|
صناعة التوريط في قضايا فساد!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2918 - 2010 / 2 / 15 - 16:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في الفساد، الذي يرتفع منسوبه في استمرار، وتَكْثُر وتتكاثر وجوهه ومظاهره وظواهره، لا بدَّ أوَّلاً من تأكيد وتوضيح أمراً في منتهى الأهمية المنهجية في البحث والدراسة ألا وهو أنَّ "الفاسِد"، أكان فرداً أم جماعة، لا يُوْلَد فاسداً، وإنَّما يصبح فاسِداً؛ ولا بدَّ، بالتالي، من معرفة الأسباب التي جعلته فاسِداً، وكيف (أي الوسائل والأساليب والطرائق..) أصبح، ويصبح، فاسِداً.
"الفساد"، الذي يتعذَّر أن ترى مَنْ يجرؤ على مناصرته علناً ولو كان من أباطرته وأمرائه، إنَّما هو علاقة لا تقوم لها قائمة في غياب طرفيها، أو أحدهما، فالفساد لا وجود له إلاَّ مع وجود "المُفْسِد" و"المُفْسَد"؛ وإنَّه لأمر في منزلة البديهية أنْ تقول إنَّ "المُفْسِد" و"المُفْسَد" يظهران إلى الوجود معاً، ويبقيان على قيد الحياة معاً، ويختفيان، إذا ما اختفيا، من الوجود معاً. من أين يأتي "الفساد"، الذي هو أُسلوب حياة للرأسمالية في عصر "العولمة" على وجه الخصوص؟
إنَّه يأتي من اجتماع واكتمال أسبابه، فلا شيء تجتمع وتكتمل أسباب وجوده من غير أن يغدو ظهوره إلى حيِّز الوجود أمراً حتمياً؛ ومُخْتَصَر أسباب الفساد هو "تركُّز الثروة والسلطة"، فحيثما تركَّزت الثروة والسلطة في أيدي قِلَّة قليلة من الناس عمَّ الفساد وانتشر واستفحل.
لا تنسبوا الفساد إلى "النفس البشرية" إلاَّ إذا أردتم تعليلاً أو تفسيراً جزئياً، ليس بذي أهمية كبيرة لجهة فهم الفساد، والصراع ضده، فإذا كان العالَم ممكن التفسير بأحد مبدأين، هما "المبدأ الواقعي" و"المبدأ النفسي"، فإنَّ من الأهمية بمكان أن نعرف، بعد ذلك، المبدأ الذي يُفسِّر الآخر؛ ولا شكَّ في أنَّ "المبدأ الواقعي" هو الذي يفسِّر "المبدأ النفسي"، ولو كره القائلون بـ "حُكْم العقل للعالم".
لقد فهمنا "الفساد" كما ينبغي لنا فهمه، أي على أنَّه النتاج الحتمي والطبيعي والضروري لـ "تركُّز الثروة والسلطة" في أيدي فئة ضئيلة من أبناء المجتمع؛ ولكنَّ هذا "التركُّز" إنَّما يعني، ويجب أن يعني، أنَّ "الفساد" هو الابن الشرعي لمجتمعٍ عمَّه الفقر والاستبداد.
"المُفْسِدون" إنَّما يأتون مِمَّن تركَّزت في أيديهم الثروة والسلطة؛ أمَّا "المفسَدون" فنراهم يَكْثُرون ويتكاثرون حيث المعاناة من الفقر والاستبداد على أشدها.
في عالَم السياسة والمشتغلين بالسياسة، نرى ظاهرة لم تكن من قبل على ما هي عليه الآن من وضوح واتِّساع وانتشار، فقلَّما تَجِد شخصاً تبوَّأ منصباً عاماً رفيعاً (منصب وزير أو نائب..) من غير أن يكون مستوفياً للشرط الجديد لتبوُّؤ هذا المنصب، وهو أن يكون مورَّطاً، أو متورِّطاً، من قبل، في بعضٍ من قضايا الفساد المالي أو الأخلاقي..، حتى يَسْهُل على "الرقبة"، وهي كناية عن "المُفْسِدين" الذين ورَّطوه، أو سهَّلوا له التورُّط، في تلك القضايا، تحريك وإدارة "الرأس"، أي هذا الذي يَشْغُل الآن منصباً عاماً رفيعاً، في الاتِّجاه الذي تحدِّده مصالحهم وغاياتهم؛ ولطالما رأيْنا وزيراً، أو رئيس وزراء، يُفْضَح فساده، أو بعضٌ منه، عبر وسائل إعلامية، توصُّلاً إلى إرغامه، مثلاً، على تقديم استقالته من منصبه، وكأنَّ هذه "الورقة" يجب أن تكون مخبَّأة عندهم، فلا يلعبونها (أي يكشفونها) إلاَّ عندما تشتد الحاجة لديهم إلى لعبها.
إنَّهم يضعونه (أو إنَّه يجد نفسه) في بيئة وظروف، تُشدِّد لديه الحاجة إلى أشياء معيَّنة، فلا يجد مناصاً من أن يمارِس شيئاً من الفساد (والإفساد) توصُّلاً إلى تلبية تلك الحاجة؛ ثمَّ يوثِّقون فساده، صوتاً وصورةً، ويَسْتَجْمِعون لتجريمه ما يكفي من الأدلة والشهود..؛ ثمَّ يَحْفَظون "ملفه" في "صندوق سرِّي مُحْكَم الإغلاق"؛ ثمَّ يَدَعوه يَمُر، ويذلِّلون العقبات من طريق صعوده في سُلَّم المناصب العامة؛ لأنَّهم يعلمون الآن أنَّه لن يتمكَّن من الذهاب بعيداً عن مشيئتهم وإرادتهم؛ وإلاَّ ما هو تفسير أنَّهم الآن، وليس من قبل، قد قرَّروا كشف ما كان في حوزتهم من أدلَّة على فساده، أو على تورُّطه في بعضٍ من قضايا الفساد؟!
إنَّها هيئات ومؤسَّسات وجماعات منظَّمة، تختصُّ بلَعِب هذه اللعبة، فهي كمثل مصرف لن يُقرِضكَ مالاً (ومالاً كثيراً) إذا لم يحصل منكَ على ما يكفي من الضمانات؛ و"الضمانات"، في هذا السياق، هي أن تكون متورِّطاً، تورُّطاً موثَّقاً، في بعض من قضايا الفساد، التي منها السرقة والاختلاس والرشوة وخرق القانون والممارسة الجنسية غير الشرعية وغير الأخلاقية وغير السوية..
وعلى هذا "المتورِّط"، أو "المورَّط"، وقد يكون من ذوي المناصب العامة المهمة، أن يَلْعَب اللعبة معهم، إذا ما أراد أن يقي نفسه شرَّ أن يلعبوها ضدَّه، فهم يملكون الآن في تطويعه وتسخيره ما يكفي من فنون "الإقناع" و"الإكراه"، ومن "الجَزَر" و"العصي"، فإذا امتثل لهم واستخذى، نجا وكسب؛ أمَّا إذا أبى واستكبر فلا مناص، عندئذٍ، من "حرقه"، أي كشف فساده كاملاً على الملأ، أو الإتيان بما يجعله يشعر بأنَّ الأمر في منتهى الجدِّية، وبأنَّهم عازمون عليه كل العزم، لعلَّ ذلك يزيِّن له الطريق إلى قول "نَعَم".
إذا امتثل لمشيئتهم واستخذى فإنَّه، عندئذٍ، سيتصرَّف ويسلك، سيتحدَّث ويعمل، بما يعكس مصلحتهم المتناقضة ذاتياً، فإنَّ مصلحتهم في تطويعه وتسخيره تتَّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع مصلحتهم في أن يظلَّ، من حيث الظاهر، "فوق الشبهات"، فالظاهر يجب أن يغاير الباطن حتى تُؤدَّى "المهمَّة" على خير وجه.
وهذا الصنف من المطوَّعين المسخَّرين لا يزدهر إلاَّ في مناخ السلطة البيروقراطية، أي حيث يَمْلِك الفرد، أو يُملَّك، سلطات وصلاحيات واسعة، وحيث يتضاءل وزن "المرجعية" التي ينبغي له الرجوع إليها، ووزن هيئات الرقابة والمساءلة والمحاسبة..
ولكم أن تتخيَّلوا حجم الكارثة السياسية والقومية التي يمكن أن تلحق بشعبٍ، وبقضيته القومية، إذا ما كان عدوُّه القومي قد نجح في تطويع وتسخير بعض البيروقراطيين النافذين سياسياً من قادته وقيادته من خلال توريطه لهم، توريطاً موثَّقاً، في بعض من قضايا الفساد المالي والأخلاقي والسياسي!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-فالنتياين-.. عيدٌ للتُّجار أم للعشَّاق؟!
-
الأمين العام!
-
عصبية -الدَّاليْن-!
-
مجتمعٌ يُعسِّر الزواج ويُيسِّر الطلاق!
-
العدوُّ الإيراني!
-
-التوجيهية-.. مظهر خلل كبير في نظامنا التعليمي والتربوي!
-
قصَّة نجاح لثريٍّ روسي!
-
-ضرائب دولة- أم -دولة ضرائب-؟!
-
-الإنسان-.. نظرة من الداخل!
-
-شجرة عباس- و-سُلَّم أوباما-!
-
هكذا تكلَّم الجنرال باراك!
-
-ثقافة الزلازل- عندنا!
-
أوباما يَفْتَح -صندوق باندورا-!
-
مفاوضات فقدت -الشريك- و-الوسيط- و-المرجعية-!
-
سنة على تنصيب أوباما.. نتائج وتوقُّعات!
-
حال -اللاتفاوض واللامقاومة-!
-
مزيدٌ من الإفقار.. ومزيدٌ من -التطبيع-!
-
نمط من المراكز البحثية نحتاج إليه!
-
الأجهزة الأمنية العربية!
-
ما معنى -حل مشكلة الحدود أوَّلاً-؟
المزيد.....
-
ترامب يشعل ضجة بفيديو وأغنية -سأضع آية الله في صندوق وأحول إ
...
-
قطر.. جملة قالها وزير الخارجية لأشخاص -يتحججون بسبب الحرب- و
...
-
إيران تعلن نهاية الحرب مع إسرائيل بعد الاتفاق على هدنة بوساط
...
-
جيش الاحتلال يقر بمقتل ضابط و6 جنود في كمين خان يونس
-
طيارو القاذفات B-2 -الشبح- يروون لـCNN كواليس عملياتهم: -تخت
...
-
نائب ترامب عن ضرب إيران: -لا أحد يريد أن يمتلك أسوأ شعوب الع
...
-
ترامب ردا على تقرير CNN: الغارات على إيران -من أنجح الضربات
...
-
رغم وقف إطلاق النار مع إسرائيل.. أمريكا تراقب أي تهديدات من
...
-
-نصران- في حرب واحدة: ما نعرف عن النتائج الأولية للمواجهة بي
...
-
إيران لم تسقط وإسرائيل تجاهلت دروس التاريخ
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|