أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بقوح - تيمة الجنون في رواية مدن الملح - نص التيه نموذجا - ( بحث )















المزيد.....



تيمة الجنون في رواية مدن الملح - نص التيه نموذجا - ( بحث )


محمد بقوح

الحوار المتمدن-العدد: 3109 - 2010 / 8 / 29 - 10:16
المحور: الادب والفن
    







تيمة الجنون في رواية مدن الملح (التيه نموذجا)

مقاربة دلالية لبلاغة عقل الجنون الروائي
ـ دراسة تطبيقية ـ


محمد بقوح



(إن الدفاع عن العقل يعني محاربة أولئك الذين يخفون تحت مظهر العقل تجاوزات السلطة، أو الذين يستخدمون أسلحة العقل لإرساء أو تبرير إمبراطورية تعسفية) بيار بورديو.

I - مدخل:

يتناول هذا المدخل ثلاثة عناصر أساسية، هي: تعريف الجنون، وأنواعه، وعلاقته بالأدب.

1 ـ تعريف الجنون: يؤدي الجنون، كمفهوم عام وظيفة دلالية مزدوجة، تتغذى من مرجعيات معرفية وثقافية مختلفة، يتعلق كل طرف منها بالطرف الآخر.

1-1-الدلالة الدينية:

تكتسي هذه الدلالة طابعا دينيا واضحا، نتيجة تركيزها القوي على التصور الغيبي لمفهوم الجنون، فمفرده جني، ويدل، في القرآن الكريم، على كائن لا مرئي، له طبيعة نارية، يقول تعالى: («وخلق الجان من مارج من نار») لهذا فالجن (نوع من العالم، سموا بذلك لاجتنابهم عن الأبصار) أي لاختفائهم عنها).

ويشير لسان العرب إلى دلالة الاختفاء والاستتار هذه المرتبطة بلفظة الجنون، فـ)جن الشيء يجنه جنا: ستره، وجن عليه الليل: ستره، وجن الليل وجنونه وجناته: شده ظلامه( إذن مفهوم الجنون، يدل لغويا عن إطار دلالة الاختفاء والغياب والتستر بصفة عامة.

1-2-الدلالة النفسية:

يركز المعجم اللغوي، وكذلك بعض الكتابات العلمية الحديثة، أثناء بحثها وتفسيرها لظاهرة، الجنون، على التصور النفسي والمرضي.

فجاء في المعجم العربي(جن جنا وجنونا: زال عقله، أو فسد، فهو مجنون، ج.مجانين). أما في المعجم الفرنسي فالمجنون Le fou يعني (الشخص المصاب بالاضطرابات النفسية، والاختلاط الذهني)، ويعرف فولتير، الكاتب الفرنسي، في كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لميشيل فوكو، الجنون بقوله: (نسمي الجنون مرضا يصيب أعضاء الذهن).

2 ـ أنواع الجنون:

يمكن التمييز بين نوعين أو شكلين رئيسيين دالين لمفهوم الجنون: شكل مأساتي وسلبي، والآخر نقدي وإيجابي.

يقول ميشيل فوكو بهذا الصدد (بالرغم من الكثير من التداخلات، ذات الصيغة البصرية، فإن القسمة واردة بين شكلين من أشكال تجارب الجنون، ولا يتوقف التباعد عن الاتساع بينهما: صور النظرة الكونية Vision cosmique، وحركات التفكير التأملي: العنصر المأساتي Tragique والعنصر النقدي critique).

يغلب على هذا الشكل الملمح الانفعالي المرضي، ويفقد القدرة على إنتاج معرفة معينة، كيفما كانت طبيعة هذه المعرفة، وكيفما كان المحيط الذي توجد فيه، لهذا، فالشكل المأساتي للجنون بعيد كل البعد عن التعامل أو الوصول إلى اكتشاف الحقيقة Raison المهيمنة، أو التعبير عن إحدى مظاهرها السائدة. ويسمي ميشيل فوكو هذا النوع من الجنون: الجنون المجنون La folle folie، لأنه بكل بساطة، لايملك القدرة على قول الحقيقة، باعتباره جنونا مرضيا، سلبيا وانفعاليا.

2-2-الشكل النقدي:

في المقابل، يتسم هذا الشكل الأخير للجنون بمحتواه الإيحائي، وبفعله النقدي لما هو سائد وموجود، وأيضا بدوره الفعال في قول الحقيقة، والتعبير عنها، وتعرية الواقع الاجتماعي والمؤسساتي من زيف قيمه وكذب أقنعته. لهذا فظاهرة الجنون، هنا هي بمثابة أداة يعبر المجتمع عن مواطن خلله، وعن جزء مهم من واقعه الذي ينبغي أن يتغير، لذا فهي (ظاهرة الجنون) هنا تحمل دلالة الوعي الحقيقي بما هو كائن والحلم بما ينبغي أن يكون.

وقد أدرك المفكر الفرنسي رولان جكار أهمية هذا الجانب الحيوي في الجنون، وأورد ضمن بحثه في نفس الظاهرة، رأيا للأديب الروائي المغربي الطاهر بن جلون، ينسجم مع موقفه، حيث قال: (نستطيع الحديث عن ثقافة حيث يعتبر الجنون تعبيرا عن ذكاء كبير، لهذا، فالجنون، أي إحدى معانيه، مبعوث من الله والحقيقة إلى المجتمعات الإفريقية والعربية).

من طبيعة الحال، كلام الطاهر بن جلون، هنا عن الجنون، مرتبط بسياق الثقافة الاجتماعية للشعوب، وتأكيده البين على الطابع الديني (الله)، والطابع النقدي (الحقيقة) للجنون هو تأييد، بشكل أو بآخر، لاستنتاجاتنا السابقة. كما أن ميشيل فوكو نفسه، وارتباطا بالتحليل والتصور السابقين، قد أطلق، في كتابه الآنف الذكر، على هذا الشكل الأخير للجنون تسمية: الجنون الحكيم Le sage folie، وهو الذي (يصل الجنون بالحقيقة).

ولقد كان لهذين الشكلين المختلفين بل المتناقضين معا حضور قوي، وتواجد مهم في الكتابات الأدبية عامة، وفي الأعمال الروائية بصفة خاصة، نتيجة اهتمامها واعتمادها الأساسيين، بشكل كبير، في تنظيماتها الفضائية القصصية، على عنصر الشخصية الروائية التي يحتفل بها في تلك الأعمال، باستثمارها وتوظيفها دلاليا، من حيث ربطها ربطا معينا، مختارا من قبل الكاتب، بحالات الجنون، المراد تحليلها والبحث في أبعادها أدبيا، فما هي طبيعة العلاقة بين الجنون والأدب؟

3 ـ علاقة الجنون بالأدب:

إن أهم مجال ثقافي يلتقي فيه الأدب، وخاصة الفن الروائي، مع ظاهرة الجنون، هو المجال النقدي للقيم السائدة، والتنبؤ المستمر بالمستقبل، القريب أو البعيد، يقول فوكو بهذا الصدد:

«إن تمية نهاية العالم، الثورة الختامية الكبرى، ليست غريبة على التجربة النقدية للجنون، كما هي مجسدة في الأدب).

هكذا إذن، تبدو هذه العلاقة القوية والجدلية بين النتاج الأدبي وظاهرة الجنون، من حيث تركيزها الكبير على عنصر الرغبة في تغيير ما هو قائم ومهيمن وشائع في المجتمع، وتحقيق، في صفوف الناس، الوعي الممكن، الحقيقي والفعال، بواقع قيمهم وسلوكاتهم الثقافية والعملية، من أجل التأثير فيها وتحسينها، وذلك اعتمادا على مجموعة من الطرائق والأساليب والإمكانيات الفنية والمعرفية، المتوفرة، والمرتبطة بنوعية وخصوصية وطبيعة كل جانب، والتي غالبا ما تنبني جميعا على عنصري: اللغة والخيال، المصاغين في شكل معين، من هنا يكون (الجنون مرادف الحكمة، والوعي الممكن، والفلسفة)».

هكذا نصل إلى طرح السؤال التالي، دون أن نكون ملزمين بالإجابة عنه: هل يمكن القول إن كلا من الأديب والمجنون والفيلسوف ينتجون المعرفة نفسها بطرق ولغات وأدوات تختلف من حقل إلى آخر، وتقوم على أساس نقد المجتمع والعالم والإنسان؟

بالإضافة إلى ما قلناه، فالنص الأدبي وخاصة منه الإبداع الروائي، يطرح موازاة لذلك، الشكل المرضي للشخصية الروائية في علاقته بالجنون، ذلك الشكل الذي يكون طبعا موجها بوجهة نظر الروائي، والممكن تلمس ملامحه العامة بوضوح في جانب مهم وأساسي في كتابات عبد الرحمان منيف الروائية، وخصوصا روايته مدن الملح التي اعتمدنا جزأها الأول كنموذج لقراءتنا الدلالية هذه، من حيث بحثنا في تيمة الجنون كتيمة دالة ومهيمنة على نص التيه ككل.

نشير إلى وجود ثمة اختلاف أساسي بين كيفية التعامل الأدبي (الروائي) مع ظاهرة الجنون، هذا التعامل الذي يقوم على أساس التوظيف والتشغيل الدلالي والرمزي من أجل التعبير النقدي عن واقع قيمي اجتماعي سائد، ينبغي تغييره، وبين التعامل العلمي مع تلك الظاهرة، المرتبط بالنظرة التقريرية الكشفية والمخبرية، والتي تقوم على ضرورة التخلص من عدوى الجنون، وعزل صاحبه داخل المصحات الخاصة والمستشفيات، مستندا في موقفه هذا إلى معيار القيم المجتمعية السائدة التي يجب-بحسب وجهة نظره- الدفاع عنها وحمايتها من سيئات الجنون والمجنون وهذيانه السلبي. ويتناسب هذا التصور الأخير مع نمط حياة (المجتمعات الصناعية المتطورة، حيث لامكان للجنون، نتيجة موقعه على هامش الثقافة والنظام الاقتصادي، لهذا يعزل عن الحياة) ويتم إقصاؤه نهائيا لإسكات صوته، واجتناب شروره المفترضة.

أما الأدب، وخاصة الإبداع الروائي، فينظر إلى الجنون كمصدر للمعرفة الراقية، والبناءة، ويعمل تبعا لذلك، على استخدامه واستعماله بشكل فعال وإيجابي، ضمن عناصره الفنية والدلالية الأخرى، من أجل تبليغ فكرته ورؤيته وموقفه من واقع كائن، اجتماعي، وإنساني، (لهذا كان ارتباط الأدب بالجنون ارتباطا وثيقا بالضرورة، فكلاهما يقوم على الخيال، ويعمل على كشف الوهم في قلب الواقع، وإبراز هوية الإنسان).

من هنا يكون تشغيل ظاهرة الجنون في نص التيه لعبد الرحمان منيف، مرتبطا بالملمح المأساتي والنقدي، من جهة أولى، الذي تقدمه تجارب شخصيات محور الذات في النص بمقطعيه الرئيسيين، وبالملمح المأساتي السخري، من جهة ثانية، والمتعلق بتجارب شخصيات محور الآخر ليبني هذا النص المتميز، نتيجة لكل ذلك، دلالة عامة، تخص هوية الإنسان العربي في إحدى أصعب فترات تاريخه الطويل، المتسمة بالكثير من التحولات والتغيرات السريعة، طارحا سؤال الحداثة العربية والتحديث العربي الذي لايعني، عند البعض، الطامعين وأعداء الحقيقة والإنسان سوى أسلوب الإقصاء والهيمنة، لأن ذاتهم كحقيقة لاتتأسس كوجود فاعل إلا عندما تسيطر وتهيمن، مبرزة قوتها التي تتشكل من جراء إخضاع الإنسان الضعيف والمختلف).

هذا هو إذن، السؤال الكبير، والإشكال الصعب، بحسب وجهة نظرنا طبعا، الذي تحاول رواية التيه طرحه بعمق، ومناقشة تفاصيله التي باتت، في زمننا الراهن، تدمي جسد الخريطة العربية، والمتعلق بزمن التوسع الأمريكي في إطار ما سمي بالنظام العالمي الجديد..

كما حاولنا من جهتنا، قراءة هذا الإشكال بطريقة أكثر إشكالية وتساؤلية، مركزين على عنصر، اعتبرناه أساسا في هذا النص، وهو المتعلق بعنصر الجنون، كتيمة دالة ومهيمنة على كل النسيج الدلالي لنص التيه، وطبعا دون أن نهمل علاقته (العنصر) الجدلية والأساسية بمجموعة من العناصر الأخرى، الحاضرة بفعلها وتداخلاتها في نمو وبناء اكتمال معنى الجنون عامة في نص التيه.

إذن، ما هي مميزات تيمة الجنون في هذا النص؟ وما هي أبعادها الدلالية وطبيعة صلاتها وعلاقاتها بمعنى/معاني النص ككل؟

II - تيمة الجنون في رواية التيه:

حاولنا النظر، في قراءتنا هذه، إلى تجليات تيمة الجنون في نص التيه لعبد الرحمان منيف، من خلال تقطيعه إلى مقطعين أساسيين، فقمنا أولا بتحديد دلالة التيمة في النص، ثم بعد ذلك دلالة المقطع الروائي..

بمعنى أن اهتمامنا سينصب، كهدف رئيسي، على ملاحقة ومراقبة كيفيات اشتغال تيمة الجنون كدلالة مهيمنة في كلا المقطعين الروائيين المحددين، مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة الجدلية والقوية بين هذين المقطعين، والتي تقوم على أساس تفاعلي وتداخلي كبير، يتسم بالدور الفعال والمركزي في توليد ما نسميه ببلاغة دلالة تيمة الجنون في كل امتدادات الرواية.

1 ـ مفهوم التيمة:

التمية مفهوم نقدي، وإجراء منهجي، ينتمي إلى التحليل الموضوعاتي، ويتم التعامل معه كأداة تحليلية (من خلال غطس موضوعة ما، داخل سياق يشتمل على مواقف مختلفة، وعلى تفاصيل، فتكون التيمة مشخصا لمجموعة من المغايرات الملموسة، يمكن إرجاعها إلى كيان أو مفهوم تجريدي، وهي أيضا أداة لوصف النص ولتأويله).

وتتميز التمية، في النص الأدبي عموما، بخاصيتها الهيمنية الكبرى والواضحة المعالم على مجمل النص، حيث تبدو موجودة وحاضرة بشكلها ومعناها الفعلي والتفاعلي مع تفاصيله الأخرى، الأمر الذي يجعلها تحظى، أكثر من غيرها، بقابلية الإمساك والضبط من قبل الدارس المهتم، وبالتالي عزلها، ثم الاشتغال عليها، بالاستناد إلى مميزاتها ومواصفاتها الدالة، في علاقاتها النسقية والتكاملية مع بقية عناصر ومكونات النص الأدبي الذي هو موضوع الدراسة، وقد اعتبرها أحد منظري الأدب بؤرة الرواية والأساس المركزي الذي تقوم عليه.

2 ـ مفهوم المقطع:

يحمل المقطع الروائي، في دراستنا هذه، دلالة منهجية، تصنيفية وإجرائية، أملتها علينا طبيعة نص التيه السردية، المنسوجة من تفاصيل روائية كثيرة، تعتمد دقة صراعات اليومي، كتبت بلغات بسيطة تغطي زمنا وتاريخا يتجاوز سنوات متعددة، جعلها النص تنمو، بشكل سريع، حينا، وتحبل بتغيرات وتحولات مهمة، مرتبطة بسير أحداثها المفاجئة والبطيئة، أحيانا أخرى.

لهذا ارتأينا تقسيم وتقطيع نص التيه/موضوع دراستنا، إلى مقطعين رئيسيين: مقطع أولي، أطلقنا عليه اسم وادي العيون، نتيجة ارتباط هذا الوادي، في النص كفضاء مكاني، بدلالة أساسية تهيمن على المقطع ككل، بل يمكن القول إن ما حدث لهذا المكان من محور وتغيير وتجدير من قبل الأجانب الأميركان هو الذي أفرز لنا، في نص التيه عموما، وفي مقطع وادي العيون، بشكل خاص ظاهرة الجنون التي ستلاحق شخصيات النص، بشكل أكثر مأساوية في المقطع اللاحق. وقد حددنا المقطع الأول هذا بأحداثه المستمرة من ص29 إلى ص170.

أما المقطع الثاني، ففضلنا تسميته: مقطع حران، تمسكا بالنهج الدلالي السابق الذي اعتمدناه من حيث ارتباطه بنمو واكتمال المعنى، وكذلك من حيث إنه يفرض علينا نفسه، بسبب ما لعنصر المكان والأمكنة من دلالة خاصة، مهمة وجوهرية في التنظيم البلاغي لمعاني النص ككل، وأيضا لتعلقها الشديد والجدلي بعنصر الجنون، كتيمة فاعلة، ذات سلطة وسلطان كبير وبين في ثنايا كل أحداث وتفاعلات شخوص النص بصفة عامة، وحددنا فضاء هذا المقطع من ص170، حيث انتهت، أو بالأحرى صمتت أحداثه إلى ص582.



III - تيمة الجنون في مقطع وادي العيون:

يؤسس نص التيه لعبد الرحمان منيف، من خلال مقطع وادي العيون البدئي، ثلاث تجارب للجنون، وتتميز عموما بملامحها المختلفة الدالة، وبطبيعتها المتفاعلة، والمرتبطة أساسا برؤية فكرية وفنية، من لدن الكاتب، تبغي تفعيل المحكي الروائي، المنطلق بلغته المنسابة، التي تعانق تربة الأرض والمكان، وتحتفل باخضرار الشجر، شجر الوادي… باعتبار أن ظاهرة الجنون، التي سيعالجها النص من خلال شخوصه وأمكنته، تمس، في المقام الأول العنصر البشري، ككيان نفسي ووجداني يتفاعل مع متغيرات محيطه الطبيعي والاجتماعي. لهذا حظي وادي العيون، كمكان وكأرض، ومتعب الهذال، كشخصية وكإنسان، في النص ككل، وليس في هذا المقطع الأولي فقط، بأهمية بالغة ومكانة مهمة وأساسية. من هنا جاء تركيزنا، في هذا التحليل، على تجربة متعب الهذال الجنونية، دون غيرها من التجارب الأخرى (أم الخوش + أهل الوادي)، لأننا نعتبرها، كما ذكرنا ذلك سابقا، بؤرة هذا العمل الروائي المتميز.

1 ـ تجربة جنون شخصية متعب الهذال: الذاكرة ضد الزيف والإقصاء:

إن تجربة جنون متعب الهذال، في مقطع وادي العيون، لم تظهر إلى سطح أحداث فضاء النص دفعة واحدة، بل خضعت لنمو تدريجي، اتبع خطا تطوريا، تصاعديا، وذلك وفق ما تمليه طبيعة وقائع وعلاقات الفعل الروائي الصراعية، في شكله البنائي العام. وقد تميزت هذه التجربة بطرحها لنوعين مضادين من الأوضاع النفسية، اتسما بعلاقة جدلية متينة، ارتبطت بسؤال جوهري ووجودي، يقوم على لعبة استبدال الأدوار التي كان يمارسها الأميركان، بأسلوب الحضور والغياب في أرض وادي العيون: الوضع الأول، الذي أطلقنا عليه وضع التوازن الطبيعي. وهو وضع أو مستوى أفقي افتتح به الكاتب نصه، ليكون مدخلا واضحا وضروريا لفهم كيفية بناء وانتظام العلاقات الأولى، الاجتماعية والحياتية، في عمق ما هو يومي وفطري في هذا الوادي، قبل أن يغير ويفسد باقتحامه البشع من طرف جماعة الأجانب الأميركان الثلاثة، الذين أسسوا، بمجيئهم وظهورهم هذا المفاجئ، بداية نشوء وضع جديد ومرحلة مختلفة ومتميزة من تاريخ حياة وادي العيون وأهله، وهو ما سميناه بوضع اللاتوازن، الذي يعني دخول متعب الهذال، في بداية الأمر، ثم تلاه أهل الوادي، إلى عوالم الجنون، كنتيجة ضرورية لفقدانه القدرة على مواجهة ومقاومة واقع الإقصاء والمحو والتجذير الذي مورس عليه، وعلى من معه من أسرته وأهله وأرضه، من لدن الأميركان.

1-1-وضع التوازن الطبيعي: التفاعل العشقي:

تم النظر إلى هذا الوضع البدني، في مقطع وادي العيون، من خلال ثلاث علاقات دالة مركزية، تحدد مجتمعة الدور الفعال والوظيفي لوادي العيون، كمكان وكموطن يحظى بمكانة جد سامية في حياة أهله عامة، وحياة قبيلة آل هذال ثم عند متعب الهذال بصفة خاصة.

1-1-1-علاقة وادي العيون بأهله:

تقوم هذه العلاقة على أساس وجودي وضروري، يجمع بين طرفين متفاعلين بين الإنسان وأرضه التي ينتمي إليها، أبا عن جد، وبالخصوص إذا كانت هذه الأرض عبارة عن واد أخضر، دائم الجريان، في منطقة قاحلة وصحراوية. يقول الراوي: (إن هذا الوادي، في هذا المكان من الأرض، لاغنى عنه، ولو لم يكن موجودا لما كان هناك بشر أو حياة، ولما كانت هناك طريق أيضا، ولما جاءت إليه القبائل، وما كان لمتعب الهذال وقبيلته العتوم أن يعيشوا في هذا المكان من الأرض)ص9.

1-1-2-علاقة وادي العيون بآل الهذال:

إن الذي يربط عشيرة آل الهذال بوادي العيون هو التاريخ، واشتغال الذاكرة بجذور خصوصيات الهوية، باعتبار أن هذه العشيرة من أقدم وأعرق مقيمي وسكان هذا الوادي، الأمر الذي يفسر مدى نضج واكتمال أفق وعيها بحقيقة مواصفات هوية هذا المكان كأرض طبيعية واجتماعية، تنتمي إليها، هذه الأرض التي باتت تشكل جزءا لايتجزأ من ذات شخصية آل الهذال، كطرف في الصراع، عاشت ويلاته وحروبه ضد الظلم وأطماع الأعداء في الماضي، وبصفة خاصة ضد الأتراك، حيث إن آل الهذال كانوا-يقول الراوي- (أشرس أهل الوادي في محاربة الأتراك، كانوا لاينامون في مكان واحد مرتين، وقد حولوا الطريق السلطاني كله إلى جحيم)ص16.

1-1-3-علاقة وادي العيون بمتعب الهذال:

إذا كانت علاقة أهل الوادي كبشر، بوادي العيون كمكان وأرض تنبني على أساس وجودي، وأن العلاقة الثانية القائمة بين المكان نفسه وآل الهذال، تقوم على أساس تاريخي وجودي-كما أسفلنا ذلك- فإن هذه العلاقة الثالثة والأخيرة، الرابطة بين وادي العيون ومتعب الهذال، بالإضافة إلى اعتمادها كل تلك العناصر والركائز، تستند إلى أساس فلسفي، روحي ووجداني، يصب في أعماق ذاته.يقول الراوي: (بين متعب الهذال ووادي العيون علاقة خاصة، عشق من نوع لايتكرر كثيرا)ص8.

1-2-وضع اللاتوازن: السقوط والانكسار ومرارة السؤال في اتجاه جنوب حكيم.

نعني بالوضع اللاتوازني، في هذا المقطع الأولي، بداية ظهور مجموعة من التصدعات والاختلالات في العلاقات الأساسية الثلاثة السابقة، التي تنتظم الحياة الطبيعية والاجتماعية، وأيضا المتوازنة، لشخصية متعب الهذال. لهذا، فتجربة جنون هذه الشخصية بدأت في البروز منذ واقعة المجيء المفاجئ للأمريكان الثلاثة إلى وادي العيون، من أجل البحث والتنقيب عن النفط، وفي إطار إقامة مشروع صناعي تشرف عليه شركتهم الأمريكية، وليس كما زعموا، جاءوا للبحث عن الماء، باعتبار أن هذا الادعاء والزعم، الذي تبنته أيضا الحكومة وأعوانها، حاجب، قناع، يمنع المرء من الوصول إلى نور الحقيقة الذي انتبه إليه متعب الهذال، وعبر عنه فيما بعد، بجنونه!.

وقد صاغ نص التيه تجربة متعب ارتباطا بثلاثة أشكال أساسية، خضعت، في بنائها التطوري والتدريجي، لعنصر السؤال والمساءلة والشك، كعوامل دالة عبرت عن مدى وعيه المبكر بحقيقة الأميركان، وحقيقة أهدافهم الشخصية، والهدامة للوادي وأهله.

1-2-1-مساءلة الذات: لوعة الشك

يقول جان لاكروا، في كتاب نظام الخطاب لميشيل فوكو، (إن الجنون يبتدئ بالضبط عند النقطة التي تضطرب فيها علاقة الإنسان مع الحقيقة). إن هذه المساءلة الذاتية، المهيمنة على شخصية متعب الهذال، هي التي أدخلته إلى جحيم الحيرة والاضطراب والقلق، انطلاقا من ملاحظاته الذكية، وإحساسه المرهف والمسبق بخطورة هذا التواجد الأمريكي، الذي لم يجد له مبررا معقولا، وبمكر ومكائد خبيثة يفترض أن يخفيها ذلك التواجد.. تواجدهم في الوادي. يقول الراوي، واصفا متعب، وهو تحت ظلال لهيب حجارة الأسئلة الممكنة:(أكيد هؤلاء لم يأتوا من أجل الماء، إنهم يريدون شيئا آخر. ولكن ماعساهم يريدون؟ وأية أشياء في هذه الفلاة غير الجوع والرمل والعجاج؟ ويقولون أنهم سيقضون هنا وقتا طويلا؟ كيف سيعيشون؟ كانوا، وهم يأكلون أشبه بالدجاج.

والأسئلة التي يسألونها خبيثة، ملعونة، وتؤكد أنهم ليسوا مثل الذين جاءوا من قبل…) ص33-34.

1-2-2-مساءلة أهل الوادي: بداية التمزق

انتقل متعب الهذال بسؤاله المحير والمقلق، حول حقيقة الأميركان، في وادي العيون، إلى أهل الوادي وأبنائه الآخرين. وقد تميز موقف هؤلاء، في هذه المرحلة من النص، بصفة عامة، بوعيهم الساذج وروحهم الاستسلامية أمام ما يجري في أرضهم. وقد ظهرت ملامح موقفهم هذا، بشكل واضح، من خلال ثلاثة مواقف أساسية لشخصيات هي:

أ ـ هديب: شيخ الوادي، يرد، عندما توجه إليه متعب الهذال بسؤاله المتعب: (هذا رأي الحكومة يا ولد العم)ص44.

ب ـ شعلان: الابن الأكبر لمتعب الهذال يقول، حين دار النقاش حول الوجود الأمريكي في أرض الوادي: (هذا عمل حكومة يوبه.. ومادامت الحكومة تعرف والأمير قال مالكم لازم، والاعتراض ما يفيد)ص43.

ج ـ وضحة الحمد: زوجة متعب الهذال، تقول عندما اتضحت لها بعض ملامح زوجها المرضية، نتيجة مشكلة الأميركان: (اترك هذه السوالف يا رجل-الحكومة تعرف أكثر من الجميع)ص49.

نسجل إذن، من خلال الردود أعلاه، أن أهل الوادي يتفقون على إلقاء مسؤولية وجود وحضور الأميركان في أرضهم على عاتق الحكومة، التي هي مصدر كل القرارات، والممثلة للسلطة في المنطقة، والعارفة لمصلحة الأرض والناس أكثر من أي فرد آخر، ولم يتساءلوا عن موقع هذه الحكومة ذاتها في هذه اللعبة، الشيء الذي جعل متعب الهذال يكسر جدار صمته وخوف أهل الوادي، فيتوجه بأسئلته المحيرة إلى الحكومة نفسها.

1-2-3-مساءلة الحكومة: الخيبة، وتأتي النار من غضب الصحراء:

تم التعامل مع هذه المساءلة الأخيرة التي ستتوج بجنون متعب، من خلال مواقف متميزة، سلبية ومتواطئة مع الأميركان، لشخصيتين بارزتين هما:

أ ـ ابن الراشد: ممثل سلطة الحكومة في وادي العيون، تميز موقفه من واقعة التواجد الأمريكي في الوادي، بالوعي الساذج، على الأقل في هذه المرحلة من النص، قال الراوي، واصفا هذا الموقف الاستسلامي لابن الراشد:

(بدا شخصا مختلفا منذ أن وصل هؤلاء الأجانب، وبالغ بالكرم والعناية، وإظهار هذا الكرم وهذه العناية، وكأنه كان على علم سابق بوصولهم، أو ربما نتيجة تعليمات مشددة من قبل الأمير)ص36، الشيء الذي زاد في حيرة وقلق متعب الهذال، وجعله يشك في أمر هذه العلاقة القائمة بين طرفي الحكومة (الأمير، ابن الراشد) والأمير كان.

ب ـ الأمير: شخصية تعتبر قمة حكومة وادي العيون والمنطقة بكاملها، وعن طريقها جاء الأميركان الثلاثة إلى الوادي، وتمكنوا باسم الشركة، من بسط نفوذهم فيه. وقد ارتبط حضور الأمير، في هذه المساءلة، بالأحاديث والآراء التي ينقلها عنه الآخرون، كابن الراشد، وهديب، ثم المسافرون:

قال الراوي: (حين سأل متعب الهذال ابن الراشد أكد هذا الأخير أن معهم تفويضا من الأمير، إنهم قضوا أسبوعا في ضيافته)ص35.

المسافرون: (أما حين أمرحنا ورأينا الأمير قبل خمسة أيام، فقد قال لنا: من يعترض طريقهم سيلقى جزاءه، إنهم خويا وجاءوا لمساعدتنا)ص37.

لقد توجت شخصية الأمير، بأقوالها وسلوكاتها، موقف الحكومة من الأميركان، بحيث إنه فسر مجيئهم وتواجدهم في الوادي بالتعاون مع أهله ومساعدتهم لاغير، وهو تفسير، من طبيعة الحال، لم يشف غليل أسئلة متعب الهذال، الذي تأكدت له شكوكه ومخاوفه، بعد إلمامه وسماعه لتفاصيل موقف الأمير من هذه الإشكالية. لهذا، فجنون متعب الذي اتخذ، في البداية، شكل البحث الجدي والمطاردة والمساءلة حول الحقيقة.. حقيقة هدف الوجود الأميركي في أراضي الوادي، تحول إلى مرحلة أكثر صعوبة، واتسم بوضع نفسي لاتوازني، اضطربت فيه شخصية متعب الهذال بشكل ملفت للنظر، وبدأت بعض ملامح وعلامات جنونه، الذي نشأ حنينا في أعماق نفسيته، تظهر وتطفو إلى سطح جسده وأقواله وأفعاله وأحاسيسه، انطلاقا من هذه المفارقة الغريبة والحقيقة السائدة والمتينة المعروضة أمامه كجدار كلسي، حقيقة الأميركان الإنسانية، في صورة المساعدة، والتي احتضنتها الحكومية وأعوانها، وكرستها في أذهان أصحاب الأرض، أهل وادي العيون (البحث عن الماء)، وحقيقتهم اللاإنسانية والهدامة الخطيرة، التي سبق أن عبر عنها متعب الهذال في بداية النص، بالشك، ثم الخوف على مصير الوادي.. ليجد نفسه، في الأخير، وحيدا أمام حرب وصراع سيخوضهما ضد الأميركان، مسؤولية عظمى أملتها عليه صفحات الذاكرة الجماعية لقبيلة آل الهذال، في الماضي (صورة الأتراك)، وها هو التاريخ يعيد نفسه، ليواجه وادي العيون خطرا استعماريا، طامعا جديدا، في حاضره، يتمثل هذه المرة، في الأميركان، غير أن عجز متعب الهذال عن مقاومة ومواجهة هذا الخطر الاستعماري الجديد، الذي يستهدف أساسا إقصاءه، مع أهل الوادي، ومحو خصوصياتهم التاريخية والثقافية والحضارية، هو الذي عمق أزمته الذهنية والنفسية، خصوصا بعد عودة الأميركان من سفرهم، الذي لم يدم طويلا، بعد أن اعتقد الجميع أنهم رحلوا نهائيا، ليعودوا من جديد، ويشرعوا، بشكل رسمي في تنفيذ المشروع الصناعي الأميركي التخريبي للوادي..

وقد ذاق متعب الهذال طعم الهزيمة عندما حاول الدفاع عن حرمة الوادي، وإطلاق الرصاص على معكسر الأميركان، فاكتشف أنه غير قادر على أن يقدم، لوحده على مثل ذلك الفعل العظيم، الشيء الذي جعله يعود إلى بيته منهارا، ومحبطا، وقد دخل في حالة الهذيان. قال لزوجته وضحة: (يقولون: يوم القيامة؟ اليوم يوم القيامة، يقولون: إذا مشى الحديد على الحديد، اليوم رأيت الحديد يمشي على الحديد)ص72.

أمام هذا الوضع المأساوي العام، ونتيجة لإدراكه ووعيه التام بالأبعاد الهدامة والخطيرة للوجود الأميركي في واقع الوادي العيون الطبيعي والبشري والثقافي سلك متعب الهذال طريقة أجداده في مقاومة ومحاربة خطر الطامعين والظالمين. ونستحضر هنا، جدلية: وادي العيون/الأتراك، في الماضي، والذي مثل فيها جازي الهذال، كجد لمتعب هوية ذات وشخصية وادي العيون، كمكان وفضاء حضاري له مقوماته الخصوصية والتاريخية المتجذرة. فها هو الزمن يكرر نفس تلك اللحظات الحارة والخالدة، ويجعل نص التيه، من خلال حكيه الروائي المتدفق، يلقي بشخصية متعب الهذال في خضم مسؤولية كبرى، باعتباره يمثل، في زمن الحاضر، هوية هذا الوادي، وبجدلية جديدة: وادي العيون/الأميركان، فكانت طريق الحرب والسلاح هي السبيل إلى المقاومة ورد الاعتبار، من هنا، كان عنصر السلاح، في حياة آل الهذال عامة، وحياة متعب بشكل خاص، يكتسي صبغة تقديسية وأساسية، حيث إن متعب الهذال كان يطلق دوما النار في اتجاه القمر كلما وضعت زوجته ولدا جديدا. وقال مرة لابنه الأكبر شعلان (لا تلعب بالسلاح أبدا، لأن من يلعب به مرة يلعب به كل مرة) 75.

هكذا نكون أمام الصياغة الدالة التالية: حركة فاعلة في اتجاه الأميركان، تنجزها الحكومة بطرفيها الأساسيين (الأمير، ابن الرشد)، وأهل الوادي، بعد أن تم احتواؤهم من طرف الأميركان، وحركة منفعلة معاكسة، متعب الهذال، لوحده، بوعيه اليقظ، في اتجاه وادي العيون. نقرب الصياغة أعلاه بالخطاطة الآتية:

الحكومة

- - - - - - - - - - - - - - - - - - الأميركان

علاقة تواطؤ

أهل وادي العيون

علاقة خيانة علاقة صراع

حركة منفعلة

وادي العيون - - - - - - - - - - - - - - - متعب الهذال

علاقة ارتباط



لإبراز ملامح الحالة النفسية السيئة والأزمة الذهنية الصعبة التي أصبح يعيش فيها متعب الهذال، نتيجة هزيمته الأولى، في صراعه ضد الهيمنة الأجنبية، يركز نص التيه، من خلال هذا المقطع الأول، على وصف أهم التغيرات التي بدأت تظهر على وجهه، والاضطرابات، والتعصبات التي باتت تميز سلوكاته وتصرفاته، بالضبط بعد واقعة عجزه البين والتام عن إطلاق النار على مخيم الأميركان، وأيضا اعتمادا على أحاديث هذيانه وأقواله الغامضة التي تفتقر لأي تنسيق دلالي..

قال الراوي: (كان حجرا وأشبه إلى الحجر: وجه شاحب، متخشب، متجمد الملامح ولولا رفة العينين، تظهر بين فترة وأخرى، لظن من ينظر إلى وجه ابن هذال أن وجه ميت يرى)ص93. ومن الملاحظ أن هذه التغيرات المظهرية والنفسية التي أصبحت تميز شخصية متعب الهذال كانت تسير في خط مواز للتغيرات الجذرية والاقتلاعية التي كان يتعرض لها وادي العيون فاقبل آلات الميركان الضخمة.

قال متعب الهذال، حين شرعت هذه الآلة الأميركية في إرسال الذوي من أجل البدء في الحفر واقتلاع الشجر: (وصلت العفاريت، ولازم نضر بها، وإذا بقينا مثل الخشب، راح تآكلنا، وما تخلي منا أثر (ص)99. وقد نقل آخرون أنهم سمعوه يقول (يا أولاد الزواني، يا أحجار القراني، سأنتقم منكم قبل أن ينتقم الواحد القهار، وقالوا أيضا أنه شتم الحكومة والسكان والأمير وكل الذين يساعدون الكفار (ص)102.

بعد ذلك، أدى الجنون المهيمن على شخصيته، والذي يحمل هنا دلالة مأساتية، بمتعب الهذال إلى اختيار الرحيل وطريقة التيه في الخلاء والصحراء، خصوصا عندما (بدأت مجزرة وادي العيون(105)، وتيقن أن الأميركان بآلاتهم الهدامة قد انتقلوا إلى مرحلة مختلفة وهي مرحلة تحويل أراضي الوادي، من فضاء رمزي وثقافي عربي، وحضاري بدوي طبيعي، له جذور عريقة في تاريخ المنطقة بكاملها، إلى فضاء صناعي أمريكي ومغتصب، لهذا، لم يعد له مكان هناك، ليخلف، متعب، برحيله ذاك الكثير من الأسئلة المقلقة والمحيرة، في أوساط أهل الوادي، ليكون نص التيه، في هذا المقطع، قد جعل شخصية متعب الهذال تتحول من لحظة الجنون، التي ارتبطت بوعي متعب التام والتميز بالأهداف الحقيقة للوجود الأميركي في أرض وادي العيون، خاصة عند مجيئهم الثاني، إلى لحظة أكثر تميزا واختلافا عن اللحظتين السابقتين (لحظة السؤال، لحظة الجنون) والمتعلقة بلحظة الغياب، حيث سيواصل متعب الهذال صراعه ضد الميركان، حتى نهاية النص، لكن بطريقة الحضور والغياب، ووراء ستار ظلمات الليل..

الحكومة نقلة

------------------------ زمن المستقبل

الأميركان امتلاك وادي العيون

عودة افتقاد

زمن الماضي ----------------------- متعب الهذال

(المقاومة = الأجداد)

أما أهل الوادي فكان نصيبهم من كل هذه التطورات والتغيرات التشريد والإقصاء والترحيل الإجباري عن أرضهم الوادي، بعد أن شرعت الآلة الأميركانية في ابتلاع اليابس والأخضر.

قال الراوي: (كانوا بصمت، قد انتهوا من استعدادهم للرحيل، أما حين تركوا وادي العيون، أو بكلمة أدق، حين أجبروا على تركه، بعد شروقالشمس بقليل، فقد كانت بين الراحلين عائلة متعب الهذال)ص117.

نخلص إذن، إلى أن تجربة جنون متعب الهذال، في المقطع الأول، في رواية التيه لعبد الرحمان منيف، ترتبط، بشكل جدلي وقوي جدا بجدلية كبرى وشاملة، تهيمن على تفاصيل النص بكامله وهي:

وادي العيون/الأميركان

الوطن/الاستعمار

الشرق الغرب

(الذات) (الآخر)

وتقوم تلك التجربة، من ناحية أخرى، على أساس جدلية صغرى، تعتبر امتدادا، وجزءا مكملا، دلاليا، للجدلية الأولى، وهي: متعب الهذال/الحكومة

(المواطن) (السلطة)

وأخيرا، يمكن التأكيد على هذا التفاعل المتين الذي صاغه نص التيه، من خلال مقطع وادي العيون، وبالتركيز على تجربة متعب الهذال الجنونية، بين هوية الأرض وهوية الإنسان (الذات) من جهة، ودور الحكومة (السلطة)كجزء مهم من تركيبة تلك الذات، في استبدال هذه الهوية الذاتية، بكل مقوماتها الرمزية والثقافية والحضارية (وادي العيون) وتقديمها "في طبق من ذهب" لذات أجنبية أمريكية مضادة، نتيجة تواطؤ واشتراك الطرفين معا (السلطة والأجانب: الأميركان) في مصالح نفعية خاصة من جهة أخرى.

هكذا، يتمكن هذا المقطع ببلاغة عقل جنون متعب الهذال من صياغة مفارقة مهمة وأساسية، نوضحها بالنتائج الدالة على الشكل التالي:


وضع اللاتوازن اللحظة الحدث ملامح الجنون


1 السؤال عودة الأمريكان الثلاثة الملمح النقدي

2 الجنون عودة الأمريكان / الآلة الملمح المأساوي

3 الغياب مجزرة الوادي الملمح المأساوي الجذري










اV - تيمة الجنون في مقطع حران:

ينجز نص التيه، من خلال مقطع حران، أربعة تجارب للجنون، تشكل، بصفتها التركيبية العامة، استمرارا وتطويرا نوعيا لدلالة تيمة الجنون في مقطع وادي العيون. وقد تم التعامل مع هذه التجارب، كما فعلنا سابقا في المقطع الأول، من حيث صورها الجدلية، وحمولاتها الصراعية والنقدية حينا، والنفسية والمرضية والمأساتية حينا آخر.

وقبل رصدنا لبعض من هذه الجدليات والتجارب الجنونية التي تم تحديدها، ينبغي، في البداية، الإشارة إلى أنه تم تشغيل واستعمال تعبيرين جديدين، في سياق تحليل معطيات هذا المقطع الثاني، أملتهما طبيعة موضوعنا في هذا البحث، وهما:

أ ـ محور الذات، ونعني به كل ما له علاقة بالمكون المكاني (حران) الذي لايقل أهمية ومكانة دلالية من مكون وادي العيون، في المقطع الأول. ويشمل مكون محور الذات هذا على مجموعة من العناصر المساعدة: أهل حران وفئة العمال..

ب ـ محور الآخر، الذي نقصد به بالخصوص الأميركان، كبؤرة لهذا المحور الذي يضم كلا من: ابن الراشد (الخادم الخائن)، الأمير وحكومته وفئة الأغنياء، مع التأكيد على العلاقة الصراعية والضدية القائمة بين هذين المحورين، تلك العلاقة التي تغطي، عبر ظلال دلالاتها العمودية، ممتدة في كل أجواء الفضاء الروائي للتيه، معتمدة في أداء وصياغة دلالتها تلك على عنصر اختلاف أشكال وصور ظاهرة الجنون التي تصيب كل شخصية تصدمه مرارة الحقيقة وحرارة الهزيمة غير المحتملة..

ولسبب منهجي وإجرائي محض لن نتناول في هذه الدراسة، أو الجزء المتبقي منها، كل التجارب الجنونية، الواردة في هذا المقطع الأخير من النص، بل سنركز أساسا على رصد مظاهر وخصوصيات تيمة الجنون، من حيث كيفية اشتغالها دلاليا مع السياق العام للمعنى الروائي في نص التيه، من خلال تجربتين، نعتبرهما أساسيتين في تحديد أبعاد دلالة الجنون في مقطع حران، ونعني بهما: تجربة جنون هاجم وتجربة جنون ابن الراشد.فما هي خصوصيات وملامح تجربة جنون هاجم في خضم المعنى الروائي العام لنص التيه؟

1 ـ تجربة جنون شخصية هاجم: البدوي يعلن الحرب ضد المتواطئين.

عبرت تجربة جنون هاجم عن ذاتها، من خلال ثلاث لحظات أساسية دالة، ضمن السياق الدلالي الكوني للنص، الذي تتميز فيه مجتمعة بخاصيتها البنائية، والتكاملية من حيث اشتغالها الوظيفي، على مستوى تأسيس صرح قاعدي لمعنى الجنون الذي سيشكل موضوع مقطع حران، والمرتبط أساسا، وكما لاحظنا ذلك في المقطع الأول، بالنظام الدلالي للصراع القيم والرمزي بين الأميركان، كقوة وسلطة فاعلة ومهيمنة، تطمح بوسائلها الخاصة، الذاتية والمتخلقة، إلى محو ذات أخرى، مختلفة، والقضاء على خصوصياتها، وبين حران، كفضاء مكاني وبشري، ومستقبل للغزو الأميركاني، هذا الفضاء الذي كان فاقدا للأسلحة المناسبة التي يمكن أن تؤهله لخوض الصراع ضد ذلك الغزو، والحفاظ على توازنه ومواصفاته التي هي استمراره في الحياة.

1-1-لحظة الصمت: الموت الكاشف.

أدى اختفاء الطرف الآخر لهوية هاجم، أخوه مزبان، غرقا في عمق البحر، وهو بصدد قلع إحدى صخوره، من أجل توسيع الميناء، وبشكل مفاجئ وعفوي، إلى إحداث تغير نفسي كبير، وبكيفية مفاجئة أيضا، طرأ على شخصية هاجم، الطرف الباقي للهوية، تجسد في شكل حالة جنون متميزة، اتخذ لها النص صورة الصمت المطلق، وفقد القدرة على الكلام، وكأن تجربة جنون هاجم هذه، التي بدأت صامتة، توازي بين مزبان، الكائن الإنساني، واللغة ككائن تواصلي، تشد العلاقات الوجودية بين البشر، باعتبار أنه بمجرد اختفاء الأول (موت مزبان) ترتب عليه، وبشكل عفوي، اختفاء الثاني (اللغة)، وبالتالي الحضور التدريجي لمرارة الجنون وحرارة المأساة..

قال الراوي: (ففي فجر اليوم التالي، حيث تعود عمال البحر أن يذهبوا قبل غيرهم، وبعد أن غادر هؤلاء المعسكر وركبوا البحر، وحين طلب إلى ثلاثة من العمال الغوص لكي يثبتوا حبلا في أحد الصخور تمهيدا لقلعها، وكان مزبان واحدا منهم، في هذه النزلة التي أخذت الثلاثة إلى حيث حدد لهم، وبعد فترة قصيرة عاد الإثنان ولم يعد مزبان) ص 279.

وبالمقابل، كان لموت مزبان في البحر تأثير كبير على الحالة النفسية للعمال، وزاد، بالتالي، في تطوير موقفهم من محور الآخر عامة والأميركان بوجه خاص، من حيث إن العمال بدأوا يدركون حقيقة الأميركان الاستغلالية، والاستنزافية لطاقاتهم وقدراتهم المادية والبشرية. قال الراوي: (أما التعويضات التي يمكن أن تصرف عن الوفاة، فما زال أمرها معلقا. إذ يعتبر المكتب القانوني في الشركة أن "الشركة غير مسؤولة وغير ملزمة"، باعتبار أن المصادقة على نقل العمال إلى مسؤولية الشركة قد تمت بعد الوفاة) ص331.

أما حين طلب ابن الراشد من الحكومة أن تتدخل وتفك هذه المشكلة عبر الأمير عن موقفه بوضوح قائلا: (البشر برقبتنا يا ابن الراشد، والأحسن أن تشوف جماعتك، وارضوا الناس بقريشات وخلصونا من الطلايب)ص287 وأمام موقف الأميركان الرافض لدفع التعويض، وصمت الحكومة، لجأ ابن الراشد إلى حل ممكن، رأى فيه علاجا لمشكلته التي تورط فيها، بحيث إنه أقدم على إبعاد هاجم المريض، الذي كان يعكس "تواجده وحضوره مأساة أخيه مزبان، الميت، في حران، إلى منطقة بعيدة تسمى أم السعف، ليطمس بذلك معالم مأساة موت مزبان في ذاكرة العمال، وكذلك إخفاء جنون هاجم الذي ما فتئ ينمو ويكبر وراء رمال الصحراء..

وفي سياق المواقف والعلاقات الروائية السابقة، تمكنت تجربة جنون هاجم، من صياغة ملمحها المأساوي، المتعلق، بشكل جدلي، بالصدمة القوية، التي خلفها الموت المفاجئ لأخيه مزبان. وقد أدى الراوي الدور المركزي في تبيان وإظهار تجليات هذا الملمح، في تجربة شخصية هاجم، وخاصة في هذه المرحلة الأولى منها، بالتركيز أساسا على وصف مظاهر المريض الجسدية، وتصوير بعض سلوكاته المضطربة، الصادرة عنه، بكيفية عفوية وملفتة للنظر. قال الراوي (بدا منذ الساعة التي وضع فيها مزبان في القبر، وأهيل عليه التراب، إنسانا آخر: زاغت نظراته وارتجف فكاه، وبدا غائبا. صحيح أنه لم تسقط من عينيه دمعة واحدة، ولم تخرج من فمه كلمة، لكنه كان مذهولا، كان ينظر في الوجوه وكأنه يبحث عن أحد. حتى إذا تأكد أن الذي يبحث عنه غير موجود أخذ يبتسم، ثم يقهقه، ويضرب ساقه براحة يده. كان يفعل ذلك دون وعي ودون إرادة)ص280.

هكذا، حضر الجنون، في جميع أطوار تجربة هاجم، في شكل الصمت التام، ليكون بذلك قد أدى وظيفة دلالية سلبية، منفعلة ومرضية، شلت لغته وأفقدته الوعي والإرادة، وشتتت حركاته، على الأقل، في هذه المرحلة البدئية من التجربة.

غير أنه، مع عودة هاجم من عجرة (إحدى ضواحي أم السعف)، وبصحبة خاله، البدوي القاسي، ستتحول تجربة جنون هاجم إلى ممارسة فعلها النقدي بواسطة أقوال ولغة الرجل البدوي، الذي هو بمثابة امتداده العائلي والتاريخي، والذي أيضا اقترن حضوره، في النص، بلحظة القول.

1-2-لحظة القول: ثورة البادية والتاريخ ضد خيانة الأهالي:

تحكمت في توليد دلالة هذه اللحظة الثانية في مقطع حران علاقتها القولية بالمحورين المتصارعين في نص التيه ككل، من جهة، وبالحضور المفاجئ للبدوي الذي أضفى على تجربة هاجم الجنونية طابعها النقدي، من جهة أخرى.

1-2-1-موقف محور الذات:

لقد ازداد توتر العمال ووعيهم بحقيقة العلاقة التي تشد الأميركان إليهم من ناحية، وإلى ابن الراشد من ناحية ثانية، نتيجة الصورة المأساوية التي عاد بها هاجم إلى حران، وبرفقة خاله، الرجل البدوي الغاضب، حيث إن العمال الذين استقبلوا الشخصين، شعروا (بالحزن يسحق عظامهم، وشعروا أنهم غير قادرين على أن يواصلوا النظر إلى وجهه، خاصة العينين، وزاد حزنهم أنهم تذكروا كيف كان الحوت الصغير)ص319-320، "والحوت الصغير" هي تسمية لقب بها هاجم من طرف العمال، في حين لقب أخوه الأكبر "بالحوت الكبير" لإتقانهما فن السباحة.

كما تميز موقف أهل حران من عودة هاجم من "منفاه الاضطراري" الذي حوله إليه ابن الراشد بنفس التجاوب والتواصل الدلالي الذي طبع موقف العمال سابقا. قال الراوي: (وحران التي شعرت بالحزن إلى درجة التعاسة لم تستطع أن تخفف من غضب الرجل، أما الدعوات التي وجهها إليه أهل حران، أن يذهب معهم، أن يستريح ويتعشى حتى إذا جاء اليوم التالي لابد أن يجدوا ابن الراشد، وأن يجدوا حلا لهذه المشكلة، فإن الرجل رفض الدعوات بحزم أقرب إلى الخشونة)ص320.

1-2-2-موقف محور الآخر:

اتسم هذا الموقف، ضمن سياق تجربة جنون هاجم العامة، بانشطار داخلي، ستعرفه العلاقات التواطؤية القائمة بين الأميركان، قمة المحور، وبين خادمهم، التابع، ابن الراشد، باعتباره أن الطرف الأول من العلاقة متمسك بموقفه الواضح من موت مزبان ومسألة التعويض، ويحمل كامل مسؤولية الحادثة المفجعة لابن الراشد. يقول الراوي: (رفضت الشركة بإصرار أن تقدم أي تعويض، حتى لو كان رمزيا، لأن القانون والنظام هو النظام، أما الحجة دائما فهي أن مسؤولية العمال انتقلت إليها بعد الوفاة، والشركة، قبل هذا التاريخ، لاتعترف لأحد بأية حقوق أو تعويضات، لأن الاتفاق مع ابن الراشد يلزمه بتقديم العمال المياومين، وهو وحده المسؤول)ص341.

في المقابل، كان ابن الراشد يحاول جاهدا رد وإبعاد التهمة وثقل المسؤولية عن نفسه، ويتهم الشركة الأميركية، حيث إنه قال، عندما سأله الرجل البدوي، عن مزبان، وفي حضور نائب الأمير: (ـ مات موت الله

ـ أخذته للبحر وغرقته وتقول مات موت الله؟

ـ انطح فالك يارجل، الحياة والموت من الله؟

ـ لوما أخذته للبحر ما مات..

ـ أنا ما أخذت أحدا.

ـ أنا أخذته؟

ـ الشركة، الأميركان هم أخذوه، وهم مسؤولون، يقولون التعويض يصلكم؟)ص328.

هكذا تكون تجربة جنون هاجم قد عبرت عن ملمحها المأساوي، في إطار وضع لا توازني عام، في لحظة الصمت، وعن طريق هاجم ذاته، في حين عبرت عن ملمحها النقدي الفعال، في لحظة القول، من خلال شخصية البدوي، كوجه عربي وتاريخي بديل لوجه هاجم الضحية، لينتقل النص بمعطيات هذه التجربة، التي هي ما فتئت تنمو وتتطور، لاحقا إلى مستوى روائي جديد، هو لحظة الغياب.

نسجل إذن، الصياغة الدالة التالية:



الملمح المأساوي --< هاجم --< لحظة الصمت

تجربة جنون هاجم

الملمح النقدي --< البدوي --< لحظة القول.



1-3-لحظة الغياب: الرحلة المخيفة

إذا قدم نص التيه عنصر الغياب، في تجربة متعب الهذال، في شكل التيه، وفي تجربة هاجم، على شكل سفر، فإنه، وفي كلا الحالتين، يركز على شيء مهم للغاية، وهو أن ثمة علاقات تقوم بين غياب متعب الهذال، في مقطع وادي العيون، وغياب هاجم في مقطع حران. بحيث إن هاتين الممارستين معا تعبران، من جهة، عن احتجاج ضد واقع سلبي مهيمن، والرغبة، رغبة عقل الجنون المتوهج، في تغييره أو المشاركة في تبديله بواقع إيجابي وإنساني ممكن. فالواقع السلبي المهيمن، في تجربة متعب الهذال، له صورة انضمام أهل الوادي إلى صف وموقف الحكومة، وبالتالي إلى قناعة الأميركان والسقوط في فخ مكيدتهم. ونفس الوقت يتميز، في تجربة هاجم، بوقوف الحكومة إلى جانب موقف الأميركان، وسكوتها عن مشكلة مزبان، وإلقاء مسؤولية موته على عاتق ابن الراشد. وكلا التجربتان، فضلا عن ذلك، تعبران، من جهة أخرى عن هذه العودة المتكررة إلى الجذر، الأصل، الحاضر، في تجربة متعب في صورة الصحراء التي تستلهم بذلك، جزءا مهما من تاريخ عائلة آل الهذال العربية الأصيلة، التي كان رجالها الأبطال يعودون دوما، إلى المكان ذاته، كلما أفرز واقعهم ظروفا مماثلة (الاحتلال)، وهي الظروف نفسها التي صادفت حياة متعب عند مجيء الأميركان، الأمر الذي جعله، كما كان يفعل أجداده، يتيه في الصحراء، عائدا إليها، من أجل مقاومة الاحتلال بالسلاح..

أما في تجربة هاجم، فقد كانت العودة، التي اختار لها النص نفس الاتجاه: البيداء (عجرة)، عودة مكنت تجربة جنون هاجم من التعبير عن فعلها النقدي، وممارسته بشكل فعال وإيجابي، من خلال لسان ووعي ودم الرجل العربي البدوي، الذي هو من صلب قبيلة الضحية (خاله). إذن، عودة هاجم إلى أصله كانت ضرورية لكي يستكمل جنونه دورته الممكنة والطبيعية، وبالتالي دورة جنون محور الذات..

نسجل إذن، الخطاطة التوضيحية التالية:



تجربة متعب الهذال -< التيه ----------- الصحراء (آل الهذال)

دلالة الغياب العودة -< الجذر الماضي

تجربة هاجم -< السفر ---------------- البادية (الأهل)



2 ـ تجربة جنون شخصية ابن الراشد: سقوط أقنعة التواطؤ في اتجاه الموت.

إذا كانت تجربة جنون هاجم قد حضرت في النص دفعة واحدة، وبدون توقع، فإن تجربة جنون ابن الراشد، والتي تعتبر التجربة الأولى والفريدة من نوعها، من حيث انتماؤها إلى محور الآخر، على العكس من ذلك قد حضرت، في سيرورتها، لنمو تدريجي تطوري، تحكمت فيه بشكل وثيق ومتين، ثلاثة لحظات دالة وأساسية، ترتبط فيما بينها بعلاقات نسقية متداخلة، وهي على التوالي: لحظة الخوف، لحظة الجنون ولحظة الغياب..

2-1-لحظة الخوف: انكسار أجنحة ذات طاغية..

عبرت تجربة ابن الراشد، في هذه اللحظة البدئية من وضعها اللاتوازني العام، عن المظاهر والإرهاصات الأولى لحالة الجنون، التي بدأت تظهر على شخصية ابن الراشد، منذ عودة هاجم برفقة خاله الرجل البدوي الغاضب، من الصحراء، بعد أن اعتقد أنه تخلص من مأساة الأخوين معا: موت مزبان وجنون هاجم، بإبعاد هذا الأخير من حران، حيث كان يعمل، إلى صحاري عجرة.. يقول الراوي: (أما هاجم الذي سافر في ذلك الغروب، أو سفر على وجه أكثر دقة، دون أن يحس به أحد، فقد عاد أيضا بصحبة رجل مسن)318، الذي يبحث ويسأل عن ابن الراشد.

هكذا، لم يصل هذا الأخير، حتى اختفى تماما عن الأنظار، ليتحول بذلك من وضع عادي طبيعي، إلى وضع نفسي غير طبيعي جديد، لكي تبدأ مأساته ومعاناته من وسط تجربة هاجم الجنونية. وقد رافقت هذا التحول الذي عرفه ابن الراشد مجموعة من التغيرات المهمة والموازية لهذا التحول النفسي المفاجئ، على صعيد مواقفه وعلاقته مع أطراف محور الذات، من جهة، ومع محور الآخر، من جهة أخرى.

2-1-1-محور الذات: مثله، في هذه اللحظة، عنصر العمال الذين ازدادوا وعيا وفهما لحقيقة الأميركان، من خلال الفعل البشع والظالم الذي ارتكبه ابن الراشد في حق مزبان، المتوفى وأخيه هاجم، المصاب بالجنون.. يقول الراوي: (الآن وهاجم يصل إلى حران بهذه الصورة دليل شديد الوضوح والقسوة على نوع المعاملة والنظرة إلى هذه المخلوقات البشرية، فإذا أضيف هذا الدليل الحي المتحرك تهديدات الخال والغضب الذي أخذ ينتشر ويتسع بين العمال فلا بد وأن تؤدي الأمور إلى نتائج لاتريدها الشركة)ص332.

2-1-2-محور الآخر:

ظل الأميركان متمسكين بموقفهم السابق، والمتعلق بنفي وإسقاط عبء مسؤولية التعويض عن الشركة النفطية، وإلقائه على عاتق ابن الراشد، في الوقت الذي لم يهتم الأمير بالموضوع، واختار طريق الصمت:

نسجل إذن الخطاطة التقريبية التالية:



مصور الذات -< العمال

عودة هاجم-< وضع اللاتوازن-< تجربة جنون ابن الراشد-< لحظة الخوف

+ الرجل البدوي الأميركان

(الحال) محور الآخر

الحكومة

علاقة تجاهل

2-2-لحظة الجنون: فاجعة المرض والحكي الساخر:

هيمنت على هذه اللحظة، من تجربة ابن الراشد الجنونية العامة، حالته المرضية المتدهورة، والتي لم تكن، في تقديرنا، سوى نتيجة بديهية لمواقفه الخاصة السابقة من أطراف محور الذات الأساسية بصفة عامة (خصوصا أمكنة: وادي العيون + حران).

لهذا، فلحظة الجنون هذه، التي توجهت بغياب الرجل البدوي مع هاجم، وحضور شبح متعب الهذال في النص، ليحضر معه توهج العقل الثائر الناقد والرافض للجنون، ضدا للتواجد الميركي واغتصابه لأرض ليست له..

كما أن الرجل البدوي، الذي سبق أن أضفى الطابع النقدي على تجربة هاجم الجنونية بظهوره الذي لم يكن في الحقيقة سوى ظهور وإحياء للذاكرة الجماعية والتاريخية الحية، هو نفسه، الذي أضفى الملمح المأساوي والمرضي على تجربة ابن الراشد الجنونية..

يقول الراوي: (من خلال ما بدأ يظهر على ابن الراشد من قلق وخوف بدأت الأخبار والإشاعات تتردد في مقهى أبو أسعد، وفي السوق أن عددا من المسافرين شاهد هاجم وخاله في عجرة، ولم يكونا وحدهما هذه المرة، كأن معهما متعب الهذال ذاته، وبرفقته عدد من البدو المسلحين)ص353-354.

هكذا تحضر مأساة وادي العيون في شكل ظهور متعب الهذال ضمن تجربة جنون ابن الراشد.

وقد ركز الراوي في تجلية وإظهار الملمح المأساوي، الذي سيطر على التنظيم الدلالي العام للحظة الجنون هذه، على تصوير المظاهر الجسدية، والتغيرات النفسية، التي بدأت تنعكس آثارها على سلوكات ابن الراشد وعلاقته مع الآخرين، تلك العلاقة التي ينتظمها الطابع الانفعالي، المتوتر والمرضي، بشكل ملفت، اختار له نص التيه قالبا سخريا، واضح المعالم.. يقول الراوي: (كان يبدو شديد القلق، وقد تغير شكله كثيرا: حركته سريعة، وعيناه شديدتا التنبه والفزع، وكان دائم الالتفات إلى هذه الناحية وإلى تلك، دون سبب ظاهر وبطريقة عصبية. أما الأصوات المفاجئة. حتى لو كان أحد ينادي على آخر، أو سقوط شيء من الأشياء، كانت هذه الأصوات تفزعه) ص354.

هكذا تكون إذن، تجربة ابن الراشد الجنونية قد صاغت لنفسها ملمحا مأساويا وسوداويا، داخل قالب سخري، نتيجة عنصر "العودة" الأساسي، هنا، في هذه التجربة، والذي يرتبط بعلاقة امتلاك لها شقين متكاملين هما:

عودة هاجم بصحبة خاله البدوي، هذه العودة التي استحضر النص من خلالها-وكما أشرنا إلى ذلك سابقا- مأساة مزبان، ثم عودة متعب الهذال، بشكله البطولي المقاوم، الذي استحضر النص من خلال عودته هذه مأساة وادي العيون وأهله..

هكذا، نكون أمام النتائج الدالة التالية، نقربها في سبيل التوضيح، من خلال الخطاطة الآتية:

تجربة ابن الراشد -< الملمح المأساوي -< عودة هاجم -< مأساة الإنسان -< زمن الحاضر.

الجنونية + البدوي مزبان

-< الملمح السخري -< عودة شبح -< مأساة الأرض -< زمن الماضي

متعة الهذال وادي العيون

2-3-لحظة الغياب: رحمة الموت:

إذا كانت لحظة الخوف قد أدت، في سياق تجربة ابن الراشد الروائية، إلى لحظة الجنون، فإن هذه الأخيرة، من جهتها، ستولد لحظة الغياب، التي تميزت بتأسيس النهاية المأساوية لشخصية ابن الراشد، الحاضرة، هنا، في صورة الموت.

قال الراوي: (بعد شهر من عرس الدباسي، مات عبد العزيز الراشد)ص383. غير أن اختفاء ابن الراشد بهذه الطريقة، وبعد التضحيات الكثيرة التي قدمها لمحور الآخر، سواء للحكومة، في مقطع وادي العيون، أو للأمريكان في مقطع حران، جعل أطراف محور الذات تتساءل، وتعبر عن مواقفها، بوضوح تام، من ما حدث، من خلال، أولا، أهل حران، الممثلين في المقطع ككل بشخصية ابن نفاع، وأخيرا العمال، الذين يجسد عبد الله الزامل تصورهم ومواقفهم من الحادث:

أ ـ ابن نفاع: قال الراوي (أما ابن نفاع فلهم يكن يحتاج إلى إقناع أو تحريض، كان واثقا، متأكدا أن ابن الراشد مات منذ اللحظة التي وضع فيها يده بيد الأميركيين)ص388.

ب ـ عبد الله الزامل: قال، بعد أن اجتمع الرجال حوله، وتطلع إلى الوجوه:

(ـ أتعرفون من قتل ابن الراشد؟ فلما انشدت إليه العيون قال وهو يهز رأسه:

ـ الأميركان هم اللي قتلوا ابن الراشد…)ص384.

هكذا يحصل الاتفاق الصريح بين طرفي محور الذات: أهل حران والعمال، حول مدى مسؤولية قمة محور الآخر (الأميركان) في قتل ابن الراشد، وأيضا موت مزبان وجنون أخيه هاجم، لينتقل بنا نص التيه، نتيجة لذلك كله، إلى طرح جدلية أساسية شاملة هي: العمال/الأميركان، ضمن جدلية كبرى، تغطي المقطع عامة، وهي: حران/الأميركان، والتي تمثل امتدادا نصيا وتطويرا دلاليا لجدلية: وادي العيون/الأميركان في مقطع وادي العيون.

ويمكننا صياغة المعطيات الدلالية كما قدمها مقطع حران هذا كما يلي:

التجربة الجنونية اللحظة الملمح


شخصية هاجم الصمت المأساوي

القول النقدي

الغياب الأسطوري النقدي


شخصية ابن الراشد الخوف المأساوي

الجنون السخري

الغياب السخري المركب




من هنا، يكون نص التيه، بعد أن أنهى الصياغة الدلالية الكلية للحظات الثلاثة في تجربة جنون ابن الراشد، قد تم للقارئ فهما واضح المعالم لهوية الإنسان، هذا الفهم الذي ينبني عليه كل الفعل الروائي في النص بصفة عامة، والقائم، بشكل خاص على الروابط الأسرية، والأواصر الدموية التاريخية، السائدة بين الأفراد أو الجماعات، حيث إنه بمجرد أن يختفي عنصر من عناصر هذه الروابط، في النص، يحضر، بشكل عفوي، وبطريقة الاختفاء ذاتها، هذا التغير السيكولوجي المضطرب لدى الشخصية أو الشخصيات الباقية في حياة هذا النص، والذي يقدمه هذا الأخير في شكل الجنون. يمكننا تلخيص أعلاه بالصياغة التالية:

-< متعب الهذال -< -< الأرض -< وادي العيون

-< أهل الوادي -< الفقدان -< الأرض -< وادي العيون امتلاك

نص التيه (الهوية) -< هاجم -< -< الأخ -< مزبان الجنون

-< ابن الراشد -< -< الأرض + الأهل -< الأميركان



V - تركيب واستنتاج:

نخلص إذن، إلى أن تيمة الجنون في رواية مدن الملح، من خلال نص التيه، ونتيجة لتحليلنا السابق، تشتغل دلاليا في علاقتها الجدلية بتيمة الهوية، المالكة لصورة الأرض، في مقطع وادي العيون، ولصورة الإنسان في مقطع حران، لنكون، في نهاية المطاف، أمام هوية منسجمة لمحور الذات، أطرافها هي: (وادي العيون، حران، أهل الوادي، أهل حران، متعب الهذال، العمال)، وفي علاقتها الصراعية مع هوية أجنبية ومختلفة، مركزها هو الأميركان وأطرافها هي (ابن الراشد، الحكومة، الأغنياء).

أما موقع عنصر الجنون، ضمن كل هذه المواقف والعلاقات، فكان تلك الطريقة السيكولوجية الضرورية، كسلاح ممكن ووحيد، التي يعبر بها المحور الأول المسود، عن نفسه ويدافع بها عن هويته ضد فعل الإقصاء والمحور الممنهج الذي يمارس عليه من طرف محور الآخر.

كما أنه، فضلا عن ذلك، لاحظنا ثمة قانونين أساسيين، يتميزان بدور مهم في توليد وتحديد تيمة الجنون في نص التيه، وهما:

أن: حضور الهوية -< اختفاء الجنون -< وضع التوازن

اختفاء الهوية -< حضور الجنون -< وضع اللاتوازن

ثم أخيرا، أليس من حقنا طرح التساؤل التالي:ألا يمكن اعتبار رواية مدن الملح للكاتب عبد الرحمان منيف (التيه نموذجا) قد أفلحت في التنبؤ (خصوصا أنها كتبت في بداية الثمانينيات)، بشكل أو بآخر، بزمن العولمة الذي نعيش اليوم عواصفة التجذيرية، هذه العولمة التي تعني، في أبلغ وأدق معانيها أمركة العالم-بحسب تعبير الجابري- والتي لم تكن آثارها أعنف وأقسى إلا على الإنسان العربي أو الإفريقي أو الثالثي بصفة عامة؟؟



#محمد_بقوح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكرسي الأعرج
- قصيدة يسكنها بحر
- هذا المساء ينقب عن وجهه في الشمس
- صهيل السبت الأسود
- غربة الفلسفة من منظور جيل دولوز
- بهاء شذرات نيتشوية
- حديث حول البحر
- قصة قصيرة الميزان العجيب
- نص المدينة و أبوابها الأربعة
- رقصة الأوثان
- كلاب قبيلة الشلال
- شهوة الصمت
- يبس الوقت
- رجال من تراب
- المزيف
- الحريق
- الخراب
- أنشودة الزورق
- أيها العابرون في وجهي
- يوم أزرق


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بقوح - تيمة الجنون في رواية مدن الملح - نص التيه نموذجا - ( بحث )