أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سوريا















المزيد.....

قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سوريا


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1032 - 2004 / 11 / 29 - 07:36
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


نسب عضو في قيادة الجبهة الوطنية التقدمية في سوريا إلى الرئيس بشار الأسد قوله: "ليس بيننا من يقول لن يكون هناك قانون أحزاب أو إننا لسنا مع قانون أحزاب". فالموضوع "يمكن أن يثار ويحسم في المؤتمر القادم لحزب البعث العربي الاشتراكي" (نشرة "كلنا شركاء" الإلكترونية، 14/10/2004).
لعله ليس من قبيل افتعال المفارقات أن نتساءل: ولكن ما علاقة مؤتمر البعث بقانون الأحزاب؟ وكيف يمنح الحزب ذاته حق التشريع لجميع السوريين فيما هو حزب بعضهم فحسب؟ ألا يفترض بالقوانين أن تصدر عن سلطة مختصة هي السلطة التشريعية التي تسمى في سوريا "مجلس الشعب" وليس عن حزب لا "يجلس" فيه غير بعض الشعب؟ أليس تحكيم حزب البعث في شرعية الأحزاب الأخرى، المنافسة من حيث المبدأ، تصرفا تحكميا لا يستجيب لمقتضيات العدالة ولا لمنطق السياسة المدنية؟ الجواب على السؤالين الأولين بسيط: البعث حزب ودولة، أو أن سوريا دولة حزب البعث وليست دولة السوريين جميعا. وهو جواب كاف لجعل السؤالين الأخيرين نافلين.
معلوم أن حزب البعث الحاكم "ارتضى" أن "يقود" السوريين منذ الانقلاب البعثي الأول قبل 41 عاما، ثم أضاف إلى أعبائه القيادية "جبهة وطنية تقدمية" منذ 32 عاما بعيد الانقلاب البعثي الثالث. وفي الشهر العاشر من عام 2004، وفي ميثاقها المعدل، سوغت الجبهة انقيادها لحزب البعث بـ"الدوره التاريخي الكبير الذي لعبه في حركة النضال العربي"، و"تحمله مسؤولية قيادة الدولة والمجتمع منذ ثورة الثامن آذار"! ومعلوم أن الحزب راعى، قبل الجبهة وبعدها، أن يحتفظ لنفسه بموقع سياسي غير قابل للمنافسة أو المشاركة أو التقليص. وفي ميثاق الجبهة الجديد ذاته يتم التعبير عن رعاية الحزب لموقعه الامتيازي كالتالي: "تتجسد قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي للجبهة بتمثيله بالأكثرية في مؤسساتها جميعا وبأن يكون منهاج الحزب ومقررات مؤتمراته موجها اساسيا لها في رسم سياساتها العامة، وتنفيذ خططها". ترى، ما مبرر وجود أحزاب الجبهة الأخرى إذن؟ وبم تختلف عن "المنظمات الشعبية"؟
وليس ثمة ما يخولنا اليوم الاعتقاد بأن قانون الأحزاب المحتمل صدوره عن مؤتمر الحزب سيراعي أكثرية السوريين غير البعثية أكثر مما سيراعي الأقلية البعثية الحاكمة.

لغم دستوري
لكن بصرف النظر عن النيات، فإن هناك لغما دستوريا على طريق اي قانون لتنظيم الحياة السياسية في البلاد. إذ يكاد يكون في حكم المؤكد أن قانون الأحزاب العتيد لن يمنح الشرعية لغير الأحزاب التي توافق على الدستور الحالي الذي تنص مادته الثامنة على أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع وانه يقود جبهة وطنية تقدمية....إلخ. غير أن القبول بهذه المادة يتعارض مع مفهوم الحزب السياسي ذاته. فلو كان المعارضون يقبلون بقيادة حزب البعث لانضموا إليه ولما شكلوا أحزابا مستقلة ولما عارضوا سلطة الدولة الحزبية. بعبارة أخرى، لا يمكن لحزب حقيقي أن يعترف بنص دستوري يلغي مبرر وجوده.
ومن بدهي القول إن قانون الأحزاب هو قانون عمل الأحزاب المستقلة والمعارضة. أما انضواء أحزاب تحت قيادة حزب البعث و"التزامها بمنهاجه ومقررات مؤتمراته" فأمر لا يحتاج إلى قانون. فهو إما فعل خضوع أو فعل حب خالص، والحب والخضوع غنيّان عن القوانين جميعا.
في ظل الدستور الحالي سيكون قانون الأحزاب هدية مفخخة تنفجر في وجه الحزب الذي يتلقاها. والمشكلة انه ليس ثمة اية آليات مستقلة أو محايدة لتغيير هذه الحال الدستورية. فآليات التعديل التي يقترحها الدستور مفخخة بدورها، تكفل أن يكون التعديل مستحيلا إن لم يبادر إليه رئيس الجمهورية ومحازبيه البعثيين. فبينما يقتضي طلب التعديل مبادرة الرئيس أو ثلث اعضاء مجلس الشعب، فإن التعديل لا ينفذ إلا إذا أيده ثلاثة ارباع اعضاء المجلس، وفقط بعد موافقة الرئيس عليه (المادة 149 من دستور 1973). وسيتاح لنا في سياق المقال أن نشير إلى أن الدستور مصمم لحماية السلطة وتقييد المجتمع لا العكس.
مفاد ذلك أن سوريا واقعة تحت حكم حزبي مؤبد لا مجال للاستئناف والنقض فيه. وهذا تعقيم سياسي قسري للمجتمع السوري تحت قناع دستوري. بل هو خصاء سياسي بالفعل.
إلى ذلك، وفي الأصل والمبدأ، المادة 8 من الدستور مناقضة لمفهوم الدستور أكثر حتى مما الموافقة عليها مناقضة لمفهوم الحزب السياسي المستقل.
فمفهوم الدستور يصدر عن تصور للسلطة كقوة ميالة تلقائيا إلى التوسع ما لم تجابه بقوى موازية تلجمها وتضبط نزوعها لابتلاع المجتمع. ويعتبر التصور ذاته أن السلطة المنفلتة وغير المقيدة بالقانون هي الخطر الأساسي على الحرية في كل المجتمعات. ومن هنا الحاجة إلى ما يقيدها ويحد من نزعتها التوسعية الذاتية. والدستور هو قيد السلطة وقانون كبح جماحها، هو الحاجز الذي يمنعها من التوسع والانفلات واستعباد المجتمع. فالهدف الأول والأخير للمبدأ الدستوري هو حماية الحرية من عدوان السلطة. ولا نعرف منافسا لهذا المفهوم الليبرالي للدستور. فالدول التي ترفض هذا المفهوم هي ذاتها الدول التي لا تحترم دستورها هي بالذات، ممثلة بذلك برهانا عمليا على بطلان اي مفهوم آخر للدستور.
لكن يبدو أن بال المشرع السوري الذي وضع دستور 1973 كان منشغلا بدوافع أخرى غير ضبط السلطة وضمان حريات المواطنين: ضبط المجتمع واحتكار السلطة وحمايتها من حرية المواطنين. ورغم ان نص الدستور يعترف بحريات الرأي والفكر والتعبير والتجمع إلا أن هذه الحريات بالذات منسوخة بحالة الطوارئ المفروضة في البلاد قبل الدستور بعشر سنوات. وفيما يخص هذه الحالة المزمنة أيضا ليس ثمة آليات مستقلة لرفعها ووقف العمل بها رغم أن تاريخها (أي حالة الطوارئ) في سوريا هو تاريخ الوعد المُخلَف بقصر تطبيقها على الحالات التي تمس "أمن الوطن". والخلاصة أننا محكومون بطوارئ مؤبدة، اي بحكم الاعتباط والعسف، فوق حكم الحزب الواحد المؤبد.

حراسة الفراغ السياسي
قلنا إن اللغم الدستوري يتمثل في ان قانون الأحزاب المفترض ينبغي ان يتقيد بأحكام الدستور التي تمنح حزب البعث موقعا في الدولة والنظام السياسي والمجتمع متعارضا مع إمكانية وجود احزاب مستقلة فعلا. عمليا هذا يعني: (1) حزب البعث فوق القانون؛ (2) الأحزاب الأخرى لا مبرر لوجودها. وبدوره هذا يعني ان الدستور ينظم ويحرس الفراغ السياسي في البلاد. فالحزب الذي فوق القانون يكف عن كونه حزبا ويفقد طابعه السياسي (فالحزبية والسياسة تفترض تعدد المصالح الاجتماعية وشرعية تمثيلها المستقل)، والأحزاب الخاسرة لمبرر وجودها لا يمكن ان تكسب صفات تمثيلية وسياسية.
وليس هناك غير واحد من حلين لهذه المعضلة: إما تعديل الدستور بإلغاء المادة الثامنة والمضي قدما نحو نزع حزبية الدولة، أو تقنين التعقيم السياسي القسري القائم. يفضي الحل الأول إلى أيلولة حزب البعث حزبا سوريا بين احزاب سورية اخرى، حزبا يخضع مثل غيره للقانون المنتظر. فيما يثبت الحل الثاني ان سوريا دولة البعثيين من ابنائها وأن غير البعثيين هم في أحسن احوالهم مواطنون من الدرجة الثانية. وبالطبع يقتضي الحل الأول نزع صلاحية اقرار قانون الأحزاب من يد حزب البعث. أما الحل الثاني، الحل البعثي للمسألة الحزبية في سوريا، فلا يتعارض مع احتمال ضم بعض الأحزاب للجبهة، أو ربما إيجاد "منزلة بين المنزلتين" لبعض الأحزاب التي قد ترتضي الانقياد لحزب البعث دون ان تنضم إلى الجبهة. ومن المحتمل أن يتوزع الحزب القومي الاجتماعي والحزب الديمقراطي السوري وحزب النهضة الديمقراطي والتجمع من أجل الديمقراطية... على أحد الموقعين المذكورين.
والأرجح في تقديرنا أن الحل سيكون في اتجاه التعقيم دون ان يعني ذلك بالضرورة أن الأحزاب التي لن تنال بركات قانون الأحزاب العتيد (الإسلاميين، الأحزاب الكردية، أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي...) ستقمع بالقوة.
بيد أننا نرى ان هناك احتمالا قويا لعدم صدور القانون أصلا. فعلى أرضية التحليل السابق سيثير قانون الأحزاب من المشكلات أكثر مما يؤمن من الحلول. ومن الوارد جدا أن تتغلب الغريزة المحافظة والحذرة للسلطة السورية على نزوة تحديثية مكلفة. ولعلنا نذكر أن الحديث عن قانون أحزاب وشيك واكب الأيام الأولى لعهد الرئيس بشار الأسد، وأن نائب الرئيس بالذات تحدث عنه لرياض سيف في صيف عام 2000. إن القانون الذي صبر 4 سنوات يستطيع أن يصبر.. من يدري؟ ربما اربعين!

ضد القانون
إذا قسنا على قانون المطبوعات الذي صدر قبل أزيد من ثلاث سنوات (وهو آية من آيات الاعتباط والتحكم، وصفه بعض الناشطين بأنه قانون عقوبات...) فإن المفارقة التي يرجح أن تسم قانون الأحزاب المنتظر هي أن الواقع القائم أرحم وأعدل وأحكم من القانون المتوقع. ف"الواقع" "يعترف" بأحزاب مستقلة ومعارضة، فيما يرجح أن ينكرها القانون ما لم يتم إلغاء المادة الثامنة من الدستور. و"الواقع" يترك الأمور تجري بشيء من اليسر، فيما يبتغي القانون أن يضبطها تحكميا ويعسر سيرها. والأكيد أن سر يسر الواقع وعسر القانون يكمن في أن مشرعي سوريا لا يصدرون عن إقرار السوريين على ما ارتضوه وألفوه (ولا عن اعتبارات العدالة المجردة)، بل عن عقيدة سلطوية منفصلة عن تجارب أجيال السوريين الحالية وعن خبرتهم الحية، وكذلك عن مصالح مادية وسياسية متطرفة لا تقبل التقنين. فالثقافة السياسية لمشرعينا ترتكز على مفهوم الدولة المقرِّرة لا الدولة المُقِرًّة، الدولة التي تربي المجتمع لا الدولة التي تمثل المجتمع (وتترك له ان يربي ذاته).
ولعل لا قابلية التقنين المميزة لمصالح نخبة السلطة السورية هي النقطة التي تتيح لنا أفضل موقع لمعرفة طبيعتها وتكوينها. فالأمر لا يتعلق بمصالح غير قانونية أو غير مشروعة بل بمصالح (مادية وسياسية واجتماعية) مضادة لاي قانون، حتى لو اصدرته لتوها هذه النخبة بالذات. وهذا لأن أي قانون يعني انك لا يمكن ان تنال كل ما تريد، فيما تمكنها قوتها بالضبط من نيل كل ما تريد. لذلك تفضل قانونها هي، قانون القوة والهبش، على قواعد لا بد أن تقيد إرادتها وتضبط سلوكها. فهي لا ترضى بأقل من الحرية المطلقة، وكل ما دون ذلك هو قيد لا يطاق وتضييق فظيع على حريتها.
ثم إنها بلغت من القوة والاستهتار مبلغا يمكنها من المبادرة إلى إصدار قوانين وتوجيهات ومراسيم لا مفعول لها البتة إلا توقّي الضمور المحتمل لعضو الدولة التشريعي بسبب قلة الاستخدام. ولذلك كانت حصيلة الإصلاح السوري بعد قرابة اربع سنوات ونصف ترسانة ضخمة من القوانين الكسيحة. فبكل بساطة لا فرصة للإصلاح في ظل بنية مصالح غير صالحة ومنتجة للفساد والتسلط. هذه البنية لا تقبل الإصلاح، وبالمقابل لا يقبل الإصلاح إلا تغييرها الأساسي.
وإنما هنا، اي في قوة ومصالح وتكوين نخبة السلطة، مصدر تفاقم الفوضى والفساد واللاعقلانية في الدولة والحياة العامة. مرجع الأمر أن سوريا تفتقر إلى نخبة حاكمة عقلانية قادرة على عقلنة النظام الاجتماعي وبث الانسجام والاستقرار الحي فيه، أو بعبارة ادق إن تكوين نخبة السلطة يجعل منها منبعا ثرا للفوضى والاضطراب والاعتباط والمزاجية والتعطيل في الميدان السوري العام.

السياسة المستحيلة
اي مشكلة سيسوي قانون الأحزاب إذن؟ أي حل وسط سيقترح للمسألة السياسية السورية؟ إن لم يحدث ما ليس بحسبان أحد فستسير الأمور على المنوال السوري المألوف: الأمر الواقع يتابع حياته العرفية على غير نظام، والقوانين تواصل حياتها الخاصة على الرفوف. ستكون ثمة تسوية لكن ليس يين فاعلين سياسيين وقوى اجتماعية مستقلة، وعبر مفاوضات وحوار، بل بين منطقين للعمل الاجتماعي: منطق رسمي لا يعترف بالواقع، ومنطق واقعي لا يبالي بالقانون الرسمي. قد يكون هذا الازدواج أرأف بالناس، لكنه يصون علاقة الاغتراب بين المجتمع والدولة: لا الدولة تمسي دولة وطنية حديثة، ولا المجتمع يغدو مجتمعا مدنيا متفاعلا. وهذه علاقة مضادة للتراكم المدني، تراكم الخبرة والكفاءة والدراية والعلم العملي والنظري والمهارة. وهي مصدر للتخلف والبدائية وتراجع موقع بلدنا في الترتيب العالمي على مختلف المستويات. وما من أحد يسيطر على هذا الشرط الذي يتطلب تصريفه شيئا مختلفا عن السيطرة الأمنية وصناعة الكاريزما والخوف. ولعله هنا مكمن التشاؤم المحسوس في تصريحات مسؤولين سوريين في مواقع القرار.
والحال إن امتناع التسوية والحلول الوسط بين فاعلين سياسيين واجتماعيين مستقلين يصدر عن أصل يجعل من قانون الأحزاب، إن صدر، فارغ المضمون: عدم اعتراف نخبة السلطة بالسياسة كتسوية وحلول وسط وتفاوض، وقبل ذلك عدم الاعتراف بوجود فاعلين اجتماعيين وسياسين مستقلين، عدم الاعتراف بوجود أطراف اجتماعية أخرى. بدل السياسة ثمة قوة تلغي وجود الآخرين، وثمة عقيدة تنكر وجودهم، وتصادر على تطابق تفضيلات نخبة السلطة ومصالح الأمة. بعبارة أخرى السياسة منفية لمصلحة ما دونها: القوة، وما فوقها: العقيدة.

تمثيل السوريين
الأرجح ان القانون سيحظر تشكيل أحزاب على أساس ديني او إثني أو مذهبي. وهو سيصدر في ذلك عن مفهوم الدولة المربية، ولكن كذلك عن المفهوم البعثي للوحدة الوطنية: السوريون موحدون بقدر ما لا يكونون احرارا (ما يستتبع أنهم لا يكونون احرارا إلا على حساب وحدتهم الوطنية).
والسؤال هنا: ما فائدة قانون يدير ظهره للوقائع التي تعيشها في ظلها أوسع قطاعات السوريين؟ وهل سيكون قانون يحظر الإخوان المسلمين والأحزاب الكردية (فضلا عن بعض او جميع احزاب التجمع الوطني الديمقراطي التي سترفض الاعتراف بقانون أحزاب ملغوم)، غير فرصة مهدورة لتنظيم الحياة السياسية في البلاد على اسس جديدة؟
في العقيدة السياسية للسلطة السورية وفي خطابها الإعلامي ليس ثمة اعتراف بوقائع التعدد الإثني والديني والمذهبي في البلاد، أما في الممارسة العملية فتراعى هذه الوقائع بدرجات متفاوتة على المستويات الحزبية والحكومية والإدارية. حال الازدواج هذه تحرم الممارسة العملية من مفاهيم وقواعد مستقرة تضفي عليها درجة من الاتساق، وتتيح لتفاعلات السوريين أن تنتظم على اسس منسجمة ووطنية. وهي لذلك تظل تحت رحمة مقتضيات الولاء وأمزجة أطراف حزبية وامنية وبيروقراطية غير متحررة من روابطها الأهلية وولاءاتها الجزئية. وليس من شأن التجاهل المرجح لهذه الوقائع أن يقدم حلا للحساسيات الأهلية المتزايدة، ما يحتمل أكثر هو أن يفاقمها. فالحل الوحيد لهذه المشكلات هو ما قد يتمخض عنه نقاش عام علني وحر يشارك فيه ممثلو السوريين جميعا. والحال، لم يعد الاختيار منحصرا اليوم بين إطلاق النقاش هذا أو كبته، بل بين نقاش حر وعلني، عناونيه واضحه، ومعاييره القيمية والإيديولوجية منسجمة، والمشاركون فيه ملزمون بتوضيح مواقفهم وتفضيلاتهم أمام السوريين جميعا، وبين نقاش مشوه، عناوينه مغشوشة، ومعاييره الفكرية والأخلاقية والسياسية متدنية، ويعلو فيه صوت المشاركين الأكثر فئوية والأقل التزاما بإطار وطني لحل المشكلات الوطنية. ثمة عينات مقلقة من هذا النقاش الأخير نجدها في الانترنت.
نريد من ذلك وضع التفكير في قانون الأحزاب على أرضية التفكير بسبل ضمان تمثيل أكثر إنصافا وحركية للشعب السوري، تمثيل يساعد السوريين على ان يتكونوا كشعب وحامل لإرادة عامة، لا ان يأتسروا لروابطهم الأهلية الضيقة. وليس في ذلك ما يكرس واقع التعددية السورية، الساكنة أو الأهلية. العكس هو الصحيح؛ فتجاهل هذه التعددية علانية ومراعاتها خلسة هو ما يرسخ سكونها ويعوق تحديث تمثيل السوريين واكتسابه بعدا مدنيا وديناميا.
والأمر الحيوي من هذا المنظور هو تدارك عوز التمثيل السياسي الذي يعاني منه السوريون وفتح المجال العام على ما يرتضونه لأنفسهم من ممثلين وأطر تمثيلية. فأي تمثيل، ساكنا تقليديا او مدنيا حديثا، أفضل من نظام لا تمثيلي، نظام يغذي فوق ذلك التناثر الأهلي للمجتمع ويغطي تفاقم حالة القطيعة وانعدام التفاعل بين الجماعات الأهلية. بباسطة لا نتخيل سبيلا لصحوة وطنية سورية دون تحرير النقاش العام حول القضايا العامة، وفي مقدمتها طبيعة النظام السياسي في البلاد وقضايا الشرعية والتمثيل الاجتماعي.

من نافل القول ان ايا من القضايا الدستورية والسياسة والاجتماعية والفكرية المثارة هنا غائبة عن افق تفكير المشرعين واصحاب القرار السوريين. ومن المؤسف انها لا تكاد تكون حاضرة في نقاشات المثقفين والناشطين السوريين المستقلين.

زبدة الكلام: لا معنى لإصدار قانون أحزاب في ظل نظام الحزب الواحد. لا لزوم له ولن يفيد في شيء. وبالعكس يمكن وينبغي أن يكون كل من قانون الأحزاب ونزع حزبية الدولة (بطي صفحة نظام الحزب الواحد) وجهان لعملية واحدة، عملية تحرير الحياة السياسية في البلاد والاعتراف بحق السوريين في تمثيل حر ومستقل يستجيب لما يعتقدون أنها مصالحهم ورؤاهم وتفضيلاتهم.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المستحيلات الثلاث في -الشرق الأوسط-
- سوريا غير المتطابقة مع ذاتها
- حلفاء ضد التحليل: التبريريون والتشريريون في معركة الإرهاب
- أجهزة أمن اكثر = أمن اقل؛ والعكس بالعكس
- موت آخر المحاربين
- مشاركة في انتخاب الرئيس الأميركي!
- اي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 2 من 2
- أي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 1 من 2
- إصلاح حزب البعث والإصلاح السياسي في سوريا
- حول الطريق الثالث ... مرة ثالثة
- اسحقوهم بتناسب، وحطموهم برفق، واقتلوهم بلطف!
- الاستقطاب والاختيار: حول مفهوم السياسة 2 من 2
- الاستقطاب والضعف : حول الخط الثالث مجددا 1 من 2
- ماضي الخط الثالث ومستقبله في سوريا
- مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي
- فليستقل مدير عام مؤسسة الاتصالات!
- الجامعات الأسيرة صورة عامة للحال الجامعية السورية
- على أثر العاديين ...في شاتيلا
- في ذكرى اعتقال رياض سيف: احتجاج على شركتي الخليوي
- ما العمل إن لم يكن لمفاوضة الطالبان ومقاتلي الشيشان بديل؟


المزيد.....




- وزير الدفاع الإسرائيلي ردا على تصريحات بايدن: لا يمكن إخضاعن ...
- مطالبات بالتحقيق في واقعة الجدة نايفة
- هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينتج برامج تلفزيونية ناجحة في ال ...
- سويسرا: الحوار بدل القمع... الجامعات تتخذ نهجًا مختلفًا في ا ...
- ردًا على بايدن وفي رسالة إلى -الأعداء والأصدقاء-.. غالانت: س ...
- ألمانيا ـ تنديد بدعم أساتذة محاضرين لاحتجاجات طلابية ضد حرب ...
- -كتائب القسام- تعلن استهداف قوة هندسية إسرائيلية في رفح (فيد ...
- موسكو: مسار واشنطن والغرب التصعيدي يدفع روسيا لتعزيز قدراتها ...
- مخاطر تناول الأطعمة النيئة وغير المطبوخة جيدا
- بوتين: نعمل لمنع وقوع صدام عالمي


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سوريا