محمد كشكار
الحوار المتمدن-العدد: 2943 - 2010 / 3 / 13 - 19:46
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في الستينات و في قريتنا "جمنة", لا يوجد جزّار و لا بائع غلال أو بقول و لا دكان مرطبات و لا طبيب و لا صيدلية و لا مركز أمن و لا بلدية و لا مغازات لبيع الآلات الكهربائية المنزلية. في قريتنا بشر و فراشات و قطط و ماعز و حمير و ورد و نخيل و زيتون و رمان و هواء نقي و شمس مطهّرة و عمدة اسمه "الشيخ ابراهيم", مهمته التوفيق بين الناس و ستر عوراتهم و الذود عن أعراضهم و ليس الوشاية بهم. في قريتنا, بيوت آمنة مفتوحة على الدوام و قلوب صافية لا تعرف العنصرية و لا التكبر, ترحب بالجار و الضيف و البعيد و القريب. نساؤنا نساء و رجالنا رجال, يعملون جنبا إلى جنب في الحقل و البيت دون تفرقة في الجنس و الواجبات. الجار يكفل الأيتام و هم في منزلهم و يعوض الأب في الحنان و المسؤولية و الجارة تضاهي الأم في الرقة و الحب. أطفالنا يحترمون الكبير و شيوخنا يربون الصغير. بلادنا يا ناس من أجمل و أروع البلدان. كلمة جزار كلمة مكروهة في الأخلاقيات البيولوجية و كلمة أمن مكروهة في الأخلاقيات الريفية لاقترانها بالسلطة المفروضة من الخارج. كل عائلة تنتج حاجتها أو تأخذها من الجار إعارة أو هبة. لا نربي خرفانا و لا بقرا لأنها تأكل كثيرا و تشرب كثيرا )إنتاج كيلو لحم بقر يحتاج إلى 100.000 لتر من الماء( بل نربي ماعزا و دجاجا يرعى في حرية من الصباح إلى المساء و يغذي نفسه بنفسه تقريبا مثل النبات الأخضر. في منازلنا لا توجد حنفيات فلا نبذر الماء و لا نستهلك منه إلا الضروري. يعتمد نظامنا الغذائي على النباتات فنحن تقريبا نباتيين لا نذبح العنزة إلا في عيد الأضحى للضرورة الدينية أو عندما تكون مريضة. نشرب حليب العنزة, و نأكل بيض الدجاجة, و نستعمل فضلاتهم سمادا عضوياّ فلماذا نذبحهم يا ترى؟ لا نعتدي على حيواناتنا الأليفة بالعنف و إلا لماذا نسميها أليفة؟ أليفة لأنها ألفت من غدرنا و جشعنا و نهمنا. نأكل الفرع و نحافظ على الأصل. لا نستهلك السكر الأبيض و الحليب الأبيض إلا في الشاي. دكان العطار لا يبيع, لا ياغورط و لا شكلاطة و لا بسكويت و لا جبن, أراحنا الله من الأغذية المصنعة و الملونة و المسرطنة. وجبتنا بسيطة جدا و بيولوجية مائة بالمائة لأننا لا نستعمل في إنتاجها سمادا كيميائيا و لا مبيدات أعشاب و لا مبيدات حشرات. نكتفي بما تنتجه الطبيعة و نقنع بالقليل لسد الرمق. لا نصنع حلويات في عيد الفطر لاقتناعنا التقليدي أنها ليست غذاء بل سموما عسيرة الهضم تنهك "البنكرياس" و القلب و الشرايين. نزرع الحبوب في السهول فيسقيها مفرج الكروب, نحصدها بالسواعد و المناجل, نفصل حبات القمح عن سنابلها بطريقة تقليدية يدوية و نطحنها برحى حجرية و نغربلها و نصنفها برغلا و كسكسا و خبزا. كان مطبخنا فقيرا و لكن صحّيا, لم نكن نستهلك لا مرق فاصولياء و لا مرق جلبان و لا مرق ملوخية و لا بطاطا مقلية و لا "طاجين" و لا أرز بالفواكه و لا سمك, لا مقلي و لا مشوي. كانت وجبتنا مغذية لكنها ليست لذيذة. اللذة في الطعام يا سادتي يا كرام تصحب معها دائما الأمراض: خذ مثلا الأكل المقلي أو الدسم, يعدّ من أشهى الأطعمة لكنه يدمر القلب و الشرايين, أطباق الحلويات المتنوعة تنخر الأسنان و ترهق "البنكرياس" و تمهد لمرض السكر, المصبّرات المملّحة ترفع في ضغط الدم. نطبخ و نأكل في أواني طينية مصنعة يدويا و خالية من النحاس و الألومونيوم المسرطنين . نغسل هذه الأواني بالطين الأخضر أو بالصابون الأخضر الطبيعي. لا نستهلك من الطاقة الحرارية إلا القليل, نستخرجه مما يطرحه نبات النخيل من خشب و جريد. تحتل النخلة حيزا كبيرا في تراثنا و وجداننا, فهي مصدر رزقنا و سعادتنا, نسقيها و نمدها بالسماد العضوي فقط. لا نغشها و لا نسممها بالكيميائيات. نربيها سنوات بحب و حنان حتى تثمر على مهلها "رطبا جنيا" نأكل منه القليل و نبيع الكثير و ما زاد عن حاجتنا نخزنه في أوعية خزفية لنستل روحه في لطف و أدب على مدى الفصول الثلاثة الباقية. لا تمثل المعزة في غذائنا الشيء الكثير و مع ذلك نكرمها و نرحب بها, تسكن معنا في نفس المنزل و نعاملها دون مبالغة كفرد من أفراد العائلة. كانت أمي تستيقظ في أنصاف الليالي عند صياحها لتراقبها و تقدم لها الماء أو الغذاء. كان الغائب منا يسأل في رسائله عن العائلة و عن المعزات. عندما تلد المعزة, نقدم لها أكبر الرعاية و لا نسرق حليبها المتدفق بل نتركه لابنها. ابنها الجدي أو العناق يعني الأنثى أو الذكر الذي يملأ ساحة البيت فرحا و بهجة بقفزاته الرشيقة, هذه الصورة الرقيقة من الماضي البعيد ما زالت عالقة بمخيلتي بعد خمسين سنة و كلما تذكرتها غمرتني سعادة منعشة.
في الثمانينات, قدم المحتل إلى قريتنا متنكرا في زي التمدن و التحضر فأهلك الحرث و الزرع, أصبحت بيوتنا من حجر أصم مثل قلوبنا. جاءنا "الأمن" فلم نعد آمنين, أصبح الأخ يشتكي أخاه و الجار جاره لأتفه الأسباب فانقرض التسامح و سادت الوشاية. أغلقنا بيوتنا بالمفاتيح و كثر السراق. تخلى الكبير عن مسؤولياته التربوية فلم يعد يحترمه الصغير. تفشت فينا العنصرية و القبلية و تهافتنا على السلطة الزائفة.
في التسعينات, جاءنا الخير الكبير و النخل الكثير و الفضائيات العشوائية و أصبح لنا مليونيرات و "ديماكسات".
أتمنى من كل قلبي أن لا يقتصر الغنى على الجيوب فقط و يشمل هذا الخير القلوب و النفوس و نتمسك أكثر بعاداتنا التقليدية الجيدة و لا نأخذ من غول الحضارة إلا ما يفيدنا في نهضتنا و أكلنا و تربيتنا و ثقافتنا.
جمنة: قرية جميلة في الجنوب الغربي التونسي.
ديماكسات جمع ديماكس: نوع من السيارات اليابانية المستعملة في النقل الفلاحي و التجاري و الصناعي.
طاجين: أكلة تونسية دسمة جدا و هي خليط متماسك من البيض و الجبن و اللحم.
البنكرياس: غدة في الجسم تنتج "الأنسولين" وهو هرمون يخفض من نسبة السكر في الدم و تنتج أيضا "القلوكاقون" و هو هرمون يزيد في نسبة السكر في الدم..
#محمد_كشكار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟