اقنعه مرة اخرى, فلم يكن لدي حجج منطقية!
مرت السنون وانا ما ازال اذكر تلك المراجعة الجميلة التي تنضح بالامانة والقلق على دوافع المرء لاتخاذ قرار ما, والتأكد ان وراء ذلك الاقتناع منطقا سليما واسبابا حقيقية وليس عاطفة, كالخوف او اليأس او الارهاق او الملل.
فتعالوا نسأل العالم : كيف اقتنعت؟
سباق مغشوش: العالم يتبنى منطق سائق القطار
يعتبر غالبية السياسيين, من اليسار واليمين, ان انهيار الاتحاد السوفيتي المدوي وخسارته السباق امام الولايات المتحدة, الدليل العملي الاكثر حسما واقناعا على ضعف النظام الاشتراكي قياسا بالرأسمالية, ويصور الامر على انه "تجربة" البشرية لاختبار قوة النظامين وايهما اصلح للحياة.
لكننا نعلم ان كل "تجربة" تتطلب شروطا معينة لتنفيذها لكي يمكن الاعتماد على نتائجها. فاذا كانت تجربتنا تهدف الى المقارنة بين سرعة متسابقين في الركض, فمن البديهي ان نحرص على وضعهما على خط شروع واحد. فهل كان لتجربة المقارنة بين الاشتراكية والرأسمالية مثل تلك الشروط؟
لو اعتبرنا سنة قيام الثورة الاشتراكية في 1917 خط شروع فان من الجلي ان المتسابقين لم يكونا حتى قريبين من بعضهما عند الشروع باي شكل من الاشكال. فالاول قام في دولة متخلفة في كل شيء, في حين يملك الاخر كل شيء. وان اعتبرنا نقطة الشروع نهاية الحرب العالمية الثانية, فلدينا متسابق مرهق مفلس ومحطم, مقابل اخر يتمتع بصحة جيدة وثروة هائلة. فأميركا التي كادت تكون الدولة الوحيدة الكبيرة التي لم تتضرر بالحرب, خرجت منها وهي تمتلك نصف الانتاج العالمي العام, وثلثي الانتاج العالمي الصناعي!
لم يكن تأثير هذا الفرق على نتيجة تجربة "السباق" منطقيا افتراضيا فقط, فقد سارعت الولايات المتحدة حين استشعرت خطورة الهزيمة بعد ثلاث سنوات من نهاية الحرب, اي في عام 1948 الى التأثير على المنافسة بين الرأسمالية والاشتراكية لكسب تأييد شعوب اوروبا الغربية, بعرضها مساعدة سخية جدا بلغت 10% من انتاجها القومي (مشروع مارشال) مقابل تخلي تلك الدول عن خياراتها الاشتراكية واليسارية, بل ان العرض الابتزازي شمل الاتحاد السوفيتي نفسه, والذي رفضه. وعندما لم يكف المال لابتزاز الخيارات, استخدم لدعم العنف لفرضها مثلما حدث في ايطاليا واليونان وغيرها.
انتهت تجربة "السباق" او "المقارنة" التي افسدها الفرق الهائل في خط الشروع, بفوز الرأسمالية وسقوط الاشتراكية, وسارعت الرأسمالية لفرض قبول النتيجة واغلاق المختبر, واعلنت على لسان ممثلها فوكو ياما, "نهاية التأريخ."
ان منطق قبول النتيجة وتجاهل ظروف "التجربة" لايختلف عن منطق سائق القطار الذي ضحكنا منه في البداية. ففشله في اكتشاف انه لايقف على قدم المساواة مع رسيله عند خط الشروع, اوصله الى استنتاجه المضحك, بان لاعب الشطرنج الذي يخسر وزيره يكون في موقف اقوى من المقابل.
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟