|
عصبية -الدَّاليْن-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2913 - 2010 / 2 / 10 - 14:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"الحضارة"، و"الحرِّية"، و"الديمقراطية"، هي أشياء ثلاثة تَحْضُر، وتزداد حضوراً، إذا ما غاب شيء رابع، وازداد غياباً، ألا وهو "التعصُّب" بأنواعه، وفي مقدَّمها "التعصُّب الدِّيني"، و"التعصُّب للدم"، فإنَّ التعصُّب لهذه "الدَّال"، أو لتلك، هو الذي فيه، وبه، تنمو وتقوى وتشتد "الوحشية" في البشر.
و"التعصُّب" يتضمَّن "الانتماء" و"الانحياز"؛ ولكنَّه لا يَعْدِلهما، فكل "تعصُّب" يكمن فيه "الانتماء"، أو "الانحياز"؛ ولكن ليس كل "انتماء"، أو "انحياز"، يجب أن يكمن فيه "التعصُّب"، فالمرء إذا "تعصَّب" لـ "عُصْبَتِه"، أي لجماعته، فلا بدَّ له من أن يصبح أعمى البصر والبصيرة، له عين لا تبصر، وعقل لا يعقل؛ ولا بدَّ له، أيضاً، من أن يغدو كالجاهِل لجهة عدائه لنفسه (الجاهِل عدو نفسه) ذلك لأنَّ "التعصُّب" لا يسمح له بوعي حقوقه ومصالحه الحقيقية (ومَنْ لا يعي حقوقه ومصالحه لا يمكنه أبداً الدفاع عنها) ويَزُجَّ به في كل صراعٍ أو حرب؛ ولكن بصفة كونه وقوداً له أو لها، أي يجعله (هذا التعصُّب) جندياً دائماً في معارِك لا ناقة له فيها ولا جَمَل، إذا لم يكن هو نفسه الناقة أو الجَمَل.
و"سؤال الانتماء"، الذي بحسب إجابة المجيب عنه نميِّز "الانتماء الحضاري" من "نقيض هذا الانتماء"، إنَّما هو: هل أنتمي (أنا ابن القرن الحادي والعشرين بعد وليس قبل الميلاد) إلى ما لم أخْتَر، وما لم أُرِدْ، أم إلى ما أختار، وما أُريد؟
أنتَ لم تَخْتَر، ولم تُرِدْ، أن تكون من عُصْبَةٍ ما (من عشيرة أو قبيلة أو جماعة دينية..) ولكن يمكنكَ أن تختار، وأن تريد، انتماءً آخر، فيه، وبه، تُحقِّق، أو تتحقَّق، ذاتكَ.
في "التعصُّب"، وبه، يرتفع (حتماً) منسوب الوحشية في علاقتنا بـ "الآخر"، أي المختلِف عنا، المخالِف لنا، في ما نتعصَّب له، فـ "الآخر" لا يَظْهَر في مرآة المتعصِّب إلاَّ على هيئة شيطان رجيم، أو على هيئة عدوٍّ مبين، نَسْتَحِلُّ، بفضل "ثقافة التعصُّب" التي رضعناها رضاعةً، حتى قتله، فنقتله وكأنَّنا نقتل حشرةً ضارةً، ونخترع لتمجيد قتله ما تطمئنُّ له نفوسنا من أخلاق وعقائد، فهذه "الثقافة" لا أهمية تُذْكَر لها إنْ هي لم تجعل أصحابها (أي ضحاياها) مؤمنين بأنَّ الخير، كل الخير، يكمن في هذا الشر الإنساني، أي في معاملة "الآخر"، وجوداً وحقوقاً، على أنَّه الشيطان الرجيم.
في العراق، الذي ما عاد للعروبة فيه (أي الانتماء القومي العربي) من وجود إلاَّ على هيئة "قبر" أو "متحف"، والذي يفاضِل أبناؤه بين الولاء للولايات المتحدة والولاء لإيران، رأيتُ وسمعتُ (عبر منابر إعلامية لوحوش التعصُّب) ما تقشعر له الأبدان، فالشيعي والسنِّي من عربه البائدة يتبادلان "التكفير"؛ و"التكفير" عندنا إنَّما يَعْدِل "الوحشية التي لا تضاهيها وحشية" في علاقة "المُكفِّر" بـ "المُكفَّر"، فهو ليس برأيٍ يُرى؛ بل ثقافةٌ نتصوَّر فيها "الآخر"، أي "المُكفَّر"، على أنَّه مخلوق من مخلوقات إبليس، وينبغي لنا، بالتالي، أن نستأصِل من نفوسنا كل رادِعٍ يمكن أن يردعنا عن الإفراط في إيذائه، أو عن قتله.
إذا رأيته فقيراً معدماً، أو ناطقاً بلغة الضاد، أو يدين بدين المسلمين، أو طفلاً، أو امرأةً، أو شيخاً، فلا تأخذكَ به رأفةً ولا رحمة، وتذكَّر، بعد أن تنسى كل ما في هذا الذي ترى من روادع يمكن أن تردعكَ عن إيذائه أو قتله، أنَّه "كافِرٌ"، يحقُّ لكَ، وينبغي، أنْ "تفوز" بإيذائه أو قتله!
إنَّ عصبية "الدَّاليْن"، أي عصبية "الدَّم" و"الدِّين"، والتي ذُقْنا منها الأمرَّين، لا يمكن فهمها وتفسيرها إلاَّ على أنَّها "الثقافة" التي بفضلها تُلْبَس المصالح الفئوية الضيِّقة لبوس المصالح العامة الواسعة (مصالح الشعب والأمَّة) فيَسْهُل على عُصْبَة ضئيلة من الأسياد (في الاقتصاد والمال والسياسة..) زجَّ العامَّة من الناس في كل صراعٍ (أو حرب) لهم هم مصلحة حقيقية (لا وهمية) فيه، وكأنَّها، أي عصبية "الدَّالين"، الأفيون للدهماء.
قديماً، كان ممكناً أن نرى شيئاً من الواقعية في وحدة العصبة من الناس بالدَّم؛ أمَّا الآن فتلاشت ونفدت تلك الواقعية، متحوِّلةً إلى نقيضها، وهو الوهم والخرافة، فالأعراق، صغيرها وكبيرها، اختلطت وامتزجت، حتى أصبح "النقي" منها كالعنقاء، التي هي طائر وهمي لا وجود له إلاَّ في تصوُّر الإنسان وخياله.
ومع عَوْلَمة، وتنامي عَوْلَمة، الزواج (الذي من خلال الإنجاب يمعن في "تعكير" صفو ونقاء الأعراق والدماء) ستتأكَّد، حتى للمستعبَدين أكثر من غيرهم بعصبية الدَّم، خرافة "الجماعة المتَّحِدة بالدَّم"، أي المتَّحِدة بصفاتها الوراثية.
إنَّنا نَسْتَنْفِد الجهد والوقت في معرفة "شَجَر العائلات" عندنا، أصولاً وفروعاً؛ أمَّا هُمْ فقد توصَّلوا في اكتشافهم العلمي الجديد إلى أنَّ الهرمون الأنثوي المسمَّى بروجسترون Progesterone موجودٌ، أيضاً، في الشجر (النبات) وكأنَّ شيئاً من الوحدة يوجد بين النساء والنبات.
عصبية "الدَّالين" إنَّما هي اجتماع "المصلحة" و"اللاعقل"، فمخترعوها، وناشروها، ومؤجِّجوها، والمتحكِّمون فيها، صعوداً وهبوطاً، إنَّما هم ذوو المصلحة الحقيقية فيها؛ أمَّا ضحاياها من الدهماء فهم الذين يخطُّون بدمائهم وآلامهم وبؤسهم حقيقة أنَّ مصالح فئوية ضيِّقة هي التي تبقي "المنافي للعقل" حيَّاً يُرْزَق، فيستمر ويتوطَّد حُكْم الأموات للأحياء!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجتمعٌ يُعسِّر الزواج ويُيسِّر الطلاق!
-
العدوُّ الإيراني!
-
-التوجيهية-.. مظهر خلل كبير في نظامنا التعليمي والتربوي!
-
قصَّة نجاح لثريٍّ روسي!
-
-ضرائب دولة- أم -دولة ضرائب-؟!
-
-الإنسان-.. نظرة من الداخل!
-
-شجرة عباس- و-سُلَّم أوباما-!
-
هكذا تكلَّم الجنرال باراك!
-
-ثقافة الزلازل- عندنا!
-
أوباما يَفْتَح -صندوق باندورا-!
-
مفاوضات فقدت -الشريك- و-الوسيط- و-المرجعية-!
-
سنة على تنصيب أوباما.. نتائج وتوقُّعات!
-
حال -اللاتفاوض واللامقاومة-!
-
مزيدٌ من الإفقار.. ومزيدٌ من -التطبيع-!
-
نمط من المراكز البحثية نحتاج إليه!
-
الأجهزة الأمنية العربية!
-
ما معنى -حل مشكلة الحدود أوَّلاً-؟
-
الإرهاب ومحاربيه.. منطقان متشابهان!
-
-سورة الأنفاق-.. يتلوها علينا الشيخ طنطاوي!
-
احذروا فضائيات التكفير!
المزيد.....
-
بعد مرور نحو 24 عامًا على هجمات 11 سبتمبر.. حمض نووي يحدد 3
...
-
اليويفا في مرمى الانتقادات بعد نعي محمد صلاح -بيليه فلسطين-
...
-
حظر السوائل والحقائب.. المسافرون في الاتحاد الاوروبي يتوقون
...
-
ناشطون: حتى المساعدات المتساقطة على غزة أصبحت قنابل قاتلة
-
بن غفير يطالب بإسقاط السلطة الفلسطينية ويصفها بـ-الإرهابية-
...
-
إعلام إسرائيلي: زامير صارم جدا بمعارضته لاحتلال غزة وتبادل م
...
-
4 دول تنضم لبيان غربي يدين خطة إسرائيل لاحتلال غزة
-
كاتس يوجه ببقاء القوات الإسرائيلية داخل مخيمات الضفة
-
بكين وإسلام آباد.. شراكة إستراتيجية تتجاوز السلاح
-
قيس سعيد وحشده الشعبوي يعلنان الحرب على الاتحاد
المزيد.....
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|