أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عباس الظاهر - الحصان العجوز















المزيد.....

الحصان العجوز


طالب عباس الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 3341 - 2011 / 4 / 19 - 10:48
المحور: الادب والفن
    


الحصان العجوز
قصة قصيرة
طالب عباس الظاهر
تدحرجت قناني الغاز...تصادمت بقوة فيما بينها،ومع الجدران، وظل يسبح بعضها في الطين، بعد أن انزلقت إحدى قوائم الحصان، وسقط في وسط البركة.
يصرخ الحوذي العجوز بقوة:
ـ انهض يا.. يا أيها الكلب الحقير.
ـ ..........!!
يعيد الكرّة مرّة أخرى، ولكن بغضب أكبر، وألم.
ـ يا جبان قد أعياني البرد، وأرهقني التعب... الدنيا ومن ثم أنت... حتى أنت؟!
ـ ..........!!
وتذهب محاولاته دون جدوى، ويستقر أخيراً الجسد الضخم دون حراك في الماء، سوى دوران سواد تلك العينان الكبيرتان في محجريهما بوهن ، وقد بان البياض فيهما بمساحة أوسع من المعتاد...!
للتعب الهائل صوتٌ عميق كأنه دويٌّ في العروق وأنين، الطرق الحاد المتكرر طوال ساعات النهار، ومنذ الصباحات النديّة على أوجه صفائح الفولاذ الصلدة، اصطدام متنافرٌ للحديد بالحديد، تدوّر الدواليب الصدئة، وتدور ببطءٍ وكسل، تشقُّ طريقها بصعوبة بالغة، تنوء تحت وطأة أحمالها الثقيلة، فتصدر صريراً قوياً مزعجاً، ربما لإهمال طويل أو عجز... أوحال لزجة، برد بلا قلب، شيخوخة بائسة، ضياع في أزقّةٍ وعره وقذرة، تتلوى كالأفاعي... أيا لعنة الفقر والفاقة في عمر نهاراته كالليالي، في شتاءاتٍ طويلة لا تنتهي، بل وتستطيل بغير رحمة وبلا نهاية، وتتساقط السنون...وريقات شاحبة في موسم للرحيل والوداع، رحلة أولها ألم ٌوصراخ، وآخرها عويل وندوب، خيط متصل من الدم والدمع، بينهما عرقٌ مستمر...الساقي فينا لروح الرغبة اللانهائية... الموصل بيومنا هواجس الأمس والغد، المكتنفة بضباب الجهل وشوق المعرفة، المصطدم أبداً بالمحدود، أنياب البرد الشرسة تنقضُّ بقسوةٍ، تنهش بجنونٍ، تلامس صلب العظام...!!.
العرق المج يتصبب من جبين سنينه، رغم قسوة البرد والزمن، يترطب شعر شاربيه وذقنه الأشيب، تمتلئ بالعرق نهيرات جبينه، وتجاعيد وجههِ ...خطى السنين، منذ زمن ربما بعيداً تقبع تلك البركة هناك، في حضن ذلك الزقاق المنسيّ على الخارطة لتلك المدينة العتيقة، وبين أقدام تلك البيوتات الخاوية بفعل تراكم السنين، تتسع أو تضمحل حسب الظروف، وكرم الشتاءات الداكنة من زخات المطر، وليالي الضباب من الندى...كانت هادئة، وديعة، ترسم للعالم صورة جميلة، صافية، تعكس فضاءً لا متناهياً، حتى زرقة السماء، والطيور المحلقة في الأعالي، غيوم ناصعة البياض كنتف الثلج، فيبدو عالمها أشد نقاءً، وأكثر فتنةً، غير أنها مزبدة الآن، هائجة، أمواجها الصغيرة متلاطمة، ووجهها الرائع شديد القبح، عتمةٌ قذِرة بلا تفاصيل... أقذار... أقذار...!!.
يصرخ العجوز مزمجراً من جديد:
ـ انهض أيها اللعين...!!
ـ ...............!!
ـ يا لك من عجوز جبان... ها قد أتلفت كل شيء...!!
ـ ...............!!
للسوطِ أزيز غريب وهو يطير في الهواء، يدور باتجاهاتٍ شتى، ويلتصق كشعلةٍ من نار على أديم لحم بارد، تلقيٌّ هادئ يثير الحَنْقَ، تتراكم في السماء سحب، تبدو مخيفة وهي تتقدم كجيش جرار من كائنات مجهولة، راسمة على وجه الوجود خطوط حزن أبدية، تنشط ريح باردة ذات ملامس ثلجية، تخترق كل الحجب... تهتز لها الأضلاع، فجأة يمزق الصمت والسكون صوت الرعد الهائل، ثم تتساقط بعض قطرات مطر كبيرة كالحبيبات، وسرعان ما يأخذ المطر بالنزول بشكل زخّات متقطعة... وبحبيبات كبيرة، يصرخ رعب أزليّ في العروق، يتعاظم الخوف من المجهول، وتتسرب إلى الجلد برودة القطرات عبر اختراق رطوبتها، تحُدِثُ قشعريرة عند ملامستها الدفء...!!.
بدايةٌ مريرةٌ لِمساءٍ يبدو شديدَ الوطأة، ووحشيّ القسمات، وفولاذي الخطى، يتغلغل الظلام بين ثنايا العالم، خاصة بأجواء الزقاق، وحصار البيوت القديمة العالية، تعبث أصابعه الخمس، بشعر رأسه ذي اللون الفضي اللماع، بعد أن أعيته الحيلة، وأعجزه الحل، وهاجمته مخالب اليأس...تنسحب إلى ذقنه وشاربيه، تترك بقايا أوساخ وطين، يمسح جبينه بظاهر كفه استعداداً لجولةٍ أخرى، ربما مستميتة هذه المرة، يمسك حبل اللجام جيّداً، يلفّه على يده، ثم يجرّه بعنف إلى الأعلى، يسحبه إلى كل الاتجاهات، بيد إن لا جدوى من المحاولة والصراع، جهد ضائع كالآلاف من الأماني الضالّة، وعرقٌ بلا معنى... ويتعالى اللهاث.
ـ أيها العنيد انهض يا...يا نذل لقد تأخرنا كثيراً، والصغار جياع ينتظرون..!!
ـ ......................!!
أحكم المساء قبضته جيداً، وفرض سلطانه على أزقة المدينة وشوارعها وأسواقها، وراح المطر يهمي بهدوء، والبرد يشتد أكثر فأكثر مع تقادم الساعات، وتوغل الليل نحو الظلام الدامس، يمزق السكون صرير مزعج لانغلاق الأبواب والنوافذ المطلّة على الزقاق، يتوالى التصادم ليحطّم الصمتَ القابِعَ، والوحشةُ تزدادُ هيبةً ونفوذاً، يعتصره الألم... يصرخ بجنون:
ـ أيها العجوز القذر... ألا تنهض؟!
ـ .............!!
يرتفع السوط في الفضاء من جديد، يهوي بشدة، يتكرر ذلك ويتكرر... الجسد البارد، الجلد الأصم، الإرادة الصلبة تقبع بهدوء ودون اكتراث، ألمٌ صامت بلا نهاية، ويتصبّب العرق بغزارة، ربما اختلط بدموع هذه المرّة...!!
ويستمر الليل في توغله بثقة وإهمال، تتداعى بقايا عزمٍ... تخور، تتلاشى صور ورؤى، وتبقى الجراحُ تئِنُّ ... ساعات مريرة، دورانٌ ودورانٌ بلا خرائِطَ، ولا نهايات، بذل الكثير من اجل القليل التافه، تخبُّطٌ مَحمومٌ في طُرُقاتٍ مظلمةٍ ولزجة، طَرْق ٌعلى صفائح الفولاذ، أو في الدماغِ، للسنابك عزْفٌ مريح على إسفلت الشوارع، وبلاط الطرقات، حصادٌ بائسٌ لتعبٍ وفير، خاتمةٌ مؤلمةٌ ليومِ عملٍ شاق.. شديد البرد والألم، وسوء الطالع:
ـ إنّك تعبٌ وجائع... لكن ينتظرنا الشيء الكثير... تعال وسترى بنفسك...!!
ـ ................!!
ـ اللعنة... ألا تسمع؟! كم أنت عنيد وقاس، رغم البؤس... هل ستبقى هكذا حتى الصباح؟!
ـ ................!!
ـ آه... لو لم يحدث........!! لكُنّا الآن...... أين؟
يصرخ مزمجراً:
ـ أيها الزنديق.... يا آبن الزا.......... سوف اُلَقِّنُكَ درساً لن تنساه...! خذْ.. خذْ.. خذْ أيضاً....!!
ـ .............!!
بدتْ مؤلمةً للطرفين لعبةُ السوطِ والغضب، مع شدة البرد، وانهمار قطرات المطر، وتتقاطر في السماء طوابيرٌ طويلةً لغيومٍ سودٍ كثيفةٍ، كأنَّ بعضها يلتهِمُ البعضَ الآخر بشراهة، يسمع صوت الريح وهي تصفر خلف قضبان الشرفات، وقد أضحى الليل أكثر عتمة وبرودةً، واختلطت وجوه الأشياء، ضاعت معالمها في جسد الليل الهائل... شعشعت هنا وهناك، بعض أنوار من شبابيكَ وأبواب قريبة، إيذاناً لبدء طقوس ليلةٍ شتويةٍ حافلةٍ بالدفء والبرد والمطر والذكريات و... و...!!
يتعالى صوتُ اصطكاكِ أوانيَ معدنيةٍ فيما بينها، وسقوط بعضها على الأرض.
تفوح رائحةُ أكلات شهيّةٍ لطبيخٍِ فاخر... تسرّبت إلى الخارج من أحد المطابخ للبيوتِ القريبة... المطلّةِ بفتحاتها على الزقاق، وبعنادٍ هاجمت أنفَ الحوذيِّ العجوز، أو معدتِهِ الخاوية من الطعام الذي التهمه على عجلٍ في الصباحِ الباكرِ... حيثُ الشمسُ كانت لم تطل بعد باشراقتها على الحياة، وصيحات الدِيَكةِ الأولى تتعالى في الفضاء، بعد آذان الفجر مباشرة، كي يحجِزَ تسلسلاً متقدماً في طابور الانتظار في محطة التوزيع الرئيسية.
أقفرت الشوارع تماماً، والأزقة والطرقات... وربما العالم، قد آوتِ الطيورُ منذ زمنٍ طويلٍ إلى أعشاشها، ولعلها تغطُ في نومٍ عميق الآن، وكُل حيٍّ... حتى الحيوانات الضالة، والكلاب السائبة والقطط... وربما الحشرات.
ـ إلى متى تظل هكذا... إلى متى؟ وأنت يا...........!!
ارتفع السوط من جديد عالياً، وقبل أن يهوي به، تنازعت الحوذيُّ العجوزُ هواجسُ غريبةً شتى، وخاف أن يتحقق حدسه الذي انبثق في نفسه على حين غرّة، فبدت الحياةُ لعينيهِ ممسوخةَ الوجه وبلا معنى، انطفأت ذكرى الآلام ، وقسوةِ نهشِ أنيابِ الجوع في معدته، كاتماً أنفاسه بقوة، وكادت تطفر منه صرخةٌ هائلة، بل جاهد في حبسها بين أضلاعه، وهو يتحسّسُ بيديه أحشاء الظلام، وصوت خوض أقدامه في الماء ...تزعج الليل، وتعكِّر السكون...قبل أن تستقر على شيء ما، وسط البركة.
الجسد البارد، يقبع بصمت لانهائي، الإرادة الصلبة، والجلد الأصم يستحيل إلى ألمٍ مكتوم، وحزين، ودون أمل، بينما ظَلَّ تَساقطُ المطر الهادئ، وهو يهمي على سطوحِ، وجدرانِ المنازلِ، يعزف للوجود أغنية خالدة...أبدية.
[email protected]



#طالب_عباس_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - طعنة -
- القارب الورقي
- قصتنا اليوم - التركيب السردي وانفتاح النص
- صلصال - نص من الخيال السياسي
- القنطرة
- قصص قصيرة جداً جداً
- لحظة حصار
- نثيث أحزان كالمطر
- الزمان والمكان في منظور القصة الحديثة
- قصتان قصيرتان جداً
- تجليات بطلسوما* قبل موته الأخير
- لص ومجانين
- تشييع الذي لم يمت..!!
- أزمة وطن؟ أم أزمة مواطنة؟!
- عروس الفجر
- صراخ الصمت
- هجرة الطيور-قصة قصيرة
- رحلة إلى العالم الآخر- قصة قصيرة
- رمياً بالزواج - قصة قصيرة
- الزهايمر - قصة قصيرة


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عباس الظاهر - الحصان العجوز