ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1028 - 2004 / 11 / 25 - 09:32
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ثمة ثلاث مستحيلات في الشرق الأوسط: أمن إسرائيل وسيادة فلسطين واستقرار هذا الإقليم المنسوب إلى غيره. هذا ما يمكن استخلاصه من دروس 56 منذ إنشاء دولة إسرائيل وأحد عشر عاما منذ مؤتمر مدريد و87 عاما منذ وعد بلفور. وهذا ما تعاود أحداث غزة وطابا الأخيرة إعلانه.
إسرائيل لا تستطيع أن تكون آمنة إلا إذا كانت مساوية لغيرها في المنطقة، وتخضع للقوانين ذاتها التي تخضع لها دول المنطقة الأخرى. وسياج الأمن الإسرائيلي الحقيقي ليس جدارا مبنيا في أراضي الغير، بل الإقامة مع الغير، الفلسطيني والعربي، تحت سقف واحد. بيد أن هذا التصور المساواتي يتعارض مع مفهوم إسرائيل كدولة ممتازة ليس كمثلها شيء في الشرق الأوسط والعالم. والتسوية (بمعنى المساواة وبمعنى الحل الوسط) بين إسرائيل والدول العربية متعارضة أيضا مع التجربة المكونة لهذا الكائن السياسي، وهي تجربة احتلال وطرد، قدر تعارضها مع عقيدة التفوق الإسرائيلي واليهودي ومع مفهوم إسرائيل كدولة يهودية صافية.
لذلك تؤسس إسرائيل أمنها على مراكمة القوة كتعويض عن عمق استراتيجي تفتقر إليه، ولكن بالخصوص عن عمق أمني ونفسي بعيد الغور. ولا ينبع القلق الأمني الإسرائيلي من تجارب التاريخ التي كان اليهودي فيها مباحا لغيره، ولكن من استثمار هذا المخزون العميق لمراكمة الجبروت العسكري من جهة، ولحشد وتثبيت الشعور بالتفوق الأخلاقي من جهة اخرى. وفي الرنين الأخلاقي المواكب لخطابات الإسرائيليين، بما فيها الأشد فاشية، إرواء لحاجة نفسية متاصلة. وربما يكمن جوهر هذه الحاجة في تسويغ رفض الخضوع لقاعدة واحدة مع الآخرين، وتاليا في معالجة ما يبثه الانفراد والعزلة من شعور بالقلق والخوف وفقدان الأمن، عبر تصعيده في عقيدة التفوق الإخلاقي. فالتفوق هو البديل عما يمنحه الالتزام بالقانون من مشاركة وشعور بالأمن.
لكن القوة المحض لا تضمن أمنا (أما عقيدة التفوق فلا تلزم غير المؤمنين بها). هذا من مبتذلات دروس التاريخ. وكل دورة جديدة من من القمع الإسرائيلي الساحق ومن نزع آدمية الفلسطيينين وجعل حياتهم جحيما، ومن المقاومة البديهية لهؤلاء، تعيد تأكيد هذا الدرس. فالأمن المحصل بالقوة يشبه شرب ماء البحر: كلما نال الشارب منه اكثر، ازدادا عطشا واحتاج إلى شرب المزيد.
ويتمثل مأزق الأمن القائم على القوة في ترسيخ الشعور بفقدان الأمن الوجودي دون النجاح، فوق ذلك، في حيازة الأمن السياسي. فإذا كان صحيحا أن شارون قد سحق الفلسطينيين أكثر من غيره، فإنه قد عمق المأزق الإسرائيلي أكثر من غيره ايضا.
ببساطة، لا أمن لإسرائيل بالدوس على الفلسطينيين وإرهاب العرب. لكن يبدو أن هذا يعادل القول إنه لا أمن لإسرائيل دون ان تغير مفهومها لذاتها كدولة لا كغيرها.
بالمقابل، يبدو ان سيادة دولة فلسطينية مستقلة قرب إسرائيل مستحيلة، بالنظر ايضا إلى التجربة المكونة للشعور الفلسطيني المعاصر، وهي تجربة تجريد وانحدار ومقاومة، وإلى صغر فلسطين وكبر الحلم بها. ستكون دولة فلسطينية مستقلة غير سيدة، وهذه إما وصفة للعنف وعدم الاستقرار أو قناع مختلف للسيطرة الإسرائيلية.
ولم تترك القوة الإسرائيلية المدعومة من الجبار الأميركي اي فرصة للتوهم بصدد سقف السيادة الفلسطينية، بل محض قابلية الكيان الفلسطيني للحياة. ولعل السنوات الأحد عشر المنصرمة على اتفاق أوسلو تبرهن على استحالة السيادة الفلسطينية، بل واستحالة الاستقلال الذاتي الفلسطيني. وهذا من حيث المبدأ يعطي أفضلية لفكرة دولة ثنائية القومية كحل للمعضلة المزدوجة: الامن لليهود والمساواة للفلسطينيين. لكن ينبغي القول ان التغيرات السياسية والثقافية والقيمية التي يحتاجها ما سماه ميشال فارشافسكي "تحدي ازدواج الوطنية" لا تقل عما تتطلبه دولة فلسطينية مستقلة من كفالة دولية للتعايش بينها وبين إسرائيل وللسلام في "الشرق الأوسط".
المستحيل الثالث هو استقرار الشرق الأوسط.
ففي اسمه الذي يضمر مركزية غربية جيواستراتيجية (هو شرق أوسط نسبة إلى مركز غربي وليس إلى أهله)، وفي تكوينه التاريخي في القرن الماضي، يعكس الشرق الأوسط الدور التشكيلي للغرب الراسمالي والاستعماري حيال هذا المركز العالمي والحضاري القديم. والشرق الأوسط خاضع لعملية تخليق مستمر بدأت في الحرب العالمية الأولى، بل في "المسألة الشرقية" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومرت باكتشاف البترول، وقيام إسرائيل دولة لليهود على حساب فلسطين وأهلها، ومرت بمحطات معروفة عام 1956 و1967 و1973 ...و1990 و2003 دون ما يشير إلى نهاية قريبة للخلق والتشكيل وإعادة التشكيل. وعبر محطاتها الكثيرة يتوحد مفعول هذه الفاعلية التشكيلية في تعطيل مفعول الديناميات الداخلية ضمن المنطقة وضمن العديد من بلدانها، والحد من تأثيرها في صنع حاضر ومستقبل شعوب المنطقة، اي بالضبط في أثره المضاد للديمقراطية.
ويبدو ان الشرق الأوسط مقبل على مرحلة عدم استقرار جديدة بفضل المشاريع الأميركية لهندسة المنطقة. ومن أهم ملامح الهندسة المذكورة الرفض المتطرف والمطلق للاعتراف بأي شكل من اشكال الرابطة العربية، عسكريا أو سياسيا أو معنويا. وتصل الضغوط الأميركية والإسرائيلية إلى حد تجريم الدعم المالي والتعاطف الإعلامي مع المأساة الفلسطينية في وقت تنكفئ اطقم الحكم في الدول العربية بموقف دفاعي، وتعجز، وهي غير المنتخبة، عن القول إن القرابة التي تجمع شعوبها بالفلسطينيين تحتم عليها نصرة كفاحهم.
ليس لما يمكن أن نسميه تحريم العروبة في إطار الهيمنة الأميركية المباشرة اية علاقة بالنقد المشروع لأشكال التفاعل العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا بنقد عقيدة القومية العربية وسابق تسخيرها لأغراض هيمنية. فهو لا يصدر عن اعتبارات ديمقراطية او تنموية او استقلالية، بل عن رغبة في استتباع دول المجال العربي كلا على حدة والتحكم بتفاعلاتها البينية واحتكار القرار الجيوسياسي والجيواستراتيجي في المنطقة، وقطع السبيل على احتمال نشوء تكتل اقتصادي او سياسي في منطقة مجاورة للغرب الأوربي والأطلسي. الأمر يتعلق بمحو تام ونهائي لكل ما يتعلق او يذكر بالفكرة القومية العربية. وفي هذه كله عنصر ثأري من قبل اليمين الغربي من حركة القومية العربية التي رفضت في الخمسينات والستينات الاندراج ضمن استقطاب الحرب الباردة والاعتراف بالكيان الإسرائيلي في فلسطين، ودعمت الحركات المناهضة للاستعمار الغربي، فضلا عن اعتبارات "حضارية" لا مجال لإنكارها.
والراجح في نظرنا أن العداء المتطرف لأية تعبيرات سياسية أو مؤسسية للواقعة العربية سيكون مصدرا مستقبليا للتفجر وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط الجديد. وهو في الجوهر عقائدي وغير واقعي ومضاد للديمقراطية، حتى قبل ان يكون مضادا للرابطة العربية.
هذا العداء الجذري يقرب السياسة الأميركية من السياسة الإسرائيلية بنسختها الليكودية الشارونية. وهو ما ينذر بمستقبل من لا استقرار قيامي في الشرق الأوسط. كان 11 ايلول مثالا اول عن نمط العلاقة المتفجرة التي تجمع العرب والأميركيين. والمقتلة الفلسطينية المؤبدة مثال آخر. والخاووس العراقي مثال ثالث. هناك عنصر قيامي في الحالات الثلاث. وعنصر "حضاري" في الحالات الثلاث. وليس من الضروري ان ينجم الصراع عن اختلاف الحضارات. إن تمادي الصراع يولد اختلاف الحضارات ويثبته، ويضفي عليه طابعا جوهريا، ويمنحه طابعا قياميا. وأعني بهذا مزيجا من الهول والدينية والخروج على المقاييس ودغدغة أخيلة الجحيم الثاوية في أعماق النفوس.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟