أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عباس الظاهر - فوق المطر... تحت المطر















المزيد.....



فوق المطر... تحت المطر


طالب عباس الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 3412 - 2011 / 6 / 30 - 09:15
المحور: الادب والفن
    


فوق المطر... تحت المطر
قصة قصيرة
طالب عباس الظاهر
صباح داكن من تلك الصباحات الشتوية الباردة التي توحي بانقباض النفس، والمطر ما زال يهمي.. يهدأ حيناً فيغدو نثيثاً ناعماً يدغدغ الوجوه والأطراف، وتتقاذفه تيارات الهواء المتضاربة، ثم يشتد حيناً آخر بشكل زخات سريعة مباغتة، تطارد خطى الهاربين، إلا إنه مستمر بالنزول من دون توقف منذ الليل، من سماء مدلهمة وملبدة بالغيوم الكثيفة في وجود رمادي، لا يبدو فيه أي أمل للإشراق، وليس يدري سمير سعدون لم هذا الطقس دائماً يستفز في نفسه كوامنها النائية بهذا العنف، ويستنهض فيه مثل هذه الأحزان البعيدة ، الموغلة في القدم والمجهول وهو يباشر بقسمه الجديد الذي نقل إليه في الطابق السابع من سماء المدينة لأول مرة.. نتيجة حركة خبيثة من قبل رئيس قسمه السابق أستاذ فخري .. فيودع جم الذكريات التي عاشها هناك في قسمه القديم في الطابق الأرضي من العمارة لسبع سنوات متواصلة.. تبدو الآن أليفة رغم قسوتها.. فتمطره بوابل الحنين وتهيج دفائن الأحداث الباردة .. النائمة في سكون الذاكرة ودهاليز النسيان.
بعدها وعلى حين غرة ، تنبثق طقوس حزنه.. أجل .. الحزن ذاته الذي لن يتوصل ـ مهما حاول ـ لمضمر الأسباب التي تدفعه بغتة إلى السطح من بركة مشاعره، وغالباً ما يعجز عن تحديد ماهيته لامتزاجه اللامعقول بإحساس عميق باللذة ، ويحسب بأن هذا العالم أضيق من أن يستوعب جموح ثورته الداخلية التي اعتاد مع نفسه على تسميها بـ(الأحزان الأسطورية).
ـ سمير.. أفقْ من آلامك هذه وعُدْ أرجوك من هذا الاغتراب !
محض نوبة هستيرية جامحة تتقمصه ؛ فيبصق بوجه الفراغ ، ويتمتم مع نفسه ببضع كلمات مبهمة ، ويلعن ويشتم غاضباً، ثم فجأة يقهقه بسخرية مريرة ! فعندما تعجز الدمعة عن استيعاب عربدة الألم ؛ تقفز الضحكات كمهرج يعتلي كرسي السلطان .. إلا انه ينزلق على متن موجة عاتية لتلك الإحتدامات الحسية المتلاطمة في أعماقه السحيقة.. وتجره نحو البعيد ؛ فتتلقى راحتيه دفء قطرات حارة من دمعه ، رغم انه اعتقد بجفاف ينبوع الدموع فيه ، وسط عالم الصقيع وهو يقف في حضرة يوم للحزن رهيب ، هاهو ينتصب قبالته وفي ذاته كالمارد العظيم .
ففي زمن يصعب مجرد تخيل مرارته حتماً يصير للأشياء ـ كل الأشياء ـ طعم الرماد ، يخرج علبة سجائره ليبدأ يومه الجديد بالدخان الذي أقلع عنه بصعوبة خلال الآونة الأخيرة ، بعد شراهة قل نظيرها في التدخين ومكابدات جسيمة في الإقلاع .
ـ هل تراك الآن يا سمير سعدون تعدُّ من حزانى العالم أم من سعدائهم؟!
قطعاً فهو لا من هؤلاء ، ولا من تلكم .. بل لعله مزيج من الاثنين معاً، وربما شيء غريب ثالث لإستحالة وجود عواطف مطلقة بحد ذاتها دون أن تكون كردود أفعال لغيرها ، فيحاول أن يغوص عميقاً نحو الدهاليز المنسية في ذاته ، وهو يبحث بجدية في السبب والأثر، بيد إنه يرتد خائبا وهو أكثر انكساراً ، شأن كل محاولاته السابقة .
أيا للسخرية .. أيعني تعدد الأسباب، تضاربها ، تراكمها ، تصادمها وتشظيها؛ إن لا سبب هنالك ! أيعقل مثل هذا الحكم؟ أم إن مجرد القصور عن إدراكها يجيز إلغائها أو سحب معقوليتها على الأقل؟ وهو يبصرها بحسه إبصار اليقين ويؤلمه تمزيق سكاكينها ، وإحراق نيرانها، لكنه يدرك جيداً بأنه لا يمكن أن يكون حزيناً وحسب ، لأنه يتألم بصميم إنسانيته ، ربما هو فرح مقدس له طقوس الجرح ومراسيم التطهر بالاحتراق اللذيذ ، ولعلها تعد أقدس الدموع تلك التي تذرف لا حزناً ولا فرحاً .. بل هكذا للحلاوة في مرارة الحقيقة .. لجمالها ، لنقائها ، لروعتها..!!
أجل فان الدموع تاريخ محتشد للآلام وللأفراح معاً ؛ عندما تخرس الحروف والكلمات واللغة برمتها ، فيلجم المعقول واللامعقول وأشباههما بالعمق المستحيل من الذات .. وإلا بِمَ يمكنه تفسير هبوب زمهرير هذه العاصفة الهوجاء على مكنوناته الدفينة ؟ وقد بات يسمع لها هسيساً في قيعانه الصفصفا، وأنى له أن يجد السبيل لوصفها بتحنيط المحسوس وتحويله إلى ملموس؟ أم إن إحساسه بكل هذا الخراب الروحي والانهيار النفسي بالإمكان عزوه لمجرد نقله إلى هذا المكان الجديد من الطابق السابع والأخير من العمارة ؟ حيث الصمت والفراغ والسكون المخيف وتحجر الأشياء ، وإصابته بالغبن دون العشرات من أقرانه المستخدمين والموظفين ، بفعل التدبير الماكر لرئيس قسمه السابق أستاذ فخري ذاك ، إضافة لما سيترتب على هذا النقل من حيثيات كثيرة متناقضة ، فتحضره تفاصيل تلك الحكاية المثيرة التي طالعها وهو صغير أيام المدرسة عن الشاطر حسن و(قصة ذلك المغامر الشجاع الذي اختبأ داخل جسد خروف مسلوخ فحمله النسر العملاق إلى قنة جبل الرصاص المحاط بالبحر من كل جانب ، والمائجة مياهه بالكواسر، لإكتشاف سره العجيب ؛ فيُصدَم حين وصوله الى هناك بأن الصاعد لا يعود ، ويجد بأن كل الذين غامروا من قبل ، قد حولهم الساحر إلى نصفين نصف آدمي والنصف الأسفل من رصاص، وهذا سبب اختفائهم ؛ فيقذف بنفسه إلى البحر بعجلة قبل تحوله هو الآخر ومسخه .. فجأة ليجد بأنه على الشاطئ وقد حملته إليه سمكة عملاقة)
قطعاً فإن الأمر برمته لا يستحق الجزء من هذا الذي يعاني .. اجل بيد إن ما استفزه هو ما يستحق فعلا .. شيء مؤسف أن لا يمكننا ملاحظة سوى وجه البركة الهادئ عادة ، أما كل ما دون ذلك فيبقى قيد الإهمال لأنه محجوب عن الرؤية .
(ينقل السيد سمير سعدون إلى المستودع بديلا للمرحوم عطية أيوب مسافر شاكرين تعاونكم معنا خدمة للصالح العام).
انه هو، ومن سواه توفرت لديه الدوافع ليتبرع ، ويعرض رغبته السوداء تلك بثوب البراءة الأبيض باسم التضحية والتباكي بدموع التماسيح على المصلحة العامة ، التي كثيراً ما يعلق المنافقون نواياهم الخبيثة على شماعتها ، لتكتمل الحلقة المفقودة في خطوط الخديعة .. بعد أن أضيف لها هذا الاشتباك الجديد ، وأحكم حوله طوق الحصار، وسدت بحقد كل المنافذ أمامه ، وكل الحلول ، كل السبل ، كل المسالك وكل التوقعات المحتملة .. حتى غروب ذاتها ومنذ البداية ـ كما يبدو ـ سئمت اللعبة ؛ لعبة الانتظار العقيم في تحسن حالته المادية التي تؤهله للتقدم لأسرتها الغنية وطلب يدها ، رغم كونها إشراقته الجميلة ، والنافذة الأخيرة ونقطة الضوء الوحيدة المتلألئة في عتمة ليل أساه الطويل .. هاهو سوء طالعه العتيد يطالها هي الأخرى بأظافره الغادرة ، وأنيابه المتوحشة فتبدأ في الرحيل عنه ، رغم سحرها الطاغي وحسها المرهف وأنوثتها البريئة ، إلا إنها لا يمكن أن تدرك السر الخالد في عشقه الوحشي للدفء والأمان اللذين إفتقدهما من حياته الى الأبد ، فمن أين لها هذه الدقة في حساب النتائج ، وقسوة الفرضيات الممكنة وهي الحمامة اللطيفة .. بل الوردة البيضاء؟ وكيف اقتحمت الضوضاء سكون ذلك الغبش الحالم بالأمنيات الندية ؟
لعله انقياد فطري لا غير للأنثى التي فيها ، وربما كان دافعها مجرد إفراز طبيعي لقصور تربيتها العصرية التي ترعرعت في خضمها ، النافخة في جانب المادة المهم ، كدعامة أساسية للسعادة ، وتهميش بقية الجوانب لخلق مثل هذا التشوه المريب ، خاصة وهي سليلة الترف والحياة الباذخة لأجواء العاصمة ؛ فما ذنبها إذ لا تتحرك مشاعرها مع أصدق العواطف السامية ، وأنبل ما يمكن أن يجيش به صدر الإنسان ؛ بقدر طيرانها حتى دون إرادة منها بالقليل من بهرج الحياة وزيف وعود المادة .
ألأنَّ كل تلك الأشياء بالحقيقة فقدت قيمتها كما تعتقد هي؟ وقد بدأ التشكيك بأشد قناعاته رسوخاً ، وإنها حقاً مجرد مثاليات ، لا مكان لها في هذا العصر كما تقول :
ـ غروب.. أرجوك حاولي أن تتفهمي وجهة نظري؟
ـ سمير.. أنت خياليٌ أكثر مما يجب.
ـ خيالي؟!
ـ وأنا أحاول التفكير والتصرف بواقعية!
ـ الحب لا يعرف سوى التحدث بلغته الوحيدة التي يجيدها مذ كان.
ـ أن شيئا ما، يمنعني بقوة من الاستمرار؟
ـ لأنك لم تكوني تحبين سوى نفسك.
ـ ربما؟
وربما ما كان ليمنعك شيءٌ لو لم أكن فقيراً..!!
ـ ..........!!
تتراكم جبال الثلج ويزحف الصقيع نحو وجه السماء ، فكيف النجاح في تذويبه بهذا السيل من الدموع ؛ إن لم يشحذ تاريخ أساه ، يستنفره كي يحظى بهذا التفريغ اللذيذ الذي ينسكب كالشهد في فم وجوده الموغل عميقاً في الماضي السري للإنسانية، وليس يدري سبباً لإنثيال ذكرى جميع الذين رحلوا من حياته .. وكل تلك الصور المرعبة والمعارك الطاحنة التي خاضها قبل إصابته في ساقه بتلك الإصابة اللعينة ، وخروجه من الجيش على الأثر ، بعد عدة عمليات جراحية لم يكتب لإحداها النجاح .
حينما مات أبوه لم يترك له سوى فقر موروث عن جده ، وأسرة صغيرة سرعان ما تخطفتها مخالب الموت.. ليغدو وحيداً ويعيش وحيداً بهذا الشكل المؤسف .. أخوه الوحيد فقد في جبهات القتال في الجنوب في إحدى معارك الفاو لتموت أمه تأثرا عليه.. وهي تتأمل عودته إليها حتى قبل موتها بقليل ، وكانت تسأل عنه حتى العصافير والرياح القادمة من هناك علها تشفي لهف أمومتها ، وأختيه لم يعرف لهن سبيلاً بعد خروجه من المستشفى العسكري خلال الحرب الثانية، وقيل إنهن سحقتا فيمن سحق أبان الأحداث الدامية التي اجتاحت مدينته الحبيبة كالطوفان، بعد القضاء على الانتفاضة الشعبية العارمة ، واجتياح الجيش للمدينة من بعد قصفها بشدة وزج الرجال في السجون وإعدام وسحق الآلاف ومن ثم دفن الناس أحياءً في المقابر الجماعية من الأطفال والنساء والشيوخ ، وخراب المدينة تحت رحى الحرب الطاحنة ، وعلى الأثر هاجر إلى العاصمة للعمل والسكن ، هرباً إليها كالمئات من الشباب الهاربين من جحيم الحياة في مدينة الموت، واستقر فيها .. وأي استقرار ذلك الذي عاشه هناك.. مشتتاً.. مشرداً.. منكسراً.. وضائعاً ، بين فوضى آلامه ووحدته وغربته، متنقلاً مابين الفنادق الرخيصة والدور القدرة والأماكن العامة .
إنه إذاً يصطدم في الجدار الصلب لنهاية الصبر في دمه ، وهذا الانقلاب في حياته الوظيفية ربما يتكرم فيمنحه اليأس الكافي لاقتحام ظلمة المجهول بشجاعة ودون هيبة ، دون مبالاة ، ومن دون أسف .. لأن تعباً روحياً يضج في أعماقه بجنون ، وقد افقده لطاقته التحملية على تلقي المزيد من الخيبات والخسائر .. المزيد من المطبات لحظه العاثر .. وبالشكل الذي يدعو إلى الضحك حقا..!!
كيف يتسنى له التكيف مع وضعه الجديد ، وتحوله من النقيض إلى النقيض ، ومن الزحمة إلى الفراغ ، وهو يرقب أجمل أيام شبابه وهي تجفّ بصمت وإهمال ، وتتساقط كوريقات الخريف في يوم عاصف ، يلفه الضباب وشمسه تحجبها سود الغيوم ، في فصل للرحيل يستطيل بلا نهاية ، ويلتهم كالغول بقية الفصول!
يا له من مكان ناءٍ ومنعزل تماماً عن حركة المراجعين والموظفين ، وعن كل شيء ، وبعيد عن غروب ، بعد أن كان مجرد قربها يعني له كل الحياة ، وقد عاش فعلاً في هذا الخضم قانعاً لسنوات ، يغزل من حزنه أشجاناً ربما لم يعرفها قيس في ليلاه ، مكتفياً من بذخ الحياة بالفتات فتومض في خياله بعد أن تسقطه دوامة التفكير شبه مغمياً عليه : حقيقة انه ما عاد يعشق شيئاً من هذا الوجود سوى حزنه ، وقد صار له مدمناً، اجل.. ليس مهما سوى وجودها ، وربما كانت بنزقها.. بغرورها.. بعنادها.. أكثر تأثيراً عليه ، وكأن الحب لا ينمو إلا في الجفاف والجدب ، ولا يزهر إلا بالحرمان ، ولا يستمر إلا بالألم .
- يا أخي إنساها... إنساها...!!
وربما لذكرى الحزن وقع أعمق وأبقى ، وكم سهر الليالي يرنو إلى سطوع ضوء نافذتها ، يبث الليل لوعته رغم إسدال ستائرها ، فينسج من ولهه الكلمات شعراً ، أو يلهم بأفكار رسوماته الغريبة ، فيطلع عليه الصباح وهو هناك ، وقد بلّله الندى وأجهده السهاد ، وربما أغرقته وسنات الكرى ، لتقذف به نحو شطآن الحلم العجيبة .
أما الآن فلن يستمتع بقربها الأليف لروحه ، وهو لا يطيق رؤية ذلك الوجه ثانية ، أجل وجه أستاذ فخري ، وقد أزاحه بشكل غادر عن طريقه ، وإذا حاول الذهاب ستُعَدُّ عليه النظرات واللفتات إليها بعد أن صار غريباً عن حبه الأوحد! ، وقد نذر له ما بقي من سنينه المجدبات ، بل وغريباً عما كان يألفه منذ سنوات ، مع إدراكه فداحة ما يبذل في بخل الحصاد.
يا للبؤس؛ حتى هذا البصيص من قربها سيفتقده أيضاً ، وسيطرق على أشد الأوتار حساسية في تكوينها.. مرة بتقديم هدية (متواضعة) لكنها ذهبية الثمن ، وأخرى بتوصيلها بسيارته الفارهة لأنه يجدها هكذا في طريقه مصادفة!
وبالفعل لمحها اليوم عند بدء الدوام تنزل من سيارته ، بيد انه الاختيار الصعب ، ولعل البعد سيدعوها إلى نسيانه وترميم ما تبعثر في كيانها ، وربما يصرخ الفراغ الذي كان يحاول جاهدا تأسيسه في إنسانيتها من خلال قصائده وتخطيطاته ورسوماته ، فتحن لسماعه بعد أن تتفجر أذنيها بفوضى الأصوات الصاخبة المتبجحة وتلونها.. وتفتقده وتحاول أن ...!
انتبه إلى إن تساقط المطر كان غزيراً ، وقد بدأت كرات البُرد الصغيرة ترشق زجاج النافذة بقوة.. كأنها تحاول تهشيمها بعصبية.. وعدد من البلورات البيضاء منها تتجمع على الحافة من الخارج ، وتبدأ بالذوبان ببطء شديد .. ثم تتلاشى.
يا له من فراغ مخيف هذا الذي قذف إليه كذرة غبار حقيرة في هذا المدى اللامتناهي .. كأنها قنة جبل الرصاص ذاتها في تلك الحكاية الغابرة ، من زمن الطفولة الحلمي الألوان ، لجبل الرصاص المرعب ذاته ، مكان مهمل من الطابق السابع والأخير في العمارة ، المقبرة أو المنفى كما يسميه بعضهم تندراً ، حيث الصمت والهدوء والفراغ ، وجهاً لوجه مع السماء ، مع الهواء ومع الغيوم عبر الواجهة الزجاجية الواسعة المؤطرة بالألمنيوم ، خلف المكتب .. على هذا الكرسي بالأمس وجدوا المرحوم عطية أيوب مسافر (أبو هندة) ميتاً ، وقد تدلّت رقبته إلى الوراء متكئة على الأوراق والأضابير والسجلات القديمة .. المصفرة كوجوه الأموات ، وهي لم تزل تعج بفوضاها الأزلية ، غارقة في غبرة الإهمال ؛ لارتباطها بالراحلين فقط ، فتدخر السنوات الميتة وزمن متهرئ أغلفته مهارة معاول الحفارين ، وحذقهم لقبر المزيد من الأجساد الهامدة من أجل الصفقات المربحة.
هكذا من دون أية مقدمات ، وبهدوء تام أعلن المرحوم عطية عن تمرده على الخدمة التي زادت على الثلاثين عاماً.. بل تمرده على الحياة ذاتها وزحف ما يقرب الستون من السنين على واقع حاد كالشفرة.. وقاس كالحجر أو هو أقسى .. فلم يجدوا في الغرفة بعد نقل جثمانه إلى المستشفى ما يثير الريبة ، ليدون في الكشف الجنائي الخاص بالحادث ـ كل شيء مثلما كان وسيبقى ـ سوى بعض أعقاب سجائر وأعواد ثقاب متزاحمة في المنفضةٍ رغم ما عرف عن إقلاعه هو الآخر عن التدخين خلال الآونة الأخيرة قبل وفاته ، توفيراً لما ينفقه في إحراقها أو احتمال انتحاره .. كما كانت تلك الهواجس تحاول أن تزرع لها قدم صدق في تصورات سمير سعدون أو ممن اطلع على الظروف المعاشية المتدهورة لأسرة المرحوم الكبيرة المكونة من سبع بنات وانفلات زمامهن من بين يديه أخيراً ، إذ انه كان يلتحق بعمل آخر بعد خروجه من الدائرة ، فيكاد يقضي نهاراته خارج البيت ، إلا أن الأمور كانت دائما تتفاقم وتفضي به إلى طريق مسدود ، فلاكته أنياب الفضول بقسوتها دونما رحمة ، وتناقلت خبره الألسنة بشهية الذباب حين وقوعه على قطرة سكر.
إذاً ، فقد نام الحقد الدفين بين جوانح أستاذ فخري ذاك لزمن استطال، وحينما سنحت له أول فرصة هبَ لإستغلالها على أحقر الوجوه ، في الوقت الذي اعتقد فيه الجميع ، بالتئام الخدش الذي أحدثه خلافهما ذات يوم ، ولكن من الطبيعي أن يتصارعا وينشب بينهما ذاك النزاع البارد أو عدم الارتياح .. فعمر الأضداد لا تأتلف لتستمد الحياة عبر جذورها الطاقة اللازمة لديمومتها .. ربما كان يفكر بها حينما صدر الأمر الإداري للنقل ، لعله فخور وشامت ، إذ انه لم ينجح حتى في إخفاء غبطته ، وقد لاحظه الآخرون ، ورثوا لحاله ، لكنه من المؤكد بأنه يجهل تماماً تقديمه لسمير سعدون ، ما لا يستطيع تقديمه اقرب زملاؤه وأخلصهم إليه.. بل وأكثرهم حكمةً وتعقلاً.. فلعل هذا ما كان يحتاجه بالضبط .. لأنه العلاج الناجع لمحنته معها من جهة ، ومع نفسه من الجهة الأكثر أهمية ؛ الحل القاسي لكنه المطلوب ، كالاستئصال بالجراحة عندما تستنفد سبل العلاج بالعقاقير.. بالهروب من قربها المدمر ومن وحشية النزيف ، وثورة الشك بسبب الاحتكاك المستمر بحافات الجرح الموغل عميقاً ودون انتهاء ، هنا وهناك في كل يوم وفي كل لحظة.
ـ أهرب سمير، فإن السماء الرحوم أمك.. أمنا ، إختارتك أنت بالذات دون غيرك، وهي تعي جيداً مغزى هذا الاختيار.
أجل وان تلبس سمو الخيار بهيئة رغبة قذرة من فخري هذا ، كي يطير من مستنقع الجرح إلى نقاء الفضاء السابع من سماء المدينة ، ليقطع حبائل حبها المستحيل ، وليهرب بعيداً صوب الرحيل ، لأن الطريق إليها يحفه ألف ألف شيطان رجيم ، هي غنية وجميلة ، وهو فقير وحقير، هي تدرك أو تعلمت الإحساس باتجاه التيار بحدس تجاري وتحاول اللحاق به ، وهو يكابر ويسير بالعكس ضده ، مراهناً على حقيقة قد تحتاج من السنين أضعاف مضاعفة من ثلاثين عمره للوصول لمشارف دولتها ، هي تضحك من عناده ، وهو يبكي عليها وعلى الإنسانية المغمضة الضمير التي لا تدري ما تفعل.. ولن تدري!! فتجمع في القتل ما بين الأولياء والسفلة ، بل لعلها على الأولياء وأصحابهم أكثر قسوة ووحشية فتذبحهم وتجزرهم كالأضاحي..!! ليظل يسقي طهر دمهم شجرة مجد الإنسان.
ما هذا الإحساس العارم بالمأساة الذي يغزو أوردته وخلاياه بالمزيج العجيب المتناقض ذاك ، في ذات الصراع الشرس ما بين القسوة وعتمة واقعه ، وبين نقاء الرؤيا وجمال سطوع شمس الحق التي يلمحها في ذاته والإيمان المطلق بعدالة القدر، وحتمية التسليم الشجاع له ، والحاجة الملحة للراحة والنسيان من ضغط الاستمرار لفصول الآلام وغدرها.. اختيار قسري لحلول متطرفة حد الجنون ، كم كان يعتقد بأن مثل هكذا وضع سيساعده على ترويض القلق ، والتأمل الطويل الهادئ ليكون (سيزيفاً) عصرياً ، ينحت في صخرة الواقع حروف حكايته الأسطورية بمعاني تحديه المعجز، فينظم ما بعثر فيه من حيثيات كثيرة متناقضة.. ليبدأ من جديد ثم يسعى ليصبح في القريب العاجل مؤهلا وزوجا مثاليا تتمناه غروب ويتمناه غيرها .. فيحاكي العصر بلغته الوحيدة التي يفهمها بغريزته ، بدل ما يكابد من وقع خطى العدم في جنان كينونته.
ـ عجبا منك.. ما الذي تبغيه بالضبط.. سمير ألست أنت.. أنت..!!
نافذة واسعة من الطابق السابع ، فضاء شاسع ، سماء مفتوحة رمادية اللون ، وهناك الغيوم الداكنة كخيول عجيبة تتراكض في سباق كوني في مضامير ممتدة نحو البعيد والى ما لا نهاية، والى الأسفل .. شارع مزدحم على الدوام بالناس والمركبات ، سيل جارف من الأطماع والشهوات يكتسح معه شتى الرغبات ، أمواج صاخبة تحمل على سطحها آلاف النفايات.. آلاف القشور.. وآلاف الجيف المتفسخة، وتمور في دواماتها ملايين النزاعات السرية كلها تصرخ: بـ(البقاء للأتفه..!!)
ـ تمهل يا عزيزي.. تحرر فلا ولن يؤلمك أو يزعجك بعد الآن شيئاً.. إن تطهرت من أدرانك الثقيلة هذه ، فها أنت وقدسية السماء ، أنت وبلاغة الصمت ، أنت ونقاء المطر، أنت وحلاوة الذكرى، وها أنت وعدالة الموت..!!
كان زعيق محرك السيارات المنطلقة بسرعة جنونية للدخول أو الخروج من نفق الجمهورية من والى ساحة التحرير ، وزمارة منبهاتها الزاعقة بلا هوادة ، وصفارات شرطة المرور التي لا تهدأ عند إحدى التقاطعات القريبة ، كل ذلك وغيره الكثير يصل إليه ضعيفاً.. واهناً.. شبه متلاش كأنه من عالم آخر والأشياء تنأى عنه.. تندس في ضباب اللامبالاة.. يفتح درفتي النافذة على مصراعيها، يباغته صخب المدينة ، وهو يضج في أذنيه من ميدان الباب الشرقي القريب ، و تهجم عليه رطوبة الهواء الندي .. يستنشق بعض نسيمات لطيفة بعد أن هدأت كثيراً حدة المطر.. كأنه لأول مرة يستنشقها ليبرد من حرارة الغليان في صدره ، ويعبئ منها رئتيه بلهفة.. ما أعذبها وما أشقاه ، يحس برغبة ملحة للتوحد مع ذاته المطلقة ، فتمنحه الشعور بالحرية التامة ، ليهادن تلك الأوجاع الملتصقة به كإسمه ، والمعلنة علية الحرب منذ وعى لأحداث هذا العالم الغريب ، ليتسنى له بعد ذلك، أن يسخر منها في سره ويتحدى الألم ويركله .
ـ ألم يكن هكذا هو حلمك يا أخي منذ نعومة أضفارك؟ متسع من الوقت وورق للرسم والكتابة تؤطره هذه العزلة الرهيبة.. ومن خلف الزجاج تراقب تساقط المطر.. إذاً فما الذي يتغير؟
[لوحة الرأس السجين في القفص والحمامة البيضاء في عشها في مفرق الرأس وظل العقرب المتسلق قضبان القفص.. الساقط على النصف المضيء من الوجه، والى أسفل القفص، كوز الماء الجاف تماماً منذ أمد طويل فيما يبدو، وحبة الحنطة الوحيدة.. كلها تنتظر اللمسة الأخيرة منك ]
يشدّه مرور بعض حمائم من أمام النافذة ، وهي تنتقل بانسيابية من عمارة إلى أخرى ، ومن طابق لآخر.. كأنها تتحداه برشاقتها ، تسخر من الكم الهائل من القيود اللحمية والعظمية وهي تكبل اللحظة في أدق خلاياه..!
يراقب طيرانها العجيب.. يسحب نفسا عميقاً من سيجارته.. ينفث الدخان بوجه العالم جحافل بيضاء كثيفة ، ويتحسر وهو يتابع تصاعد لفائفها نحو الأعلى ، ينتبه بان المطر ما زال ينزل بهدوء دونما توقف ، فيداعب الزجاج بتلك التكتكات الأليفة التي يعشقها تتك.. تتك.. تك.. تك.. حتى يكاد يتوقف ثم يشتد في الحين الآخر، بيد انه عبثاً يحاول غسل أدران العالم.. وا أسفاه.. فات الأوان ، وانتحرت الفرصة الوحيدة للسعادة والأمان ، اللذين حلم بهما طويلاً ، وحنّ إليهما حنيناً موجعاً حدّ الكفر بهماّ..!
ما كان يحتاجه ويحلم به منذ سنوات عديدة هو ذاته هذا السكون، وهذا الفراغ ، وهذا المطر، وضباب هذا الشتاء ، اجل.. خاصة بعد هدوء غضب مثل هكذا عاصفة هوجاء .. أما الآن ؛ فالمسألة تتخذ شكلاً آخر.. والأشياء تفتقد نكهتها ، والقرار المحبط يتسلل إليه كدبيب كائنات متناهية الصغر.
[عقرب اللوحة يرفع ذنبه القاتل ومتجه نحو قمة الرأس الأسير، بين قسوة حديد قضبان القفص ، والحمامة البيضاء تقف فوق بيضتيها بتوجس ، تنظر إلى تقدم العقرب الخطر، بينما تقاطيع الوجه ونظرات العينين تستمر هادئة يغلفهما حزن شفيف]
يغمره إحساس كأنه ينتقل إلى جزيرة لا إتصال لها بهذا العالم لنقل القديم .. مذعناً للمشيئة التي حكمت أن يكون.. وحيداً.. ضائعاً .. ومشرّداً ما بين الأرض والسماء ، تجذبه أحلام ملائكية للتحليق عاليا ، وتتمسكه رغائب الطين بقسوتها .. لعلّه رحيل ما، يغزو أوردته وخلاياه .. بل ويحتل مساحة وجوده بأكمله.. ويضايقه في الحيز الذي يشغله.. ويسد عليه منافذ الضوء والهواء .. ألأنه في غرفة مات صاحبها بالأمس القريب فقط ؟ وما زالت أطيافه نشطة في هلعها تميس الأشياء للتأكد من وجودها غير الملموس ، وبقية فلول أنفاسه ما زالت لم تغادر المكان في إنسحابها نحو العالم الآخر؟
ولكن أهناك ثمة علاقة للموت بالغرف والأثاث؟ إذاً لم هذا الإحساس؟ وكأن الموت وباء معدي .. كما يشعر به بالرغم من معرفته الأكيدة ، بأنه ليس كذلك .. فتتراءى لعينيه ظلمة القبر ووحشته بالفناء ، في كل دقائق الغرفة البائسة كأنها ماتت هي أيضا بموته!
وذاك الكرسي الذي مات عليه المرحوم .. لا.. لا يستطيع التقرب إليه فضلاً عن الجلوس رغم تعبه ، لان هيبة ما.. تجلل الأشياء.. تمنحها هذا المعنى الآخر الرهيب.
ـ أستاذ عطية.. أين حلّ بك المقام؟ هل تسمع صوتي وترى مكاني، فأنت قريب قريب حتى التلاشي وبعيد بعيد حدّ النسيان..!
عجباً ولشد ما يجذبه الشوق بأياديه الوهمية ، لمعرفة السبيل التي ينبغي سلكها للخلاص الهادئ بموت مريح فيتبعها ؛ وبدء الرحلة صوب الأبدية...! أم هي المحطة الأخيرة ، ومن هنا يقذف بالأحياء إلى قاع الموت السحيق ؟!
لا شيء يثير الريبة سوى بعض أعقاب سجائر كانت تتجمع في قعر المنفضة ، فوق طاولة الكتابة بجانب السجلات الضخمة ، هناك سيجارة تركت تنطفئ بهدوء .. لماذا ؟ ما زال الرماد يتكتل عند رأسها كذيل بصورة مثيرة .. وتلك أخرى أطفأت بعد إشعالها مباشرة كما يبدو، ترى أية ومضة استلمها من السماء.. وسرعان ما استجاب إليها؟
[نظرات الرأس البائس تبدو باردة ومطفأة.. وهي غير محددة الاتجاه.. فيها شيء من التحدي السلمي ، ظل ابتسامة تعبر الشفتين بوجوم .. فتكتم صرخة رفضٍ ما، إلا أن التقاطيع تنبئ عن استسلام شجاع]
فجأة.. يشد انتباهه بعنف صوت مزعج كالزعيق إلى الأسفل منه تماماً .. فيرى امرأة عجوز تحاول بدبيبها البطيء عبور الشارع ، من أمام بوابة العمارة ، والسيارة تنزلق نحوها بجنون؛ فتصدر فراملها ذلك الصراخ ، تصدمها بقوة فينقذف جسدها إلى منتصف الشارع ، وعلى الأثر تطير مجاميع متفرقة من الحمام الرمادي والعصافير وبعض طيور ملونة نتيجة صوت الاصطدام العنيف ، ترتسم في مخيلته تفجعات أمه في لحظاتها الأخيرة قبل الرحيل ، لكن الطيور سرعان ما تعود إلى أماكنها ، فيتجمهر جمع غفير من الناس بسرعة عجيبة حول الحادث ، كأنهم انبثقوا من المكان ، وقد راحت تتكون بقعة من الدم بلونه القاني حول رأس تلك العجوز ، وتعمّ الشارع فوضى المتفرجين، ولا تجدي نفعاً.. تحركات شرطة المرور للسيطرة على الصخب المتعاظم ، ومحاولة فتح الطريق أمام طوابير السيارات التي راحت تتوقف على الجانبين وهي تطلق زمارة منبهاتها دون جدوى .. خيل إليه إنها مجرد دمى متحركة والسيارات لعب بلاستيكية ملونة حمر وصفر وخضر و.. و....!
وبعد زمن التأخير.. تعود الروح إلى جسد الشارع ، ويستأنف الجريان بعد أن رفعوا الجسد العجوز الهامد ، وسكبوا أوعية المياه ليبددوا بقايا الدم .. كأنهم يحاولون التخلص من آثار الجريمة ، لا يدري لماذا شعر بأنه مجرد مشهد تمثيلي ساذج ، لم يثر فيه سوى المزيد من السخرية واللامبالاة ، أشعل سيجارة أخرى .. امتص منها نفساً ، دعك رأسها في المنفضة بقلق دون وعي منه..! أخرج الثانية .. أشعلها ثم وضعها على حافة المنفضة.. تسحبه قدماه خطوة أخرى نحو النافذة المشرعة التي بدت له كفاه الأبدية ، يلتصق بها جسده يحس ببرودة معدنها تتسرب إليه ، وتهاجم أنفه حدة رائحة التراب عندما يبلله المطر .. فيرشق وجهه بعض رذاذ ناعم ، نتيجة سرعة الريح ، لا طعم لشيء ألبته ، يدرك بأنه ما زال يرزح تحت تأثير شعور عارم بالمأساة ، الممتزج بفيض لذيذ من الاسترخاء ، وبشيء من الخدر ثم يحس بالحاجة إلى إغماض جفنيه ،لأخذ قسطٍ من الراحة ، والنوم إلى مالا نهاية ، هرباً من كل تناقضات حياته ومرارة الدخول في تفاصيلها المتعبة .
تباغته غروب بابتسامتها الرائقة كالشهد ، وجرس ضحكتها اللذيذ يرنّ في أذنيه ؛ فتملأ عليه حواسه بحضورها.. يحاول أن لا يتحرك كي لا يتبخر تدفق الإنثيالات المريح ، الذي بدأ يعوم فوق تموجاتها الحالمة كبالونات الهواء ، قبل انفجارها السريع عند أدنى ملامسة للأشياء ، يشعر بأنها ربما تبحث في غبار الملفات عن أية ذكرى احتاجت نبشها ، لجسد قبر وتعفن ، ثم تحول إلى رميم ، أكثر ما يعذبه مرحها وخفة دمها .. لكنه تأكد بأنه لا يمكن أن يمتلك اتجاهها سوى المحبة التي اكتفت بذاتها عنها وعن كل شيء.. وبوحيها يهبها العفو والغفران.. بل يزداد لها حباً كلما أمعن في توغله نحو قناعته الجديدة ، وختام خياراته المشلولة.. بكسر جمود الواقع بالطيران .
[العقرب في اللوحة قريب جدا والحمامة البيضاء على أهبة الاستعداد للطيران خوفا منه والرأس المحاصر بالقضبان يكتسي بالريش الأسود وليس بالشعر..!]
يخرج رأسه من النافذة .. لا يحس أثراً للقيود القديمة التي كبلته حتى الساعة ، كأنه يتحرر من الجاذبية ، ومن تخمة الجسد والإحساس بتبعاته الثقيلة ، لعله يحتاج إلى الشجاعة .. لا ليس للشجاعة تماماً.. بل لشيء آخر بدأ يكتشفه تواً، والى الأسفل منه يواصل العالم رحلته اليومية العقيمة.. الماجنة ، بذات الوقار الزائف ، النصف الأعلى من جسمه يلامس تيار الريح خارج النافذة.. تزعجه قطرات المطر، وقد راحت تتسارع في النزول بشكل زخة مباغتة.. يرفع رجله المبتورة بعد أن فك عنها أحزمة الجلد للساق الاصطناعية ، لتبقى آخر ذكرى له بالوجود.. ينزلق جسده عبر معدن النافذة، بعد أن فقد التوازن؛ فيحمله الفراغ كريشة ، ويضج صفير الريح في أذنيه ، ومن خلاله يسمع نداءً يأتية كصدى العويل كأنها صرختها، وصوت تكسر ورفرفة جناح طائر ثقيل يخرج بصعوبة من القفص!
يفزع الحمام المختبئ في الزاويا من جديد؛ فيطير مصفقاً بأجنحته برعب.. يخفق بسرعة مبتعداً عن ملاحقة الجسد ، إلا أنه يجتاحه إحساس بأنه يعرج بسرعة خاطفة لم يألفها من قبل كالبرق ، نحو صباح رائق تغمره إشراقة الشمس ودفئها .
- عجباً ها هنا .. لا وجود للمطر..!
بيد إنه يلمح الأرض من خلل الغيوم ، وقد بدأت تبتلعها هوّة فراغ كوني رهيب .. أوسع من الفراغ.

[email protected]

***



#طالب_عباس_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ترانيم صباحية-
- تسع قصص قصيرة جداً
- عذراً يا عراق (رسالة من مسؤول إلى شعبه)
- الزنزانة
- الشيء...!!
- نداءات الوهم
- الحصان العجوز
- - طعنة -
- القارب الورقي
- قصتنا اليوم - التركيب السردي وانفتاح النص
- صلصال - نص من الخيال السياسي
- القنطرة
- قصص قصيرة جداً جداً
- لحظة حصار
- نثيث أحزان كالمطر
- الزمان والمكان في منظور القصة الحديثة
- قصتان قصيرتان جداً
- تجليات بطلسوما* قبل موته الأخير
- لص ومجانين
- تشييع الذي لم يمت..!!


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عباس الظاهر - فوق المطر... تحت المطر