|
ملحمة جلجامش ج1
وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3475 - 2011 / 9 / 2 - 12:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يكتب عالم الآثار العراقي طه باقر في ترجمته لملحمة جلجامش الصادرة من منشورات وزارة الإعلام : ( ملحمة جلجامش , التي يصح أن نسميها أوديسة العراق القديم , يضعها الباحثون و مؤرخو الأدب المحدثون بين شوامخ الأدب العالمي . و لعلي لا أبالغ ( و الكلام لطه باقر ) إذا قلت انه لو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين , من منجزاتها و علومها و فنونها شيء سوى هذه الملحمة لكانت جديرة بان تبوأ تلك الحضارة مكانة سامية بين تلك الحضارات العالمية القديمة . و يكمل ( إن ملحمة جلجامش أقدم نوع من أدب الملاحم البطولية في تاريخ جميع الحضارات , و إلى هذا فهي أطول و أكمل ملحمة عرفتها حضارات العالم القديم ... ) لقد تميزت الملحمة بإيقاع الحركة فيها فأنت عندما تقراها تتخيل أحداثها أمامك و ليس مجرد سرد قصصي أو ملحمي . تتشابك الشخصيات و تتصارع و فيها إجابات على أسئلة طرحها الإنسان منذ قديم الزمان مثل مسالة الحياة و الموت و حتمية الموت للإنسان فجلجامش ثلثاه اله و الثلث الباقي إنسان و مع ذلك فالموت مقدر عليه و على الإنسان الاستمتاع بالحياة إلى حدها الأقصى لذا قالت صاحبة الحانة لجلجامش : (( إلى أين تسعى يا جلجامش إن الحياة التي تبغي لن تجد حينما خلقت الآلهة العظام البشر قدرت الموت على البشرية و استأثرت هي بالحياة أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مملؤا على الدوام و كن فرحا مبتهجا مساءا و أقم الأفراح في كل يوم من أيامك و ارقص و العب مساءا نهارا و اجعل ثيابك نظيفة زاهية و اغسل راسك و استحم في الماء و دلك الصغير الذي يمسك بيدك و افرح الزوجة التي بين أحضانك و هذا هو نصيب البشرية )). و لكن جلجامش لم تغره فلسفة اللذة هذه و لم يجد الخلود فيها و لا في إنجاب الأطفال لذا اخذ يبحث عن ( اوتو - نبشتم ) الذي يملك سر الخلود و دله ( اوتو – نبشتم ) عن عشبة الخلود التي من يأكلها لا يموت . يعلق طه باقر على النص قائلا : ( يتضح من الوصف أن خاصية هذا النبات السحري تجديد الشباب و انه ينبغي أن يؤكل بعد أن تدرك المرء الشيخوخة و لهذا لم يأكل منه جلجامش بل انتظر حتى يعود إلى مدينته الوركاء و يستعمله متى ما أدركته الشيخوخة ) . و قد اختطفت الحية ذلك النبات و أكلته فأخذت الحية تجدد غلاف جلدها كل عام أي إنها حصلت على الخلود و يعقب طه باقر ( و من هذه الأسطورة نشأت عادة اتخاذ صورة الحية رمزا للحياة و الشفاء و الطب ) و هكذا نرى أن جلجامش لم يحصل على الخلود بهذه الطريقة لذا فكر بان يقوم بأعمال عظيمة لكي يخلد اسمه فبنى مدينة أوروك و ذهب مع انكيدو إلى غابات لبنان حيث قتل خمباثا الوحش الأسطوري . في هذه الملحمة نجد الحب و الصداقة التي جمعت بين جلجامش و انكيدو . وفي رثاء جلجامش لانكيدو أروع صور التراجيديا الإنسانية حيث اخذ جلجامش يهيم على نفسه في البرية مطلقا لحيته يأكل من الأعشاب لابسا جلد الحيوانات على جسمه و هذه هي بدايات التصوف لدى الإنسان .قارن ذلك مع يوحنا المعمدان في الإنجيل . لقد تم اكتشاف نسخ كثيرة من الملحمة . و منها نسخة اكتشفت في مدينة مجدو بفلسطين . و يرجع زمن هذه النسخة المكتشفة إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد و هذا من بين الأدلة التي تثبت تأثر العبرانيين بأدب و ملاحم وادي الرافدين و هذا التأثير نجده في سفر التكوين و في معصية ادم و حواء و في طوفان نوح في التوراة المأخوذ من ملحمة جلجامش . و جلجامش كشخصية تاريخية كان احد حكام المدن السومرية في عصر فجر السلالات ( 2800 – 2400 ق . م ) و انه حكم في الوركاء و يؤكد طه باقر أن الملحمة في نصها الاكدي أي البابلي ( السامي ) بدأت تتبلور في عهد سيطرة السلالة الاكدية التي أسسها سرجون الاكدي في حدود ( 2370 ق . م ) و دونت كاملة في العهد البابلي القديم ( مطلع الألف الثاني ق . م ) . تبدأ الملحمة و تنتهي بأسلوب أل Flash Back في السينما حيث تظهر لقطة في بداية الفيلم إلى أن ينتهي الفيلم بنفس اللقطة !!! و هذا الأسلوب في الكتابة أخذه مؤلفو التوراة و لا سيما المزمور الثامن .تبدأ الملحمة بالمقطع التالي و باسم الملحمة ( هو الذي رأى كل شيء ) : هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي و هو الذي عرف كل الأشياء و أفاد من عبرها و هو الحكيم العارف بكل شيء لقد أبصر الأسرار و كشف عن الخبايا و جاء بأنباء ما قبل الطوفان لقد سلك أسفارا بعيدة متقلبا ما بين التعب و الراحة فنقش في نصب من حجر كل ما عاناه و خبره بنى أسوار (( أوروك )) المحصنة و حرم (( إي – أنا )) المقدس و المعبد الطاهر فانظر إلى سوره الخارجي تجد أفاريزه تتألق كالنحاس و استلم أسكفته الحجرية الموجودة منذ القدم . اقترب من ( إي – أنا )) مسكن عشتار الذي لا يماثله صنع ملك من الآتين و لا إنسان اعل فوق أسوار (( أوروك )) و امش عيها متأملا تفحص أسس قواعدها و آجر بنائها افليس بناؤها بالآجر المفخور ؟ و هلا وضع (( الحكماء السبعة )) أسسها . نعرف من النص أن جلجامش كان ذو جسد أسطوري و قوة فائقة و كان ظالما . لم يترك ابنا طليقا لأبيه , و لم يترك عذراء طليقة لامها و لا ابنة المقاتل و لا خطيبة البطل و لكنه رغم ذلك راعي أوروك و بطلها و حاميها . تظلم الشعب لدى الآلهة فتم استدعاء الآلهة ( ارورو ) التي خلقت كلكامش لتخلق له نظيرا في القوة فيقول النص : و غسلت (( ارورو )) يديها و أخذت قبضة من طين و رمتها في البرية و في البرية خلقت (( انكيدو )) .... يكسو جسمه الشعر الكث , و شعر رأسه كشعر المرأة . و نمت فروع شعر رأسه جدائل كشعر نصبا ( آلهة الغلة و الحبوب ) لا يعرف الناس و لا البلاد و يلبس لباسا مثل (( سموقان )) ( اله الماشية ) و مع الظباء يأكل العشب و يتدافع مع الوحش عند موارد الماء في هذا النص الرائع نلاحظ أكثر من ملاحظة , أولا : دور الآلهة الإناث في الخلق حيث لم يتحول المجتمع نحو مجتمع ذكوري مكتمل و نجد الآلهة ( ارورو ) تخلق انكيدو من الطين و هذه إحدى تأثيرات ملحمة جلجامش في التوراة . الملاحظة الثانية هي إن شعره على شكل جدائل المرأة و بالتالي فان قوة انكيدو مرتبطة بشكل ما بطول شعره و من هنا تمت استعارة قصة شمشون في التوراة . الملاحظة الثالثة انه كان يعيش مع الوحوش من الحيوانات و يأكل العشب . أي انه كان حالة بدائية كحالة الجنين في بطن أمه . إن الملحمة تصور التنازع بين مجتمع المدينة الممثل بكلكامش و البغي و بين مجتمع البداوة الممثل بانكيدو و الوحوش و سنرى في النهاية انتصار المدينة على البداوة و موت انكيدو. لقد شاهد صياد يوما ما انكيدو فهرب منه و ذهب إلى أبيه و شرح له الحادثة فقال له الأب : (( فاذهب إلى (( أوروك )) وول وجهك شطرها و انبي جلجامش عن باس هذا الرجل و ليعطك بغيا مومسا تصحبها معك أيها الصياد دعها تسيطر عليه و تروضه و حينما يستسقي مع الحيوان من مورد الماء دعها تخلع ثيابها و تكشف عن عورتها و مفاتن جسمها فحالما يراها فانه سيقترب منها و ينجذب إليها و عندئذ ستنكره حيواناته التي ربيت معه في البرية )) . بعد أن قامت البغي بالواجب المطلوب يقول النص : (( ذعر انكيدو و وهنت قواه خذلته ركبتاه لما أراد اللحاق بحيواناته أضحى انكيدو فاتر القوى لا يطيق العدو كما كان يفعل من قبل و لكنه صار فطنا واسع الحس و الفهم ..... كلمت البغي انكيدو و قالت له : (( صرت تحوز على الحكمة يا انكيدو و أصبحت مثل اله فعلام تجول في الصحراء مع الحيوان ؟ لاحظ عزيزي القارئ هنا في الملحمة و في الفكر القديم يقرن الجنس بالحكمة و الفهم و هذا المعنى أخذه مدونوا التوراة في سفر التكوين : قالت الحية لآدم و حواء : ( كلا لن تموتا بل الله عالم أنكما يوم تأكلان تتفتح أعينكما و تكونان مثل الله عارفين الخير و الشر ) . إن البغي تشير إلى بغايا المعبد و طقس الزواج المقدس و الدور الكبير الذي كان لهن في الطقوس الدينية و في إدامة الحياة . إن الارتباط بين البغي و الجنس يشير إلى دخول الإنسان في معترك الحياة و قيامه بتجربة الصح و الخطأ فمجتمع الغابة و الحيوان لا يحتاج الإنسان فيه إلى الذكاء و الحكمة و لكنه يحتاج إلى قوة العضلات . بوجود البغي تكون هناك علاقة متبادلة و حديث و حوار و تجربة و هذه تمثل مجتمع المدنية و هذا الصراع بين البداوة و الحضارة أخذته التوراة و نقلته في قصة قايين و هابيل الإخوة – الأعداء . و يحلم جلجامش في نومه بسقوط كوكب من السماء كأنه شهاب السماء انو و لم يستطع أن يرفعه في إشارة إلى انكيدو و هذا الحلم يشابه حلم يوسف في التوراة . لقد أكملت البغي تغيير انكيدو حيث لبث يجامع البغي ستة أيام و سبع ليالي : ثم شقت ثوبها شقين , ألبسته بواحد منهما و اكتست بالثاني و أمسكت به من يده و قادته كما يقاد الطفل أخذته إلى كوخ الرعاة , إلى موضع الحظائر فتجمع الرعاة حوله . في هذا النص البديع تشق البغي ثيابها نصفين و تلبس انكيدو ثوب المدنية و الحضارة و أخذته إلى كوخ الرعاة , إلى موضع الحظائر فتجمع الرعاة حوله . في الفكر القديم الملك و الإله تكون ولادتهما مع الحيوانات في الحظائر و هذه نجدها في ولادة يسوع حسب الأناجيل فهو الملك و هو الراعي الصالح . نستمر في نص الملحمة : ففتحت البغي فاهها و خاطبت (( انكيدو )) : كل الطعام يا انكيدو , فانه مادة الحياة و اشرب من الشراب القوي , فهذه عادة البلاد فأكل انكيدو من الخبز حتى شبع و شرب من الشراب القوي سبعة أقداح فانطلقت روحه و انشرح صدره و طرب لبه و نور وجهه و نظف جسده المشعر و مسحه بالزيت و أضحى إنسانا , لبس اللباس و صار كالعريس . هنا اكتمل دخوله في طور الحضارة و المدنية حيث انه ولد ولادة جديدة كانسان وليس كحيوان و الزيت علامة التقديس و التطهير . و الزيت كالخمر يستعمل في الطقوس الدينية و من يمسح من الكهنة و الملوك بالزيت يسمى مسيحا و هذا النص يذكرنا بتحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل حيث الخمر تشير إلى الفرح و تجدد الحياة و الاتحاد بالمسيح و بالتالي المسيح هو العريس و الحضور هم العروس . انتظروا الجزء الثاني
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زواج خديجة من محمد
-
( القذافي طار ... طار ... أجاك الدور يابشار )
-
مجتمع يثرب
-
العبودية في المجتمع العربي القديم
-
قناة المستقلة والحديث الناعم في معاداة الشيعة
-
موقف المثقفين من الثوراة في البلاد العربية
-
النبيذ في الإسلام
-
مقارنة بين وضع المرأة العربية في الجاهلية و في الإسلام
-
وضع المرأة عند العرب قبل الاسلام ج2
-
حجاب المرأة في الاسلام
-
ايها المصريون ... أحذروا من تكرار تجربة الدستور العراقي
-
العلمانيون المتطرفون والسلفيون المتطرفون وجهان لعملة واحدة
-
الحزب الشيوعي العراقي وازدواجية السلوك
-
لماذ الاصرار على تدمير ليبيا ؟
-
وضع المراة عند العرب قبل الاسلام
-
امة عربية كردستانية واحدة
-
قدس اقداس الاكراد
-
الرسول بولس ليس جاسوساً ايها السادة ج3
-
الرسول بولس ليس جاسوساً ايها السادة ج2
-
الاكراد وحق تقرير المصير
المزيد.....
-
ما هي صفقة الصواريخ التي أرسلتها أمريكا لأوكرانيا سرا بعد أش
...
-
الرئيس الموريتاني يترشح لولاية رئاسية ثانية وأخيرة -تلبية لن
...
-
واشنطن تستأنف مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بعد شهور من التوق
...
-
شهداء بقصف إسرائيلي 3 منازل في رفح واحتدام المعارك وسط غزة
-
إعلام إسرائيلي: مجلسا الحرب والكابينت يناقشان اليوم بنود صفق
...
-
روسيا تعلن عن اتفاق مع أوكرانيا لتبادل أطفال
-
قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا
...
-
أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق
...
-
الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي
...
-
موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق
...
المزيد.....
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
-
آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس
...
/ سجاد حسن عواد
-
معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة
/ حسني البشبيشي
-
علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|