أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - نذور السلطان ..3















المزيد.....

نذور السلطان ..3


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 2892 - 2010 / 1 / 18 - 21:22
المحور: المجتمع المدني
    


ضاقت بي الاماكن ، وانا أشعر بوحدتي بعد سفر صاحبي .. وقررت ان اتخلى عن سكني في الفندق لعدم توفر بدل الايجار ، وكان من حسن الحظ ان التقيت بشاب كانت تربطه علاقة صداقة مع ابن اختي في العراق ، فعرض علي السكن معه ومع مجموعة اخرى من اصحابه ، يعملون في احد المصانع الخاصه في عمان .. وهكذا فعلت .. وكانت تجربة قاسيه حيث لم يتوفر لي مكان للنوم الا على فراش رث ، وفي الممر المؤدي الى الغرفة الوحيدة في المنزل .

طلبت من المجموعة التي اسكن معها ان تعثر لي على أي عمل استطيع من خلاله توفير ما احتاجه .. ورغم تكرار تبرعهم بان اشاركهم في المأكل والسكن ، غير انني كنت احس بحرج كبير حيال ذلك .. واستطعت بمساعدة احدهم ان اعثر على ورشة للخراطه لاعمل بها على احدى الماكنات .. مهمتي كانت هي روتينية ، لا تتعدى احداث ثقب في اجزاء صغيرة متشابهه ، لم اكن اعرف نوعها ولأي غرض تستخدم .. وما إن مر اسبوع ، وبعد اصابتي بوعكة سببها التعرض للبرد ، حتى ابلغني صاحب الورشه عن طريق احد عماله بانه استغنى عن خدماتي .. ولم ينسى ابداء اسفه على ذلك .

هناك ثمة من صفة غريبة ، يتسم بها كياني سواء على المستوى الجسدي أو الروحي .. صفة طالما أصابت افراد عائلتي بالدهشه .. ألا وهي القدرة الفائقة على التحمل .. ودرجات هذا التحمل تبلغ احيانا حدا ليس من السهل بلوغه وبذات القدرة وبنفس القياس من قبل الغير .. فانا لا يثنيني أي تردد بالمشي مثلا مسافات طويلة بين موقعين تضطرني حالة خاصة فيها لعدم ركوب الباص .. أو أنني امتنع نهائيا وباصرار غريب ، عن الدخول لمطعم لتناول وجبة خفيفه رغم شعوري بالجوع حينما يكون شعوري بحاجة بناتي للطعام .. حيث تبلغ درجة تلك الحاله الى ما يمكن توصيفه بالمرض اكثر من كونه تضحيه ، فقد صادف في كثير من الاحيان أنني كنت اتضور جوعا بعد طول عناء ، ولدي ما يغطي ثمن سندويج ، ولكنني اسارع لشراء علبة فراوله لابنتي الصغرى لانها تحبها كثيرا ، والسعادة حينها كفيلة باحساسي بالشبع الكامل . .. إن تعلقي بافراد اسرتي لم يكن منطلقا من أنانية تجعل ذلك التعلق بها حصرا ، فلقد ترعرعت ووجدت نفسي كيانا عاريا لا تستره عباءات تفصله عن بني جنسه أيا كانت جنسياتهم واوطانهم ومذاهبهم الدينيه .. وتأسيسا على هذه الصفات تربى ابنائي واصبحوا بنظر الكثيرين من اقاربهم وكانهم بلهاء طيبون اكثر من المعتاد .. إنني اردت من ذكر ما ذكرت أن اجسد عمق معاناتي وانا بعيد عن اسرتي ، والتي لم تعتد على التمتع برعاية من أحد كما تعودتها مني .. وهكذا بدت لي الدنيا وهي تضيق من حولي كلما مرت بخاطري فكرة ان عائلتي قد يتهددها الضياع ، او ان احدهم من المحتمل ان يمرض .. لقد كان بالامكان جدا ، لو صبرت مدة اطول ، أن اكون من بين الذين استوطنوا البلدان الاوروبية ممن كانوا معي في عمان إبان تلك الفتره .. غير انني وجدت نفسي في مساء ذات يوم ، وانا احتل مقعدي في الحافلة مسافرا من عمان الى بغداد ..

غادرت الاردن ، ولم أكن محملا بأي تخطيط مسبق لتجاوز شتى الاحتمالات الممكنة الحدوث .. وحاولت جاهدا ان اقضي وقت السفر هذه المرة بالنوم داخل الحافلة ، كي ابعد عني قلقا انا في غنى عنه .. ودخلت بغداد من جديد وكأنني لم اغادرها ابدا .. ذات الشوارع .. وذات الوجوه المكسية بالهم .. عربات الباعة المتجولين تحيط بها افواج الجنود ، ورؤؤسهم لا زالت عارية ، وبدلاتهم العسكرية توحي وكأنهم قد عادوا للتو من خطوط النار .. الناس يتحركون بلا انتظام وهم يتسابقون مع ساعات يومهم للحصول على متطلبات ليس من السهل الحصول عليها دون كد وعناء .. وسرادق المآتم عامرة وكأنها تآلفت مع ازقتها لتحتل فيها مكانا على الدوام .. لقد كان فضاء المدينة على سعته يدعو للاختناق بما يحمله من صخب ، تختلط فيه اصوات الباعة وحركة السيارات وضجيج مكبرات الصوت ، وهي تحمل خليطا من غناء ونواح وتلاوات لايات الذكر الحكيم .. وقد بدت لي محطة نقل المسافرين حين وطأت اقدامي ارضها ، وكأنها ساحة حرب حقيقية .. الجميع يتحرك بعصبية .. حافلات تتحرك من مكانها ويهب الجنود الملتحقين بوحداتهم او العائدين منها للحاق بها بغية الحصول على مقعد سفر .. اكوام من الناس تصدم بعضها البعض ، وتشتم بعضها البعض ، والتدافع هو اللغة السائدة في كل مكان من ساحة المحطه .

تحركت بتثاقل صوب المكان الذي تتواجد فيه الحافلات المخصصة لنقل المسافرين الى حيث تسكن عائلتي .. فلم اعثر الا على اكداس من الشنط المبعثره ، واكياس القمامه ، ومجاميع من الجنود تنتشر في المكان ، وكانت جميع الافواه تتحرك .. الكل يقضم شيئا في فمه .. والكل يتكلم وهو يأكل .. وثمة من يمرح مع رفيق له فيجريان بشكل يشبه العبث ، ويعرقل السير العام للناس . . اقتربت من أحدهم لأعلم اين يمكنني العثور على حافلتي .. لايمكنك السفر هذا اليوم ياعم .. اجابني احد الجنود وهو يلوك ما تبقى في فمه .. ثم اكمل الاخر .. اليوم هو موعد التحاق الجنود المجازين بالجبهه ، اغلب الجنود يعودون الى الجبهات الان ، وغيرهم يتمتعون باجازاتهم الدوريه ، انصحك بتأجيل موعد سفرك الى يوم غير هذا اليوم .

ولكوني لست حرا باختيار يوم سفري على هواي ، فقد قاتلت شأني شأن أي جندي في ساحة الوغى كي احصل على مقعد لي في الحافله .. لقد كان الجنود ينطون من نوافذ الحافلة وبخفة متناهيه ، في حين قمت بحشر جسدي وسط المجاميع المتكدسة قرب الباب ، حتى حملتني الموجة البشريه لترفعني عاليا وتلقي بي في الداخل ، لأكون من المحضوضين هذه المره .. وشعرت بانني في تلك اللحظات مقدم على فصل آخر من المواجهه ، مواجهة عائلتي التي لم تكن تعلم بعودتي ، ولا تعرف تفاصيلا لما حل بي خلال هجرتي الغير ميمونه .

ما إن تحركت الحافله ، حتى بدأ صوت الغناء الجماعي يعم المكان آتيا من المقاعد الخلفيه .. انهم العسكر دائما من يحرك السكون في أي مكان يحلون فيه .. وتزاحم صوت الغناء احيانا صرخات تاتي من مكان غير معلوم داخل الحافله ، لتعلن غضبها من زحمة المكان بمن ليس لهم مقاعد للجلوس . انه عراك لا يجلب انتباه أحد بحكم العاده ..

هالني ان المح عددا من الجنود وهم يهمون بالنزول من الحافلة اثناء الطريق ، وحلمات آذانهم مقطوعه ، وقد تجمد الدم في مكان القطع والذباب يحوم حوله ، وتذكرت بان فرمانا قد صدر عن السلطان في السابق ، يقضي بقطع حلمة الاذن للجندي الفار من الجيش ، اضافة الى كي جبهته بسيخ حار لتثبيت وشم (العار) جراء تخلفه عن مهامه القتاليه .. البعض منهم احذيتهم بلا كعوب فيمشي وكأنه بلا حذاء .. شعر الجالس بجانبي بحركة عفوية من كفي وانا امسح اثرا من دمع بين جفوني .. فقال ..( انهم من الفارين من الجيش) .. لقد كان جنديا هو الاخر تفوح منه رائحة الاقدام العفنه ، وتبدو عليه ملامح الانكسار واضحة للعيان . حاولت تغيير وجهة الحديث ، فبدأت اتحاور معه -

- من أية مدينة أنت ؟
- من مدينة ( ...... )
- انت في اجازة الان أم ماذا ؟
- نعم ، في اجازه .. وسوف التحق بعد اسبوع .. نائب الضابط المسؤول عن قلم السريه ، لم يمنحني غير اسبوع واحد فقط ، كي احضر مجلس الفاتحة على روح اختي المتوفاة قبل يومين .
- كيف توفت اختك ؟
- انها مصابة بفقر الدم .. هكذا قال الطبيب لامي .
- فقر الدم ليس بالمرض القاتل ويمكن معالجته .
- لا ادري .. الطبيب قال بانها مصابة بفقر الدم ، وعلمت الان بانها ماتت .
- كم عمرها ؟
- ثلاثون عام .
- متزوجه ؟
- كلا .. جميع اخواتي الاربعه غير متزوجات ( ضاحكا ) فقط ابي تزوج من خالتي بعد وفاة أمي .

حينها تحولت عنه لرغبتي بالابتعاد عن أي نكد مضاف .. وسرحت فيما انا فيه .. مدينتي التي اسكن فيها لم تعد بعيده ، وقد بانت بواكير احيائها تبدو للعيان .. وحين فارقت الحافله ، واصبحت قبالة باب داري من جهة الشارع المقابله ، لمحت اشخاصا يتحاورون مع ابني البكر فأيقنت بانهم الزبانيه .. اولئك المتفرغين ليل نهار لنثر اشلاء الناس ، وتمزيق اواصر الاسر الآمنه كي يحضوا بكلمة ثناء لا غير من ممثلي السلطان ، وكي يتمموا نقصا حبتهم به طبيعتهم المصابة بسعار الكراهية .. فلم يعد لهم من لهو غير اللعب بالنار ، والاتيان برذيلة ارسال المدنيين العزل الى افران الموت على خطوط جبهة حرب مجنونه ، لا تبقي ولا تذر ، وليس لها من اسباب موجبة غير كونها اصبحت مصدرا للخراب ، وإحلال الدمار الشامل بكل شيء في البلاد .

وقبل ان افعل شيئا يبعدني عن المكان ، كان الأزلام قد احاطوا بي وكأنهم بانتظاري منذ زمن طويل ، لم الاحظ بان هناك من يراقبني من بعيد حين وصلت الدار .. وانتهى الامر بي داخل سيارة مع ثلاثة منهم وانا مكتوف اليدين .. عبثا حاولت اقناعهم بالموافقه على زيارة عائلتي ، مع استعدادي لمنحهم أي ضمان بتسليمهم نفسي بعد اقل من ساعه .

وللقصة بقيه



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نذور السلطان ..2
- نذور السلطان
- الإمساك بأمجاد الماضي ، وحده لا يكفي .
- رساله مفتوحه إلى السيده بيان صالح
- رسالة مفتوحه إلى السيده بيان صالح .
- إرفعوا أيديكم عن المسيحيين في مصر والعراق !
- أفكار من أعماق الذات
- حقوق النساء ، وإستحالة الحضور مع الواقع العربي الراهن .
- إبحار في مشاعر أنثويه
- عام جديد .. وأمنيات شخصيه .
- حينما راح جذع النخلة يئن لفراق النبي
- معامل الطابوق في العراق تجسيد حي لعذاب البرزخ .
- تردي حالة البيئه في دول الشرق الاوسط وشمال افرقيا .. إلى أين ...
- متى يصار الى دعوة أفذاذ العراق وتكريمهم في بلدهم كما يستحقون ...
- قول في العيد الثامن لتأسيس الحوار المتمدن
- متى لهذا العراق أن يستريح ؟؟
- من بقايا الزمن الجميل .. عبد العزيز المعموري إنموذجا
- مهلا .. لقد إكتشفنا مؤخرا ما يحميكم من ( انفلونزا الخنازير ) ...
- من يحمي النساء المتزوجات من ( عرب ) في البلدان الاوروبيه ؟؟ ...
- عن أي مسرح نتحدث ، والمواطن في بلادنا تأكله أرضة الفقر ؟؟


المزيد.....




- مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: أعداد الشهداء بين الأبرياء ...
- لازاريني: 160 من مقار الأونروا في غزة دمرت بشكل كامل
- السفارة الروسية لدى واشنطن: تقرير واشنطن حول حقوق الإنسان مح ...
- غرق وفقدان العشرات من المهاجرين قبالة سواحل تونس وجيبوتي
- مصر وأيرلندا: غزة تعاني المجاعة وغير قابلة للعيش
- رئيس لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان يندد بالإبادة الجماعي ...
- البرلمان البريطاني يقر قانونا مثيرا للجدل لترحيل طالبي اللجو ...
- -طعنها بآلة حادة-.. داخلية السعودية تعلن إعدام الرويلي بعد إ ...
- انتشال 19 جثة لمهاجرين غرقى بسواحل صفاقس التونسية
- غارتان إسرائيليتان تستهدفان خيام النازحين في حي زعرب برفح


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - نذور السلطان ..3