أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحمن خضير عباس - بين الشطرة وتارودانت ...... متاهة غربة















المزيد.....


بين الشطرة وتارودانت ...... متاهة غربة


رحمن خضير عباس

الحوار المتمدن-العدد: 3296 - 2011 / 3 / 5 - 02:45
المحور: الادب والفن
    


بين الشطرة وتارودانت ...... متاهة غربة
رحمن خضير عباس
للمدن سرُ في نشوءها , وعلة لوجودها . تتكوّن في البدء على هيئة تجمعات صغيرة , قرى او قصبات , وفقا لمشيئة جغرافية , او لمنطق زمني . الماء معين ثابت ,كذالك المرعى والسهل وحافات طرق القوافل . تنشأ المدينة ثم تنمو وتترعرع إستجابة لهذه العوامل البيئية والجغرافية . ثم تصبح نقطةً لتلبية حاجات التبادل السلعي والتجاري .واذا استثنينا المدن القائمة منذ فترات تاريخية , فان مدن العراق الحديثة التكوين , لاتشذّ عن هذه القواعد في التكوين والنمو . تبدأ كسوق ثم تنمو وتتطور وتتكيف اخيرا مع الضرورات الموضوعية .
والشطرة من المدن العراقية الحديثة التكوين . انبثقت وتجسدت كمكون حضري ,محاطة بمكونات مختلفة وغير متجانسة , كالبدو الذين يتزودون منها ومن غيرها بحاجاتهم الضرورية , ويبيعون ما يستغنون عنه . اما التكوين الزراعي فهو الأكثر اهمية حيث يسد حاجات المدينة من المحاصيل المختلفة ويتزود منها ايضا بما يحتاج لسد ضرورياته . وهذه الحاجات تفرض على المدينة أن تكون جاهزة وقادرة على تلبية مقومات الحاجة فتنشأ الصناعات والصناع والتجار والخدمات المختلفة . فتنشأ البنية السكنية لأحتواء الحرفيين , وتبنى البيوت والمحلات التجارية ¸ وتنظم الشوارع . ثم تأتي الحاجة الى تنظيم الأمور وفض النزاعات , فتنشأ المحكمة والسيراي والمدرسة والسوق .
العدنانية هو اسمها الأول . استبدل اسمها بالشطرة لأن النهر يشطرها الى صوبين . ذلك النهر الذي يتسرب من سدة البدعة , التي ينتهي بها نهر الغراف . وبمعزل عن صحة هذا التصور , فان اسم الشطرة يثير شجناً ,لحنا عذباً , فما ان تسمع به حتى تترآى لنا ذكريات لم تغادر الذاكرة . ففيها بدأت مشاعرنا الأولى , طفولتنا البكر ,ساحات لعبنا ولهونا , السيجارة الأولى , والعشق الأول . هواياتنا , حماقاتنا , بلورة الشخصية , وتهجي الحروف الأولى من هاجس فكري رافقنا الى الأبد ...
في ظهيرة شطرية ساخنة من تموز عام 1976 . تسللت كلص . فتحت باب بيتنا الموصد بحذر كي لا تستيقظ امي من قيلولتها . كانت تغطٌ في نوم عميق هاديء . وجهها طاهر يفوح برائحة الأمومة . تمنيت ان امسح مرارة التعب عن جبينها , ان قبّل وجهها الذي غضنته السنين .. ان اعترف لها بأني مزمع على ارتكاب هجرة لانهائية . لكنني ترددت حينما تذكرت انها قبل ايام قد رصدت اهتمامي باوراق السفر . حاصرتني بسؤال حاد كالسكين :
- قلبي ينبؤني يا ولدي بأنك ستغادرنا بعيداً ؟!
- سأسافر لمدة شهر واحد . أجبتها وانا التقط دمعة هاربة , تسللت بين تجاعيد وجهها .
فتحت باب بيتنا برفق . لفحني لهيب الظهيرة . توقفت متردداً قائلا لنفسي ساوقظ امي , سأقول لها ودّعيني فقد لانلتقي , واقول لها قبليني , افرشي الماء لترطيب خطواتي – كعادتك – ادع لي بلقاء قادم . لكن ارادتي خذلتني , فتسللت بعيدا وكأنني ألج متاهة لانهائية . بعد سنوات .... علمت أن اسمي كان يفترش شفافها اليابسة في لحظة الموت .
سأرسم الشطرة كما رأيتها آخر مرة من خلال دمعة امي , وكأنها بلورة دافئة تتسلل بين الغضون . نهر صغير يأتي من شمال المدينة , لااسم له ولكننا نسميه الشط . وهو مصدر الحياة . لكننا نعتبره مصدر لهونا ومتعتنا , مسرح اهوائنا . تحفّ به اشجار اليوكالبتوس , تنساب مياهه بصمت لتهب المدينة حياة ودفئا , واحيانا برودة شفافة لذيذة . تطفوا عليه مشاحيف لأهواريين رحّل , يدعون ( البو شكون ) . يقيمون على النهر في اطراف الشطرة مرة او مرتين في العام . صرائفهم الموّقتة تسوّر ذلك النهر بحيث تمنحه نكهة الهور .
تخوت المقاهي تحف بجانب النهر ولاسيّما بجانب الجسر الذي يحتضن السابلة والعربات الخشبية .في المساءات تبدو جلسات السمر من خلال استكانات الشاي , بينما تعلو اغاني ريفية من مذياع المقهى . والزمن يمتد بلا حدود , حيث يشكل المقهى بيتا للجميع يتجلى فيه بعض التلاحم الأجتماعي الحميم . قراءة جريدة , لعب الدومينة او النرد , الأحاديث المختلفة التي تضمها تخوت متآكلة لكنها تعكس روحاً جماعية , ومع افتراض ان المقهى تقدم القهوة والشاي , غير ان مقاهينا تكتفي بتقديم الشاي فقط ( سنكًين ومن رأس القوري ) . يأتي القهوجي وقد حمل عشرات الأستكانات وقد تسلقت من كفه الأيسر بشكل فني مثير للدهشة . وصاحب المقهى يعرف كل شيء عن رواده , عاداتهم , أذواقهم , افراحهم واتراحهم , وقد يتحول الى دائرة الأستعلامات او صندوق البريد . وقد تكتسب المقهى هويتها السياسية من خلال روادها وطبيعة توجهاتهم . اما الأسواق فلها خصوصية في كونها قائمة على اساس التجانس . فهذا سوق الصفافير وسوق الخياطين والعبايجية وسوق العقل والنعل والمكصبة والبنكلة اي سوق السمك ثم سوق الخضار والقيصرية . لكن هذه الأسواق تتكيء على بعضها وتكوّن كيانا تجاريا يعتبر رئة المدينة وفسحة للتسوّق , لكنه كيان عشوائي البناء , تتعامد الشوارع حيث تبدأ به وتنتهي باتجاهات مختلفة . اما نادي المعلمين فيشكّل الفضاء الترفيهي الساهر والذي يحتضن الرجال فقط . ومع انه يفترض أن يكون مركزاً ثقافيا وساحة للأدب والفن والأنشطة المختلفة . لكنه أختزل في مهمة واحدة وهو ان يصبح بارا فسيحا . وحينما نتذكر هذا النادي يقترن باسم شخصية حميد علوان , وهو معلم مدمن على الخمر , لكنه جعل من الكأس فلسفة للسخرية من الأوضاع الأجتماعية والسياسية . لقد ترك بصمته على تلك الأجواء , بسرعة بديهته وتلقائيته وقدرته على انتاج النكتة واطلاقها فتصبح متداولة بين البيوت . كان من الشخصيات التي منحت الفرح لمدينة ألفت الحزن والرتابة .
للشطرة موقع في الأغنية العراقية .فكان لها طورها المسمى ( الشطراوي ) كما هناك مطربون كثيرون رسموا لنا اجمل اللوحات الغنائية . ونتذكر مطربا اسمر الملامح حلّق في اغانيه المفرحة الراقصة في اجواء المدينة . لقد نجح في تحويل الشجن الى لحن راقص , يستخدم جسده للتعبير عما يغنيه وقد اطلق الناس عليه اسما موسيقيا ( ابو الجكة ) .
طويت خارطة مدينتي . وانطلقت في سفر ظننته قصيرا , زوّادتي حزمة من ذكريات وقصائد لبدر شاكر السياب . كانت الشام هي المحطة الأولى .طبيعتها مذهلة , لأول مرة نشعر ببعض النشوة . التقيت ببعض الأصدقاء بمحض الصدفة . زرنا الجامع الأموي الذي يُطلّ من عصور غابرة هائلا متطاولا . منحتنا ساحته الفسيحة فرصة للتأمل . اين نمضي ؟ هذا هو السؤال الذي كان يحاصرنا . كل الأتجاهات مفتوحة . لنذهب الى ليبيا مادمنا نبحث عن موطيء قدم . دخلنا الجماهيرية
فوجدناها قد ادمنت على فوضى غير خلاّقة حيث تسير بعكس مجرى الأشياء . بنغازي كانت بائسة تكتسي بالخمول , فقط شعارات الكتاب الأخضر تصافح وجهك اينما تذهب , فهي هلوسات عسكري يمارس المراهقة السياسية بشبق لامثيل له . يقفز كالكنغر من مشروع سياسي الى اخر بخطوات متعثرة ومشاكسة . من بنغازي الى طرابلس شريط ساحلي يطل على المتوسط , ولكنه لاينتمي اليه , فليس ثمة منتجعات للراحة او شواطيء او اماكن سياحية كما هي في الساحل الأوربي المقابل لحوض المتوسط . في ذلك الشريط الساحلي يتعانق الرمل والبحر في ملوحة تلوح على الوجوه المتعبة للعمال الغرباء العاملين في ليبيا . استرحنا في مدينة ( سرت ) مسقط راس العقيد . شربنا شايا كالقطران . حيث الليبيون يغلون الشاي لساعات ويشربون خلاصته .
تركنا ليبيا فريسة للعقيد . حزمنا حقائبنا نحو الجزائر , ونحن نحلم ببلد المليون شهيد ,لاشك اننا سنجد الحياة البديلة , سنكون في بلدنا الثاني . من نافذة الطائرة بدت لنا العاصمة الجزائر عروسا تحتضنها زرقة بحر لانهائية . كان الباص الذاهب الى قلب العاصمة يشق الزحام بصعوبة , بينما تفوح رائحة الصنوبر في وسط رذاذ شفّاف من مطر خريفي . ما ان توقف الباص حتى بدأت مهمة البحث عن فندق والتي اعتقدنا انها هيّنة .بعد ساعات من البحث , صعودا وهبوطا في السلالم والجواب الذي يصفعنا . لامكان شاغر وحينما تريد ان تستفهم اكثر يغلق عليك ابواب النقاش بقوله ( الله غالب ). تبخرت امالنا بالحصول على مأوى في البلد الذي انطلق من رحم الثورة . تذكرنا مظاهرات التأييد للجزائر التي كانت تنطلق في بغداد . واستعرضنا تيمن اهلنا بنضال جميلة التي اصبح اسمها على كل لسان . قال صاحبي ان قصيدة سعدي يوسف تعبر عن حالتنا ( ان كل النوافذ مغلقة , فامام الوجوه الشريدة
لايفتح الناس ابوابهم ....)
لنذهب الى مقهى اللوتس , حيث العراقييون . ابتسم صاحبنا العراقي وهو يشرح لنا طبيعة الناس هنا حيث يتوجسون من الغرباء ولا سيما العرب . ويبدو ان عنف الأحتلال الفرنسي انجب على مر التاريخ سايكولوجية الأرتداد الى الذات ورفض الأخر . ابى صديقنا الا ان نشاركه شقته الصغيرة . في تلك الليلة احسسنا بدفيء لايضاهى . تجادلنا في السياسة والأدب . قرأنا شعرا عن محنة الأنسان , الغربة , الأم , الوطن . الهجرة . تحدثنا عن اشياء شتى واختلفنا على بعضها واتفقنا على بعضها الأخر . كلما اشتد الأغتراب يصبح الوطن تعويذة للبقاء , فهو يطل عليك في كل لحظة ويطرز غربتك باالذكرى من خلال اغنية او قصيدة او كما قال الشاعر سعدي يوسف
(ايهذا الحنين , ايهذا الأنين الذي اسميته وطنا
وادّعيت له , واجترحت حماقاته
ايها الوطن الأول .. اننا نذبل ...) وللشاعر سعدي تجربة ثرية في الجزائر . فقد قضى هناك فترة طويلة . افرزت التجربة مجموعته الشعرية ( الأخضر بن يوسف .. ومشاغله ) . كما ان الروائي حيدر حيدر تناول في روايته الرائعة ( وليمة لأعشاب البحر ) تلك التجربة في تجلياتها وانعكاساتها ولاسيما على الفئات المثقفة التي وجدت نفسها هاربة من انظمة القمع لتصبح تائهة في مجتمعات لم تمنح هؤلاء عين الرضا , بل وجدتهم مجرد غرباء ينافسون المواطنين الخبز والوظيفة والحياة .
كانت الحافلة متجهة الى مدينة عزازقة وهي مدينة امازيغية , حيث عُينت كمدرس هناك . وفي الحافلة سمعت اغنية جزائرية قديمة , اعادت شجنا في النفس ( يالرايح وين تسافر تروح تعيّ وتولي ..شحال ندمو لعباد الغافلين قبلك وقبلي ). وفي تلك المدينة الصغيرة التي تحتمي بمرتفعات مزدانة بغابات الصنوبر , وبيوتها ذات السقوف القرميدية التي تكشف عن ملامح المعمرين الفرنسيين .
لطبقة المثقفين الجزائريين دور في ارساء دعائم العلاقة مع المشرق العربي ومثقفيه . ومنهم الكاتب المبدع الطاهر وطّار الذي يُعد من الأسماء المرموقة في الأدب الجزائري المكتوب بالعربية ومن المناهضين لتكريس اللغة الفرنسية في المجالات العامة .
مكثت عاما هناك . داهمتني فكرة الهجرة من جديد الى اقصى المغرب العربي فما دمنا قد (بعدنا عن النخل ...) فما الضير ان نبتعد اكثر واكثر .
كان رمضان في يومه الأخير حينما دخلت الى مدينة وجدة , الواقعة على تخوم البلدين , حيث الحرب الباردة حول الصحراء ومشكلة البوليزاريو . لذلك فنقطة الحدود تكاد ان تكون مهجورة , ولكن ما ان تصل الى وجدة حتى تلتقط انفاسك وهي عاصمة المغرب الشرقي . تفترش المتوسط شمالا لكنها تلوذ بمرتفعات جرادة جنوبا حيث مناجم النحاس . في شارع محمد الخامس وفي مقهى كولومبو بالذات كانت للقهوة برغوة الحليب لذتها . تصفح الصحف اليومية . ثم الولوج في الأسواق المزدحمة , الباعة المتجولون , والمطاعم وتجار العملة وباعةالبضائع المهربة .
يبدأ قطار المغرب العربي من وجدة , بعد ان قطعت اوصاله حروب الأشقاء الباردة . والتي تبدأ من تونس الى المغرب الأقصى . حالما تتلاشى اخر معالم وجدة حتى تجد القطار يصهل في فيافي شبه مقفرة حتى تصل تازة وهي اول حاضرة بعد وجدة ثم تبدأكثافة الشجر , حيث يتلوى قطارنا في فضاء يضجّ بالحياة حتى نصل الى مدينة فاس . وفاس من المدن المغربية الكبيرة والمهمة . فهي تطل عليك من القرن الراهن حيث الحداثة والتنسيق . ولكنها تطل عليك من القرن الثاني الهجري , حيث قام ادريس الأول ببنائها على نهر فاس . وفد اليها الأندلسيون بعد سقوط الأندلس , وكذلك القرويون , حتى اصبحت المدينة ركيزة للصراع بين الفاطميين والأمويين .
تأطرت فاس بشبكة من الأسوار بنيت في فترات غابرة من تأريخها , ولكنها بقيت الأن لتشكل معلما حضاريا يلتقط منك اللحظة الراهنة ليقذف بك الى متاهات التأريخ . كنت ابحث عن لسان الدين بن الخطيب , ارى خطواته , ألمس بصماته , اشم رائحة الألم الذي كابده في سجون فاس في تلك المراحل من الزمن , لكن صوت الشاعر ظل يتسرب عبر تلك الحقب الزمنية وهو يحلم بالأندلس :
( جادك الغيث اذا الغيث همى يازمان الوصل بالأندلس )
أما الفيلسوف الكبير ابن خلدون فقد عاش بفاس ايضا . فقد آثر ان تكون فاس ملاذه الأخير بعد ان انتقل من الزيتونة بتونس ليؤسس معلمته في الفكر والفلسفة والأدب . قال عنه توينبي ( انه ابتكر وصاغ فلسفة للتآريخ , وهي بدون شك اعظم ماوصل اليه الفكر البشري في مختلف العصور ..)
لقد تركت الحضارة العربية بصماتها جلية على وجه فاس المشرق من خلال الهندسة الرائعة التي تذكرك بهندسة قصر الحمراء بغرناطة , ومن خلال المساجد ذات المآذن المربعة الشكل , وكذلك بيوت العلم ولعل جامع القرويين خيردليل على ذلك . حيث كونه مدرسة خرّجت اجيالا , اضافة الى الأسواق والأزقة والصناعات التقليدية والنافورات , يجعل من فاس جوهرة من الماضي , اشرقت على الحاضر ببسمة دائمة .
يصل القطار فجرا الى الرباط . حيث الشوارع مغسولة بالندى , تطفح منها رائحة الياسمين والعرعار , بينما اشعة الشمس تبدد شيئا من العتمة , فتدب الخطى : باعة الصحف , المسافرون والعمال , صباغو الأحذية والمتسولون .... نرتشف قهوة الصباح ونستعرض الصحافة . ثم تأخذك خطواتك الى الأسواق الشعبية , حيث الزحام اللامتناهي . هذه المدينة التي اسسها المرابطون , في عهد السلطان يعقوب المنصور , ثم اصبحت عاصمة للموحدين . اقفرت مرات وازدهرت مرات اخرى تبعا للمد والجزر السياسي وفق السياق التأريخي . تحتضن نهر ابي رقراق الذي يفصلها عن مدينة سلا . حيث تبدو الأوداية التي تمثل درع الرباط . وهي قلعة عتيقة موغلة في القدم , انشأها المرابطون .لكنها اصبحت موقعا سياحيا واثريا تطل على نهر ابي رقراق الذي يعانق الأطلسي . بينما تبدو صومعة حسّان في الجانب المقابل شامخة وهي توأم للكتبية في مراكش والخيرالدة في اشبيلية . امواج الأطلسي كالخيول الجامحة تحاول ان تلامس الأسوار , وتبدو سلا ساكنة هادئة تحتضن مهرجان الشموع , حيث الموسيقى ترافق الاف الشموع التي تنير ازقة المدينة اثناء المهرجان .
ضحكت كاتبة الطابعة في وزارة التعليم بالرباط , ضحكة اليفة فيها شيء من السخرية . وحينما تلثمت بخجلي , قالت :
- هي بعيدة جدا ... تارودانت ولكنك ترتاح اليها . غير انني همهمت وكأنني اهذي " كل الأبعاد متساوية اذا لم تكن هناك نقطة ارتكاز " ... اين هي تارودانت ؟ هذا هو السؤال الذي الّح عليّ وانا اتحسس كتاب التعيين بفرح . اشتريت خارطة المغرب وظللت ابحث فيها عن تارودانت , فوجدتها نقطة باهتة تبعد اصبعين عن الأطلسي , محاطة بخضرة داكنة . التقطت حقيبتي التي رافقتني من الشطرة , وحشرت نفسي داخل حافلةعجوز مشحونة بالركاب والبضائع , فغرقت في غيمة من الدخان , ولغط الأحاديث , ثم شخير التعب الذي انبعث وئيدا ولكنه تصاعد . ليلة كاملة والحافلة تئن . تقترب من السواحل احيانا حتى تشم رائحة البحر , ثم تنأى عن السواحل لتتسلق مرتفعات هائلة الأرتفاع . وفي الصباح تجسدت لنا تارودانت وكأنها تفتح ازقتها امام خطواتي المتعثرة .
أ جّرت منزلا صغيراً في حيّ مكتظ بالسكان . حيث تتراكم النوافذ ذات الطراز المغربي . شعرت انني لاانسجم مع جيراني الذين يضايقونني بفضولهم . فغلّفت نفسي بشرنقة من وقار مفتعل , وقيّدت خطواتي .... العراقي هذا هو اسمي ورغم صيغة الأبهام التي طمست معالم اسمي الحقيقي , الاّ ان العراقي كاسم جديد اثار فيّ مزيجا من الأعتزاز والسرور الخفي وكأنني احتضن هذا العراق من خلال تقمص اسمه . مكثت عامين في تارودانت , وكانت فرصة للتعرف على عادات وتقاليد واعراف تتفق مع مجتمعنا ولكنها تختلف في بعض النواحي . والمقهى تشكل حيزا كبيرا في المدينة , كما ان لرمضان قدسيته الكبيرة وهم يلتزمون به حتى ينتهي الأفطار عنذاك يمنح الكثيرون لأنفسهم فسحة من المتع الجسدية والروحية . اما في عيد الأضحى فيتبارون في ذبح الأضاحي من الأكباش التي تسمى ( الحولي ) . عامين لم ار فاتحة تقام على روح ميت . قلت لصاحبي المغربي الذي يشاركني الشاي الأخضر المعطر بالنعناع : هل يموت احد في تارودانت ؟ استغرب من سذاجتي مجيبا بنعم , وحينما رأيت الدهشة في عينيه . قلت له انني لم ار الفواتح ومكبرات الصوت واللطم لدى النساء كما يحدث في مدينتي . قال نحن نحزن بصمت ولكننا لانبكي كثيرا اعتقادا بأن المبالغة في الحزن تؤذي الموتى . لقد كانت طقوس الموت بسيطة , ولكنهم يبالغون في طقوس الأفراح , فمهرجانات العرس تبقى عدة ايام . اما ليلة العرس فهي استثناء حيث يبدأ بالولائم الفاخرة ثم ينتهي بالرقص والغناء الى الفجر . والمطبخ المغربي غني في ماكولاته والمغاربة كرماءمع ضيوفهم وتجمع المائدة المغربية الوصفات العربية والأمازيغية . وهنالك تقاليد متوارثة في طريقة غسل الأيدي وتقديم الطعام الذي يتم على مراحل , ولايقدم دفعة واحدة . كما ينفرد المغاربة في تقديم الشاي بطريقة رائعة من خلال الأواني والأقداح وطريقة التقديم التي تمنح الى اكبر الحاضرين سنّاً او مكانة اجتماعية . والتقليدلايقتصر على المأكل بل يتعدى الى الأزياء للنساء والرجال على حدّ سواء .فالجلابية والعمامة والسلهام والبلغة للرجال . وكذالك الجلابية والقفطان والحزّامة والقندريس للنساء .
تزخر تارودانت بالمواسم . والموسم هو طقس شعائري نسبة الى احد الأولياء الصالحين ويسمى باسمه . لكنه يكتسي صبغة مهرجانية حيث تقام السرادق والخيام وتعرض البضائع وتبدأ الفرق الغنائية بالرقص والغناء والفروسية . وللفرق اسماء وطرق في الغناء نسبة الى المناطق . والشعر المستخدم اغلبه من شلوح سوس ( الأمازيغ ) .ولكل فرقة قائد يسمى الريس وهو الذي يضبط ايقاع الرقص والغناء لفرقته . وللرقصات اصول ومسميات , منها رقصة احواش والدقة الرودانية وغيرها . وهي تمثل انصهار الثقافات العربية والأمازيغية والأفريقية لتكوّن نسيجا فولكلوريا رائعا . وتتجلى الفروسية في ابهى صورها . حيث الفرسان يعتمرون العمامة والسلهام . يمتطون الخيول , ثم ينطلقون في ايقاع واحد . وفي لجة الجري والغبار تنطلق البنادق في الهواء , وكأن الخيول تسبح في الفضاء .
يرجع تأريخ تارودانت الى العصر الفينيقي . كانت تتوهج تارة كموقع حضاري وعلمي . وتارة تتلاشى وتندثر وذلك تبعا للدول المتصارعة . ولكنها بلغت اوجها في عهد السعديين .
تنغمر المدينة عادة بشعاع الشمس صباحا . والجمعة يكون استثناءً . حيث تدب الحركة , وتتعالى الأصوات , وتتزاحم الأقدام وصرير العجلات . انه سوق الجمعة الذي يبدأ صباحا وينتهي زوالا . وعادة تسمع اصوات الباعة ومكبرات الصوت والأغاني الشعبية المنطلقة من المسجلات , اغاني الشيخات وجيل جيلالة وناس الغيوان . فجأة امسكتني يد في وسط هذه اللجة البشرية . انه الفقيه التيجاني , معلم التربية الأسلامية في مدرستنا . صاح بصوت عال : اهلا بك السي العراقي , ما الذي جاء بك الى تارودانت ؟ ثم مال الى اذني وكأنه يبوح بسر لايعرفه سواه " غرة سوس , ونجمة الجنوب , عمّرها السعديون لتصبح عاصمة لهم , ولكنها انحدرت الى الحضيض واصبحت كقول القائل : اردناها ان تكون مدينة العلم ولبة الألباب , فابت الا ان تكون مدينة الذباب والقحاب .."
في رحلة الغربة , راينا الكثيرمن اصدقائنا. فنانين وادباء ,سياسيين ومثقفين بعضهم عبرالى شواطيء اخرى وبعضهم لم يحتمل الغربة فعاد ادراجه الى الوطن فطوته الة الحرب والقمع . بعضهم مات على قارعة الأنتظار . ومنهم الشاعر مصطفى عبد الله : فنان وشاعر هرب من بصرته باحثا عن ملاذ آمن في المغرب الأقصى . التقينا هناك كانت هموم الوطن قاسما مشتركا للجميع . ولكن للحياة شؤونها وشجونها . فطوتنا في ماكنتها . ورغم ان مصطفى قد هجر زوجته ورفيقة دربه . ومنح نفسه فسحة للحياة لكنه كان يتعذب . في القنيطرة كانت مدرسته ولكنه يواظب الذهاب الى الرباط . لم يعلم ان هذه الرحلة القصيرة ستكون ابدية . في الطريق اصطدمت تلك السيارة بشاحنة قضت على الجميع ومنهم شاعر متاهة الغربة . يقول في احدى قصائده وكأنه يهجس موته .
( انا الأجنبي , طويت الكتاب
دخلت الحقيبة منتظرا ان يجيء القطار
انا الأجنبي , عرفت الحدود فرتبت لي وطنا من ورق , انه علبة للسجائر
أنا الأجنبي الجميل, وقفت مع الواقفين , تزاحمت ولكنني في المكان القليل اميل
لتعبر قبلي الحقائب , ويعبرقبلي الزمان , ويعبرقبلي المكان
تعلمت أن انتظر . واصنع لي وطنا في جواز السفر ..)
تملكتني حالة من الضجر وانا اعيش في تارودانت مدينة الأركان والمندرين ومدينة المواسم . تلك التي احببتها يوما . ولكن لم تعد الأشياء تملك بهجتها . وحتى الدهشة الأولى فقدت بريقها . والأسوار التي عشقتها يوما لم تعد تغريني . وفي صباح شتائي مبلل بالمطر والكآبة , غادرت تارودانت الى الأبد ...... ولكن المدن كالنساء مهما هجرتهن او هجرنك فلا بد ان يلتصق عطرهن في الذاكرة .
اوتاوة / كندة




,



#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحجارة الثلجية
- قهوة الروح الجديدة
- شكوك حول الديمقراطية
- من دوّار الؤلؤة الى بنغازي
- الكتاب الأخضر وشجون السلطة
- خريف البطريرك
- طعنات اليفة
- كومونة القاهرة
- مصر بين جمعتين
- انتفاضة الصبر الجميل
- الشعائر الدينية الى اين ؟
- جسر من طين ... واشكالية العبور
- قصائد مستعملة


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحمن خضير عباس - بين الشطرة وتارودانت ...... متاهة غربة